نبذة: إشارة إلى القتل الجارى من السلطات فى روسيا أمريكا مرورا بحلف الناتو دون استثناء حادث الأقصر (لم يكن حادث البرجين قد حدث) هذا القتل يعلن بلادة فى المشاعر البشرية تكاد تكون غير مسبوقة نظر لفتك ودمار عمر الأسلحة الحديثة من كل جانب.
الأهرام 18 -12- 1999
إذا لم تستح، فاقتل من شئت
هل فى الحرب حياء؟؟.
يقول مثلهم: ‘كل شئ مباح فى الحب والحرب’، وهذا مثل قبيح، وسيء، والأمثال إنما تعبر عن ثقافة شعبية تترجم بعض السائد فى وقت بذاته، لكنها لا تبرر القبح أو تروج له، وقد سبق لى أن كتبت قبل ذلك فى هذا المكان مقالين عن نظم الحرب الجديدة، كان أولهما: عن ضرب العراق (عمال على بطال) أشرت فيه إلى كيف انتقلت قيم الحرب من الفروسية والشهامة، إلى الغدر والانقضاض، وكان ثانيهما: عن ضرب يوغسلافيا وتشريد مئات الآلاف من كوسوفو، وكيف أن النظام الحربى الجديد يسمح بقتل عشرات الأبرياء العزل دون استثناء الشيوخ والأطفال مقابل ألا يـجرح إصبع جندى واحد من المغيرين المستكبرين، وحين كتبت هذين المقالين ومن قبلهما صرختى عن سيبرنيسكا، لم أكن أتصور أن ما كتبته بكل الألم حينذاك هو فعلا واقع ما صرنا إليه، ويمر الزمن ليتأكد لى هذه الأيام أنى لم أبالغ، وأنها لم تكن مجرد صرخة استغاثة، أو نذير إفاقة، نعم، لقد أثبتت الأيام أن نظاما جديدا فعلا تـرسى قواعده فى العالم المعاصر، ليس نظاما ماليا فقط يحتج عليه الأمريكيون فى ‘سياتل’ قبل أهل الجنوب الجوعى، وإنما هو نظام حرب مجرم، ثم هو نظام أخلاقى (لا أخلاقى) قبيح.
يتأكد هذا لنا حين نتساءل: لماذا لم يفعل الروس فى الشيشان منذ بضع سنوات ما يفعلونه الآن؟ هل أصبح عندهم جنود أكثر؟ أو مدرعات أسرع؟ أو طائرات أحكم؟ ولماذا قيل آنذاك إن الروس قد هزموا من الشيشان فى الحرب الأولى؟ أو على الأقل توقفوا عن التمادي؟
إن الإجابة عندى، هى أن الذى يفعله الروس هو نتيجة مباشرة لما فعله ‘الناتو’ قبل ذلك بشهور، ليس فى يوغسلافيا الصربية فحسب، وإنما فى أهل كوسوفوا أيضا، ذلك أنه حين استهان الناتوا بتشريد الملايين، وحين روجوا للتبرير القائل: ‘إن ضرب المدنيين هو خطر وارد فى أى حرب’، وحين تجاوزوا مجلس الأمن والأمم المتحدة، تقرر على مستوى الأقوياء فى العالم مبدأ: ‘إن الأقوى يمكن أن يقوم بإبادة من يشاء أينما شاء دون أن يصاب هو بأذي’، فراح كل من يملك سلاحا أمضى، وجيشا أكبر، يتوكل على الشيطان وهات يا قتل، هذا إذا كان المضروب دولة أخرى ذات سيادة، فما بالك إذا كان المضروب المباد المـهـجـر إلى المجهول والموت، هو جزء من الدولة الكبرى، فكان ما كان فى الشيشان هذه الأيام.
بكل بجاحة، يأمر الروس الناس الشيشان أن يتركو بيوتهم، ويدلونهم صدقا أو كذبا على ممرات تسمح لهم بذلك، ممرات إلى أين؟ إلى جبال الصقيع ومحيط الضياع، وحين تتطلع إلى صورة السيد يلتسن وهو يكاد يحتضر فرحا بشيطانيته، لا تستطيع أن تفرق بينه وبين ميلسوفتشى أو صدام حسين، وبأشعة بصيرة أكثر اختراقا، يمكن أن تشاهد خلف وجه كلينتون ‘الحليوه’: حقيقة دوريان جراى دون صورته.
نرجع إلى موضوع المقال: هل فى الحرب حياء؟ وهو سؤال يجرنا إلى سؤال سابق يقول: هل فى السياسة أخلاق؟ إن من يسمع الخطب العصماء التى يتبادلها الزعماء الأغنى، وخاصة حين يتكلمون عن حقوق الإنسان، أو حين يناقشون حق الصبى الكوبى ذى السبعة أعوام ـ الذى غرقت أمه أثناء محاولة اللجوء ـ حق هذا الصبى فى البقاء فى جنة الولايات المتحدة فى مقابل حق أبيه المشكوك فى مصداقية طلبه فى استرداده، إن من يسمع هذه الخطب الرنانة يتصور أن هؤلاء الناس يعنون ما يقولونه، بل إنهم يبالغون أحيانا حتى يربطون رضاهم (وعطاياهم وقروضهم) بالتزام الممنوحين بهذه الأخلاق التى يروجون لها مثل احترام حق التعبير، وحق الاختلاف، وعدم التعصب، بل إن الأمر يصل بإعلامهم أحيانا إلى أن تقوم الدنيا ولا تقعد لإنقاذ قطة وقعت صدفة فى بئر جاف محاط بأدغال صعبة الاختراق.
هل حاول أحد القراء مثلى أن يتقمص أحد هؤلاء المعتدين سواء على قمة أصحاب القرار (يلتسين أو كلينتون مثلا) أو حتى أن يتقمص نفسية الجندى الذى ينفذ أوامرهم؟ وهل أنكر هذا القاريء، مثلما شعرت أنا، استحالة أن يتمتع بصفة من هو ‘إنسان’ من يستسهل كل هذا القتل والتشريد؟.
نعود للتساؤل: ما الذى منع الروس من قبل، وما الذى يشجعهم الآن فى المضى فى الإبادة، والطرد، والتطهير العرقي؟
أتصور أن نوعا من الحياء هو الذى سبق أن منع الروس من التمادى فى مثل ما يفعلونه الآن، ولنسمه تجاوزا: الحياء الدولى إن صح التعبير، بل إننى تصورت أن هذا العامل كان أهم من الحرص على المعونات ورضى البنك الدولى، وربما كان هذا ‘الحياء الدولي’ مرادف لما يسمى حديثا: ‘الرأى العام العالمي’ الذى يـفترض أن يرتبط أوثق رباط بما هو أخلاق وبما هو مسئولية؟
لكن مسألة الأخلاق هى قضية مشكلة طول عمرها، وهى ترتبط بالثقافة السائدة من ناحية، وبالعلاقة بالله من ناحية أخرى، فإذا كانت هذه العلاقة الأخيرة ـ وهى الأهم والأبقى ـ قد نـحـيت جانبا سواء فى ضرب العراق أو فى جريمة البوسنة أو فى مذبحة الصرب والألبان جميعا، أو فى مجزرة الشيشان الحالية، فلنا أن نستنتج أى ثقافة تسود العالم الآن.
إننى حين كتبت هنا عن النظام الحربى الجديد وعددت قواعده كما تصورتها، كنت أركز على الحكومات، وأمناء مخازن السلاح والقروض، لكن يبدو أن المسألة امتدت إلى عامة الناس وسائر الجنود.
إن زيادة شعبية يلتسن ورئيس وزارئه، ومن قبل ذلك بوش ثم كلينتون ووزيرة خارجيته، وأيضا ودائما باراك بعد نتانياهو، زيادة شعبية كل هؤلاء إنما ترتبط أكثر باستعراض القوة، وطرح الحياء جانبا، وتشريع وتسويغ قتل الأبرياء، وهذا دليل على أن هذا التشويه البشرى الجديد قد تسحب إلى وعى الناس العاديين بأسرع مما كنت أتصور، بل لعله رسخ فى لا شعورهم، والذى كان قد كان.
ثم يبدو أن هذا التدهور الأخلاقى قد أصاب من كانوا يسمون ثوارا، فلم يعودوا إلا إرهابيين، فأنا لا أتصور أن مشاعر قتلة حادث الأقصر البشع هى نفس مشاعر البشر العاديين أصلا، مهما كانت المبرارات والأوامر، هم لم يشعروا طبعا بأى درجة من الحياء وهم يرتكبون جريمتهم، بل إننى لا أعفى بعض المتشنجين الشيشانيين ـ إن صح أنهم مسئولون عن نسف المبانى السكنية فى موسكو ـ من مسئولية ماآل إليه حال ذويهم هكذا.
أنا لا تحضرنى فى هذه اللحظة أية تفاصيل عما فعله التتار بالناس فى الدول التى اجتاحوها، أو ما فعله أهل شمال أمريكا البيض فى سود الجنوب، ولا مجال هنا لسرد بعض ما سجل التاريخ عن تلك المجازر، لكننى على يقين بأن آلة القتل لديهم لم تبلغ درجة هذه القسوة والوقاحة التى تنقلها لنا الأقمار الآن.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن التاريخ يقول لنا: إن الإنسان بإيمانه وسعيه المتواصل إلى الأرقى والأنقى قد استطاع أن ينتصر دائما على كل تلك القوى العاتية، إلا أنه يبدو أن النكسة الحالية تهدد بانقراضه أكثر إذا ما تمادى، فآلة الحرب تبدو وكأنها أصبحت أمضى وأسرع من حسابات احتمال إفاقته.
خاتمة
كنت دائما أعجب للحديث الشائع أن ‘الحياء نصف الدين’ حين كنت أحسب أن الحياء هو فضيلة تتعلق بأدب التعامل الفردى المحدود، واحترام حقوق الآخرين الأقربين، لكننى اكتشفت وأنا أكتب هذا المقال أن الحياء هو نصف الدين فعلا، إذا نظرنا إليه باعتباره المانع الحقيقى أن يتدهور الإنسان إلى هذا الدرك الأسفل من التدنى القاتل.
صعب صعب فى ـ رمضان ـ أن نتابع كل هذا الذى يجرى فى الشيشان.
وأصعب منه أن نتابع ما يعرضه التليفزيون علينا على الرغم مما يجرى فى كل شيشان، وأى شيشان.
وأصعب وأصعب أن ندرك كيف أن كل هذه القسوة قد أدت إلى فقد الحياء حتى القتل، وإلى التهجير حتى الإبادة، وأن كل هذا قد أصبح بمثابة الثقافة السائدة للإنسان المعاصر.
ثم نتكلم ـ كما يتكلمون ـ عن الألفية الثالثة؟ وعن اتفاقية الجات؟ وعن العولمة؟.
دعاء
يا ربنا يا كريم فى هذا الشهر الكريم:
نحن نستنجد بك بعد أن راحت فى الهواء حتى استجارات الرئيس الشيشانى ببابا الفاتيكان.
لم يجد هذا الرئيس جدوى فى أن يصيح ‘واإسلاماه’
ولم تنفعه صيحته البديلة: ‘وافاتيكاناه’
فهأنذا أتوجه إليك يا ربنا مباشرة، وأعاهدك أن أواصل السعى مسئولا مهما بلغ الألم، أتوجه إليك أن تعيننا على عبادتك. بأن نستمر فى الحياة على الرغم من كل شيء، وأن ترفع مقتك وغضبك عنا حتى لو كنا نستأهلهما بما اقترفنا وأهملنا وتفرقنا.
فإن كنا أبعد حاليا عن فيض رحمتك، فلا تبخل علينا بقدر أكبر من التبلد والعمى والتليفزيونات المبهرجة، لعلنا نتحمل ما هو جار فى هذه الأيام ‘المباركة’
كيف؟