الأهرام: 19-4-2004
إبداع المستضعفين
ضاقت علينا الدنيا فاتسعت، الوصاية تلاحقنا من كل من يهمه الأمر ومن لا يهمه الأمر، من يهمه أمر مصلحته، وهذا لا يعيبه، ومن لا يهمه أمر من نكون. وهذا ليس ذنبه. ما الحكاية بالضبط ؟ إلى أين ؟ وإلى متى؟ الم يئن الأوان أن ندرك أن العالم يحتاج بعضه بعضا هذه الأيام أكثر مما يتصور الطغاة؟ وأكثر مما يتشكك المستضعفون؟ ألم يئن الأوان أن نفهم أن ما حدث مؤخرا (خاصة فى العقدين الأخيرين) عبر كل العالم قد أعطى الأضعف فرصة أن يضيف من إبداعه ما تيسر، حتى لو لم يمتلك مقاليد القوة؟ إن خطأ الاستسلام المهين لما يأتينا من الخارج، رغم ثبوت فشله التاريخى حتى عند أصحابه، لا يعادله إلا خطأ التشنج الأعمى رفضا لكل ما يأتى من ناحيتهم، خوفا وتشككا.
المسألة أن العالم كله فى حيرة حقيقية “معا”، وأنه – برغم كل الظلم والقهر والغباء والإبادة من جانب الأقوى، وبرغم كل الشك والاستسلام و الهرولة من جانب المستضعف، برغم هذا وذاك فإن العالم يحتاج بعضه بعضا وهو يبحث معا – ولو رغم أنفه – عن مخرج مما آل إليه .
إن انهيار الاتحاد السوفيتى مهزوما لم يكن هزيمة للاشتراكية بل كان دعوة للبحث عن اشتراكية أقل غباء وأقل مثالية. بنفس القياس فإن فشل وخداع الديمقراطية المعروضة حاليا فى الأسواق ليس إلا دعوة للبحث عن ديمقراطية أكثر تمثيلا لناسها، وأكثر تعبيرا عنهم باستمرار، أكثر “لامركزية”، وأقل طموحا، وأقدر على مراجعة ما يخرج من نتائج تطبيقها بسرعة مناسبة. ربما يغلب الغباء بعض النظم المهزوزة حين ننقد الديمقراطية المعروضة فتفرح وهى تظن أن هذا النقد هو مبرر لاستمرارها. مثل هذا الموقف لا ينبغى أن يمنعنا أن نواصل النقد والبحث ومحاولة الإبداع من واقع حقيقة خيبة الاختيارات المطروحة. علينا أن نعرف أن السادة فى الغرب يحتاجون اجتهادنا الآن أكثر مما يحتاجون فخرنا بماضينا وهم يثبّتوننا عنده مجاملة أو خبثا، علينا أن نتأكد أننا لو أبدعنا –من واقع التحدى- نظاما قابلا للتطبيق ينقذنا فينقذهم من ورطة ما يخدعوننا ويخدعون أنفسهم به، فسوف يكونون أول من يقدرون ذلك فيحترموننا لما أنجزنا لنا ولهم، بدلا من الخلاف حول سماعنا الكلام أو ادعائنا الحوار،. المطلوب ليس تغييرا شكليا مثل أن نسمى “الفوائد” “مرابحة” أو نسمى “الديمقراطية” “شورى”، هذه لافتات خادعة معوقة معا، الإبداع المطلوب يبدأ من النقد المؤلم: نبدأ بأنفسنا ثم الآخرين، وبقدر معايشة الألم والمسئولية نجد أنفسنا فى حيرة مفجِّرة للأفكار والاحتمالات الواعدة، ثم يقفز الخيال القادر: يقدم لنا الفروض نختبرها على أرض الواقع.
المطلوب هو ألا نقفل الأبواب كما فعلها بعض المغرورين منهم حين أعلن “نهاية التاريخ” لمجرد كسب جولة عابرة، المطلوب هو أن نتحمل مسؤوليتنا ومسؤوليتهم معا، وهذا ممكن مهما بلغ ضعفنا “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين”. الإمامة ليست هى السيطرة على العالم، بل ترشيده، وما يستحق أن يورث هو ما يعمر الأرض ويفجر الإبداع، لا ما يعمّق التميز ويبرر الظلم، ويزيد المستضعفين ضعفا.