نشرت فى الدستور
7-6-2006
أُذكُـرووا ربّكـووا
أمارس التعتعة فى محاولة تحريك وعى القارئ إلى فطرته كما خلقها الله، فإن نجحت فقد تحققت الخطوة الأولى، أما إذا ما تحرك وعى الأفراد “معا” إلى نفس الوجهة السليمة، فهى السياسة كما ينبغى.
أى كتابة أقدر على تحقيق هذا الغرض؟ هذا الرطان السياسى الصاخب؟ أم حلم من أحلام نجيب محفوظ لا يزيد عن سطر ونصف سطر؟ أم أمسية من “أمسيات قرب قرية ديكانكا لجوجول”؟ خطر لى هذا التساؤل وأنا أقرأ هذه الأمسيات – مجانا بفضل جريدة القاهرة – فكتبت هذه القصة المقال:
(1)
قالت له وهى تحاول حبك مشبك حزام السيارة دون جدوى “مالنا نحن بكل هذا؟” مد يده وأحكم لها رباط المشبك فى الخية، مع أنه لا يربط حزامه – وهو القائد – إلا حين تكون معه خوفا من ملاحظاتها، ابتسمت شاكرة مُحِبة. عادت تكرر سؤالها! “مالنا نحن بكل هذا”؟ “سألها : “نحن من؟” قالت “نحن: أنت وأنا؟” قال: “مالنا بماذا؟” قالت: “بكل هذا؟”
(2)
راح يرتشف رشفة هادئة بلا صوت، كانت قد نبّهته من قبل إلى ضرورة العدول عن إصدار أصوات أثناء الشرب حتى لا يعلن عن أصله الفلاحى، مع أنها لا تعرف أصله، ولا هوَ يعرفه، ومع ذلك صدَّقها، وراح يبحث فى أصول عائلته وطريقة شربهم السوائل علانية.
قال لها بعد رشفة صامتة: “أخيرا عرفتِ إجابة سؤالك وأنه علينا أن نحمل همّ: كل شئ وكل أحد! دون تمييز” قالت: “نعم وياليتنى ما عرفت”، سألها: “لماذا”؟ أنتِ التى طرحت السؤال وأنتِ التى وجدت الجواب، قالت: “ولكنك أنت الذى استدرجتنى إلى كل هذا الذى يكاد يحول بيننا ويحوّل لقاءاتنا إلى محاورات سياسية تحرمنا من بعضنا البعض”، فراح يعترض وهو يذكّرها: “بل إنه هو الذى يقربنا من بعضنا البعض”. عادت تهمهم وهى تحدث نفسها: “ياليتنى ما عرفت؟ راح يسأل نفسه “تُرى لماذا”؟ وكأنه سألها، فأجابت، وكأنها سمعت: “لأنه حرّك بداخلى قاتلا مفترسا قاسيا يريد أن يفتك بكل تلك الكيانات المسعورة التى تلتهم الحياة دون تمييز. إنها لا تهددنى شخصيا فحسب، بل تهدد كل ما، ومَنْ، فى أحشاء كل امرأة، بل كل أنثى على ظهر الدنيا على طول المدى. “القتل هو الحل”.
نظر إليها فإذا بها بنفس الرقة والبراءة والحنان، ، أحبها أكثر، هذه القاتلة الفاتنة، ولم يوافق.
(3)
هدّأ من سرعة السيارة وانحرف بها إلى الخلاء على جانب الطريق، وهو يعلن – لنفسه – أن مؤشر الحرارة ينذر بأمر ما، استيقظت فزِعةً من الغفوة التى كانت فيها منذ أن مالت برأسها على كتفه بعد أن استحال أن تضعها على صدره لتحتمى بذقنه العريض، قالت بلهفة: “ماذا؟ فيه ماذا. أحاطها بذراعه وهو يبلغها أن الأمور ستسير على ما يرام بعد أن تبرد السيارة، اقتربت منه أكثر وقد لفهما ظلام هامس حنون. لاذت به وعادوت إغماض عينيها تواصل ما كانت فيه : رأت ابن خالتها طالب الطب وهو يخرج من قبر مهجور من قبور العائلة، كان يبحث فيه خلسة عن عظام ميت من أقربائه يدرس عليه التشريح فى السنة الثانية، رأته يخرج من القبر حاملاً بيده الأقرب لصدره لفافة ناصعة البياض كأنها من ثلج يشع نورا ليس كمثله شىء، سارعت نحوه وهى تتعجب وكشفت عن اللفافة، فتبينت وجه طفلة جميلة “تبارك الخلاق”، غطتها وابتعدت، وعادت تنظر من بعيد فلاحظت أن ابن خالتها يمسك بيده الأخرى جمجمة إنسان، لم تفزع وإن قفز منها عتاب كأنه اتهام، رد عليها دون أن ينبس أنها جمجمة عمة جَده، وأنها أوصت له بها ليكون طببيا ماهرا، اقتنعت وعادت تنظر إلى الجمجمة فوجدت أنها لا تقل جمالا. تذكرت جدتها هى، وكم أحبتها.
(4)
سمعتْ على غصن شجرة يتمايل دون معالم تحت ضوء قمر قد اختفى وراء سحابة رقيقة لم تستطع أن تحجب نوره، سمعت، فرأتْ: ذكر يمام وهو يهدل بصوته ويدور حول نفسه وأمامه اليمامة ست الحسن ساكنة منتظرة مُعجبة، هو هو نفس الصوت الذى سمعته يوما من نافذة جدتها ذات صباح: صوت متداخل النبرات “أُغمُمُمو غَمْغُكُو”، لاحظتها جدتها وهى تشرئب بأذنيها لتميزّ الصوت، فقالت لها إن اليمام يسبّح ربه قائلا “اذكروا ربّكوا” أُذكروا ربُّـكوا”، أحسنت الإنصات فسمعت ما قالته جدتها واضحاً بالحرف الواحد، فكررته بصوت مرتفع “أُذكروا ربُّـكوا ” أُذكروا ربُّـكوا”.
وصله صوتها واضحا وهى لاتزال فى سباتها، ربّت على رأسها من بعيد وقد اغرورقت عيناه، ومنع الدمعة أن تسقط على خده، خدّها، حتى لا تستيقظ قبل أن تبرد السيارة.