نشرت فى الاهرام
30-5-2005
أينشتاين “شاعرا”
هل الشاعر هو من “يكتب” الشعر أم من يتشكل وجوده شعرا؟ منذ رجح صلاح عبد الصبور أن الشعر حالة لا حلية ولا أسلوبا، وأنا أعيش هذا الرأى بوعى مكثف. عرفت أينشتاين من خلال حركية إبداعه، وليس من خلال ناتج عبقريته. يقول أينشتاين: “… إن الألفاظ كما تستعمل فى اللغة المكتوبة أو المنطوقة لاتقوم بأى دور فى ميكانزمات تفكيره، وإنما تبدأ عملياته المعرفية بصورة بصرية وعضلية، ثم تتدخل الكلمات بعد ذلك فى شكل سمعى”. ويضيف: “… إنه يستطيع أن يسترجع بإرادته هذه الصور وأن يؤلف بينها…”، أليس هذا هو الشعر؟
أعيد التعرف على ماهية الشعر عامة، دون استبعاد تلك القصيدة المجهضة المسماة “الجنون”. فى كتاب صغير اسمه “العلم والشعر” تأليف أ.أ. رتشاردز ترجمة محمد مصطفى بدوى كتب المؤلف “.. وللأسف العميق كان الكثيرون – ومنهم كيتس- مثلا يعتقدون أن النتيجة الحتمية للتقدم العلمى هى هدم فرص وجود الشعر”. ثم راح المؤلف يفند هذا الرأى ليثبت أن الشعر مكمل للمعرفة الكلية، وأن العلم والشعر لا بد أن يتضفرا تكاملا، لا أن يتنافسا استبعادا.
رحت أنظر كيف نحتفل بأينشتاين هذه الأيام فصح عندى أن ما يجرى هو بمثابة: “خذ من أينشتاين ما شئت لما شئت”. تراوحت محاولات تناوله من الإشادة بعبقريته، إلى الشك فى أصالته، ومن التصفيق له والانبهار به إلى التذكرة المحايدة، إلى القدح والتشكيك، ومن الاتهام بالتحيز للصهيونية (برغم اعتذاره عن رئاسة إسرائيل سنة 1952) إلى الإشادة به محاربا للماكارثية ومعتذرا عما استخدمت فيه نظريته، منبها أن: “المعادلات لا تنفجر”!!. وبالنسبة لسيرته الذاتية: من أول تشخصيه طفلا (ذاتوياAutistic) (خطأ طبعا لالتباسهم فى سبب تأخره فى النطق) حتى اتهامه بإهماله ابنه الفصامى فى المستشفى، مرورا باللمز حول علاقته بماتا هارى جاسوسة الكى جى بى.
أكتشف أننى أحب هذا الرجل اليهودى الجميل، ثم إنى رحت أقرأه شاعرا: لا فى ناتج إبداعه، وإنما من موقف حركية وجوده، وهو القائل: “… إن أجمل ما نعايشه هو الغموض..، ومن لا يشعر بهذه العاطفة، فلا يتوقف ويحتار ويقف مأخوذا فى دهشة، ليس إلا ميتا مغمض العينين”. أليست هذه الدهشة هى التى تلم أينشتاين فيلمها فى إبداعه شعرا سواء كان ناتجه معادلة رياضية أو موقفا وجوديا؟ يقول مؤلف “العلم والشعر”: “..الشعر فى مقدوره أن ينقذنا، لأنه وسيلة من الوسائل التى يمكننا بها أن نتغلب على الفوضى”.
علاقة أينشتاين بالدين والله سبحانه هى إثبات آخر أنه شاعر. يقول أينشتاين “العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى”، وهو بذلك لا يفتح الباب لهذا الجهل المزدوج المسمى “التفسير العلمى للدين”، بل إنه يغلقه ليتكاملا معا لصالح الإنسان دون وصاية أحدهما على الآخر، أو اختزال أحدهما إلى الآخر.
أينشتاين يعيد إحياء الألفاظ فى سياق تشكيلى جديد، فهو الشعر، نقرأ قوله: “علينا أن نجعل كل شئ أبسط ما يمكن، ولكن ليس أبسط من ذلك” أو قوله “الثقافة هى ما يبقى بعد أن تنسى كل ما تعلمته فى المدرسة.” هل نتأمل معا كلمات مثل “أبسط”، و “تنسي” و”تعلمته” لنعرف كيف تحضر الألفاظ جديدة فى تشكيله هذا؟
متى نعرف كيف نحتفل بمثل هذا الوجود البشرى المتميز بأن نستلهمه طبيعة ما هو نحن، وما تعد به قدراتنا التى ندفنها تحت النمطية، والتبعية، والتصفيق، والتقديس، والتسميع، والسطحية، والادعاء، والتعصب؟ متى نتخلق شعرا دون أن نكتب قصيدة، حتى لا نسجن وراء قضبان معلومات مقدسة:متناثرة أو محكمة، شائكة أو صامتة، على حساب فطرتنا الواعدة النامية؟