نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28 -3-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4592
أنت “مبدع” رغم أنفك، ومشروع “إنسان حر” أيضا (1) (3 من 3)
تجليات العملية الإبداعية:
إن فصل العملية الإبداعية عن ناتجها المعلن: فى شكل معروف من التشكيل المحكى أو المسموع أو المرئي، له فضل التعرف على الطبيعة البشرية فى جوهرها المبدع بذاته. إنه يؤكد موقفا أساسيا لصاحب هذه المداخلة من حيث أن:
“كل إنسان هو مبدع بما هو إنسان، حتى لو لم ينتج ناتجا يسمى إبداعا أصلا”.
العملية الإبداعية، بعد فصلها عن الناتج الإبداعى الشائع، تحتاج إلى مزيد من التعرف فى تجلياتها الأخري. إن هذا قد يساعد على قبول هذا الفصل بينها وبين ناتجها الشائع، بما يتيح لنا قبول التفرقة لطبيعة ما يسمى الحرية كما وردت فى هذه المداخلة.
دعونا نتعرف أكثر على بعض نتائج العملية الإبداعية بعيدا عما يسمى الناتج الإبداعى المسجل تشكيلا. إن الإبداع يكون إبداعا حتى لو لم تصحبه إنجازات محددة معلنة، جديدة أو مضافة. صحيح أنه قد يكون إبداعا منقوصا أو قصير العمر (مثل إبداعات خيال الأطفال) لكنه يتصف بأغلب مقومات الإبداع.
إن مسار النمو الذاتى ليس إلا إعادة تشكيل المادة الجينية بما أتيح لها من مناهج تربوية سلوكية تسمح بهذا التشكيل المتجادل طول الوقت مع ما يصلها من معلومات وخبرات من خارجها (المحيط).
لا تحتاج عملية الإبداع – حتى نعترف بها-إلى أن نحذق أدوات محددة للتعبير عنها. قد تكون أدوات التعبير ليست كافية لإتاحة الفرصة للتعبير الإبداعى المناسب، لكن يظل الإبداع إبداعا.
إن حذق استعمال الأداة قد يسمح بتنمية مهارة ما، لكن المهارة -فى ذاتها- مهما بلغ إتقان ناتجها، ليست مرادفة للإبداع. إنك حين لا تمتلك الأداة قد تستطيع أن تبدع بدونها ولكن ذلك عادة لا يسمى إبداعا. أنت تحلم، وتتغير، وتتذوق الأكل بشكل آخر، فى حين أنك لا تلعب الموسيقى أو تكتب الشعر أو الرواية ، ولكنك مبدع بالضرورة. من ذا الذى يستطيع أن يمنعنى أن أشاهد قرص الشمس مختلفا فى كل مرة بحيث أعتبرها شمسا جديدة تماما كل صباح، إن معايشتى لكل شروق باعتباره خبرة جديدة تكفى لدخولى نادى المبدعين حتى لو عجزت عن صياغة ذلك فى قصيدة معلنة.
إبداع الذات فى خبرات التصوف فى رحاب الحق سبحانه، سعيا إلى وجه العدل تعالي، كدحا للقاء المحيط احتواء، هو نوع من العملية الإبداعية الذاتية الخلاقة.
الخلاصة:
إن الاقتصار على التركيز على أن الحرية فيما يخص العمل الإبداعى هى ما يتصل بحرية التعبير أو حرية النشر هو تجاوز لمفهوم أعمق للحرية يشمل الحركة والمرونة والجدل والمخاطرة والمسئولية جميعا.
إن الحرية الضرورية لحيوية العملية الإبداعية غير الحرية اللازمة لإعلان الناتج الإبداعي.
إن حرية العملية الإبداعية هى ممارسة جدلية مرنة، لها مواصفات خاصة، ليس من بينها التقديس أو كسر الحدود.
ثـَمَّ خطر يمكن أن يترتب على هذا التركيز على هذا المفهوم للحرية الخاصة بعملية الإبداع أكثر من العمل على ضمان حرية إعلان ناتجها، ذلك الخطر هو أن يختزل مفهوم الحرية إلى عملية ذاتية داخلية أكثر منها ممارسة طليقة معلنة تسمح بالحوار والنقد. لا توجد حرية فى السر بصفة دائمة. ليس فقط لأن الحرية هى موقف مواجهى بالضرورة، ولكن لاحتمال الانخداع بما لا يختبر. إن سرية الحرية تجعلها بعيدة عن الاختبار بما يعرضها أن تفقد فى النهاية فرصة التحقق والمراجعة.
أيضا: لا توجد حرية فى فراغ. الحرية لا تتواجد إلا فى مواجهة آخر حقيقي، والآخر لا يتواجد إلا إذا حل فى وعينا كيانا منفصلا عنا، مختلفا فعلا، وليس ادعاء. يحل فى وعينا لنحسن التعرف عليه منفصلا، لا توجد حرية بشرية إلا فى مواجهة “آخر”. سواء بالحوار، أم بالصراع، بالاتفاق أم بالاختلاف.
إن الزعم بأن حريتك تنتهى عند بداية حرية الآخرين هو زعم أقرب إلى التسوية التى تحدد منطقة محايدة بين الطرفين، وهو زعم يعلن فض الاشتباك أو هدنة دائمة متجددة، وهذا أبعد ما يكون عن مناخ تنشيط الحرية واختبارها بالحوار الخلاق. فض الاشتباك هذا يلغى حركية الحرية من أساسها. إن حريتك لا تبدأ إلا وهى تتصارع جدلا مع حرية الآخر. هذا النوع من الصراع، ليكون دليل حرية، لا ينتهى بقاتل ومقتول. إنه ينتهى بتخليق آخرين مختلفين إبداعا نتيجة إثراء كل منهما للآخر باحتواء إبداعى متبادل، يتأكد أكثر وهما مفترقان. الحرية التى تتم بالحذف، أو بالانسحاب، أو بالتسوية الماسخة، هى حرية منقوصة أو معكوسة.
إنه فى مجال الحديث عن الحرية لا توجد محاذير مطلقة، ولا مقدسات ثابتة. مع أن الحرية لا تزدهر إلا فى مواجهة المحاذير والسدود، فى الداخل والخارج، تواجهها لتخترقها فتحتويها، لا تستسلم لها، ولا تنسحب أمامها، وهى حتى لا تحطـمـها فتخف وتطفو هلامية القوام على أنقاضها. إن المحاذير والسدود هى التى تجعل لحركية الحرية زخما متفجرا خلاقا.
فى مجال الإبداع، تبدأ الحرية من الداخل للخارج، كما تتدعم من الخارج للداخل باستمرار. نفس التبادل بين الداخل والخارج تتنامى فيه كل من القيود والقهر باضطراد
الخطر الأكبر يتمثل فى احتمال أن ينتقل قهر الخارج المعلن الذى يمكن رفضه واختراقه وتجاوزه. إلى قهر الداخل الخفى المستسلم المدعى للحرية. إن الرقيب الداخلى قد يكون أعمى وأقسى من كل الرقباء الخارجيين.
أخيرا، فإن الحرية ليست قيمة إيجابية فى ذاتها بشكل مطلق، فحرية الجنون، إذا لم نلحق بها لنحول مسارها إلى مشروع إبداع، قد تكون تدميرية للذات أو للآخرين، وحرية الطفل لا تضمن أى بناء قادر على الاستمرار بما هو.
كل هذه المحاذير تنبه إلى أن حرية العملية الإبداعية، هى التمهيد الضرورى (وليس البديل) لممارسة الحرية إبداعا بما يميز الكائن البشرى بحضور مستويات وعيه “معا” فى جدل مع “الآخر” أبدا.
ثــم تنويه أخير لا مجال لتفصيله هنا يقول : إن الحديث عن حرية الإبداع (عملية، وناتجا) غير الحديث عن حرية الشخص الذى أفرز إبداعا ما (لا أصفه دائما بالمبدع طول الوقت). إن حركية الإبداع تتكون وتنشط وتتحرك وتـنجز عبر ذات بشرية ما، حتى لو كان صاحبها يتصف فى الحياة العادية بصفات هى أبعد ما تكون عن الحرية: حركية وسماحا وجدلا ومسئولية وأخلاقا جميعا.
لكن هذا حديث آخر.
[1] – أصل المقال كان بعنوان: “تعليم تلقينى.. وسلطات قامعة عن الحرية والإبداع والقهر الداخلى” مجلة وجهات نظر – نوفمبر -1993