نشرت فى روز اليوسف
10 – 2- 2006
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل
قد تُـثبت الأيام أن فضل هذا الباب على كاتبه أكبر بكثير من فضله على بعض من أخذه مأخذ الجد من قرائه. حين قبلتُ الدعوة لتحريره، لم أكن أتصور أننا فى محاولة سعينا لفهمنا بشرا بحق. سوف تتدرج المسألة إلى هذا المستوى الذى استدرجتنا إليه سلسلة حلقات “أنا واحد ولا كتير” هكذا. لا أظن ما قدمنا من معلومات هى جديدة كل الجدة على الوعى البشرى. أغلبنا يعرف ما جاء فيها بالحدس والسليقة، كل الإضافة بدت فى محاولة تنظيم ما نعرف بلغة أوضح، وعلى مستوى يمكن تبادل الأفكار عبره، مستوى يتجاوز الحدس الخاص والعام. أعود لأنبه وقد تمادى التسلسل إلى هذا القدر بأن الاعتراف بهذه الكثرة فينا ليس كله إيجابيا، وأنه ينبغى أن يزيد من مسؤوليتنا الوجودية، وألا يكون مبررا هروبيا يسمح لنا أن نلصق زلاتنا أو ضعفنا إلى “من بداخلنا” دوننا، بل إننى أنوى أن أبين فى آخر حلقة كيف أن هذا الكثير الذى فينا إذا انطلق عشوائيا حتى التفسخ فالتناثر، فإنه يصيب صاحبه بأصعب أنواع الجنون مما سيأتى الحديث عنه فى إحدى الحلقات الأخيرة. فى هذه الحلقة سوف نقرأ معا بعض هؤلاء “الكتير” فى “عينى” واحدة ممن عشت معهم فسمحوا لى بأن أقترب إلى ما يمكن، ولعلى اقتربت أكثر مما ينبغى.
أنا واحد ولاّ كتير؟ (6):
.... قراءة فى عيونٍ مزدحمة
الحكاية أننى أمارس العلاج الجمعى – تدريبا وتعليما وعلاجا – فى مستشفى قصر العينى منذ سنة 1971 وحتى تاريخه، وقد أتيحت لى رحابة صدر هذا الصرح العلمى العريق أن أقوم بهذه المهمة طوال خمس وثلاثين عاما، مرة أسبوعيا بانتظام، فأنتهزها فرصة لأدرب أولادى وبناتى من صغار الأطباء، اثنين كل عام، فضلا عن أنه – بإذن المرضى من البداية للنهاية – يسمح لمشاهدين من طالبى العلم والمعرفة، أن يحضروا الجلسات علانية للمشاهدة والنقاش بعد الجلسة، دون المشاركة الفعلية داخل الحلقة العلاجية.
ميزة هذا العلاج فى قصر العينى بالذات، وفى بعض المراكز التى تنتمى إلى هذه المدرسة – أنه يتصدى لعلاج الذهانيين (الذين قد نسميهم المجانين) جنبا إلى جنب مع سائر الأمراض النفسية (مثل اضطراب الشخصية والاكتئاب إلخ). كثير من هؤلاء الذهانيين يختلط عليهم الكلام، ويتشتت الفكر، فنضطر أن يتم بعض التواصل بدون كلام (أو بكلام ليس ألفاظا منطوقة). يتم التواصل إذن من خلال كل القنوات: الجسد، وتعبيرات الوجه، ولون الجلد، ولمعة العيون بما تقول وما تخفى أيضا.
خبرة شخصية
جنبا إلى جنب مع هذه الممارسة، أيضا منذ ذلك التاريخ لمدة عام وبعض عام، عشت خبرة تجربة أخرى مع أسوياء أصدقاء، تمكنت من خلالها أن أقرأنا (بما فى ذلك نفسى) وبالذات من خلال العيون، (بما فى ذلك عيونى شخصيا، ليس بالضرورة ناظرا فى المرآة)، ثم إذا بى أكتب هذه التجربة شعرا عاميا فى الفصل الثانى من ديوانى “أغوار النفس” بالعامية.
حين كتبت الحلقة السابقة هنا عن الإبداع والكيانات الكثيرة فى داخل المبدع، خطر ببالى أن أستشهد ببعض ما جاء فى هذا الديوان، لكننى فوجئت أن اقتطاف فقرة أو قصيدة بأكملها قد لا يؤدى الغرض. تصورت أن تخصيص حلقة كاملة لكل قصيدة تساعد فى فهم ما نريد توصيله هو أفضل كثيرا. الشعر أكثر من الرواية لا يمكن أن يصف حالة أو واقع أى شخص بذاته، هو قد يبدأ من استلهام حضور شخص معين فى وعى الشاعر أو الراوى، ولكنه يمضى وينتهى حيث يمضى به الإبداع كيفما اتفق، وبالتالى فأى صورة مما سنقدمه لا تمثل شخصا بذاته.
لعبة السكات
نقرأ من المقدمة ما يفسر ما أعنيه من تواصل بدون كلام، وهو ما أسميته “لعبة السكات” ، تقول المقدمة فى ذلك:
يالاّّ بـْنـَـا نلعب يا جماعة: لعبة ”هُسْ”.
فتَّــحْْ عينَـكْ بُصْ،
إنْ كنت شاطِـرْ حِـسْ.
“أنا مين؟”!
ما تقولشْْ.
مجنونْ ؟
ما تخافشْ.
جرّب تانىِ،
مِا لأَولْ
…
… راح تتعلم تقرا وتكتب من غير ألفاظ:
تدويرةْْ وِشــّـك،
وسلام بُـقَّـكْْْْْ عَلَى خَدّك،
والهزّه فْْ دقنـَـكْ،
وكلامِ اللون :
اللون الباهتِ الميّتْ،
واللون الأرضى الكـَلـْحـَان،
واللونِ اللى يطق شرارْ،
واللون اللى مالوش لونْ،
وعروق الوشْ،
والرقبهْ،
وخْطوط القورةْْ،
وطريقةْ بَلْعَكْ ريـقــكْ
تشويحةْْ إيدَكْْ…،إلى آخرُهْْ.
…….
لما حانسكتْ حانحسْ،
أو نِعلن موتنا.
وخلاصْ!
…..
أوْ يمكن لما نْـحِـس،
نقدر نبتدى مالأول ؟
القراءة
قراءة العيون هنا ليست قاصرة على العيون التى نرى بها الدنيا، إن العيون هى كل النوافذ التى نطل منها على الوجود البشرى والكونى بعد أن نزيح حواجز الكلمات التى قد تحل محل كل أنواع التواصل الأخرى، الكلام عن المشاعر وعن الأحاسيس قد يستعمل لإخفائها، وليس لعرضها أو تعميقها، قد تأتى مناسبة لاحقة ونحن نقرأ فى عيون أخرى، ونقابل هذا المعنى بشكل مباشر حين راح أحدنا يرفض “لعبة السكات” من حيث المبدأ، استصعابا وخوفا، قائلا” :
إنما اللعبادى صعب،
بس قوللى ازاى أقول من غير كلام ،
مش حابطّل،
خايف ابطّل،
لو أبطل وصف فى الإحساس حاحس.
وانا مش قد الكلام ده
إن تعبير “لو أبطل وصف فى الإحساس حاحسّ، يشير إلى هذا التوظيف السلبى للكلام فى وصف الإحساس، الأمر الذى نحاول إثباته من خلال ما أسميناه “لعبة السكات”، ونحن نقرأ من خلال العيون بالمعنى الأشمل، العيون النوافذ إلى “أغوار النفس” (اسم الديوان).
العين السويقة
القراءة فى هذه العين “السويقة”، من منطلق الافتراض الذى قدمناه فى التعرف على الكيانات الحيوية التى تتحرك فينا وبنا أثناء الحلم، هى مدخل صعب للقارئ الذى اعتاد أن يتعامل مع العواطف باعتبارها صفات تجريدية، لا كيانات قائمة. لعلنا تجاوزنا فى الحلقات السابقة اختزالنا إلى “واحد” (ليس كثيرين)، ثم تجاوزنا الاقتصار على أن نكتفى للاعتراف بهذه الكثرة بإقرار أن كلا منا يحتوى فى داخله “طفلا” و”والداً” إن كان ظاهره وقائده يافعا فى وقت بذاته، وهكذا، وأن هذه الكيانات (الكثيرة) هى جاهزة للتبادل حسب الموقف ومقتضى الحال، كل هذا تبيناه ونحن نقدم الحلم أولا، ثم الإبداع ثانيا، حين أظهرنا كيف أن الكيانات الحيوية هى اللبنات الأساسية فى حركية الاثنين (الحلم، والإبداع) ، مع اختلاف الناتج.
هذه العين “السويقة” التى نقرأها حالا بدت لى مزدحمة ازدحاما شديدا بكل ما اعتدنا أن نسميه متناقضات. استقبلت هذا الازدحام – مبدئيا – باعتباره متنوعات لا متناقضات، أتذكر هذا الكم الهائل من الحار والبارد، والرخيص والثمين، والأسود والأبيض الذى كان يعرض فى بلدنا كل اثنين وخميس ثم صباح السبت فيما يسمى السويقة لا السوق. السوق الكبير كان يعقد كل يوم السبت، فى بلد قريب من بلدنا (أصبحت مركزنا لاحقا) اسمه بركة السبع، ، حيث كانت المواصلة بين بلدتنا، هورين، وبينها هى قطار الدلتا، ثم تطورت المسألة، فرأى بعض أهل بلدنا أن يعقدوا – أيضا- فجر وباكر نفس اليوم سوقا أصغر (سويقة) بمثابة ما يشبه “مقدمات” السوق ، ربما وجد أحدهم ضالته فاستغنى عن شد الرحال إلى للسوق الكبير “من أصله”.
هذا المنظر الأخير على شريط قطار الدلتا المنفرد هو الذى حضرنى وأنا أرى الازحام الذى ملأ هذه العيون، كانت نساء أهل بلدنا بقففهم المليئة بكل شىء، وكل حى، لا يحلو لهم الجلوس بأحيائهم وأشيائهم إلا فوق قضيب قطار الدلتا، وكلما صفر القطار قادما (فهو ليس له مواعيد محددة) يسارعون بالابتعاد عن قضبانه، وما إن يمر، وهم يضمنون عادة أنه لن يعود إلا بعد ساعات، جتى يعودوا إلى ركوب القضبان، وهكذا.
حين نظرت فى عيونها، حضرتنى هذه الصورة “الزحمة” (مع الاعتذار لعدوية) بشكل مكثف، كانت فيها كل هذا الكثير الذى تكلمنا عنه فى الحلقات السابقة، ولم تكن المسألة قاصرة على اكتشاف هذا الكثير فى ذاته، بل كانت ذبذبة أغلب هذا الكثير من اقتراب فابتعاد، فتردد، فنداء، فرفض، فرجاء، فحذر، كان كل ذلك يتناوب بسرعة أحيانا فى نفس اللحظة، وأحيانا يمتد على مدار أيام أو عدة مقابلات حيث كانت ثلة التجريب مصدر هذا الشعر تلتقى أسبوعيا. (مرة أخرى لا أعنى شخصا بذاته)، من هنا رحت أقرأ هذه العيون السويقة كالتالى:
(1)
والنظرةْ التانيةْْ الزحمهْ،
زىّ سويقةْ السبتْ،
فى بلدنا.
مليانة سلام، وكلامْ،
وآهاتْ،
زى القفف المليانة حاجاتْْ وحاجاتْ،
محطوطهْْ بالذاتْ،
على قلب شريطْْ قطر الدَّلتا.
كلّ ما القطر يصفَّر: بتلاقى الزحمة اتفضتْ
والقفف السودا الَّنسْوانْْ،
بتشيل القفف البيضاَ الملْيَانهَ، حاجات وحاجات.
وََّما القطر يعدّى: ترجعْْ كومْة القففِ النسوانْ، القففِِ النسوانْ:
تتلخبط على بعض، كما دقن الشايب.
(2)
أهى نظرة عينُهـا زىّ سويقةِ السبتْ.
فيها كلّ كلامِ الدنيا، وفْ نفس الوقتْْ.
فيها”رغبهْ”، على ”دعوهْْ”، على ”إشمعنَى”، على”رعشِةْ خوفْ”، على “صرخة طفلْ”، على حَـلَمةْ بزْ،
على “عايزه اختارْ”، و “انا مالى ياعمْ”، “مش عايزه ألمْ”، على: “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيشْ”، “خلينى معاكْ”، “خلينى ْبعيدْ”،
وِاذَا قلت أنا أههْ، أنا جىْ، تسمعنى كَمَا صُفارة القطر، وتخَافْ.
وينط كلام العين جُوَّهْ:
أو تحت الأرضْ.،
وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعض، زى النسوان اللى بتجرى بقففها.
وامّا ابعد تانى، ترجع كل الكلمات الساكـْته المليانه ألَمْ وحاجاْت، و”تعالَى” و “رُوحْ” و”قوامْْ” و”استنَّى”،
”وانَا نِفسى تْقَـرّب .. إٍلا شويةْ”. “طبْ حبّه كمانْ” ، يانهار مش فايتْْ !!، أنا خايفَهْ”،
”أنا ماشْيهْ”.
(3)
والقفف المليانهْ الغلّـهْ الكوسهْْ البادِنجانْ،
الحُـبّ العطفْْ الخوفْ العَوَزَانْ،
تِفْضَى من كلهْْ.
ولا يفضلْْ غير قضبان القطر.
زىّ التعبان الميتْ.
مستنيَّه السبت الجىْ،
اللَّى ما بــيــجيشْْ.
القراءة
ابتداءً، أجد نفسى مضطرا أن أعيد ما ذكرته فى حلقَتىْ الأحلام والإبداع، من أن الجديد هو أن مثل هذه المشاعر التى وردت فى القصيدة ليست مجرد صفات تصف شخصا واحدا يتلون بها، بقدر ما هى كيانات تمثل حضورا بأكمله. هذا الفرق ليس هينا، وفى نفس الوقت لا ينبغى أن يكون مُـرعبا حين يشير إلى احتمال وجود كل هذه الكيانات المتناقضة “فينا” “معا”. لقد تربينا على الاستقطاب طول الوقت، يعلمونا بلا كلل أن الشر هو ضد الخير، وأن الحب هو ضد الكره، ..إلخ. يبدو أن المسألة ليست هكذا تماما. إن الاعتراف بهذه المعلومات/الكيانات فينا حية وحيوية، تجعل لكل منها حضوره الفاعل دون أن يكون ضد ما هو عكسه (أو ما يبدو كذلك) :” أهى نظرة عينها زى سويقة السبت، فيها كل كلام الدنيا وفْ نفس الوقت”، لو أن الأمر اقتصر على حضور كل الكيانات هكذا فى نفس الوقت، إذن لأدى ذلك إلى عجز كامل عن كل شىء:عن الفعل، عن الحب، عن الإنجاز، عن التواصل، عن أى شىء تقوله هذه العيون. إن “كل كلام الدنيا” هنا لا يشير طبعا إلى الكلام الملفظن، (تذكر أننا ما زلنا فى لعبة السكات)، إنه أقرب إلى الكيانات الحيوية التى ذكرناها فى حلقة الأحلام خاصة.
وصلتنى هذه الزحمة من عيونها، ولم أرفضها، باعتبار أن القبول المبدئى، لا بد أن يؤدى فى النهاية إلى ترتيب أفضل. أى بناء أفضل، أى علاقة افضل، أى تطور أفضل (هل نستطيع أن نرفض الحلم لمجرد ما به من تناقضات؟). لكننا نلاحظ كيف أن الزحمة هنا قد فاقت كل الحدود، وأيضا مع تذبذب فائق ينذر بأنه يمكن أن يكون “فى المحل”:
” فيها”رغبهْ” على ”دعوهْْ”، على ”إشمعنَى”، على”رعشِةْ خوفْ”، على “صرخة طفلْ”، على حَـلَمةْ بزْ، على “عايزه اختارْ”، و “انا مالى ياعمْ”، “مش عايزه ألمْ”، على: “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيشْ”، “خلينى معاكْ”، “خلينى ْبعيدْ”.
إذا وصل هذا ا الموقف فى النهاية إلى سلوك مغلق الدوائر فعلا، فإن المسألة تصبح أقرب إلى الشَـلل (وربما المرض كما فى حالات تناقض الوجدان القصوى فى الفصام مثلا)، أما إذا كان احترام هذا الموقف مدعاة لقبوله مشتمِلا، بمعنى أن الدعوة للاقتراب، لا ينبغى أن تنفى الخوف منه، بل إنها تبرر صدق الاقتراب، لا الذوبان الذاهل. لا يوجد اقتراب بدون خوف من أن أنمحى فيمن أقترب منه، أو خوفا من أن أبتلعه، إذْ ماذا يتبقى منه أو منى لو حدث هذا أو ذاك؟ فكيف لا أخاف؟.
التنوع ليس تناقضا بالضرورة
هذه المشاعر التى تبدو متضاربة، هى متنوعة متبادلة أكثر منها متصارعة متناقضة، هى أحوال وكيانات تمثل لبنات التركيبة البشرية، ثم إن المفروض أن حركية هذه الكيانات تجرى باستمرار فى رحابة وتباديل وتوافيق وجدل حى، مع الدخول والخروج والسماح، كل هذه الحركية هى القادرة على أن تعطى للإنسان روعة وعمق تركيبته الفريدة.
هذا، وربما هذا بالذات، هو ما يمكن أن نرعى من خلاله مسار النمو.
برنامج الدخول والخروج
لا يوجد تناقض بين “خلينى معاك، وخلينى بعيد”، لو تصورنا أنهما ذراعىْ ما يسمى “برنامج الدخول والخروج فى العلاقة”، برنامج الدخول والخروج هذا هو الأساس فى النمو، حتى أن بعض المدارس النفسية تمثل النوم (بما فيه من حركية الأحلام) كأنه دخول حيوى إلى الرحم، ثم الاستيقاظ كأنه ولادة جديدة، الكيانات التى نسميها “أنا كتير” هى القادرة على تسهيل قبول هذه الحركية بدلا من أن نلصقها بظاهر وجودنا على أنها صفات استقطابية بين خيارين نصر أن نصفهما بالضدين. حدس التوجه الإيمانى الفطرى السليم يقر إيقاع الدخول والخروج فى دورات النوم واليقظة بدعوات لها دلالتها الفائقة، فيقدم دعوة الدخول إلى النوم هكذا “.. اللهم إن قبضت نفسى فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفـظها بما تحفظ به عبادك الصالحين”. أما حمد الاستيقاظ فيقدمه هكذا “الحمد لله الذى أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور”، هذا الإيقاع الأساسى المستمر هو التمثيل الأوضح لبرامج الدخول والخروج، الموت المؤقت والبعث، الاقتراب والابتعاد، كنظم بيولوجية تعلن حيوية الحياة والعلاقات وجدلها.
المصير السلبى
حين لا نتحمل مثل هذا الغموض، أو نخاف الحركة، فنعجز عن استيعاب كل تلك الكثرة بمتناقضاتها، تنقلب هذه الحركية ، كما فى آخر القصيدة إلى السكون الشلل اليأس، ومن ثم الانسحاب الهرب.
وِاذَا قلت أنا اهـُهْ، أنا جىْ، تسمعنى كَمَا صُفارة القطر، وتخَافْ.
ويـْنُـط كلام العين جُوَّهْ: فى البطنْ،
أو تحت الأرضْ،
وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعضْ،
زى النسوان اللى بتجرى بقففها.
وامّا ابعد تانى،
ترجع كل الكلمات الساكته المليانه ألم وحاجات،
و”تعالَى”، و “رُوحْ”، و “قوامْْ”، و”استنَّى”،
”وانَا نِفسى تْقَـرّب .. إٍلا شويةْ”. “طبْ حبّه كمانْ” ،
يانهار مش فايتْْ !!، أنا خايفَهْ”،
”أنا ماشْيهْ”.
مجرد الوعى باحتمال اقتراب حقيقى “وان قلت انا اهه أنا جى”، تسمعنى كما صفارة القطر”، وهات يا هرب وانغلاق. إلى أين.؟ إلى الفراغ الكيانى
استعملت هنا تعبير “الفراغ الكيانى”، وليس الفراغ العاطفى، لأننا نتكلم عن كيانات حيوية حقيقية تتفاعل وتتحرك، وتتآلف وتتحمل، هذه الكيانات إذا لم تجد “الاعتراف بها معا”، فهى تـُـنهك حتى الشلل، بل وتختفى تحت سد هائل من الكبت والإنكار “وينط كلام العين جُوَّهْ: فى البطنْ، أو تحت الأرضْ”.
الإنسان الذى أُفرغ من محتواه (مما هو كثير فيه) يصبح خاويا بلا نبض، ولا حضور، ولا رائحة. إذا سألتَ هذا الشخص عن أنه واحد ولا كتير، لا بد أن يرد عليك بخطبة عصماء، أنه واحد لا شريك له، يرد وقد تلفع بأيدلوجية أخلاقية جامدة، أو شعار ثورى، أو تفسير دينى سطحى، وهو ينفى كل ما عدا ما غطى به نفسه. لكن داخله يظل ينتظر – برغم كل هذا الموت – أن يُمنح فرصة أخرى ، لكنها تبدو فرصة محكوم عليها بالموت ما دام التذبذب “فى المحل” قد حل محل حركية الجدل: “زى التعبان الميت”، لأن السبت القادم – بهذه الصورة – لا يأتى أبدا.
أعلم أن هذا كلام شديد الصعوبة إذا قرئ من موقع تربيتنا الأخلاقية، أو الدينية المسطحة ، أو التعصبية التمييزية العنصرية.
إن قبول التناقض، وتحمل الغموض ، هو أول خطوات الحركة الحقيقية نحونا، نحو الكثير فينا حالة كونه يتوحد جدلا “إليه” بلا توقف، وبلا نهاية.