نشرت فى روز اليوسف
31- 3 – 2006
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل
السؤال الأساسى الذى تفرع منه “ملف الحب” كان – وما زال – “أنا واحد ولا كتير”؟ وقد حرك هذا التساؤل جميع ذواتنا داخلنا وعلى سطح وجودنا، لتواجه إشكالة الجدل مع الآخر حتى تكون العلاقة فيما بيننا حقيقية ما أمكن ذلك. ولكن ماذا يكون الحال إذا أنكر أغلبنا هذا الاحتمال (أن كلا منا “كتير”) ؟ لا مانع لأنه ليس من المفروض أن نقحم على أحد ما لا يستطيع معايشته، ولكن إذا ما وصلت الرسالة تقول إن هذا الإنكار لا يجدى، وأنه – المنكشر – كتير رغما عنه، فكيف يقاوم هذا الشخص هذه الحقيقة بدفاعات (ميكانزمات) قوية، لكنه مختَرقة من الداخل؟ هذا ما سوف نناقشه فى هذه الحلقة. لاحظ بعض الأصدقاء، وربما القراء، ان النماذج التى قدمناها حتى الآن هى نماذج أنثوية ، فتساءلوا ألم يكن معكم رجال تستأهل خبرتهم فى هذه التجربة أن تُحكى؟ الغريب أننى حين بحثت فى ذاكرتى وأوراقى وجدت أن مقاومة التحرك والتعتعة والخلخلة إلى كثرتنا، كانت من نصيب الرجال أكثر، ومنهم حالة اليوم. علاقة الضبة والمفتاح هى علاقة ساكنة هامدة حتى الموت، لكنها ليست العلاقة الوحيدة الساكنة. أى علاقة فيها اعتمادية مطلقة، (تسمى أحيانا الاعتمادية الرضيعية) هى علاقة ميتة أيضا. نحن نتصور عادة أن المرأة هى الجاهزة للاعتماد على الرجل، هذا ليس صحيحا، اعتمادية الرجل أخطر وأخفى. !! كان رجلا حسن النية، أراد أن يساير كل ما كنا فيه، ما كنا نحاوله، بالكلام والحماس دون مغامرة الرؤية وإعادة النظر فى حقيقة علاقاته عموما ومعنا، فجاءت قراءتى فى عيونه تمثل العجز عن قبول الحركة أصلا، وبالتالى عن إعادة النظر، وبالتالى عن “الحب الجدل” الذى نحاول تقديمه فى هذه السلسلة.
أنا واحد ولاّ “”كتير””؟ (12) (ملف الحب5)
نِـفْسِى حبّـةْ حُب، أو “حِـتةْ” حقيقة!!
الغريب فى الأمر أن الحب الذى نحاول تقديمه بديلا عن الموات الشائع باسم الحب، هو ، برغم ندرته ومفاجآته، شعور زاخر بألم بنّاء، وحزن طازج، وفرحة خلاقة فى نفس الوقت. صاحبنا رجل طيب ذكى قارئ متابع يقظ، لكنه يمارس كل ذلك كلاما فى المحل بلا أدنى مخاطرة تسمح بخلخلة الداخل أو مغامرة العلاقة. كان دائما يبادر بإعلان أنه يريد أن يشارك، وأن يغامر، وأن يفك نفسه، وأنه على استعداد أن يحاول، فإذا ما اقترب من أى من ذلك تراجع إلى موقعه الاعتمادى على كبير المجموعة بشكل معجز. كان صاحبنا قد مر بعلاقة فردية مع الكبير سمحت له بالاعتمادية باعتمادية أقرب إلى ما يسمى “الطرح” فى التحليل النفسى، وهو الذى يفسر تعلق الشخص الحاكى، بالمستمع (المحلل)، بأنه يطرح عليه من جديد مشاعر والده (أو والدته) اعتمادا، وصراعا، وغير ذلك. ربما كانت هذه الخبرة السابقة لصاحبنا هى التى جمّدته عند هذا المستوى الاعتمادى المقتصر على الكلام والمحاولات المُجهضة واستجداء العواطف ومعاودة الشكوى، وفى نفس الوقت إجهاض أية محاولة فى الاتجاه الآخر.
نظرت فى عيونه أبحث عن الـ”كتير” بداخله فلم أجد أى ذات أخرى يمكن أن تنفصل عن الكتلة المتماسكة التى تتصدر الواجهة، لم ألمح بداخله: طفلا ، أو محارا، أو متألما، أو مندهشا، مع أننى لمحت كل ذلك وقد عمل ما يشبه الثلة (الكومبينة) الاعتمادية التى يمثلها. يبدو أنه حصل نوع من الاتفاق السرى لتسوية ساكنة بين كل ذواته بحيث يستحيل تفكيكها من بعضها، فلم يبق أمامه إلا العقلنة،والألفاظ ، والنوايا ، وطلب الاعتماد، وشحاذة العواطف. ظللت أحاول طول الوقت بلا طائل:
والعيون التـَّانـْيـَه دى بتقول كلامْ،
زى تخاريف الصيامْْ؛
الصيام عن نبضِة الأَلـَم اللى تِـبْنى،
الصياْم عن أىَّ شئ فيه المُـغـامْـرَهْْ،
الصيام عن صـنَف بـنِـِِِِِى آدم مِفَتّـح،
الصيام عن أى حاجة فيها إنى: عايز أكونْْ،
زىّ خلقةْْ ربنا”
والأفندى اللى لابسها فى العسل نايم بيحلَم،
بَسْ بِيْشاركْ، ويتكلمْ، ويحكُـمْ،
شرطِ إنه لمْ يخطّـى أو يِسلّـمْ
مشْ على بالُه اللى جارِى،
”إنّه عمّال يستخبَّى أو يدارى”.
وان وَصلُّه، غَصْب عَنُّهْ
يترمى سْطيحَهْ ويُطْلُبْ حتّه مـِنُّـهْ:
شرط إنه يجيله فى البزازة دافْيَةْ، جَنْب فُمُّهْ.
المصيبة فى هذا النوع من الأشخاص هو أنهم لا يكفون عن المناقشة، والكلام الكبير، وإصدار الأحكام، (بس بيشارك ، ويتكلم، ويحكُـم). بصراحة نجح صاحبنا فى خداع عدد من أفراد المجموعة بحماسه وطيبته ومبادراته الكلامية، حتى أنه كان حين يقع فى مأزق يقرّبه من حركته الداخلية، كان هؤلاءينبرون للدفاع عن حقه فيما يقول، وفى التأجيل، وفى التراجع. كان موقفهم هذا على حسابه برغم ما يبدو فيه من تعاطف ما. مع استمرار محاولاته، وبرغم دفاعاته القوية التى تمنع أى حركة من داخله، كان أحيانا يتألم بما يعلن أنه “يجوز يعملها”، ويسمح بالمبادأة، إلا أنه ، وبسرعة فائقة يقوم بمحوِ ما وصله، ويواصل الكلام وطلب الرضاعة الجاهزة اعتمادا مطلقا (وان وصلّه غصب عنّه ، يترمى سطيحة ويطلب حتة منه، شرط إنه يجيله فى البزازة دافية، جنب فُـمّه). كان الذى يحبه منا أكثر ينتبه إلى لزوجته المعطـَِلة لخلخلته، حتى خيل إلى أن وصف اللزوجة هذا ربما يعلن أن اللزج منا قد “لصق” ذواته (الكتير) بعضها إلى بعض حتى صارت كتلة رخوة يصعب خلخلتها إلى مفرداتها. كما ذكرنا، هكذا تمادت رؤيتى للزوجته، وطلباته، مع تصفيقه لمن يعملها دونه وكأنه يعملها (الخلخلة) نيابة عنه، ثم إعلانه اللفظى، دون تحريك، أنه يريد أن يأخذ نصيبه على ما قُـسم دون جهد.
ساح صاحبنا وعام ملزّق، واترسمْ،
خلّـص الرضعة، ومدّدْ، وانسجم.
قالُّهْ سمَّعْنَا كمان حبّةْ نغَمْ:
كِيدِ العِـدَا،
يا سلامْ!! هوا جـُـوّاك كلّ دا!؟
أنا نِفْسِى ابقَى كده؟
بس حبُّونِى كمانْ.
حُط حتُّهْ عالميزان.
أصلِى متعَّود زمانْ:
إنى انام شبعان كلامْ.
حين يحل الكلام الحلو (لكنه مفرغ) محل المشاعر والحركة والمحاولة والمغامرة تصبح الخلخلة أو التعتعة مستحيلة تقريبا، حتى لو كانت الدنيا “تضرب تقلب” حول صاحبنا الملتصق ببعضه بعضا. كنا إذا صدمنا بعد كل محاولاتنا بكل هذا التداخل اللزج فى بعضه بعضا، نثور عليه جميعا – بما فينا الكبير الذى اتهمناه أن علاقته السابقة به هى التى زيّنت له البقاء فى محطة الاعتمادية هكذا إلى الأبد، يثور بقيتنا حبا فيه بشكل آخر، ويهجم بعضنا عليه فى محاولة تحريكه، ويشاركهم الكبير قائلا:
“يا أخينا مِدّ إيدك
شوف لنفسك شىء يفيدكْ
يا أخينا هِـمّ حبَّـهْ.
الحكاية مِش وِكالة بْتَشتِرِى منها المَحَبّةْ”.
قام صاحبنا بانْ كإنه مشِِ مِمَانـِعْ،
ماهو فاهم إن سِيدْنا سره باتع
راح مِسَـلأحْ ينتظر “بِنجِ اللذاذة”
كلـَُـّه دايب فى الإزازة.
والمعلّم صْبُرهْ بحباله الطويلةْْ،
قال “لابد أشوفْ لُه حيلهْ”.
قال لـه وكإنه بصحيح:
“إنت تُؤْمـُـْْر”.
قام صاحبنا راح مصدًَّقْ،
رَاحْ مِنَاوْلُه عرضحالْْ فيه المُرادْْ:
”.. بعد موفور السلام،
نِفْسِى حبِّةْ حُبْ .. أو حتـِّةْ حقيقهْ،
نفسى أفْهَمْ فى اللى جارى ولو دقيقهْ،
نفسى أعرف فى اللى بتقولوا عليهْ،
نفسى اشوف دا إسمه إيه”
من بين أقوى الميكانزمات التى تحول دون حركية النمو من حيث المبدأ، وبالذات دون الحركة فى اتجاه الآخر (الحب) ، وضمنا دون حركية التفكك الخلاّق، هى ميكانزما الفهم المعقلن و اللفظنة (أى صياغة أى قضية فى ألفاظ جاهزة ساكنة قديمة، براقة). كلما زاد التنظير والتأويل والتفسير، حل محل الحركة، والخلخلة والمغامرة. محاولة الفهم العقلى الممنطق طول الوقت قد تحول دون استيعاب خبرات ليست بالضرورة قابلة للفهم فى حينها. كثيرا ما يوصف الحب بأنه ضد الكلام، أو بأنه يحتاج أقل قدر من الكلام. محمد عبد الوهاب حين يعلن أنه “وتعطلت لغة الكلام” أو صباح وهى تتدلل على صاحبها متمايلة لأنها لا تأخذ منه إلا “كلام كلام كلام”، كانا يترجمان وعى الناس العاديين إلى حقيقة أن الكلام ليس هو كل قنوات التوصيل، ولا هو افضلها. صاحبنا لم يكن فاقد البصيرة تماما، كان داخله يعرف جمال وقوة وروعة ما أسميناه “الحب الحقيقى” خاصة وهو يرى كل – أو معظم – المحيطين به وهم يطرقون بابه، ثم يختبرونه، ثم يعايشون بعضه، لكن بصيرته تلك كانت مجهضة، لم تـُوَظـَّف أبدا لإعادة النظر بشكل جاد، بل ربما أدت وظيفة عكسية، حيث كانت تغنى صاحبها عن مواصلة المحاولة ليكتفى بالرؤية والحماس والتصفيق لغيره!!! . حين زادت دفاعات صاحبنا، بدأت محاولات استثارته بالموافقة الساخرة التى – للعجب- قوبلت منه بنفس نوع البصيرة المفرغة من فاعليتها، لتنتهى إلى عكس المراد: لتؤكد الحق فى الاعتمادية الرضيعية المستسهلة طول الوقت.
المعلّم قالّه: – “ماشى، يالله بينا”
= يالله بينا!!!؟؟
يالله بينا؟ على فين؟
دانا مستنى سعادتكْْ.
روح وهاتْْ لى زى عادتكْْ.
أى حاجة فيها لذّة،
الكلام الحلو، والمنزول، ومزّة.
أنا أحكى، وانت تتصرف براحـَتكْْ.
أنا تِعجبْنِى صراحتكْ،
إٍوعَى تزعلْ منّى: دنَا عيّل باريّل،
لسَّه عندى كلام كتير أنا نفسى اقولهْْ،
عايِز اوْصف فى مشاعرى وإٍحساساتى،
عايز انغـّم فى اللى كان لحن آهاتى
واقعد اوصفها سنين،
هىَّ؟ هُـمَا؟، هوّا ؟؟ مين؟
كلهم غلطوا فى حقى، قول آمين.
مش حا بَطّلْ، خايف ابطّلْ،
لو أبطّل وصف فى الاحساسْ حَاحِسّ،
وانا مِش قد الكلام دهْ.
هنا تنبيه صريح، إلى أن وصف الإحساس (بالألفاظ، والشكوى، والحكى، والتبرير، والتأويل، ووضع اللوم على الآخرين) هو ضد الإحساس، وهذا عكس الشائع عند عامة الناس، وعند كثير من كتاب الدراما والمسلسلات، وعند سوء استعمال (أو استعمال) ما يسمى بالتحليل النفسى .بصراحة، يبدو أن الذى أعاق صاحبنا كل هذه الإعاقة هى تلك الخبرة السابقة التى علمته الإفراط فى الكلام والتأويل والشرح والفضفضة، والتفسير ..إلخ. النقلة من كل هذا إلى خبرة المواجهة، والتحريك والألم فى اتجاه علاقة حقيقية، كانت بالتالى مصدر تهديد حقيقى بالنسبة له، ومن ثم المقاومة.
معظم العلاج الدوائى التسكينى يقوم بإطفاء الحركة بشكل أبسط وأسرع، وهو يدعم ميكانزمات الهرب، ويطفئ الآلام أولا بأول، حتى لو كانت هى آلام النمو، وحين تبين أن صاحبنا لا يطلب إلا تسكينا لذّيّـا يسمى السلامة أولا (وأخيرا)، نصحه الكبير بالتسكين الكيميائى، باعتباره أقرب سبيل لتحقيق مطالبه بديلا عن التعرى والتحريك سعيا لعلاقات بشرية خلاقة (الحب الحقيقى).
المعلم قالُّه: شوفْ لَكْ حد غيرى،
جَنْبِنَا دكّانة تانيةْ،
فيها “بيتزا” مِالّلى هيَّهْْ، أو “لازانْيَا”.
فيها برضكْ وصفهْ تشفى مالعُقدْ،
إسمها “سيبِ البلد”.
فيها توليفةْْ حبوب من شغل برّة.
تمنع التكْشيرهْ، والتفكيرْ، وْتمِلاكْ بالمسرّة.
فيها حقنةْ تخلِّى بَالََكْ مِستريحْ.
تِنتشِى وْتفـضَلْ مِتَنَّحْ.
فيها سرّّ ما يِتْنِسِيشْ.
إنـه “مِشَ لازِمْ نعيش”!!
تعبير “إنه مش لازم نعيش” ، لا يعنى هنا التخلص من الحياة بالانتحار، وإنما هو يذكرنا بـ “الحب موتا” فى الحلقة السابقة. الحياة هنا هى العلاقة الحقيقية والحركة ومغامرة جدل الآخر بكل ما نحتويه من “كتير””. الموت هنا (إنه مش لازم نعيش) هو التسليم الهروبى بتشكيلاته المتنوعة، من أول تسكين ثورة المشاعر حتى قد تصل إلى البلادة الساكنة، حتى الهجرة السلبية. فى حالة صاحبنا هذا كان يعلن باستمرار أنه ضد هذا التسكين الدوائى برغم أنه لا يفعل شيئا إلا أن يسعى إلى كل أنواع التسكين، ولكنه فى نفس الوقت يرفض الرؤية الحقيقية التى تهدد بأن تتبعها مغامرة تحريك حقيقية فعلاقة حقيقية، يتبين ذلك فى استجابته الظاهرة لنصيحة الكبير الساخرة بعد تصنع الاحتجاج، ليعلن تمسكه بموقفه، وبعماه فى النهاية.
قام صاحبْنَا إِنْقَمَصْ، بسْْ ابْتَسََََمْ.
قال كده نلت اللى عايزه، واترسمْ
قالْْ عليكْ نور يا معلم،
(بسّ انا مش ناوى اسلِّم.)
قال لـِنَفْسُهْ مشْْ حاشوفْ غير اللِِّى انا قادر أشوفه.
كل واحد هوا أدرى باللى تسمح بيه ظروفهْ.
هوه عايزنى أكون من صنع إيده؟
واللى بيْقُولُهْ، أعيدُهْْْ؟
إنما بعيدْ عن شوارْبُـهْ،
مشْ مصاحْبُهْ.
حا نزل اتدبّر شُؤونى
وسط هيصةْْ الناس حاَضِيـعْ.
لما أصِيعْْ،
زنقة الستات ألذْ.
مالِحقيقه اللى تهزْْ.
مهرب آخر يلوح فى اتجاه ضد الحب بما يشبه شكل الحب، وهو ما يسمى أحيان الدونجوانية، الحقيقية أو الكلامية. صاحبنا هنا يعلن أنه يخشى أن يُستدج إلى التنازل عن ذاته لحساب الذوبان فى الجماعة، التى تحمل مظنة التبعية لقائدها (مع أنها كانت جماعة بلا قائد) . كان كلما لاحت له ضرورة المحاولة، تصور أن أى خطة فى اتجاه حقيقى نحو آخر حقيقى، يمكن أن تخلخل السكون الذى ركن إليه، هى نوع من “غسيل المخ” والتبعية، مع أنه كان لا يطلب إلا التبعية. مثل هذه الثورة التى تميز فترة المراهقة بشكل خاص، تتناقض تماما مع الاعتمادية الرضيعية الكاملة هنا، ومع إعلان صاحبنا رغبته فى التخلى عن أى التزام حقيقى حتى أنه يفضل الضياع والصياعة اللذية متضمنة العلاقات النسائية المتعددة العابرة. ثم تتبين بصيرته الأعمق كيف أن هذه العلاقات الهروبية السطحية لا تقنع المرأة التى ترغب فى علاقة حقيقية.
بس ياخْسَاره مانيش راجل يِسـدْ،
والنِّسـَا واخداها جَدّ.
***
”النِّسَا عايزالْها راجل يِْملى راسها،
مش يبيع روحه لِها علشان ما باسْها.
النِّسَا عايزهْ اللى عيبُه مش فى جيبه، وماشِى حالُهْ،
عايزهْ واحد يِنْتبه لِلِّى فى بالها، زى مايشوف ما فى بالُهْْ،
النِّسَا عايزهْْ اللى يعرف امتى بيقولْهَا “انّ لأَّه”،
أيوه “لأهَّ”، بس “لأهَّ” ليهَا بيهَا.
عايزهْ واحد تحِتويهْ، بس تضمن إنُّه قادرْ يِحتويَها.”
وانا مش قد الكلام ده!!
الوصف هنا لمواصفات العلاقة التى تفضلها المرأة الناضجة، هذا الوصف سمعته نابع من داخل دالخله دون علمه، (أو ربما من داخلى أنا)، هذا الوصف يحدد معالم الرجل الذى تفضله المراة، وهو الذى لا يسايرها ليرضيها، الذى يقرأها كما يحاول أن يشحذ بصيرته له ولها طول الوقت، وأن تكون معارضته لها هى إليها وبها ، ليست بعيدة عنها، وإنما من جوف داخلها، فيتم الاحتواء المتبادل، إلى ولادة جديدة، كل هذه المواصفات لا يمكن أن يتصف بها شخص لزج، معقلن، هرّاب مثل صاحبنا، ويبدو أن داخله يعلم ذلك.
صاحبنا فى النهاية يتبين حجم الورطة التى انزلق إليها بالرؤية، ولو ناقصة، أدخلته هذه التجربة إلى احتمال كشف جوانب (وذوات) كان قد دفنها من قديم، فراح ينحو باللائمة على كبيرنا باعتبار أنه هو الذى أغراه بما لم يستطع أن يتحمله، وقد بدا أنه خطى بضع خطوات للرؤية، لكنه لم يستطع أن يكمل أو يدفع ثمنها، وأيضا يبدو أنه قد عجز أن يتراجع إلى موضعه الدفاعى المنيع السابق الذى كان يحتمى به قبل المحاولة، هذا الوضع المائع المتوسط الذى هو ما يطلق عليه “الرقص على السلالم” :
كله منَّكْ يا مِعلمْ:
ليه تفتَّح عينىٍ وِتْوَرينى نَفْسى؟
ليه تلوَّح باللى عمره ما كانْ فِى نِفْسِى؟
واحده واحده، كُنت هَدِّى،
قبل ما تْحَنِّسْنِى، يعنى، بالحاجاتْ دِى.
ليه تخلِّى الأعمى يتلخبط ويرقص عالسلالم ؟
كنت سيبْنِى فى الطَّرَاوةْ، يعنى صاحى زى نايمْ.
داهية تلعنْ يوم مَا شُفتَكْ.
يوم ما فكرت استريحْ جُوّا خيمتكْ.
يوم ما جيتلَكْ تانى بعد ما كنت سبتكْْ.
يا معلّم: إما إنك تقبل الركاب جميعاً
اللى واقف، واللى قاعدْْ، واللى مِتشعبط كمان،
أو تحط اليافطةْْ تعلن فين خطوطْْ حَدّ الأمانْ.
كل واحد شاف كده غير اللى شايفُهْ،
يبقى يعرف إنه مِشْ قَدّ اللى عِرْفُهْ.
فعلا : المسألة ليست شطارة وحب استطلاع، الحياة الإنسانية زاخرة بكل ما يستأهل، والكون واعد لكل محب للمعرفة، حريص على فطرته، أمين مع نفسه، مخاطر بعمل علاقة حقيقية، لكن واقع الحال الذى وصل إليه الإنسان حالا، هو غير ذلك، وعلينا أن نحترمه حتى نقدر على ما هو أفضل وأرقى.
ينبهنا المتن هنا أن للرؤية ثمن، وفى المحاولة مخاطرة، حتى لو كانت النتيجة تستأهل.
إن مجرد أن نمارس أو نتذوق نوعا من الحب غير ما ألفنا، أو نرى رأيا أو موقفا، أو كشفا ، غير الذى نشأنا فيه واعتدنا عليه، هو مسؤولية جادة،
وحتى إن كانت تستأهل فعلينا أن نضبط الجرعة. حتى لا نخسر القديم، وفى نفس الوقت لا نحصل على الجديد أبدا.