نشرت فى روز اليوسف
17-2-2006
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل
لا يمكن أن أزعم هذه المرة أنها حالة معينة، مع أنها حالة معينة، الأفضل أن أعتبرها حالتى أنا، أو على الأقل رؤيتى لحالةٍ ما، قراءتى أنا لـمَا خِـفتُ أن تكونه هذه العلاقة التى أشرت إليها مرارا باعتبارها علاقة “الضبة بالمفتاح”،الضبة ليست بالضرورة هى المرأة، ولا المفتاح الرجل، تلك هى العلاقة الساكنة جدا حتى الموت استبعادا للآخرين. إن توقف المفتاح عن الحركة ذهابا وجيئة، أو دورانا وتجربة، مع “الضبّة” وفى “الضبة”، يجعله يصدأ، كما أن الضبة تتلف بدورها. هذه العلاقة الساكنة أبدا هى فى عمقها نوع من الموت (بالمعنى السلبى). “الصفقة” التى تعقد فى مثل هذه العلاقة هى عادة أخفى من أن تُـعـَلن، بل إنها قد تأخذ شكلا شديد الجذب حسن السمعة “أموت فيه ويموت فىّّ”. “أحبك موت”. الموت الذى يتم بصفقة هذا الحب الثانئى الساكن المنغلق عليهما دون الناس، ليس هو الموت الحركى كجزء من إعادة الولادة.
أنا واحد ولاّ “”كتير””؟ (11) (ملف الحب4)
الموت حبًّاً و”الحبّ موْتا“!!
أعترف أننى ربما بالغت فى تشويه هذا الموت (أعنى هذا النوع من الحب)، برغم شيوعه ولذائذه، ومع ذلك فسوف نلاحظ كيف أن قراءتى بدأت إيجابية، وانتهت إيجابية، بحيث يمكن تصور أن “الحب الحقيقى” إنما يتخلق بجدلية أقوى وأعمق، ربما بدءًا بقبول هذا الحب الثنائى الخاص الساكن مرحليا، شريطة استمرار حركية تعريته، فجدليته، والسماح بتطوره، كما سنرى.
تبدأ قراءتى فى عيونها من خلال إعلان أن بداخلنا، بداخل داخلنا، مـنَْ يحذر أن يكون هذا الحب/الموت هو نهاية المطاف. الحياة أقوى من الموت طالما أن الإنسان لم ينقرض، الحياة قد تستعمل الموت كجزء من حركيتها فى سبيل إعادة بعثها. الذات الواعية الداخلية الحادة البصيرة تنبهنا إلى خطر التوقف عند علاقة التلاشى الثنائى الساكن:
…. وعيون جوّا عيون بتقول:
”حاسبْ عندك”! .
إوعى كـمِـنّكْ عطشان تِعمى وتشرب منّى،
أنا مــش عندى إلا الموت.
باشترى بيه الناس وباسميه “حب”.
والناس عايزه تحب تحب تموتْ،
أيوه تموت،
جوّا بطن الحوت،
والبوسهْ بتشلب دمْ،
والحضن مغارهْ ملانهْ البنجْ السحرْ السمْ.
وبــدال ما الزهرة الطفلةْْ تنبّـت جوّه الورده القلب،
بنبيعْ بعضينا لبعـْــض، والقبض عدمْ .
ولا فيش مُعجزه حا تطـلّع يونس زى زمان،
ولا فيش برهان،
نسْـيوا الرحمان.
هذه العيون التى هى بداخل العيون هى كيان حقيقى (كما أسلفنا)، كيان يمثل الحياة فى عمق بصيرتها وقوتها. ذكرنا أن “الكتير” الذين بداخلنا لا يقتصرون على كونهم “طفل” و”يافع” و”والد”، الموت بداخلنا – كما الحياة – هو كيان أيضا شديد الحضور والقوة، الموت ليس حادثا قادما نخاف منه أو ننتظره، الموت هنا هو كيان فاعل سلبى إذا كان نهاية المطاف، الحياة هنا أيضا هى الكيان الذى يمتلك البصيرة التى تحذر الشريك من صفقة أن نموت “فى بعضنا البعض”، على حساب علاقتنا بالآخرين، وبالحركة، وبالنمو، وبالطبيعة، وبالكون. الحياة هنا تحذرنا من أن ننخدع فنقتل الطفل النامى داخلنا لمجرد تسرعنا – عطاشى- بقبول صفقة ارتواء سريع دون تمحيص نقائها، أو تحديد ثمنها. (“وبدال ما الزهرة الطفلة تنبّت جوّه الوردة القلب، بنبيع بعضينا لبعض، والقبض عدم”). الدخول فى الآخر حتى التلاشى بلا عودة يقابله أن يبتلعنا الآخر- حوتا- فى جوفه بلا أمل فى خروج ما دمنا قد انفصلنا عن الآخرين والكون هكذا. الرحلة فى هذه الصفقة أحادية الاتجاه (سكة إللى يروح ما يرجعشى) هى بيع وشراء لا يكسب فيه أحد إلا العدم مهما بلغت اللذة الظاهرة فيما يسمى “الحب” معلنا. (باشترى بيه الناس وباسمّيه حب). إن اعترافنا بأننا “كتير” هو بداية احتمال أن ننتبه إلى طبيعة الجارى، وأن نحتويه لننطلق منه. التنبيه الذى وصلنى من داخل صاحبتنا منذ البداية هو أن ثمة معركة حامية تحتدم طول الوقت فى أعماقها. علينا أن ننتبه ونحن نقرأ هذه الرؤية من الداخل أن التوحد بين “ذات” الموت كياناً وبين “الذات/البصيرة” يجعل الخطاب يصدر منهما بلغة المفرد فى اتجاهين متعاكسين أحيانا(أنا مش عندى إلا الموت، – (ثم:)- …. لو ما تخافشى الموت موتنى..إلخ)، تمضى الذات البصيرة فى تحذيرها:
… لو بتحب صحيح ما تصحصح.
لو تتأمل حبـّهْ حا تعرف،
لو ماتخافش الموت حاتشوفنى إنى الموت،
وبامصّ الدم .
لكن الدم المالح ينزل يهــرى فْ جوفِى،
ويخلـّـينى أعطش أكتر.
ولا يروينى إلا الدّمْ.
ولا يروينى الدمْ.
ولا يروينى إلا أشوفك ميـّت زيي.
وارمى مصاصتك ،
وأرجع أشكى وأبكى وأحكى،
”نفس القصـــة”.
إذا كانت البصيرة قد بلغت هذه الحدة ، وكان الرفض بهذه القوة، فلماذا لا تفعلها صاحبتنا وتتوقف عن التهام الآخر، ومص الدم؟
الأمر ليس بتلك البساطة. حتى يتم إفشال هذه الصفقة لصالح السكون الدائم والانسحاب “معاً”، لابد أن يتم النجاح فى استعمالها لصالح ما بعدها، لا بد أن نستعين بالحياة خارجنا، الحياة بداخل الآخرين، الحياة عبر الكون إلى ما لا نعرف. فإذا كانت الذات/”الموت” فى الشريك هى الطرف الآخر فى صفقة التخميد هذه، فإنه يتم تعاون بين “سلبى” و “سلبى” لاستبعاد كل مَنْ هُمْ عدا طرفَىْ الحب الثنائى الانغلاقى. هذه “القفلة” بين الضبة والمفتاح لا تتم بعمل منفرد، الشريك مساهم حتمى فى تحقيق صفقة السكون معاً بعيداً عن الناس الحقيقيين. لو أن الشريك انتبه إلى أن المعروض –ثنائيا- هو علاقة السكون/الاستبعاد/الموت، وكان عازفا عن إتمامها، فهى لا تتم.
صاحبتنا هنا داخلها يعلن صراحة أنها صفقة فاشلة حتى فى تحقيق الارتواء المؤقت (ولا يروينى إلا الدم، ولا يروينى الدم). هذا ما نسميه فى مثل هذه العلاقات: “شرب الماء المالح”، كلما شربت عطشت أكثر، الذات/البصيرة تنبه هنا إلى أن الموت هو محوُ للآخر للآخرين (ولا يروينى إلا أشوفك ميت زيى)، وبانعدام هذا الآخر لا تنتهى القصة، لكن تستمر النعابة واحتمال تكرار “السكريبت” إلى ما لا نهاية.
للوقاية من هذا المصير لا بد أن تتحرك ذوات الحياة داخلنا “جماعة” لتثرى الحياة. حياة أى منا هى فى حياة الآخر، ومن ثم يكون الرباط الإيجابى بين أى اثنين منا (فأكثر) ليست تآمرا على الحياة، بل تكاتفا معا ضد الموت (موّت موتى)، صاحبتنا تريد أن توقف سلبية الصفقة لتتحرر من عدم الأمان بأن تقتل موت شريكها فلا يصير الرابط بينهما هو عدم الأمان المشترك . صاحبتنا تحسن الاستماع إلى الموت الجبان داخل شريكها وهو يرتعد من حركة يقظة حياتها، الأضمن له أن تموت فيه، فيموت فيها، (بس الموت جواك بيقولى: إوعِك تصحى)، فتواصل التحدى:
لو ماتخافشى الموت: موّتنى،
موّت موتى،
لو بتحب الدنيا صحيحْ، إوعى تسيبنى لنفسي.
….
بس الموت جواك بيقولى: إوعِك تـِصحِى .
حين تتمادى الصفقة بين موته وموتها، حتى باسم الحب، تصبح الحاجة إلى ثالث فرابع فكثيرين لا بديل لها، الحب وسط الناس ولهم وبهم إليهم، هو نوع من تضفـّر كل كيانات الحياة ضد هذه الصفقة الساكنة المغلقة قصيرة العمر. من هنا نفهم كيف أن الحب يترعرع بالعلانية، وبالتواكب مع محبين آخرين، تكامل كل قوى الحياة داخلنا معا، ضد قوى الموت المتآمر بين بعضنا علينا.
كانت تجربتنا تلك مع بعضنا البعض تهدف، ولو من حيث المبدأ، إلى أن تتضافر إيجابياتنا معاً ضد سلبياتنا جميعاً ما أمكن ذلك. لكن صاحبتنا انتبهت- هكذا قرأتُ فى عيونها- أن مجرد لجوئنا إلى بعضنا البعض ليس ضمانا لترجيح كفة الحياة على كفة الموت، وأن ثم احتمال أن تكون المسألة كلها هرب يخفى الصفقات الثنائية تحت مظلة تجمع جماعى مظلم:
أيوه صحيح أنا جيتكو لوحدى !!!!
جيتكم ليه ؟
أخفى جريمتى ؟
جيت أتعلم: لمـّا أمص الدم ما بانـشى ؟
ما يْـطرْطَــشِّـى ؟
جيتكو أموت وسطيكـم يعني؟
واسمى باحاول ؟
ولا بيّـنْـشِى ؟
إنما باظت منى اللعبه،
ولا كنت اعرف إن الناس الحلوه كتار.
ولا كنت اعرف إن صباع الرجل الحى،
أقوى كتير من مليون ميت.
آه ياخساره فقستوا اللعبه.
وانا فرحانه،
وخايفه،
وعايزه،
ورافضه،
أصلى ضعيفة، وطفلة لـوحدى،
باحبِى فْ حِجر الناس واتلخبط.
لأ، حاستني..،
لأ مش طالـعـة .
خايفه لـدِكْـهـه تمثـّل دورى:
تختفى تحت الجلد، أو ورا ضحكة،
أو تتصرف زى الناصحة ،
تِعـرض فكرهْ،
يمكن تـِنسوا.
وانتَ تعوزها تانى فى السر.
حالة من العلاج الجمعى:
فى جلسة للعلاج النفسى الجمعى (يوم الأربعاءأول مارس 2006 بالقصر العينى)، كنا نحاول مع شاب توقف عن الحياة لمدة سبع سنوات حين لم يجد اسمه بين المقبولين فى الثانوى العام مع أنه كان الثانى على المدرسة فى الإعدادية، كان اسمه قد سقط سهوا، لكن الشاب الفقير جدا، الذى لم يكن له إلا تفوقه، سقط سهوا مع اسمه فى هوة الفصام الساكن بلا حركة، بدا هذا الشاب فى المجموعة بعيدا متبلدا منسحبا حتى وصفه الجميع بأنه “ميت” لا فائدة من تضييع الوقت معه. قال أحد مرضى المجموعة أن الميت ليس له إلا الدفن، فانبرت مريضة ترفض ذلك مدافعة بأنه ما دام قد حضر بيننا واستمر فى الجلسة، وحتى لو كان ميتا، فهو ميت “إلاّ حتة”، وعلينا أن نتعامل مع هذه “الحتة”، ومن خلال دراما قصيرة (مينى دراما) تحاوَرَ مع نفسه وهو يمثل “الميت” يتحاور مع كيان آخر ضعيف لكنه موجود أسميناه: “إلا حتة”، ثم تبادل الشاب الأدوار مع نفسه، حتى عاد إلينا وقد بدأت الحياة تدب فيه.
ذكرتُ هذه الحالة لشدة الشبه بين ما هو “إلا حتة”، وبين “صباع الرجل” الذى أشارت إليه الطفلة/الحياة هنا وهى تقول: “ولا كنت اعرف إن “صباع الرجل” الحى، أقوى كتير من مليون ميت”.
اعتراف الذات/الحياة الفطرة الطفلة بالضعف والخوف – وسط الناس- هو من أصدق مايعينها على الحذر فالبعث.
لكن الذات/الموت لا تستسلم :
دِكْــهَه التانية الوغدة تقولّه :
بكره حا تحتاج موتى يا موت، ونموت جمعا.
بكره حاتحتاج تخفى جريمـتـك، جوا جريمتى،
بكره بتاع الناس بينوّر.
بكره بتاعى وحش يعوّر،
آه فين بكره، آه من بكره.
حتى لو اتفق الطرفان على أن هذا الحل الثنائى المستبعـِد للآخرين هو السبيل الأكثر أمانا، والأضمن سكونا، فواقع الأمر يقول إن عمره الافتراضى قصير، وأن المستقبل سوف يعلن فشله ويكشف عن خطورة الانخداع به والتسليم له (بكره بتاعى وحش يعوّر). فيبادر الكيان النامى (الطفلة) بمواصلة الاستنقاذ بالجماعة، بالناس، لتشرق الحياة – ضد الخوف والهرب والتوجس_ من جديد:
ترجع برضه الطفلة تعافر، وبتستنجد:
شمس الحق اللى فى عنيكم تقتل ليلى اللى اسمه بكره،
ليل اللعبة الضلمة التانية ،
ليل السرقة الوسخه العامية.
ليل الوغد يموّت روحى، وروحك فيّه.
وغد الطمع الخوف الهرب الكلبشة فينا،
حاكم الخوفْ عايز يسحبنا بـعـيد وحدينا.
الاستغاثة هنا صادقة، وجماعة الناس، بما فيهم من حياة ونبض وحركة وجدل، هم الأمان الحقيقى، ولكن كل هذا لا يتحقق بمجرد الإعلان عنه، أو طلب الاستعانة من خلال إقراره وتفضيله. فى مثل علاقات “الضبة والمفتاح” هذه لا تقع اللائمة على أحد الطرفين دون الآخر، هى جريمة مشتركة حتما: الموت فى أى منا يتدعم من خلال الموت فى الآخر، نحن نموت جماعة، كما نعيش جماعة. اللوم فى فعل الموت يقع على الجانب الأكثر صراحة فى طلباته وسعيه للتملك والاحتواء فالسكون الهارب، مع أن واقع الأمر هنا يبين أن الأكثر صراحة هو الأكثر رفضا للصفقة من فرط قدرته على التعرية، لكن الذات/الموت تقف بالمرصاد:
بس التانية الناصحة كهينَةْ وعارفَهْ طريقها:
واقـفه تعايْـره:
إوعى تلومني.
إنت عايـزنى أبقى الجثة المرتبة تحتك،
وانت الجثة مخدّة عليّــا!!!.
تقتل روحك وبتتمسكن، وتقول حاسبي !!!
هوا انا ممكن أقتل إلا اللى اختار قتله ؟
تبقى جريمة عاملها اتنين.
كل جريمة عاملها اتنين.
ذنب المقتول زى القاتل، أصله استسلم.
وانا حذّرتُه وقلتله حاسب.
إوعكْ تِعمي.
إوعى لا موتك يحـليلى موتي.
أنا نبـهتَـكْ .. إوعكْ تنسى.
لو مالاقيش الموت حوالىّ، حاموِّت موتي.
الذات البصيرية التى لجأت منذ البداية إلى التنبيه إلى خبث الصفقة (إوعى كمنك عطشان تعمى وتشرب منى) تعود هنا تنّبه أيضا إلى دور الشريك وجوعه، فمسئوليته، (تبقى جريمة عاملها اتنين، كل جريمة عاملها اتنين) . لا يمكن تحقيق سلبية صفقة “الضبة والمفتاح” بالضبة دون المفتاح، أو العكس. هذا الحوار يعلن بوضوح أننا لا نستطيع أن نكسب المعركة لصالح الحياة فـُرادى، نحن أحوج ما نكون إلى أن تتجمع قوى الحياة فينا ضد قوى الموت، قوى الحركة ضد قوى السكون، قوى الحب ضد قوى التملك الجبان، تتجمع لتصد وتعرى وتفشل صفقات الموت. لو أراد أى منا أن يتخلص من موته، فهو لا يقدر على ذلك لينطلق على مسار النمو، لو إلا كان المحيط من حوله يرجح الحياة دون الموت. تتواصل المعركة حتى تبدو الحياة عفية لا تموت فتنبت من جديد خضرة واعدة تحل محل شواهد القبر، أو هى كانت تتخفى داخلها فلم تمت أبدا:
لكن الطفله عفية وصاحية، تضرب تقلب، وبتتنطط:
- أنا صاحيالـِـك،
إنتى تموتى تروحى فْ داهيه، أنا ماباموتشي.
أنا باستـنّى اللحظة بتاعتى، علشان أطلع.
أنا جايباكى هنا برجليكى .. علشان أشبع.
من ورا ضهرِك .
بعد شويّه أجرى وابرطَعْ.
غصبنْ عنـّـك .
غصبنْ عنـّـه.
أنا طول عمرى واقفه استـنى اللحظه دهيه:
لحظةْ كل شواهد القبر تزرّع خُـضره.
لحظةْ كل الناس الحـلـوه تموّت موتي.
لحظةْ طفله صغيّره ثايره، تقدر تقتل.
تقتل وحش يمص الدم.
لحظة لما الله سبحانه يرضى علىّ:
”أحلفْْ، يحصـلْ .
أصلــه وعَـدنـِى ،
وانا صدّقتــه.
لمن الغلبة فى نهاية النهاية؟
بصراحة، وفى حياتنا العادية، الغلبة هى للصفقات الثنائية الساكنة المنزوية على جانب دون الناس والآخرين، أغلب علاقاتنا هى من نوع “الضبة والمفتاح”، لكن قراءتى هنا، تعلن حدْسا آخر يقول إن الغلبة فى نهاية النهاية هى للحب/الحياة، مهما لاح فى الأفق أن الممكن المتاح ليس إلا تلك الصفقات الساكنة المؤقتة.
خلاصة القول:
برغم صعوبة القراءة داخل هذه العيون لتوحد الذوات معظم الوقت، ولكن فى تبادل سريع، يمكن أن نرى كيف أن زخم النمو متمثلا فى الطفلة (الحياة) العنيدة الثائرة المثابرة هو الذى رجحت كفته. الطفل (الحياة) المنفصل البرىء هو أضعف من أن ينتصر وحده، أما إذا استعان بالناس فأعانوه، وتحمل الرؤية، وسط الناس باستمرار المحاولة، تتراكم الرسائل الإيجابية الخفّية التى تربط بين الناس على حساب الاستفراد الثنائى، لتتجمع قوى الحياة فى الناس، ممثـِّـلة لقوى الهارمونى بينهم إلى وجه الهارمونى الكونى الذى هو أضمن ما نضمن به أن تنتظم نغماتنا المنفردة، حتى النشاز منها فى لحنه الأكبر.
حين يكون الضمان أن الذى يربط بين الناس (حبا ورعاية ومسئولية) هو الهارمونى الأعظم، وهو الحق سبحانه وتعالى، نستطيع أن نفهم معنى “اجتمعا عليه وافترقا عليه”.ا
الحياة بالناس وسط الناس، إليه، قادرة على أن تعاود الإنبات حتى من شواهد القبر ( لحظةْ كل شواهد القبر تزرّع خُـضره).
لا أحد منا يستطيع أن يقتل موته وحده. ولا يمكنه أن يحقق لنفسه الأمان لمجرد أنه يحب آخراً حبا منفردا على حساب كل الآخرين فى تناغمهم مع الكون الحق الأعظم، لا بد أن تتحد جهود الناس معا لترجح كفة الحياة على كفة الموت (لحظةْ كل الناس الحـلـوه تموّت موتي).
الذات الطفلية هنا لم تعد طفلا، بل كيانا ناميا ثائرا يحتمى بالناس، وأكثر من ذلك هو يطمئن بانتمائه إلى الحياة فيهم، الحياة المشتركة معا، فى تناغم مع اللحن الأعظم، إلى الكون المطلق، إلى الحق سبحانه وتعالى.
هذا المعنى ليس مثاليا، ولا هو على حساب الحب الثنائى، بل إنه الضمان الوحيد لتدخل نغمة الحب بين اثنين تتناغم مع لحن أكبر فأكبر إلى ما لا نعرف (الغيب). هكذا تستطيع طفلة ثائرة أن تصبح قادرة على محو (قتل) أى نشاز يشوه اللحن الأشمل (لحظةْ طفله صغيره ثايره، تقدر تقتل، تقتل وحش يمص الدم.) (لحظة لما الله سبحانه يرضى علىّ: “أحلفْ، يحصـلْ. أصلــه وعَـدنـِى، وانا صدّقتــه.)
“إن من عبادى من هو أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبرّه”.
رضِىَ اللهم عنهم ورضوا عنه.