الوفد
23-11-2011
بمناسبة قرب عيد ميلاده وفى عام تخليد ذكراه
“قولٌ على نص”
ألا أيها النوّام ويْحَـكموا هُـبٌّوا: “نجيب محفوظ”
النص: هذا ما كتبه نجيب محفوظ بيده فى الصفحة الثالثة من كراسات التدريب، وعجزتْ تكنولوجيا الوفد الغراء أن تظهره مصوَّرا،
وإلى أن يمكن ذلك أرجو أن تميزه ببنط أسود وأكبر قليلا، شكرا
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
ألا أيها النوام ويحكموا هبوا
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
أراك عصى الدمع
نجيب محفوظ
أنت المنى والطلب
نجيب محفوظ
7-1-1995
القراءة :
يبدأ التدريب اليوم بعد اسمه واسم كريمتيه بشطر بيت يقول: “ألا أيها النوّام ويحكموا هبواً!”
نجيب محفوظ أكثر من يعرف، أو من أكثر من يعرف ما صرنا إليه من كسل، أو نوم فى العسل أو فى الطين، ولعله ينبهنا أنه آن الآوان أن نفيق. محفوظ لم يكن أبدا خطيبا محرضا، لا فى إبداعه، ولا فى زاويته فى الأهرام، فلم تصلنى هذه الصيحة الإيقاظية هنا على أنها استشهاد بشعر تحريضى، وإنما هى فرصة إفاقة خاصة
أصل البيت الذى قاله جميل بثينة هو فى الحب:
ألا أيها النوّام ويحكمو هبوا *** أسائلكم هل يقتل الرجلَ الحبُّ
تذكرت ما جاء على لسانه ليلة الخميس 26 /1 /95 وأثبتُّه بالحرف الواحد فى كتابى تحت النشر “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” كما يلى: بعد فترة صمت ليست طويلة، قال الأستاذ، إنه تذكـّر طرفة لا يعتقد أنها حدثت، ذلك أن شاعرا كان ينشد بين صحبة غلبها نعاس حين أفرطت فيما يمكن أن يُنعس، فأنشد الشاعر:
” ألا أيها النوام ويحكموا هُبُّو ** أسائلكم هل يقتل الرجُلَ الحبُّ ”
فقام أحد الذين قد غلبه الشراب حتى كاد ينام، وصفعه محتجا أنه:
“أتوقظنا ياغبى لهذا السبب التافة؟”
وضحك الاستاذ ومال إلى الخلف، فضحكنا جدا، ربنا يخليه” .
كان ذلك بعد 19 يوما من ورود شطر هذا البيت فى التدريب، ولم أكن أعرف طبعا،
هل هناك علاقة؟ نعم!
بعد قراءة السطر التالى فى التدريب وهو “أراك عصى الدمع” وجدت أن شيخنا قد حضره أبو فراس الحمدانى فحضرت معه أم كلثوم أو قبله، يا ترى ما الذى أحضر قصيدة أبى فراس هذه هنا الآن؟
هل يا ترى ربط وعى الأستاذ الأعمق بين أبى فراس فى هذه القصيدة وبين كثير عزة من حيث أن حبيبة أبى فراس تعلله بالوصل و”الموت دونه”
معللتي بالوصل و الموت دونه *** إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
وأيضا فى نفس القصيدة راح يعدد قتلاها، فنتقرب أكثر إلى تساؤل “كثير عزه”؟”هل يقتل الرجلَ الحبُّ”، يقول أبو فراس:
فقلت كما شاءت و شاء لها الهوى *** قتيلك، قالت: أيهمُ فهمُ كُثْر
بيت أبى فراس لا يحضرنى مع أبى فراس وإنما مع أم كلثوم، ونحن نعرف من هى أم كلثوم عند شيخنا، وأين هى فى قلبه، ووجدانه، ووعيه، واسم كريمته، أطل علىّ صوت أم كلثوم من خلال إثباته هذا الشطر، فتلاه ما تلاه هكذا:
أراكَ عصيَّ الدَّمْعِ شيمَتُكَ الصَّبْرُ
أما لِلْهَوى نَهْيٌ عليكَ ولا أمْرُ؟
بَلى، أنا مُشْتاقٌ وعنديَ لَوْعَةٌ
ولكنَّ مِثْلي لا يُذاعُ لهُ سِرُّ!
لم يغب عنى أبدا أن نجيب محفوظ هو المشتاق الدائم إلى كل ما هو جميل فى الحياة، إلى كل ما هو حياة، وكل ما هو حياة عند محفوظ هو جميل، أما أن “مثله لا يذاع له سر”، فهذا ما لا يعرفه أحد عن هذا الرجل. عاصرته سنين عددا، وكنت أعلم دائما أن وراء كل ما عرفنا، كنوزاً نادرة لا نعرفها، وأحيانا كان يخطر ببالى أنه هو أيضا لا يعرفها، وهى تتجلى فى إبداعه أكثر مما تتجلى فى حياته الجميلة أيضا، وجدا، كان يلوح لى دائما أن هناك سر لا يذاع.
أرجع إلى أبى فراس، يالجهلى! لأول مرة انتبه إلى أن أبا فراس الحمدانى معاصر للمتنبى، أكثر الله خيرك يا شيخى العزيز، وأنه نشأ فى حضانة وعطف ابن عمّه سيف الدولة، وما أن قوىَ ساعده في الشعر حتى «….يعجب سـيف الدولة بمحاسنه، ويصطنعه لنفسه، ويستصحبه في غزواته، ويستخلفه على أعماله» … إلخ
الجديد الذى أضافته لى تدريبات الأستاذ فى هذا المقام بعد استشارة عمّنا “جوجل” هو أن أبا فراس كان معاصرا للمتنبى وسيف الدولة معا، وأنا لى تحفظاتى منذ شبابى الباكر على علاقة سيف الدولة بالمتنبى حتى وصل بى الأمر أن أتصور أن بها نوعا من التذلل المرفوض، وأذكر أننى أشرت إلى ذلك فى مناقشاتى مع الأستاذ عن المتنبى وشعره، كما أعلنت دهشتى من فرط إعجاب معظم النقاد والشعراء به، بما فى ذلك الشاعر المتميز “عادل عزت” من أصدقاء الأستاذ يوم الأثنين (صوفتيل المطار) وحتى الأستاذ نفسه وجدته يحترم المتنبى ويحبه، وحين سألنى مندهشا عن علاقتى السلبية هذه بالمتنبى أجبته أننى أول ما تعرفت عليه كنت فى المرحلة الثانوية، شهادة الثقافة العامة (مقابل سنة ثانية ثانوى الآن) وكان ذلك من خلال قصيدته الميمية التى كانت مقررة علينا تلك السنة، وهى التى مطلعها:
وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ *** وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ومازلت أذكر إعجابى ببيت فى هذه القصيدة ظللت استشهد به طوال نصف قرن وهو الذى يقول:
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً *** أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وبقدر إعجابى بهذا البيت كان رفضى للتذلل فى نفس القصيدة والمتنبى يقول لسيف الدولة:
ما لى أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدى *** وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
وقد ربطت بين هذا البيت المهين (من وجهة نظرى حتى الآن) وبين بيت آخر ليس فى نفس القصيدة يقول فيه المتنبى لسيف الدولة أيضا:
كفى بجسمى نحولا أنني رجل *** لولا مخاطبتى إياك لم ترنى
حين أتيحت لى هذه الفرصة –بفضل شيخى محفوظ- أن أتعرف على غريمه أبى فراس فرحت بفروسيته وشجاعته وإبائه وبأسه، كيف أنه كان يذاكر الشعراء، وينافس الأدباء، وقيل إنّه كان يُظهر سرقات المتنبي الشعرية، فلا يجرؤ المتنبي على مباراته.
أما بالنسبة لعلاقتى بقصيدة أبى فراس، حتى وأم كلثوم تجسدها بكل جلجلة صوتها وحضور ألفاظها نبضا حيا خالصا، فقد توقفت عند شطر: “.. إذا مت عطشانا فما نزل القطر” ورفضت المعنى، برغم طربى للأداء ومعايشة الكلمات، وتذكرت بيتا لأبى العلاء المعرى فى عكس هذا المعنى وهو يرفض أن تختص أرضه دون سائر البلاد بالمطر وهو يقول:
فلا هطلت علىّ ولا بأرضى *** سحائب ليس تنتظم البلادا
فحضرتنى نهاية قصيدتى “فى فقه الحب” واكتشفت أننى كنت أكثر تحيزا لموقف أبى العلاء حين قلت:
إنها ليست لنا دون سوانا
نُرضع الأطفال، حتى لو عطاشى
ما علينا لو نموت ويرتعون
“إذا متُّ ظمآنا..،
فقد نزل المطرْ
التفت إلى مقطع آخر فى نفس قصيدتى:
إنما أحيا بأنفاس البشر
مثل همس الليل فى عمق السحر
يا إلهى: أجّل الفجر فقد طاب السهر
إننى أخشى على سرّى طلوعُ الشمس أو لفح الهجير
فيذكرنى البيت الأخير بأم كلثوم فى قصيدة ألف ليلة وهى تقول للشمس:
وأقول للشمس تعالى تعالى *** بعد سنة، مش قبل سنة ..
ما كل هذا يا شيخنا؟ ما كل هذا؟! شكرا بلا حدود.
أما الشطر الأخير الذى اختتم به محفوظ صفحة التدريب هذه فهو: “أنت المنى والطلب”، وهو من القصيدة الجميلة للإمام الشبراوى، التى لحنها لأم كلثوم الشيخ أبو العلا محمد سنة 1926، وقد وصلتنى أجمل ختام لهذا اللحن المتكامل فى الحب والعتاب والوصل والهجر والملام:
وحقك أنت المنى والطلب
وأنت المراد وأنت الأرب
ولى فيـك يا هاجرى صبوة
تحير فى وصفها كلُّ صب
وبعد
هذا المزيج من الصبر، وعصيان الدمع، والمنى، والأرب، والموت حبا، والقتل صدَّا، والصبوة، والحيرة، هى ما عشته مع نجيب محفوظ فى هذه السن بعد هذه الإصابة، وبكل تلك الإعاقة.
أعتذر لك يا شيخنا عن ما نحن فيه،
لا تحمل همَّا فلم نعد نُوَّاما، وسوف نواصل الهبّة لتكون ثورة بفضل حضورك المتجدد أبدا،
ولن تخذلك!