الوفد: 5-3-2001
أكذوبة اسمها.. الشارع السياسى
لا يوجد عندنا الآن، بعد خمسين عاما مِن الذى كان، شىء اسمه الشارع السياسى، ولا حتى المقهى السياسى. حين أحاول البحث عن حقيقة ما يحرّك الناس (والسياسة علم وفن تحريك المجاميع) لا أجد إلا تشنجات دينية فى الجامعة (مثال واحد)، أوصرخات عبثية حول حلقات الديسكو (مثال آخر). التحريك فى المحل ليس دينا، والتنطيط حول الذات ليس تحريكا. أين الحركة السياسية الحقيقية فى الشارع السياسى الممتلئ بوعى الجماهيرفعلا؟
بعد استبعاد صحيفة تسمى “مايو”، (أسمع أنها تمثل حزبا وهميا تحت التأسيس المستمر)!! اتجهت إلى الصحف الحزبية لعلى أجد فيها ما يطمئننى أن ثمّ شارع سياسى على فرض أنه لابد أن الصحف الحزبية (ما دامت حزبية) تعبّر عمّا يجرى فى جانب من جوانب الشارع. فوجدت ما طمأننى ابتداء، وجدت آراء وصرخات ونقدا موضوعيا، ونقدا متجنيا، وكل ما يدل على الحركة فعلا، فأفرح وأتصوّر أن كل ذلك هو ترديد لأصداء ما يحدث فى الشارع السياسى !! الحمد لله.
لكننى أفيق بعد قليل لأنتبه أن الكلمات غير الناس، صحيح أن الناس يتواصلون ويتحاورون بالكلمات أساسا، لكن تظل الكلمات غير الناس، لا يمكن أن تحل الكلمات محل الناس، فأخشى أن تكون الأحزاب قد استغنت بصحفها (مضطرة) عن التركيز على تنمية ما يسمّى “الشارع السياسى”. لكن بالله علىكم هل هناك فرصة أمام الأحزاب للاتصال بالناس إلا بهذه الكلمات وبعض الخدمات الاجتماعية والطبية وكأنها جمعيات خيرية تصبّر الناس على همومها لا تحرّك الناس إلى المشاركة فى” التغيير.”. تغيير ماذا ؟ تقول تغيير ؟ عيب كذا !! هذه كلمة خاصة لا يصح أن يستـعـملها العامة، وإذا استُعملت قبل أوانها (لاأحد يعرف متى أوانها) فإنها تعتبر جرحا للحياءالسياسى.المهم أن الصحف الحزبية شىء، والأحزاب والشارع السياسى شىء آخر.
عندنا فى بلدنا مثلٌ عن الحماة التى تقدم لزوجة ابنها خبزا جافا قائلة لها “صِحِيح ما تكسرى ومكسور ما تاكلى، وكلى يا ضَنَاىَ لمّا تشبعى !!” يضرب هذا المثل لمن يسمح بما لا يمكن تحقيقة، هذه الزوجة الصغيرة ممنوع عليها أن تكسر الرغيف الكامل، وأيضا ممنوع أن تأكل من المكسور (اللقيمات المتناثرة)، فكيف تأكل حتى تشبع ؟ الحكومة تقول للأحزاب : “إلى كرسى الحكم لا تقترب، وبعيدا عن كرسى الحكم لا تثير، واعمل ما تشاء من نشاط حزبى جدا جدا “. ماذا يعمل الحزب بعد ذلك ؟ يسهّل طلبات الحج أم يعالج الأمراض الجلدية بأجور مخفّضة ؟ فإذا لم يحصل بعد ذلك أى حزب على عدد كاف من المقاعد لأنه ممنوع كله، عايرته الحكومة، واعتبرت ذلك دليلا على أن الحزب لم يستطع أن يحصل على ثقة الجماهير (لا يا شيخ ؟!). كلّه ممنوع، إلا بعض الفضفضة فى الصحف بعيدا عن الخطوط الحمراء التى لا أحد يعلم من الذى حدد موقعها ولا حجم المساحة التى بداخلها.
فى مسرحية “آه يا ليل يا قمر(نجيب سرور)، يقول العسكرى للمرأة (سهير البابلى) “الكلام ممنوع يا ست” (فتسكت سهير) فلا يرضيه سكاتها، فيكمل العسكرى: و”السكات ممنوع يا ست ” فتتساءل الست “السكات ممنوع كمان ؟” فيكمل العسكرى ” السكات مشروع كلام ” !! إذا كان كله ممنوع، إلا التحرك فى هامش الديمقراطية (يعنى ماذا ؟) فكيف تمارس الأحزاب نشاطها ؟
علّمنى الحاج سيد عطو ة، رحمه الله، الذى كان يطبع لنا مجلة “الإنسان والتطور” ويصحح لى ما أكتب وينصحنى ألا أتوقف، علّمنى أن الكلام فى حد ذاته، لا يعتد به، قال لى الحاج سيد :” واحد بيقول للثانى إن السمك يخرج من بطنه نارا وهو فى الماء”، فتعجّب السامع، كيف يمكن أن تخرج النار فى الماء، فردّ الحاكى أنه ” أهو كلام”. هذا هو المنطق السائد بديلا عن الشارع السياسى : أُكتب ما شئت، وليستضف حمدى قنديل من شاء، وليقولوا كيف شاؤوا مثلما يخرج السمك نارا، فلا خوف على أحد مادام الماء سيطفئ النار أولا بأول.
ثم اكتشفتُ أنه توجد تجمّعات أخرى، اسمها الحركى “الصالونات الثقافية، (يقال أنها بلغت خمسة آلاف !!) تسمى ثقافية فعلا مع أن الغالب عليها هو الكلام فى السياسة، يبدأ اللقاء بإعلان السخط السياسى، ثم النعيب على الحالة الاقتصادية، ثم بعض النكت السياسة، ولا بأس مما تيسر من نكت جنسية، ثم قليل من الثقافة والأدب بعد قلة الأدب، ثم عودة إلى السياسة. سألت نفسى : هل يمكن أن تكون هذه التجمعات هى البديل عن الشارع السياسى؟ جاءتنى الإجابة بالنفى طبعا.
انتبهتُ بعد ذلك إلى هذه التجمّعات الأسرية الصغيرة حول جهاز التليفزيون وهو يبث المسلسلات، “المُطَربشة خاصة”، وبعض الصيحات المسيّسة دراميا، وتصوّرت أن هذه تجمعات سياسية صامتة فى حالة تلقّى سلبى يمكن أن تتراكم من خلاله حركة سياسية ما، يوما ما، فرحتُ من حيث المبدأ، لكننى حين تتبعت بعض هذه المسلسلات فزعت فزعا مزعجا. ذلك أننى انتبهت إلى أن وعى الأطفال والشباب الذين لم يعايشوا هذه الأحداث، يتكون وهم يتحلقون حول هذا المصدر الخطير الذى يعرّفهم تاريخهم، وبالتالى يوجّه مسارهم، يا خبر!! أى مسئولية! وخاصة إذا ما تذكرنا ما تثبته وزارة التعليم فى كتب التاريخ الباهتة المغلوطة.
إن الثقافة، (كما يحدّث مفهومها الصديق، د. نبيل على فى أطروحته الرائعة الثقافة العربية وعصر المعلومات) هى ” ما يتبقى بعد زوال كل شىء آخر”، فماذا يتبقى فى وعىنا عامة، ووعى شبابنا خاصة من هذه المسلسلات التى تتناول التاريخ هكذا؟
إن الفن ليس سردا للتاريخ، مهما تناول من أحداث حقيقية، هذا صحيح، لكنّ وظيفة الفن أيضا ليست هى إنكار التاريخ، أو تشويهه قصدا، أو تحيُّزا. وكلما كان الفن جيدا من حيث الحرفة، كانت مسئوليته أكبر.إن حذف حدث ما من تسلسل تاريخى هو أمر وارد ومن حق الفنان، شريطة ألا يكون ذكره ضرورة لتكملة سياق حدث آخر ورد فى نفس العمل.
نبدأ بفيلم عبد الناصر 56 ” ؟أقر وأعترف أنه ليس من مهمة الفن أن يسرد كل الأحداث بنفس الترتيب، ولكن من حق الناس ومن حق الشباب خاصة أن يتساءل لماذا اختار هذا الفيلم، أوذلك المسلسل هذه الفقرة دون تلك، إن ثمة أعمالا يمكن أن تتناول يوما واحدا دون غيره (أطول يوم فى التاريخ)، لكن عادة ما يكون هناك مبرر فنى أو رسالة شخصية يريد أن يوصلها المبدع للناس. إن فيلما يقدم عبد الناصر 56 ثم يغفل مسار الأحداث فى هذا العام وكيف انتهت حرب ألم الفيلم فى آخره أنها ستبدأ، هو فيلم يحتاج وقفة متسائلة.. كانت ثمة فرصة حقيقية للفيلم أن يتناول معاناة قائد أمة، ورمز ثورة وهو يُضطر أن “ينهزم فى السر” فيعلن انتصارا زائفا، حتى لو كان يضمر ساعتها أنه بعد سنوات سوف يصلح غلطته، إن تناول الفن مثل هذا الموقف الإنسانى يزيد الموقف درامية، ليس على الفن أن يصدر أحكاما سياسية أو غير سياسية، لكنه يغوص فى أعماق نفس من يقدم من شخصيات، فيتناول صراعاتها بكل احترام ليظهر المعاناة، والحيرة، والألم،،إلخ، وهل يوجد – احتراما لعبد الناصر – أصعب من هذا المعاناة وهو يوقع ما ليس من حقه توقيعه، وهو يخفى ما لا يجوز إخفاؤه. أتصور، تقديرا لتاريخ هذا القائدالعظيم، أعتقد أن هذه كانت أصعب لحظة فى حياته، وأن هذه اللحظة بالذات هى التى دفعته إلى قرار 1967وكأنه يصلح ما فعل ويعتذر لشعبه، لكنّه عذر أقبح من ذنب، أقول : لو أنه كان قد أخطرنا أننا انهزمنا، وأنه مضطر لتمرير إسرائىل لظروف كذا وكيت، ربما كنا قبلنا الهزيمة لنبدأ بناء جديدا من نوع جديد، فلا يضطر -رحمه الله – أن يصلح هزيمة صغيرة (يعنى!) بعار هزيمة أخطر وأرعب. إن التزييف بالحذف ليس أقل مسئولية من التزييف بالكذب، وهذا هو ما حدث تحديدا فى مسسل أم كلثوم.
مسلسل أم كلثوم، هو مسلسل ناجح بكل المقاييس الفنية، ولهذا فمسئوليته أكبر، وقد تصورتُ -من فرط ما ذُهلت من تسلسل الأحداث- فى الحلقتين الأخيرتين أن أم كلثوم ماتت قبل حرب 1973، مع أنى أعلم يقينا أن تصوّرى هذا خطأ صرف. لكننى من فرط ما ذهلت أنكرت على ذاكرتى أن تفسد علىّ روعة المسلسل وجماله. ثم تناولتْ الصحف هذه القضية بعد ذلك، وقرأت الهجوم والرد وتأكدت من سلامة ذاكرتى، ورفضت المسلسل برمّته مهما بلغت درجة إتقانه.
يغور أى عمل يوصّل للنشء عار الهزيمة، ولا يوصّل لهم فرحة النصر، ما دام العمل قد تعرّض لأحداث تاريخية، اشتملت فترتها كلا من النصر والهزيمة. مهما كان التبرير والتأويل.
لا أريد أن أعدد المثالب الثقافية فى ذلك العمل الفنى الرائع المسمى ليالى الحلمية العظيمة وخاصة الجزء الأول والثانى.
فرحت مؤخرا بما بلغنى مباشرة وبطرق ضمنية من مراجعة (ولا أقول تراجع) الرجل المرجع القدير الأستاذ محمد حسنين هيكل عن حكمه الوثقانى على أداء السادات. وفى نفس الوقت وأيضا فرحت من موقف المبدع أسامة أنورعكاشة وأنا أتصور أنه يحاول أن يعيد حساباته ليعطى كل ذى حق حقه ولو بعد حين، هذا ما بلغنى والله أعلم.
ثم أكد لى هذه المراجعات ما قرأته من تصريحات أحمد زكى عن فيلمه “أيام السادات”، إذ تصورت أن الفيلم وشهادة السيدة جيهان فى الجزيرة يمكن أن يقوما بتصحيح صورة السادات أكثر من آلاف الصفحات الصادقة، بل والمتحيزة له.
إن ما يرمز إليه التحيز لعبد الناصر أو للسادات لم يعد خاصا بعبد الناصر أوالسادات، وإنما أصبح دالا على مواقف أخلاقية، وعاطفية، وموضوعية، تكاد تتجاوز الموقف السياسى. ثم إن الحديث عن أى منهما، بخيره وشره، أصبح مهربا من الحديث عن أحوالنا الحالية.
أختم هذا المقال الصعب بأن أعلن من جانبى بعض علامات لما أعتبره مقاييس أقيس بها ما نتمتع به من درجات “العدل و المكاشفة” (أفضل هذا التعبير عن تعبيرات مثل “هامش الديمقراطية” أو “الشفافية”)، فأتصور أن يقاس هذا وذاك بمدى اتساع المنطقة التى يتحرك فيها النقد السياسى (وغير السياسى) بمعنى أن نعرف ما هى الخطوط الحمراء، وهل أحد يضعها ثم يتولى مهمة زحزحتها ضيقا واتساعا، أم أننا نحن الذين نتصورها فنضع أنفسنا داخلها؟ إن الوعى السياسى يكون إيجابيا ودليلا على نبض الشارع السياسى إذا انصبَّ حديثنا عن عيوب “الآن” وأداء المسئولين الأفاضل، كل المسئولين الأفاضل، “الآن”،بدلا من الاستغراق فى المناظرة بين ماض وماض وكأننا ليس عندنا حاضر يستأهل النقد على كل المستويات.
كذلك يقاس ما هو شارع سياسى، وما هو مشاركة سياسية ليس بعدد أسماء الأحزاب أوعدد صفحات صحف المعارضة، ولكن بعدد من سجّلوا أسماءهم تلقائيا فى كل حزب، وفى قوائم الانتخابات، ثم بعدد من شاركوا فى كل انتخاب حقيقة وفعلا، هذا أهم من عدّ أصوات من صوّتوا لهذا، أو انتخبوا ذاك. المسألة تحتاج إلى إعادة النظر فى كل شىء، وخاصة فى قاموس الألفاظ الذى ملأنا به كراساتنا السياسية التى سطرت “كنظام” الديمقراطية.
بالله عليكم :ما معنى “هامش الدمقراطية” مثلا؟ ومتى نقرأ “متن الديمقراطية” بالسلامة؟؟