المعرفة والمنهج فى العلم الحديث
تأليف: جان بياجيه
تقديم وتعليق: د. هناء سليمان
تواصل الكاتبة تقديم بعض خطوط عريضة من كتاب جان بياجيه: رؤى الفلسفة وأوهامها، وهى تتخذ موقفا نقديا فى تعليقاتها نأمل معه أن يساعد فى فتح باب الحوار حول هذا الموضوع شديد الحساسية فى محاولة تخطى الهوة الخطيرة المصطنعة بين ما هو علم وما هو فلسفة .
من موقع جان بياجيه كعالم، ومن واقع خبرته الشخصية العميقة فى العلاقة بين الفلسفة وبين العلم بشكل عام وعلم النفس بوجه خاص، يكتب مقالاته التى يضمها كتاب(رؤى الفلسفة وأوهامها)، هادفا الى كسر الصمت المحيط بسؤال أساسى بالنسبة لكل من العلم والفلسفة: الى متى يظن الفلاسفة أن لهم الحق فى الحديث فى جميع المسائل دون استخدام أى وسيلة للتحقيق، كما يظنون أن ما يحصلون عليه هو نوع من المعرفة بل وصورة اعلى من صور المعرفة أيضا؟
وربما كان الدافع الأساسى للقيام بهذه المحاولة هو توضيح المخاطر التى قد يقع فيها علم فى طور التكوين اذا ما وقع فريسة فى أيدى أنواع معينة من الاتجاهات الفلسفية الحديثة التى لم يتح لأصحابها فرصة التدريب العلمى لكنها تعتقد أن بامكانها أن توجه العلم ــ وحينئذ توجهه فى اتجاهات لا عقلية تعوق تطور العلم ذاته .
السبب التاريخى لتلك الظاهرة:
يوضح بياجيه أن التقليد الذى يعتبر الفلسفة نمطا للمعرفة يرجع – فى الحضارة الغريبة – الى ارتباط الفلسفة منذ زمن الاغريق الأوائل بالعلم، حيث لم يكن هناك فصل بين العلم والفلسفة .
ويذهب الى ان كل ما قدمه الفلاسفة – مما يمكن اعتباره ذا قيمة فى مجال المعرفة – كان نتيجة للتأمل فى علوم تم انشاؤها بالفعل، أو أخرى فى التكوين اونتيجة لاقتراحات مثمرة تتنبأ بامكانية وجود علوم لم تكن قد بدأت بعد.
لا يوجد فرق بين طبيعة المشاكل المعرفية فى كل من العلم والفلسفة:
ان المشاكل المعرفية فى النشاط الانسانى واحدة فى كل من العلم والفلسفة ولكن الفرق هو فى المنهج. ولهذا انخراط كثير من الفلاسفة العظام فى نشاط علمى أو منهج علمى لتناول المشاكل المعرفية(أرسطو: البيولوجيا والمنطق، أفلاطون: الرياضيات، وحتى بعد تميز العلم عن الفلسفة فى زمن ديكارت: الجبر والهندسة التحليلية، كانت: ميكانيكا نيوتن، هيجل وماركس: التاريخ وعلم الاجتماع) .
أما المدارس التى لم يكن لها علاقة بالعلم فلم تنجح فى تقديم نظرية معرفية أصلية، بل اكتفت بالدفاع عن القيم وتفسيرها كما فى المثالية الألمانية اللاحقة لكانت
ويوضح بياجيه أن اعتبار بعض المشاكل الفلسفية ميتافيزيقية و(خالية من المعنى) لهو غير مقبول من وجهة نظر المعرفة نفسها، لأن مشكلة ما قد تبدو خالية من المعنى فى الوقت الحاضر – من الناحية المعرفية – تظل فى أحوال كثيرة مشكلة مركزية بالنسبة للفلسفة والوجود الانسانى .
غائية الوجود كمثال لتلك المشاكل:
يعد معنى الوجود أو ما يسمى بالغائية نموذجا أصليا لتلك المفاهيم التى تعتبرها الوضعية – عن حق – ميتافيزيقية وغير علمية، وهى فكرة تهتم بمركزية الانسان
Anthropocentric ناشئة عن الخلط بين المعطيات الذاتية الشعورية ، وبين الميكانيزم العلمى للفعل. وهى تحوى – تحت شكل العليات الغائية تحديدا للحاضر بالمستقبل. الا أن هذا المفهوم الوهمى يحتوى على علاقات موضوعية ذات قيمة وظيفية وهى مشكلات طرحت لها السيبرنطيقا حلولا تسمى(بالمعادل الميكانيكى للغائية) وهو المفهوم الذى وضع أساسا لدراسات سميت بعلم الغايات Teleonomy
الذى يقال عنه أنه مرتبط بالمذهب الغائى Teleology ولكن المسافة بينهما شاسعة كالمسافة بين التنجيم Astrology وعلم الفلك Astronomy.
ولكن تبقى مشكلة معنى الحياة أو غائيتها دون معنى معرفى راهن، مشكلة لا علاقة لها بمفاهيم علم الغايات. ان اعطاء تعبير معرفى أو عقلى لمفهوم الغائية سيجعل من الحياة اما نتيجة لخطة – ذات نظام الهى – موضوعة سلفا، أو موضعا لغائية جوهرية ذات طابع تطورى وهذه – على أية حال – افتراضات لم توضح بعد، والقول بأنها حقائق ميتافيزيقية لهو طريقة أخرى للقول بأنها ليست حقائق على الاطلاق
فهى اذن مشكلة خالية من المعنى من وجهة النظر المعرفية، ولكنها مشكلة مركزية من وجهة نظر الذات المفكرة والوجود الانسانى، وهى مشكلة تظل تفرض نفسها علينا حتى لو لم نعرف كيف نصيغها صياغة عقلية. ونلاحظ أن بياجيه انطلق من تقرير صحيح( ليس هناك فرق بين طبيعة المشاكل المعرفية فى كل من العلم والفلسفة تنتهى بنا الى(حكمة) لا الى نمط للمعرفة لأنها توجد تواقفا بين كل القيم – بما فيها القيم المعرفية – لكنها تتجاوزها دون ان تظل موجودة فى مستوى المعرفة .
وهنا نجد أنفسنا بأزاء قضيتين أساسيتين هما المنهج والمعرفة سنعود إلى وسائل للتحقيق.
كما ذهب أيضا الى للفلسفة الحق فى الاهتمام بتلك المجالات التى لا يذهب اليها العلم فقط، أو لا يستطيع أن يتناولها فى الوقت الحاضر لافتقاره الى وسائل للتحقيق.
وهنا يقصر بياجيه دور الفلسفة على الدور الذى قامت به تاريخيا قبل تميز العلم عن الفلسفة وهو الدور التنبؤى أو التمهيدى لطرح المشاكل التى ستحلها العلوم الخاصة فيما بعد ، وكأنه يقول: على الفلسفة ألا تحلم بأكثر من هذا الدور. ولكن العلاقة بين الفلسفة والعلوم تغيرت تاريخيا لأنها تقدم نظرة كلية الى العالم تستوعب النتائج التى وصلت اليها العلوم فى كل مرحلة من مراحل تطورها. وكما كانت المشاكل العلمية تنشأ قديما فى أحضان الفكر الفلسفى ثم يشتد عودها فتخرج منه وتستقل فى شكل علوم متخصصة، أصبحت الممارسة العلمية ذاتها تطرح مشكلات ذات طبيعة فلسفية.
يقول أينشتين: (ليس هناك طريق منطقى يؤدى من الملاحظات الى المبادئ الأساسية للنظرية فالمهمة العظمى لعلم الفيزياء هى الوصول الى هذه القوانين الأولية الكلية التى يمكن بناء الكون فيها بواسطة الاستنباط الخالص) أينشتين:العالم كما أره ص22).
ولعل مثال أينشتين شديد الأهمية لأنه عالم فى عالم الطبيعة – ذلك العلم الذى طالما أراد الوضعيون اقامة علم النفس على غراره. ففى علم الطبيعة كما فى غيره من العلوم – تواجهنا قضايا ليست قابلة للتحقيق المباشر الذى يقول به بياجيه, ان معطيات الفلسفة أشد شمولا من معطيات كل علم على حدة فهى لا تعمل بالتجريب بالمعنى العلمى وليست لديها بالفعل وسائل للتحقيق كتلك الموجودة بالمعمل، ولكن أمامها نتاج الخبرة العملية ونتاج النشاط الانسانى والاجتماعى فى تنوعه. كما أن نظرة العالم المتخصص الى العالم ستوجه نشاطه وطرق بحثه، فالعلم يبدأ من افتراضات عن طبيعة العالم حتى لو كانت مضمرة. ان الوضعية المنطقية باختزالها الواقع الى الظواهر الطبيعية واللغة، تؤدى الى افقار العلوم ذاتها، بقصرها لها على مجموعة محدودة جدا من المشاكل بينما العلم الحديث مفتوح للكثير من المشاكل. ولكن أليست هذه رؤية مسبقة للواقع توجه النشاط العلمى فى اتجاه تريده لها؟
مشكلة المعرفة:
اذا عدنا الى مشكلة المعرفة التى يستخدمها بياجيه دائما بمعنى واحد: المعرفة القابلة للتحقيق بالوسائل التجريبية المباشرة فاننا نلاحظ ان الحديث عن شكل نوعى من المعرفة يفترض التسليم بوجود علاقات معرفية مختلفة كيفيا مع الواقع. هناك معرفة تجريبية واخرى نظرية فالانتقال من الوقائع الى النظرية ينتقل بالعالم من العلم الخالص الى الفلسفة ولا يعنى ذلك أن النظرية يمكن الوصول اليها عن طريق عقل مختلف فى طبيعته عن ذلك الذى أدى الى الممارسة العلمية، لكننا نقصد أن الربط بين ظواهر تبدو منفصلة، ومحاولة تفسيرها هى ممارسة نظرية فى الأساس موجودة داخل العلم ذاته وموجودة خارجه فى فلسفة العلم مثلا التى تربط بين نتائج علوم مختلفة، وهنا نستخدم ما أشار اليه بياجيه نفسه من أن الدراسة التجريبية تدحض النزعة التجريبية ذاتها.
المنهج:
يتناول بياجيه خلال الكتاب مشكلة المنهج فى الفلسفة، والمنهج فى العلم، ولا شك فى أن هناك اختلافا بين كل منهما وهو يرى أن الفلسفة تطرح المشاكل لكنها لا تقدم لها حلولاً – نظرا لطابعها التأملى. وأن العلم – والعلم فقط – هو الذى يستطيع أن يقدم الحلول لأنه يمتلك وسيلتى الاستنباطdeduction والتجربة eseperiment أما الفلسفة فلا تستطيع أن تقدم لنا سوى(حكمة) ومن الممكن حينئذ ان توجد أكثر من (حكمة) ولكن هناك حقيقة واحدة حتى لو يصل اليها العلم فانه يستطيع أن يقدم حلولا مبدئية. ان للفلسفة طابعا تأمليا – وهذا صحيح – وهى تقدم فروضا تحتمل الخطأ ولكنها قابلة للتصويب فى الممارسة العلمية، وفى النشاط الانسانى بوجه عام. واذا سلمنا مع بياجيه بأن الفلسفة هى موقف عقلى من الواقع الكلى فاننا نصل الى نتيجة تختلف عما وصل اليه من أن الفلسفة لا تقدم سوىنوعا من (الحكمة) لأن الفلسفة فى اهتمامها بالكلى والعام تقدم للعلم دفعة فى طريق تطوره لأن أى عالم يود أن يكون أمينا مع نفسه ومع علمه أيضا عليه أن يسلم بأن فروضه نفسها قابلة للتصويب والتغيير حسب درجة تطور أدوات البحث العلمى نفسها، وحسب المعطيات التجريبية والنظرية المحدودة نسبيا فى كل مرحلة من التطور. وتظل الحقيقة الواحدة التى يتحدث عنها بياجيه، تظل الحقيقة الكلية لا نهائية يقترب منها الوعى الانسانى بدرجة ما .
ولا يعنى ذلك أن دراسة المعنى امتياز مقصور على الفلسفة التأملية ولكنه يعنى أن دراسة المعنى جزء من البحث العلمى، ولكن التامل فى الفلسفة يهتم بالكلى والعام دون أن يتعالى على الحقائق العلمية أو يتجاهلها ولكن دون أن يقصر نفسه عليها فقط .
مشروعية اقامة علم نفس يدرس الذات بوصفها ذاتا:
دأب بعض الفلاسفة على نقد العلم تحت دعوى أنه لا يهتم بالانسان، وهؤلاء يفهمون العلم بشكل وضعى مختزلين اياه الى قائمة بالوقائع والقوانين، كما يفهمون العمليات على أنها مجرد وصف للوقائع وتأسيس للقوانين .
ويرد بياجيه على هذا النقد الذى طالما وجه الى العلوم التى تدرس الانسان قائلا:
ان الأمر يتوقف على مفهوم الانسان. فاذا كنا نعنى بالانسان ذاتا فريدة غير قابلة للاستبدال فلا يصبح لدينا ما نقوله فى هذا الشأن ولكن فى هذه الحال لايمكن أن يكون لدى الفلسفة نفسها ما تعلمه لى سوى تدعيم حريتى الذاتية، ومن ناحية اخرى يستطيع كل واحد منا، موجها بجسده وبالمجتمع وبالتاريخ، أن يصل الى فلسفة للقيم او حكمة أو تمهيدات لحكمة خاصة به.
لكن الانسان – بمعنى آخر – هو(موضوع المعرفة) لذلك فلا شئ يمنع امكان قيام علم النفس( أو علم الأجناس…..الخ) بدراسة الذات كذات. واذا رد البعض على ذلك بأن القول بالانسان كموضوع شئ غير اساسى ومتعلق بالظاهرة فقط فيمكننا أن نرد عليهم بأن الميتافيزيقا نفسها تبحث اليوم عن ماهية للانسان تبدأ من الظواهر أو من السياق الفكرى للظواهر .
وفى النهاية نقول أن الفرض الأساسى لهذا العمل هو: ان الفلسفة لا تقدم لنا معرفة، ولكنها تقوم بعملية توافق بين القيم المعرفية وغيرها من القيم الانسانية. وبذلك تنتهى بنا الى ضرب من الحكمة.
ولقد بينا أن بياجيه يوجه ضربته فى الحقيقة الى الاتجاهات اللاعقلية فى الفلسفة التى تجعل من نفسها وصية على العلم عموما وعلى علم النفس خصوصا، وعرضنا رأيه فى مشروعية قيام علم النفس بدرس الذات بوصفها ذاتا. ويبقى من الكتاب النقد الموجه الى كل من الفينومينولوجيين والوجوديين وسنعرضه فى مقال قائم بذاته نظرا لأهميته.
ويبقى أن نقول انه اذا كان التقليد الغربى يضع الفلسفة فى موقع فوق العلم، واذا كان الفلاسفة يعطون أنفسهم الحق فى الحديث عن(كيف يكون العلم) دون اى اعداد علمى، فاننا يجب أن نرجع اتجاه أغلب المشتغلين بالعلوم التى تدرس الانسان – كعلم النفس – فى بلادنا اذ يضعون الفلسفة جانبا ويهملون دراستها رغم المشكلات الهامة التى تطرحها الفلسفة أمام تلك العلوم .