الغائية فى العلم الحديث
د. محمد السماحى
يناقش هذا المقال قضية الغائية متتبعا بصماتها على الفكر الانسانى عبر العصور المختلفة، وهو يهاجم الغائية بمنطق مقنع، ويفسر اضطرار العلوم البيولوجية الى الأخذ بمنطقها أحيانا، وهذا المقال هو موجز لوجهة نظر الكتاب كما عرضها فى ندوة الجمعية لشهر سبتمبر، ونحن ننتظر وجهات النظر الأخرى التى عرضت فى الندوة لننشرها فى الأعداد القادمة ليتم الحوار كالعادة تحقيقا لأمل لا يهدأ.
رغم قلة الأفكار الغائية فى علوم المادة الفزيائية والكيميائية وما يرتبط بهما، فان العلم البيولوجى لا يزال متأثرا جداً بالتفسيرات الغائية teleological explanation ، حتى أنه قد أصبح المعقل الثانى للغائية بعد الميتافيزيقا القديمة.
وكما هو واضح من التسمية فان اصطلاح غائى يصف فكرة اتجاه الأحداث الطبيعية نحو تحقيق اهداف نهائية لها، أى تحقيق نتائج معينة لها طبيعة هادفة.
وهناك اتفاق بين معظم الفلاسفة على أن منشأ الغائية هو لجوء الانسان الى تطبيق السلوك البشرى الهادف على الكون كله، بل أن بيرت Burtt (هو من نقاد العلم ومن فلاسفة العلم المعاصرين) يسمى هذه العملية “سوء تطبيق” misapplication وليس تطبيقا، وهذا الاتجاه يسمى عموما “بالتشبيه بالانسان” anthropomorphism (لأن فيه استعارة لسلوكه الهادف، والذى يتفق كثيرون على اعتباره كذلك وعلى تسميته Goal seeking) قد طبع بطبيعته على الفكر الانسانى منذ زمن سحيق ولم يكتف بالتأثير على الأسطورة واللاهوت والميتافزيقا، بل تعدى ذلك الى العلم. ويذهب كونور Connor (وهو من فلاسفة اللغة المعاصرين) الى أن الانسان قد استعار الاتجاه الهادف فى التفكير وفى صياغة كل اللغات المعروفة، ليس فقط من حياته هو ذات الجوهر الهادف، بل أيضا من السلوك الحيوانى عموما أذ أن كل الكائنات الحية لها سلوك هادف.
أمثلة للتفكير الغائى قبل العلم:
فى الكوزمولوجى الأسطورى ازدهرت الأفكار الغائية التى ترجع سبب الخلق الى رغبات للآلهة فى أثبات وجودها واظهار قدراتها الخلاقة، وفى الكوزمولوجى الدينى صورت مكونات العالم وكأنها تسعى الى تنفيذ خطط الاله التى رسمها العالم والى عرض قدرته التنظيمية من أجل هداية المتأملين، أما فى الأساس الميتافيزيقى الذى يحمل البناء العلمى الحديث الكلاسيكى لعلم ما بعد عصر النهضة والى عصر التنوير، فقد كانت الروح الغائية واضحة( وأن كانت أقل وضوحا من ميتافيزيقا العصور الوسطى وميتافيزيقا التراث اليونانى خاصة المتأثر بأرسطو). تجلت عند نيوين ومعاصريه فى سعى الكون الى تحقيق بقائه عليها قوى متساوية فى المقدار متضادة فى الاتجاه لما أستقر الكون ولما وصل الى مرحلة الحالة الثابتةsteady state، حيث يكون الداخل(مواد وطاقات متكونة) مساويا للمفقود( طاقات مبذولة ومواد مستهلكة فى التفاعلات) وحيث تتحقق قوانين حفظ المادة والطاقة(المادة لا تخلق من لا شئ ولا تفنى وكذلك الطاقة). ومع تحقق الحالة الثابتة تنعدم المفآجات( انفجار أو تفتت نجم أو انخلاق مجرة) ويبقى فقط التشكل البطئ التدريجى الذى لا يتعارض مع استقرار الكون ويساعد على تحقيق هدفه الأساسى وهو الاتزان الفزيائى الذى يؤدى الى البقاء.
وفى القرن التاسع عشر ازدهرت فكرة التطور، أى اتجاه العالم نحو هدف هو التعقيد والارتقاء والتنوع والتكامل ومجموعة من الأوصاف يمكن قبولها كلها تحت كلمة واسعة المعنى هى التطور وهذا الفعل الغائى (التطور) قد أدخل عليه برجسون فى القرن الحالى فكرة” موضوعية” واستقلال الزمان” الذى يصبح قوة فعالة فى تحقيق التطور، وهى فكرة أكثر غموضا من التطور نفسه.
الغائية والعلوم الفزيائية:
من الواضح أن علماء الفزيائية والعلوم المرتبطة بها لا يميلون الى استعمال التفسيرات الغائية نظرا لأن الفكرة السائدة عن المادة هى أنها غير واعية، وبالتالى لا يمكن أن تكون هادفة، اذا اتفقنا على أن السلوك الهادف هو صفة للوعى، فالمادة ذات سلوك حتمى لا يحيد عن الخط الحتمى المعروف الا تحت تأثير سبب خارجى، على عكس السلوك الهادف للكائنات الحية.
ولهذا السبب فالقوانين الفزيائية لا تصاغ صياغة غائية فلا يقال أن الحامض يتحد بمركب قلوى من أجل تكوين ملح، وأنما يقال أنه فى حالة تفاعل حامض مع قلوى ينتج ملح.
ولذلك أيضا صاغ بويل الفزيائية للغازات صياغة حتمية تقول” أنه عند ثبوت درجة الحرارة يزداد الضغط بصغر الحجم بحيث يكون حاصل ضربهما ثابت”. ولم يكن ممكنا أن يصوغ بويل قانونه غائبا فيقول” يحاول الغاز زيادة ضغطه اذا قل حجمه والعكس من أجل ابقاء حاصل ضربهما ثابتا عند ثبوت درجة الحرارة (1) .
المظهر الغائى للظاهر البيولوجية:
يصعب انكار المظهر الغائى لبعض الظواهر البيولوجية الرئيسية، فنمو أشواك للقنفذ يبدو هادفا الى حمايته من اقتراب الحيوانات الأكبر منه، وتلون الحرباء بلون الوسط الأخضر يبدو هادفا الى أخفائها عن أعدائها، كذلك فان بعض الأعضاء تؤدى أعمالا فسيولوجية تبدو وكأنها ” وظيفة للعضو”.
فهل هذا مجرد مظهر سطحى للظواهر البيولوجية؟ أم أن هذه الظواهر تبدى أفعالا غائية فى الواقع ؟ أن مجرد ميلنا نحو أعتبار هذه الظواهر حقيقية يأخذنا الى فرض غير مقبول عقليا، مؤداه أن التفاعلات الكيميائية العضوية التى يترتب عليها المظهر الغائى هى نفسها تفاعلات غائية، وهذا ما يرفضه أرنست ناجل فيلسوف العلم المعاصر ويرفضه معظم المفكرين العلميين المحدثين، أنه شئ حقيقى أن حركة يد الحيوان فى اتجاه الغذاء تبدو هادفة الى الحصول على الغذاء من أجل توفير الطاقة الكيميائية الضرورية للحياة، ولكن التفاعلات التى أنتهت الى تخليق السعرات اللازمة لهذه الحركة هى تفاعلات عمياء( بتعبير أدبى) غير هادفة، وأما مشكلة التناقض بين مظهر الظواهر الحية الغائى وجوهرها غير الغائى فهى تنتهى تماما بتجنب صياغة الظواهر البيولوجية صياغة غائبة والاكتفاء بوضعها فى صيغة حتمية مثل القوانين الفزيائية ، وسنورد أمثلة لذلك لتوضيح أن التعبير عن الظواهر البيولوجية دون وصف غائى هو شئ ممكن دائما.
التعبير غير الغائى عن الظواهر البيولوجية ممكن:
أوضح عدد من فلاسفة العلم امكانية تحويل الصياغة الغائية فى علوم الحياة الى صياغة حتمية، وأحيانا فى شكل قوانين طبيعية سببية، وذلك دون تغيير المعنى أو المضمون. ولقد أورد ارنست ناجل ضمن أمثلته المثالين التاليين (2)
أولا:
(أ) وصف غائى: وظيفة الكلوروفيل فى النبات تصنيع النشا.
(ب) وصف حتمى: تصنع النباتات النشا فى وجود الكلوروفيل فقط.
ثانيا:
(أ) وصف غائى: وظيفة خلايا الدم البيضاء حماية الجسم من العدوى.
(ب) وصف حتمى: وجود خلايا الدم البيضاء فى تركيز معين يقلل من فرصة غزو البكتريا للأنسجة وبدء العدوى.
وقابيلة الصياغة الغائية فى البيولوجيا للتحول إلى صياغة حتمية موجودة فى الأفكار البيولوجية بلااستثناء(اذ أن كلا من الغاية والحتمية مجرد علاقة شرطية بين فكرتين قد ترمز لهما بالرمزين س، ص فيكون شكل الحتمية هو:(س تؤدى الى ص) وشكل الغائية هو:
(ص تنتج من س من أجل تحقيق الحالة ص) وهكذا تتضح وحدة المضمون فى الحالتين الحتمية والغائية).فلو درست قانون ستارلنج الفسيولوجى لوجدت له صياغة تقول:
(كلما ازدادت كمية الراجع الدموى الوريدى(venous return) تمددت عضلة القلب لتدفع كمية أكبر من الخارج الدموى الشريانى(cardiac output)
ولكن نفس القانون يمكن التعبير عنه حتميا كالآتى دون تغير مضمونه:(يؤدى ازياد كمية الراجع الدموى الوريدى الى تمدد عضلة القلب وبالتالى الى ازدياد كمية الخارج الدموى الشريانى).
ولقد اعتبر كثير من فلاسفة العلم أن شيوع التفسيرات الغائية فى البيولوجيا لم يكن الا لتسهيل الشرح والتصور واسراع الفهم بتقريب الظاهرة الى شكل الأفعال اليومية، فقطعا تبدو الصياغة(أ) فى المثالين التالين أقرب الى الفهم من(ب):
1ـ(أ) الشعيرات الدموية الكلوية(Renal glomeruli) لا تسمح بمرور البروتينات من الدم الى البول لتحافظ عليها من الفقدان.(صياغة غائية لذلك فهى أقرب الى التصور والفهم).
(ب) نظرا لعدم قابلية البروتينات للرشح خلال الشعيرات الدموية لكبر حجمها الجزئيى فأنها لا تمر مع البول بل تبقى فى الجسم.
(صياغة حتمية لذلك تبدو أكثر تجريدا وربما اصعب فهما).
2 ـ(أ) وظيفة الجلد هى حماية الأنسجة الداخلية من عوامل الوسط الخارجى.
(ب) وجود الجلد بين الوسط الخارجى والأنسجة الداخلية يتسبب فى عزل عوامل الوسط الخارجى عن الأنسجة.
(صياغة حتمية أكثر تجريدا)
ولكن تسهيل الفهم ليس هو السبب الوحيد لكثرة التفسيرات الغائية اذ أن العادة العقلية عند علماء البيولوجيا لها دور وكذلك اضطرار العلماء الى اللجوء للتشبيهanalogy (كتشبيه وظائف أعضاء الجسم بالمجتمع المتكامل الذى تخصص كل فرد من أفراده فى عمل نافع للمجموعة) كان له دور هام.
فما هى الغائية بعد التحليل السابق لصياغة تصوراتنا عن الظواهر صياغات لغوية؟
هى أولا اسلوب ايحاء لغوى من ناحية الشكل تصاغ فيه تصوراتنا عن الظاهرة.
فعندما تكون لدينا ظاهرة كظاهرة توالد الكائنات الحية، ففى امكاننا وصفها باللغة العادية اليومية هكذا:
(تصنع الحيوانات من نفسها نسخا شبيهة بها بالتناسل فيتم حفظ النوع).
وفى امكاننا صياغتها حتمياً هكذا:
(لا يحفظ نوع حيوانى الا بالتوالد).
كما أنه فى امكاننا وصفها غائبا هكذا: (تتوالد الحيوانات من اجل حفظ النوع).
ويمكن بسهولة ملاحظة أن المضمون لم يتغير فى أى من هذه الصيغ الثلاث التى يمكن اعتبارها كلها بمثابة حالة شرطية بين س(التوالد) وص(حفظ النوع) فتكون ص مشروطة بحدوث س أى أن حفظ النوع يستلزم حدوث التوالد.
ولم يكن هناك أى فارق حقيقى فى المعنى بين الصيغ الثلاث، ولكن احداها وهى الصيغة الثالثة قد تمت باستعمال لغة موحية بوجود الهدف(لاحظ كلمة من أجل).
والغائية ثانيا ليست صفة واقعية فى الظاهرة وانما فكرة سبقية”a priori” وتعسفية”arbitrary” تستعمل كوسيلة للبحث وتوجيه التفسير ولتسهيل الفهم (3)
فأما كونها سبقية فلأن الغائية غير مستنبطة من مقدمات سابقة عليها ولا بد من ملحوظات تجريبية لا تقبل التفسيرات الأخرى غير الغائية بل هى مجرد مبدأ نظرى فى الذهن لا يمكن البرهنة عليه ولا التيقن من صحته تماما مثل فكرة(القدر) أو(السببية) أو(حرية الارادة وتخيير الانسان). وكونها تعسفية واضح من أنها موضوعة باختيار الذهن، كما وضعت الاتجاهات الأربعة(الشمال والجنوب والشرق والغرب) واتجاهى الكهرباء(سالب وموجب) أو مقاييس المسافات (كأن تقسم الى أمتار مثلا أو ياردات وأميال)،ومما يميز الأفكار التعسفية كالغائية امكان استبدالها بأفكار أخرى بديلة دون أن يؤدى ذلك الى توقف التفكير، فكما وضحنا فى البداية يمكن استبدال الصياغة الغائية دائما بصياغة حتمية أو سببية، كما يمكن الاستغناء التام عن التفسيرات الغائية فى أكبر معقل للغائية بين العلوم وهو العلم البيولوجى.
هل الغائية مبدأ ضرورى فى العلم؟
ليس لمجرد المسايرة للاتجاه الذى يسير فيه معظم فلاسفة العلم يذهب هذا المقال الى الدعوة لتنقية البيولوجيا من الغائية، بل أن المقال يستند الى امكانية الاستغناء عن التفسيرات الغائية، ولو من باب الاقتصاد، طالما أن التفسيرات المحايدة والحتمية قادرة على وصف الظواهر البيولوجية. ومن وجهة نظر أخرى فان الغائية تبدو بالفعل كمبدأ متحيز(prejudiced) يفترض دون وجه حق وبشكل مسبق وجود السلوك الهادف فى الظواهر المعروضة للدراسة.
أما استعمال الغائية لتسهيل الفهم فهو استمرار للعادة الذهنية التى تشبه العالم بالانسان ولا حاجة بنا لذلك.
[1] – هذا المثال بالذات أورده أرنست ناجل فى ((تركيب العلم )) 1961
[2] – Nagel E. (1961) the structure of science