الأدب نافذة على النفس
“مقتطف … ووداع صلاح عبد الصبور“
وهل يعود يومنا الذى مضى من رحلة الزمان؟
وهل يعود صلاح لو كان قد ذهب ..؟ لقد مات كما يموت الناس وكما سيموت الناس، وإن كان الموت مازال أحق الحقائق إلا أنه أغمضها قاطبة، ونحن نزعم أن الطفل لا يعرف معنى الموت الحقيقى إلا حول العاشرة، وكأننا نعرف معنى الموت، قولوا ذهب، لم يعد فى متناول الزمن المعروف، لم يعد بقادر على الحوار – شخصيا – معنا، أما أن تقولوا مات فهذا هو الغموض بعينه.
وكنا فى هذه المجلة المتواضعة التى لانظن أنه سمع عنها – رغم أننا أرسلنا إليه عددا أو أكثر – كنا بدأنا نجمع ‘أحزان صلاح”لنتعلم منها، ونعلم منها، ماهية الحزن العظيم، الحزن الشرف، الحزن الوعى، الحزن المسئولية، الحزن الأمل.. وفعلها أحد شباب لجنة المجلة وهو يراجع أعماله الكاملة، ولم نكد نبدأ لنطل من نافذته على النفس حتى حدث هذا الذى أسميناه الموت ولم نعرف كيف أو لماذا أو بأى حق أو لأى معنى.
وليس هذا وقت الرثاء القديم، ولا هو عاد يصلح لأحد ولا لشئ، ولسنا فخورين أن نعدد مناقبه هاتفين مع الصادقين بأنه كان صديق الكلمة، عابد الوعى، مكتشف الداخل، ناسجا للممكن من خيوط المستحيل، كل هذا لم يعد يفيد أحدا فى عصرنا هذا، فلا الراحل عاد يطرب لأن أحدا رآه كما هو، ولا الباقين بمستزيدين شيئا من كلمات تأبين مريحة قد تعفيهم من حمل مشاعل الكلام نغما جديدا وإبداعا مستمرا وأمانة مرهقة.
اذن ماذا نقول؟
لعل أطيب الرثاء وأصدقه هو أن نخافظ على كلماته ونعيد النظر فيها من بعد أن كان يتمنى أن نراه فينكسر بنا وحدته، أو أن نراه أبعد من رؤيته فيتعرف على ذاته من خلالنا..، هذه هى الأمانة التى تحملها لنا كلماته وكلمات كل من خط بالقلم تاركا أثرا يثرى التاريخ ويجدد معالم المسيرة ويضيف إليها.
ليكن…
وداعا ياصلاح، ولنبدأ الحوار فى حضورك وبشهادتك رغم الموت، ولتستمر بيننا بما تبذله من جهد كلماتك المضيئة.
”فقد أردنا أن نرى أوسع من أحداقنا “ولنقتطف هذه المرة كلمة صغيرة نطل من خلالها على عالمنا النفسى المجهول من قصيدته “أغنية الى الله “
حزنى غريب الأبوين
لأنه تكون إبن لحظة مفاجئة
ما مخضته بطن
أراه فجأة إذ يمتد وسط ضحكتي
مكتمل الخلقة موفور البدن
كأنه استيقظ من تحت الركام
بعد سبات من الدهور
لقد بلوت الحزن حين يزحم الهواء كالدخان
فيوقظ الحنين، هل نرى صحابنا المسافرين
أحبابنا المهاجرين
ثم بلوت الحزن حين يلتوى كأفعوان
فيعصر الفؤاد ثم يخنقه
وبعد لحظة من الأسار يعتقه
ثم بلوت الحزن يفيض جدولا من اللهيب
يتجمع فى إشراقة نور الغد
ثم يمر ليلنا الكئيب
ويشرق النهار باعثا من الممات
جذور فرحنا الحبيب
لكن هذا الحزن مسخ غامض مستوحش غريب
فقل له يارب أن يفارق الديار
لأننى أريد أن أعيش فى النهار.
إن هذا التصوير المحدد فى البداية، لا يقوله إلا من عاش لحظة اللحظة حين يبعث الشئ من نقيضه، وحين تكون البداية ليست قصة أسباب مسطحة، وتعليلات إحباط تافهة، ولكن تكون هى لحظة الولادة التى تبدو بلا مخاض، هكذا، وهذه الظاهرة هى التى سبق أن أسميتها فى المرض ‘بداية البداية”وهى هى التى تصف لحظة بداية اليقظة أو صحوة القديم (قبل التفكك أو التناثر أو النكوص) واللحظتان هما واحد، ولا يفرق بين الولادة الجديدة للنمو، أو للتدهور والنكوص والتفكك، إلا المسار التالى لهذه اللحظة الفريدة، ووصف صلاح لهذا الذى يجرى بهذه الدقة هو الذى يعلمنا بعض معالم التغير الكيفى المميز لصدق مسيرة النمو، والإبداع أحد مظاهرها، وحين يولد الحزن هكذا كبيرا كاملا ‘مكتمل الخلقة موفور البدن”فإنه يعلن أن المسألة ليست وليدة صدفة، ولا هى إنعكاس خيبة أمل عابرة، ولكنها حياة داخلية مكتملة، إلا أنها لا تعلن الحزن إلا لحظة أن يصل إلى دائرة الوعى، مخترقا الضحكة الممتدة على السطح، وهذا التعبير هو خلاف تعبير الشاعر ممتدا وسط ضحكتى، وتصورى من واقع الخبرة الإكلينيكية، أن الحزن ‘يخترق”أولا كالسهم المارق وسط ضحك ممتد ثم يمتد كاللهب المندفع على صفحة الضحك المتراجع حتى يملأ وجه الساحة، ولعل صلاح يعلن هذه التالية بعد أن أشار إلى مروق السهم المبدئى بالتأكيد على كونه إبن لحظة مفاجئة، ثم يقفز إليه وهو يمتد، وتكاد تظهر فى هذا التصوير ولادة النقيض من نقيضه إلا أن العمق الذى ينبغى الإنتباه إليه هو كلمات النقيض المتكررة فى وصف عملية الولاف الديالكتيكى هى كلمات خادعة فى الأغلب لأنها تصف مستوى بذاته لا ينبغى أن يأخذ كل هذا الأهتمام حتى يستحق إسما بذاته ثم يتحدد بتحديد نقيضه، فالحزن الحى (مثلا) هو بهجة فى ذاته، فأين التناقض؟
وصلاح يعيش الحزن بكل أبعاده، وهو يشير فى مقطع واحد إلى أنواع من الحزن فى نفس القصيدة يميزها ويعرفها تمام المعرفة بلا أى تداخل، كأنه يسير فى بيته.
فهو أولا يضيف الحزن الدخان، ولكن العجب أنه يعتبر هذا الحزن الرمادى القبيح موقظا للحنين، وقد تصورت أن يرفض ويشجب هذا “الحزن يزحم الهواء كالدخان”لأنه لا يعنى عندى سوى الكثافة الضبابية الخانقة لذلك فقد عجبت حين جعله صلاح، ‘يوقظ الحنين للصحاب المسافرين والأحباب المهاجرين’
“ لقد بلوت الحزن حين يزحم الهواء كالدخان
فيوقظ الحنين، هل نرى صحابنا المسافرين
أحبابنا الهاجرين“
حقيقة أن الحزن يزحم الهواء كالدخان، ولكن ياترى هل هذا هو الحزن الذى يوقظ الحنين ؟ أم أن الأمر قد إختلط على الشاعر فتخطى خطوة هامة دون أن ينتبه إلى التحول اللازم حين ينتقل هذا الحزن الذى يزحم الهواء كالدخان إلى حزن “يزحم السماء كالسحاب”؟
ثم تتساقط من هذا الكيان المجسد المكثف قطرات الحنين الذى ينادى الغائبين، أقول لعل النقلة غابت عنه، أو أنها تمت بسرعة فائقة فلم يلتقطها، أو أننا لا يصح أن نعمم التجربة وعلينا أن نتعلم من الإختلاف، ولكن الحس الشعرى والتسلسل الطبيعى يكادان يأبيان أن يكون الحزن الدخان هو هو مباشرة مولد الحنين
والحزن التالى فى نفس المقطع هو ذلك الحزن المتبادل مع الإنفراج
“ ثم بلوت الحزن حين يلتوى كأفعوان
فيعصر الفؤاد ثم يخنقه
وبعد لحظة من الأسار يعتقه“
وهذا التناوب قد يتم فى لحظة مثلا، وقد تدرك هذه اللحظة وقد لاتدرك ولاتعى إلا آثارها، وقد يسمى هذا النوع باسم ‘المختلط”باعتبار أن هذه النقلات من السرعة بحيث تعلن تواجد الاعتصار والانعتاق معا مع تبادل تواجدهما فى الوساد الواعى، وهذا التبادل المحدد أقرب إلى الحقائق النفسية المتداولة من إنبعاث الحنين من داخل الحزن الدخانى (أو بالأصح: تقاطر الحنين من الحزن السحاب)، وإن كانت الصورتان (وقبلهما امتداد الحزن على صفحة الضحكة) دالتين على هذا التلازم بين الحزن ونقيضه.
ثم يتأكد هذا المعنى بصورة أكثر حركة واشتعالا فى ‘الحزن اللهيب’
“ ثم بلوت الحزن حينما يفيض جدولا من اللهيب “
فالحزن الذى يتصوره المتعجلون من الأطباء أنه همود وبطء حركى وثقل نفسى .. الخ ماهو إلا حركة الحياة الصاخبة، وحين تتجمع أجزاؤه فى فاعلية القضاء، ترسل الطلقات الملتهبة مضيئة أو حارقة حسب مقتضى الحال، وتوليد النقائض هنا ليس باديا لأنه ركز على نتاجها من فيضان اللهيب ،وصلاح يوظف اللهيب محركا للتذكرات المؤلمة، وهذا صحيح فى رحلة الإجترار المؤلم، إلا أن اللهيب عادة لا يكتفى بأن يكون ماء النار الذى يملأ كأس الألم فى حدائق التذكرات، لأننا إذا احتملناه وحافظنا على رفعه، لاستمر يتراقص حتي
“ يتجمع فى اشراقه نور الغد
ثم يمر ليلنا الكئيب
ويشرق النهار باعثا من الممات
جذور فرحنا الحبيب “
ورغم أن جذور الفرح جدباء، فالواضح أنها مادامت بعثت من الممات فسوف تورق لا محالة.
وأخيرا فالحزن الذى يرفضه بعد كل هذه الصور المقبولة نسبيا هو ذلك الآخر الذى ليس فيه إيقاظ للحنين ولا عتق لاسار القلب ولا اندلاع للهيب فى كأس الذكريات ثم لاحياء موات جذور الفرح الجدباء، كل هذه التنويعات محتملة نابضة، أما ذلك الغامض المستوحش الغريب، فلا كان ولا بقى خابطا فى الظلام كيفما اتفق.
” لكن هذا الحزن مسخ غامض مستوحش غريب
فقل له يارب أن يفارق الديار
لأننى أريد أن أعيش فى النها ر“
وإذا كان صلاح قد تبين معالم أحزانه السابقة، ثم اعترف بمواجهة حزن جديد غريب يختلف عن كل ماخبر قبل ذلك فأعلن عدم احتماله لغموضه، وذهب يسعى للتخلص منه آملا أن يعيش فيما اعتاد أن يعيش فيه، فان ذلك يدل على خبرة التجربة التى فرضت نفسها تحت لافتة الحزن دون أن تكون أيا من الأحزان التى سبق أن تعرف عليها، ومهما نادى صلاح ربه (لاحظ إسم القصيدة: أغنية إلى الله) أن يفارق بينه وبين حزنه هذا الجديد، فهو – كشاعر يحيا – لابد أن يحرص من طرف أخفى على استمرار الخبرة الجديدة، حتى ولو كانت مستوحشة غريبة، ولو تحققت رغبته أن يعيش فى النهار لما تولدت إبداعاته المتلاحقة، ذلك أن هذا الحزن الغامض المستوحش الجديد هو طرق جديد على أبواب طبقات من التوليد والخلق تتشكل فيها الذات باستمرار، فتواجه الواقع من جديد بكرا بلا خبرة، فيطل الحزن غامضا مستوحشا، إلا أن البكارة لا تعنى العقم بل تعنى الجدة والأصالة أبدا.
****
وهكذا نودعك يا صلاح ونحن نقف أمام مقطع واحد من خمسة عشر سطرا من الكلام، فاذا بنا أمام بحر زاخر من التصانيف النفسية، وموسوعة عن أغوار الحياة كما ينبغى أن نتعرف عليها من الفن.
وهكذا نعاهدك أن نتناول الكلمات، كلماتك وكلمات غيرك، بالصدق الذى تمنى قائلها أن تصل به إلينا وإلى غيرنا.
ولكن يا صلاح، حتى لو تركت لنا بحرا من الكلام وملأت سماءنا بالأنغام والصور، لماذا تركتنا وأنت القادر على المزيد، لماذا ياصلاح ؟ ولكن لماذا نوجه لك أنت هذا السؤال ؟ هل تسامحنا ونحن نستغفر الله ونمضى نقلب أوراقك تتفتح من خلالها عوالمنا.
يقول أولاد بلدنا أن الموت علينا حق ولكن الفراق صعب.
“وقد بلونا الحزن حين نفترق، وحين تختفى ما بيننا الطرق، وحين تقسو اذ تموت وحدك، تفرقت قوافل الكلام، ما عاد يجمعها حداؤك الحزين“.