مجلة الإنسان والتطور
عدد أكتوبر 1983
مجموعة قصص:
رأيت فيما يرى النائم
(نجيب مح(1)فوظ)
د. يحيى الرخاوى
ونفتح ملف نجيب محفوظ:
وهو أمر وارد منذ صدور هذه المجلة، فقد أصبح نجيب محفوظ معماراً ثقافياً قائماً بذاته، وعلامة معاصرة يمكن أن يؤرخ بها، دون أن يعنى هذا أو ذاك أى حكم مسبق أو استسلام لهالة مفروضة بالشيوع والغزارة، وقد تجنبنا أن نبدأ به قراءاتنا النقدية خشية أن يعدنا قارئنا من رواد زفة مزدحمة، ولكن كان لابد من بداية مهما تأجلت، وها نحن نبدأ.
ونجيب محفوظ حين أصبح مقررا – بحق – على العقل المصرى والعربى جعل الجميع ينهلون من فيضه، بل ويستعملون اسمه ونتاجه فى الشئ ونقيضه، وهذا لا يضيره ولا ينقص من قدر إبداعه، ولكنه قد يحذر قارئ نقده، وخاصة وقد وصل الأمر إلى ما يمكن أن يسمى قياصا: “خذ من نجيب محفوظ ما شئت لما شئت”، والذى زاد هذه المشكلة تفاقما أنه هو شخصيا لم يحاول أن يعدل المسار النقدى إلى إتجاه بذاته، بل لعله – من كثرة الموافقة – قد أسهم فى أن يظل هذا الأمر بهذه الصورة، ولعل فى هذا دلالة مبدئية على أصالة إبداعه، وتعدد مستويات هذا الإبداع، الأمر الذى يضطر القوم أن “يسهروا جراها ويختصم” رغم أنى لا أظن أنه – أطال الله عمره – ينام ملء جفونه عن شواردها، فكثيراً ما أقف أمام إنارة معرفية أوردها بسلاسة متحدية، على لسان صبى قهوة، أو فى حلم مسطول، فأشفق عليه من هول ماترسل من إشارات، وأعتقد أنه أطلقها من صدق حدسه، وما زال خلفها يستهدى بنورها إليها، وقد يفسر هذا عودته إلى نفس الموضوع فى أكثر من عمل (2).
أولا: تمهيد
المجموعة القصصية: رأيت فيما يرى النائم:
صدرت هذه المجموعة فى كتاب مستقل عام 1982 وإن كانت قد نشرت إغلبها أو كلها قبل ذلك (ولا ندرى متى كتبت)، وقد يكون الرابط بين مفردات قصصها مجرد صدورها فى مرحلة زمنية متقاربة، أو حتى صدف النشر وظروف حجم القصص، وهذا وحده يجعل محاولتى لقراءتها قراءة جامعة محاولة محفوفة بالمخاطر، ولابد أن أعترف ابتداء، أنه حتى دون قصد، فإن العمل لا يخلو من خيط يربط أطرافه، هذا، ولم يصل إلى علمى أن أحداً من النقاد قد سبق إلى دراسة هذه المجموعة بوجه خاص، ربما لحداثة صدورها، اللهم إلا د. فرج أحمد فرج (3) فى تناوله لأولى قصصها “أهل الهوى” فى تفسير تحليلى نفسى سنشير إلى بعضه.
ثانيا: كلمة مبدئية حول: اللغة الشعر
ما زال نجيب محفوظ يمثل التحدى الناجح لمشكلة اللغة، فهو الكاتب السلس الذى التزم بأن يكتب بالفصحى بطريقة ينسى معها القارئ أنه يقرأ بالفصحى، حتى ذلك الحوار المتبادل فى غرزة حشيش أو مخدع مومس، وهو لم يفشل فى هذه المهمة أبدا، ولم يتكلف، ولم يتراجع، ولكنه فى الآونة الأخيرة (أغلبها وليس كلها، ومنذ الحرافيش بوجه خاص) راح يمتزج بلغته امتزاجا نابضا حتى وصلنى أنه يكتب فى كثير من الأحيان بلغة شعرية لا يمكن تغافلها، ولا يمكن فى نفس الوقت رفضها لأنها لا تخرج عن السياق فى تزيد مفتعل، بل تؤكد المراد وتعمقه فى تشكيل إبداعى مناسب، وسوف أعمد إلى أن أورد بعض الأمثلة الالة على ما وصلنى من مثل ذلك، داعيا القارئ أن يتذوقها فى ذاتها قبل أن يقفز إلى المغزى والمحتوى والرمز والدلالة.
ص 12: قوتها الراسخة نفسها اهتزت جيال هوج انفعالاته الجامحة، فخافت أن يصيبها سوء مجهول بين يديه المندفعتين بعنف البراءة العمياء.
(أهل الهوى)
ص 17: تورد وجه الفتى، وخانه السرور، فأضاء به وجهه.
(أهل الهوى)
ص 21: فتنهد الظلام استجابة، وتلاشى الحضور فى الحال.
(أهل الهوى)
ص 42: ومضت دقائق نسى فيها كل شئ كأنما امتص الرجل وعيه.
(من فضلك وإحسانك)
ص 110: وانهمرت سيول مترعة بالنشاط والهيام والطرب، وانتفض القلب فى رقصة رائعة موحية بالإيهام والجذل.
(العين والساعة)
ص 113: فامتلأ القلب بأشواق التطلع والانتظار وآلامهما الجامعة بين الترقب والعذوبة.
(العين والساعة)
ص 126: … شبح البيت يتبدى فى صورة جديدة، وأن رائحة تفوح منه كالشيخوخة.
(الليلة المباركة)
ص 141: للزمن نصل حاد وحاشية رقيقة.
(رأيت فيما يرى النائم)
ص 168: فرأيت السحب تتراكم كأنها الليل، ثم استجابت لرياح الشرق فانقشعت، فبشرنى هاتف الغيب بالعزاء.
(رأيت فيما يرى النائم)
ولا أريد أن أطيل فى معايشة شاعرية هذه المقتطفات التى لا تخفى عن متذوق، ولا أن أستطرد لأنبه على هذا الاستعمال الجديد والخاص لموسيقى اللغة وصور الكلام: حين تصبح للشيخوخة رائحة يقاس عليها، أو حين يمتص الرجل وعيه، أو حين يصبح للزمن نصل حاد وحاشية رقيقة، ولكنى أود أن أعلن عن ملاحظتى هذه: أن هذه اللغة الشعرية تنطلق وتطغى كلما غاص العمل فى “الحلم” أو فى “السكر” أو فى “الأسطورة” أو فى “الجنون”، أى أن جرعة الشعر تزيد مع الغوص إلى الأعماق “الأخرى” وتقل حين يعلو مستوى الحدث إلى ظاهر السلوك السطحى.
ثالثا: بعدا الماضى والمستقبل (الأصل والمصير)
يغلب على هذه المجموعة (4)هذا البحث الدؤوب فى أصل الحكاية، ومسار الرحلة، وإتجاه سهم الطريق وتحسس غايته:
فيظهر فى القصة الأولى (أهل الهوى) الشق الأول من هذا البحث كنقطة انطلاق وبداية، وفى نفس الوقت كمنطقة محظورة مجهولة معا:
ص (10): “أنه بلا ذاكرة” ثم ص (16): “أى فرد يجهل مستقبله، أما أنا فأجهل ماضى ومستقبلى معا” ثم ص (37): “أنه صاحب حياة ماضية ..” .. “وسوف يجد نفسه وحيدا منبوذا ضائعا إن لم يهتد إلى حقيقته الغائبة” ثم ص (38): “ترى ما السبيل إلى الكشف عن تلك الحقائق الغارقة فى الظلام؟”.
وفقد الذاكرة هنا ليس له تلك الدلالة المسطحة العادية بمعنى نسيان أحداث حدثت بذاتها، ولكنه يكاد يعلن القانون الحيوى الأصلى وهو أنه “فى حين أن الإنسان (عبد الله – ابن ناس) له ماض حتما، إلا ن طبيعة البداية – وربما حتى النهاية – تظهر منفصلة عن هذا الماضى بشكل أو بآخر” – ومسيرة الإنسان التطورية، بمأزقها المتلاحقة ما هى إلا تلك المحاولات الدائبة التى تسعى إلى توصيل هذا “الظاهر المنفصل” بحقيقة جذوره فى عملية واعية متدرجة بالضرورة، و”عبد الله” هنا إذ يبدأ بالبراءة العمياء مارا بالتدين الخوف لا يجد مفرا من أن يحاول أن يكتشف أصل الحكاية “مما كان” ربما ليستطيع أن يهتدى إلى “ما يمكن”، وهو لهذا، وطوال القصة لا يكف عن “مخاطرة” التفكير فالتذكر.
لكن هذا الماضى قد يكون: (1) هو “الجريمة” “هارب تبحث عنه الدولة لتشنقه” (ص38) (قابيل وهابيل، أو أكل الفاكهة المحرمة حتى الخروج من الجنة، أو حمل أمانة لا يتحملها..) (2) كما قد يكون الحاجة غير المشبعة “عد: جميع طلباتك مجابة” (ص38)، (3) ولكنه قد يكون أيضا ماضيا “طيبا” (مجهولا فحسب) “ويتساءل عن ماضيه الطيب” (ص 19).
أما فى القصة الثانية، فيغلب البحث فى اتجاه الشق الثانى من القضية: “المصير”، والبحث فى هذا الاتجاه يبدأ – كما بدأ قرب نهاية القصة الأولى – بعد انتهاء الحب أو فتوره أو عجزه “وفى هذه الدوامة المظلمة المنذرة بسوء المصير، أنساق بقوة إلى التفكير فى المجهول من حياته” ص 27 (أهل الهوى)، ويتأكد هذا التتابع بوضوح فى القصة التالية: “من فضلك وإحسانك” “… ولكن قصتى تبدأ بعد وفاة الحب” (ص 53) وحين يموت الحب بالحرمان (من فضلك وإحسانك) أو يفتر بالعجز (5) (أهل الهوى)، وينتهى الضياع إلى ما يشبه اليأس والموت فى كفن أسود “متلفعا فى عباءته السوداء” (ص 45) أما الفراغ فهو يخلخل الوجود حتى ليبعث نبضا جديداً ودفعا جديداً إلى بحث آخر عن “معنى حياته أو عن معنى الحياة” (ص 57)، وتتجه الأسهم – فجأة – فى هذه القصة الثانية إلى: الأعلى، والآتى، والكلى، والجوهر “من كرة القدم إلى قلب الكون دفعة واحدة” (ص59)، وتكثر الأسئلة حول “الهدف” مقارنة بالقصة الأولى التى تسأل أكثر عن “الاصل”، ومن ذلك: “سؤال عن الهدف الكونى” (ص 60)، “لا معنى لحياتى أن لم أعرف ذلك الهدف البعيد” (ص 61)، ثم نجده بعد التجربة والانطفاء والاغتراب والرتابة والإحباط ينتقل من البحث “الفكرى” إلى “الخيال الجامح”، ولكن فى نفس الاتجاه: المستقبل “عليه ألا يركن إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وأن يفكر فى المستقبل بجدية، تلزمه وثبة قوية غير معقولة، طفرة غير متوقعة وغير منطقية” (ص68)، ولكنه من موقع هذا الانسحاب والتعويض بالخيال الخائب ينتهى إلى مستقبل ليس بمستقبل، مستقبل دائرى: سفر، وتأمين ضروريات الحياة على هامش مجرد الاستمرار، بعيدا كل البعد عن أى “قلب لأى كون”، بعيدا عن محاولة الوعى باتجاه سهم المستقبل.
وكما انتهت القصة الأولى بيأس من معرفة الأصل رغم دفع ثمن المحاولة، تنتهى القصة الثانية بيأس مقابل من معرفة المصير، رغم دفع الثمن مقدما أيضا.
ولا يختفى هذا البعد “الأصل – المصير” من القصص الأخرى، ولكننى لن أفصله خشية التكرار وسأكتفى بمجرد الإشارة إلى عينات دالة: = ففى “قسمتى ونصيبى”:
ص (88) – دائما ربنا .. ربنا .. أين هو؟.
وتنتهى القصة بتوحيد بين الموت والكون (104) “الموت فى الكون”، ثم ص (105) “أنى أفعل ما فى وسعى: أنى أنتظر الموت”، يأس جديد يتحدى، ولكنه يتضمن احتمالا أخفى أن يحقق الموت معرفة عجزت الحياة أن تكشف عنها.
= وفى “العين والساعة“: يظهر بعد جديد لنفس المسألة يشير إلى دور الإنسان نفسه فى إخفاء ماضيه دون الإطلاع عليه وكأن النسيان هنا يتم بفعل فاعل لأنه هدف مرحلى تكتيكى لغاية استراتيجية أكبر “رأيته يناولنى صندوقا صغيرا ويقولك: أنها أيام غير مأمونة، يجب إخفاؤه تحت الأرض حتى تعود إليه فى حينه” ص: (111)، ثم يذهب إلى أبعد من ذلك فيعلن أن البحث عما أخفينا ليس قضية خاصة بفرد بذاته، بل هى قضية البشر جيلا بعد جيل، وسيستمر السعى ما نقصت المعرفة، “.. أن الماضى لميتمثل لى إلا لأن “الآخر” (6) حيل بينه وبين الصندوق، وإنى مدعو لاستخراجه وتنفيذ ما يشير به بعد إهمال طال واستطال” ص (113).
ولا يخفى نجيب محفوظ أن هذا البحث هو – بشكل ما – المخاطرة المعرفية للجنس البشرى عامة فيما يسمى بالبحث عن الحقيقة والتى تعنى فى الواقع: معرفة المحظور تدريجيا: أكثر فأكثر، ويرداف محفوظ بين “الحقيقة” و “الكلمة” بشكل مباشر وهو يقول: “استحوذت على نية التنقيب فى التنقيب فى الماضى المجهول لعلى أعثر على الكلمة التى طال رقادها” ص (113) وكأن هذه الكلمة هى التى كانت فى البدء، أو هى اللوجوس أو هى الله، وهو أيضا يشير إلى أن أى إنسان فرد لا يستطيع أن يواصل البحث إلا فى حدود قدره وقدراته “وتواصل العمل حتى غصت فى الأعماق مقدار طولى كله” (ص 114) ثم يمضى بإعلان هام وهو أن هذا البحث ينبع من الدافع المعرفى الباطنى الحتمى “… ولا معين لى إلا شعورى الباطنى بأنى أقترب من الحقيقة” (ص 114) ثم يعلن أيضا أن هذه الحقيقة مرعبة لأنها تهدد معالم الذات المنفردة، وإن هذه هى كلمة السر ص (115) “إذا تغيبت بدا وإن بدا غيبى”، أى أن تزداد مع تناقص الذاتوية الخاصة، ومع الالتحام بما بعد الذات مما تتوحد به ويحتويها فى آن ذلك فى رحلة الاستكشاف الكبرى.
وأخيراً فى هذه القصة (العين والساعة) يشير إلى ضرورة تناسب “جرعة المعرفة” مع “المرحلة”، فإذا تبدت الحقيقة متأخرة (أو متقدمة) “عدة مئات من السنين” ص (116) فإن مصير الساعى إليها أو معلنها ليس سوى الاعتقال والإنكار والتسطيح: تعتقله المباحث وينكره الواقع ويتهم بمؤامرة.
= أما فى الليلة المباركة: فيتركز البحث فى “الحاضر” كمنطلق إلى الأصل والمصير، والحاضر هنا هو ما يعنيه: البيت / الهوية، بل وما يعنيه “العقل” أيضا “افقدت بيتى أم فقد عقلى؟” ص (127) ولكن البحث فى الحاضر هو بالضرورة إعادة اكتشافه بما يحمل من: مفاجآت ومخاطر:
– لكن هذا بيتى …
فصاح الرجل ساخرا:
– هذا بيت مهجور من قديم تجنبه الناس لما يشاع عنه من أنه مسكون بالعفاريت.
واكتشاف جديد بأنه (ذاته أو بيته) ليس سوى “خرابة كما ترى، وتقام فيها سرادقات الموتى أحياناً” ص (127) – وإزاء هذا الاكتشاف المريع، نراه يداهم بالاستغراب الذى يفضى إلى الإنكار، ثم يضطر إلى التخلى (التنازل عنه) فيما يشبه بيعه بلا مقابل اللهم إلا أمل غامض فى محتوى غامض لحقيبة مغلقة مع مرشد مذبذب الخطى، وحتى هذا الأمل سرعان ما يتضاءل حتى بإرادته، وكأن البحث المعرفى الجديد لم ينته إلى التخلى عن الزوجة والبيت فحسب (الحاضر) وإنما امتد أيضا إلى إسقاط الأمل فى المستقبل المجهول “فلم يجد بدا من ترك الحقيبة تهوى إلى الأرض وهو يتأوه” ص (137)، فهو إعلان جديد لحتمية اليأس سعيا إلى توازن صورى “عند ذاك … (ترك الحقيبة تهوى) خيل إليه إنه استعاد توازنه” (ص 137) غير أنه توازن كالموت، بل هو الموت “وتسلل الصمت الشامل من مسامه إلى صميم قلبه” ص (137).
= أما فى “رأيت فيما يرى النائم” فإننا نجد هذا اللحن المميز الضارب فى التاريخ المتطلع للمستقبل فى أكثر من حلم وأكثر من موقع: “أهى حجرتى الراهتة: أم أخرى آوتنى فيما سلف من الزمان؟” حلم 1 ص (142).
“لن أحيد عن التطلع إلى الأمام” حلم 1 ص 142).
” آن أو أن قراءة الطالع” حلم 4 ص (147).
والإيقاع سريع فى سعى المعرفة اللاهث، وهو يتواءم مع طبيعة زمن الحلم.
“ولكنى لم أدر أأركض وراء هدف أريد أن أدركه أم أركض من مطارد يروم القبض على” حلم 5 ص (150).
وحين يختفى الماضى والمستقبل تبقى الحركة، ولكنها حركة مغلقة فى الفراغ.
“لا يوجد ليل ولا نهار ولكن يوجد الهواء والركض” حلم 6 ص (153).
ولا يهم أن تكون ثمة غاية ظاهرة فى الوعى، فلا يرتبط هذا الركض هربا، أو اندفاعا.. بالعلم بالهدف منه:
“وشعرت طوال الوقت بأننى أسعى وراء غاية: لكنها غابت عن وعيى أو غاب عنها وعيى” حلم 11 ص (163).
إذن، فهذا البحث المستمر عن الأصل فى الماضى أو عن الغاية فى المستقبل إنما يمثل عمودا محوريا عند نجيب محفوظ فى هذه المجموعة، ناهيك عن بقية أعماله.
وهو بحث يبدو وكأنه جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة، لدرجة تبرر لنا أن نتقدم خطوة لنكشف عن البعد التالى فى هذه المجموعة وهو ما أفضل أن أناقشه تحت ما يمكن أن يسمى “غريزة المعرفة”.
رابعاً: غريزة المعرفة، ومخاطر المحاولة
يمثل هذا الدافع فى أعمال نجيب محفوظ محورا لازما يكاد لا ينفصل عن الأحداث، وإن لم يبد ظاهرا على السطح فى كل الأحوال، وقد خيل إلى أن محفوظ قد اعتنى بهذا الدافع الذى لا ينتبه إليه الكثيرون والذى أطلق عليه لفظ “غريزة” لتأصيل جذوره البيولوجية وإلحاحه الحتمى، أقول أعتنى محفوظ به حتى ليمكن وضعه فى المقدمة فى رحلة الإنسان الواعى، ولم يهمل محفوظ بقية الدوافع الأساسية وخاصة الجنس والعدوان إلا أنه جعلها فى موقعها المتواضع بالقياس إلى هذا الدافع المحورى الأساسى، بل أن هذه الدوافع الأخرى قد تصب فيه وتخدمه، فكثيراً ما نجده يدمج الجنس باستكشاف جديد، أو يتخذ العدوان وسيلة للمعرفة أو مواكباً لها أو ناتجا عنها، وهذا وغيره يحتاج إلى مراجعة شاملة وتقص أعم قبل الجزم بالنتائج، ونكتفى هنا بالتركيز بأن المعرفة الغريزة ليست مجرد استزادة معلومات أو إضافة رؤى وإنما هى أساساً مخاطرة اكتشاف وتخطى حواجز (7) بما يصحب هذا وذاك من مضاعفات: ولنر ذلك فى هذه المجموعة:
فى أهل الهوى نرى محاولات التذكر والتفكير فى مقابل الرفاهية والاعتمادية، وقد أعتدنا أن نلتقى بتقابلات واستقطابات سطحية بلا غور مثل تقابل الجنس الشهوى مع الحب الرومانسى أو العذرى، أو تقابل فجاجة الغريزة مع النضج الاجتماعى، أما نجيب محفوظ هنا، فقد قابل الغريزة الفجة (البراءة العمياء) بالغريزة المعرفية (8) ، وهذا جديد وأصيل ومتحد، وهو بعض ما دعانى إلىما ذهبت إليه.
وقد تحركت “الحاجة إلى المعرفة” مع اعتدال حدة الحب الشهوى والإفراط فى الجنس، ومع بداية الاهتمام بما “بعد ذلك” أو بما “بجوار ذلك “: “فخلطا أحاديث الهيام بهموم الوكالة والحارة” ص (27).
ثم جرى الأمر كما ينبغى أن يجرى: شكوك – تساؤل – تفكير – مراجعة – توقف – عجز – ثم الموت، ومع نغمة اليأس الحتمى فى نهاية المطاف لم تطرح أى إشارة فى هذا العمل (أهل الهوى) لمسار آخر بديل عن الموت، واعترف أن الفنان غير ملزم بإعطاء البديل، فالعمل الفنى ينتهى بحدوده، ولكنى أخشى أن نتصور أن غريزة المعرفة مكتوب عليها هذا المصير حتما، وقد كان “عبد الله” يعلن – رغم حاجته القصوى إلى هذا البديل – أنه يطرق طريقا محظورا قد لا يلقى وراءه الندم “ترى هل الندم هو الجزاء الأوحد لمعرفة المجهول من حياته” ص (33).
ويؤكد محفوظ الطبيعة التلقائية (الفطرية الجبلية … الخ) لحركة هذا الدفع إلى المعرفة “..وزاد من قلقه أن التغيير ينبثق منه” ص (34)، وتبلغ قمة روعة الحدس الفنى حين ينجح فى أن يصف تدرج وأطوار نضج غريزة المعرفة (هذا الذى ينبثق منه)، فهى تأتى فى البداية فى شكل إرهاصات سريعة مجهضة: “وانطفأت بروق كثيرة تحت عباءة العادة الثقيلة” ص (34)، ثم تفرض نفسها كوجود ملح مزعج: “فاستيقظ الفكر وخبت شعلة العواطف والغرائز” ص (34)، وسرعان ما يطل الشعور بالذنب تجاه ظهور هذه الغريزة الجديدة، تماما مثلما يشعر المراهق مع ظهور بوادر الجنس “وخاف أن يقف كالمتهم بين يديها” ص (34).
وقد بين محفوظ أن هذا الدافع إلى المعرفة ينبعث أساساً من مجرد أن الإنسان له “ماض” له تاريخ، وكأن المعادلة الطبيعة تقول: أننا نتعرف ابتداء على بعض ما اضطررنا – بحكم التطور – لاخفائه مرحليا .. أو على ما سبق تنظيمه – تركيبيا – أثناء نمونا نوعا أو أفراداً، ثم بعد ذلك يصبح الدافع المعرفى قوة فى ذاته، ليستمر بلا توقف.
بلى يبدو أنه من فرط إلحاح قوة هذا الدافع على الكاتب فى صورة عبد الله (وغيره)، أنه مد فى أجله، أو فى أمله، غلى ما بعد حدود الذات المفردة زمنا، فإذا أحتد اليأس من إمكان اكتمال المعرفة فى هذه الدنيا “قلبى يحدثنى أنى لن أعرف شيئا ما دمت هنا” (9)ص (47) فإنه لا يغلق نهائيا ولكنه يطل من “هناك” كبديل محتمل.
* وفى قصة “من فضلك واحسانك” يأخذ هذا الدافع المعرفى مسارا آخر، فهو يظهر ويحتد بعد الاحباط والحرمان، وهو يتفجر من الألم فى جوف الفراغ الناتج من هذا الأحباط، ولكنه حين يظهر سرعان ما يكتمل بقفزة مرعبة، إذ هو لا يتدرج مثلما كان الحال فى أهل الهوى، فيصف لنا محفوظ هذه الغورة المتدفقة فيما أسماه “تجربة طارئة” حين “التحم بأثاث حجرته التحاما غريبا جنونيا” ص (65)، وكان لهذا الالتحام خصائصه المتعلقة بما نزعم من عريزة للمعرفة، فالالتحام بالشئ الجامد – الجماد – قد يولد سكونا هامدا أو امحاء، ولكنه على العكس من ذلك قد يكون غوصا إلى أعماقه “مباشرة” بحيث يبعث فيه حياة مقحمة، بما يفيض عليه من دفقات الوعى الفائق ليصبح الرائى هو نفس ما يرى فى مخاطرة لاحياء المحتوى، ثم “يعود” ليعرف عنه ما “كانه” فيعيد اكتشاف الأشياء البسيطة بجدة متفجرة “وكلآنه يكتشف لأول مرة الفراش الخشبى ذا اللون البنى الغامق” “وبادامة النظر إلى الفراش ومحتوياته، دبت فيه – الفراش – حياة من نوع ما” “ونفذ ببصره إلى الأعماق فرأى القطن المكدس وراح يعد خيوطه الملتفة المضغوطة” (10)ص (65) – وقد يحلو لبعض الأطباء النفسيين والمختصين أن ينكروا هذه الخبرة كواقع محتمل، وأن يسموها ببعض أسماء أعراضهم أو امراضهم، إلا أن هذا يستحيل أن يحجر على احتمال صدق حدس الكاتب بما يشمل الكشف عن طبيعة هذا النشاط الدافق من سعى معرفى إلى النفاذ والثعرية نتيجة لاطلاق (بسط) دافع غريزى كامن متحفز، وقد تم هذا الاطلاق بعد التمهيد له بالاحباط ثم الافساح أمامه بما يشبه تناثر الجنون (11) “آثار الرؤية” كجزر سراب وسط محيط من الظلام والعجز، فإن “الكون لم يغب عنه تماما” ص (66)، وتتواكب هذه الالماحات المغرية بانطلاق معرفى مطلق تجاه ما هو أكبر من الكتاب والدرس.. تتواكب مع ما يلزم من تحريك مجهض (أيضا) لا ينجح إلا أن يذكره “بحزنه المخزون المؤجل” ص (66)، ولكن إلى متى التأجيل؟، وما مصير هذا الدفع إلى المعرفة الأخرى – فى هذه الظروف – غير التناثر المشل؟ أن العجز عن مواصلة هذا الدفع إلى اتجاه بذاته، قد يوحى باليأس الذى يبعث إلى طمأنينة السكون، إلا أن المسألة لا تنتهى “عليه إلا يركن إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وأن يفكر فى المستقبل بجدية” ص (68)، ولكن هذه الجدية لا تعنى إلا صدق الدفع دون الالتزام بالناتج “ملتزمة وثبة قوية غير معقولة” “طفرة غير متوقعة وغير منطقية” (ص68).
ولكن الرتابة والأيام والاستسلام المتدانى سرعان ما تأتى على كل تدفق أو نشاط، فينتهى إلى الرضا الميت، ولكن دون أن ينسى أن ثمة “هدفا” غير ما يبدو ظاهرا مازال يكمن وراء “الانحراف” أو “السفر الاسترزاقى”.
- وفى “العين والساعة”: نواجه عريزة المعرفة وهى تنطلق مكثفة كاسحة أيضا، فى لحظة بذاتها، وبدون سابق انذار، لكنها بدلا من أن تدفع صاحبها للالتحام بغور الأشياء حتى النخاع، فإنها تذهب تخترق الوعى الظاهر لتغوص فيما وراءه من تراكيب تمتد بالذوات الأخرى فى التاريخ حيث يختلط الأمل بالماضى بالرؤيا باليقين “أنه ليس بالغريب، واننى أراه وأتذكره معا” ص (111)، وفى وسط أرضية حافلة بالنشاط والهيام والطرب، وموحية بالايهام والجذل “شع نور الباطن فتجسد فى مثال” ص (110).. ثم يدور الحوار ليعلن عدم تحمل الرؤية “الآن”.. وربما كان ذلك ممكنا بعد حين، ربما حين يلوح فى الأفق امكان التنفيذ فلا “يحسن الاطلاع عليه قبل اخفائه” ص (111) حتى لا “يحملك ذلك على التسرع فى التنفيذ قبل مضى عام فتهلك” ص (111)، اذن فالرؤية السابقة للاعداد خطر، والتنفيذ السابق للامكانيات والقدرات أخطر، ومصيبة غريزة المعرفة أنها إذا انطلقت بجرعة مفرطة “قبل الأوان” أصبحت عاملا مشلا لا حافزا هاديا، وفى المقابل فان خطورة التأجيل هى التمادى فيه إلى ما لا نهاية… وهنا يكمن المأزق المعرفى الخطر، وكل المحاولات الجارية للتحايل على الخروج من هذا المأزق باللجوء إلى الرمز والفن والتجزئ والاسقاط وسائر الحيل هى محاولات مرحلية لا يضمن لها النجاح أى حتم تطورى، لأنها إذا استقرت أعاقت، وإذا تخلخلت هددت، ومع ذلك – ولذلك – فالمخاطرة بلا بديل “لعلى أعثر على الكلمة التى طال رقادها” ص (113)، ويبدأ “الحفر” فيما يلى شباك “المنظرة”ولا أحب أن أطيل فى دلالات كلمتى الحفر والمنظرة فهى ظاهرة.
- وقد كان تأثير الخمر فى قصة “الليلة المباركة” هو “المطلق” (12) لمحاولة معرفية مشوشة أيضا تحاول إعادة التعرف على حقيقة “العقل” و “البيت” و “الأسرة” و “الهوية”، بل أن التنازل عن كل ذلك قد تم بلا مقابل إلا أمل فى سعى معرفى (مجهض) عدوا وراء شخص غامض مجهول حاملا حقيبة مجهولة المحتوى، تغرى بفتحها دون أن تتاح الفرصة لذلك حتى ينتهى بالقائها عن كاهلة قبل أن “يعرف” ما بها- وفى هذا ما أشرنا إليه من استسلام آخر: لاستحالة المعرفة رغم التنازل عن كل شئ.
- أما فى فيضان سلسلة الأحلام فى “رأيت فيما يرى النائم” (13) فنحن نتعرف فيها على المغامرات المعرفية أيضا، ولكننا نجدها ملتفة بأجواء الغموض دون الاقلال من: “نشاط السعى الدؤوب”: “مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة” ص (143) حلم (2) “عدوت منها، ولكنى عدوت فى مجالها وحضنها” ص (143) حلم (2)، وقد سبقت الاشارة إلى ارتباط المعرفة بالحزن، ويعود هذا الارتباط إلى الظهور فى نهاية حلم (3) بدءا بالاشارة إلى شعر المتنبى “وشعر المتنبى فى هذا المقام أكثر من أن يختص به بيت بذاته.. فحرت أى بيت يقصد” ص (145)، ويؤكد هذا التأويل ما ألحقه بعد ذلك مباشرة من معنى الحديث الشريف “أه لو تعلمون ما أعلم… لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا” ص (145) ويأتى التأكيد الحاسم فى تقديمه اللاحق فورا (لصديقه) “أخشى أن يغلبنى الحزن” ص (145) وكأنه يقول: أخشى أن أعرف ما لا أطيق فأحزن كما لا أستطيع، وتستمر المغامرات المعرفية مع مصاحباتها من حزن أو تطلع أو ضياع أو ربكة طوال الأحلام بشكل ملح: ففى حلم 14 نجد المتابعة للشاب الوسيم (الذى يمثل أمله) تحمل الرغبة الملحة لاستطلاع ما هو فاعل، وما هو وراء، ولكنه – كالعادة- ينهك ويسقط دون أن “يصل” ودون أن يعرف، تاركا وراءه الشرود والانخداع والعزاء، بما يذكرنا بالنهاية اليائسة من المعرفة بعد أغلب المحاولات، وفى المقابل نرى مواجهة للرجل بالغ الكبر (التاريخ – الحكمة) والنظر فى عينيه كبلورتين متوهجتين، والحوار البديل المختفى للتو.. وقد نلمح وراء هذا “الباب” اشارات إلى سبل أخرى للمعرفة واليقين غير تبادل الكلام والتفاهم بالرمز المألوف، وهذا النوع من المعرفة قد يكشف الداخل لدرجة الاتهام بأفعال لم تحدث فى الوعى رغم أن عقوبتها الاعدام، وكأنه يعرى غريزة العدوان وهى تحقق اغتيالاتها فى الخفاء، وهذا – مثلا – من أخطر مضاعفات اطلاق غريزة المعرفة – إلى الداخل – دون.
ولا تنتهى سلسلة الأحلام إلا بمعرفة من نوع أخر (حلم 17) إذ تحل الفرجة على “صندوق الدنيا” محل النظر فى البللورتين، ويحل الانعتاق محل التسيير، وكأن الإنسان فى نهاية العمر (الحلم) لابد وأن يرضى بمعرفة الحكيم المتأمل على ربوة التكامل الهادئ ليستقبل الموت كمنطلق نحو يقين آخر، رغم أن ذلك لا يعدو وعدا “بمسرات تعجز عن وصفها الكلمات” ص (173).
……
وبعد، فلا يمكن – بداهة – فصل الجزءين السابقين عن بعضهما البعض، وإنما اختلف التناول فقط حيث ركزنا فى الجزء الأول على البعد الطولى من الأصل إلى المصير، وركزنا فى الجزء الثانى على النشاط الحيوى ذاته الدافع للمعرفة ومصاحباته الخطرة ومختلف مساراته، ثم ننتقل بعد ذلك إلى بعد مختلف نوعا:
خامساً: الوجود والحلم
الحلم ليس وجودا سلبيا، أو هو ليس نفيا للوجود، ولكنه وجود أخر، وجود مناوب، والانسان ليس هو ما يعى، وانما هو مايتكامل بتوليفة من مستويات، بعضها فى مركز وعى اليقظة، وبعضها على هوامش وعى اليقظة، وبعضها “وعى” الحلم، وبعضها وعى النوم: (بلا حلم)، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله، ولهذه المقدمة المختصرة أهمية فائقة للنظر الى أحلام نجيب محفوظ سواء ما وردت تحت عنوان “حلم”، أو ما اقتحم بها وعى اليقظة دون اشارة محددة الى طبيعتها الأخرى.
هذا، ولا يمكن تصنيف هذه المجموعة، حتى القصة الأخيرة منها تحت ما يسمى “أدب الحلم” أولا: لأن أدب الحلم لم تتحدد معالمه نهائيا، وثانياً: لأن هناك تداخل حقيقى بين ما يسمى “أدب الحلم”، وأدب “تيار الوعى” أو حتى “تيار اللاوعى”، ولعل تجربة محفوظ فى هذا العمل، ومن قبل فى ليالى الف ليلة هى فتح جديد للتزاوج بين أدب الاسطورة وأدب “الوعى الآخر أو دعنا نتقدم خطوة لنسميه أدب “تعدد مستويات الوعى”.
ونجيب محفوظ يعلمنا من خلال حدسه الفنى وقدرته الروائية معا بعض ما سبق الاشارة اليه من أن الحلم هو وجود كامل فى ذاته، قائم بذاته، وهو وجود غير رمزى بالضرورة، بل هو – أيضا – رؤية ورؤى عيانية مباشرة، ودلالة عنوان المجموعة “رأيت… الخ” تؤكد ذلك والنوم هنا هو اليقظة الأخرى، والتداخل المتبادل يتضح مباشرة فى “العين والساعة”: “ومع أن الموقف كله تسربل بغشاء منسوج من الأحلام، غير أنه هيمن على بقوة طاغية (14)، فامتلأ القلب بأشواق التطلع والانتظار وآلامهما الجامعة بين الترقب والعذوبة”. ويؤكد أنه لم يكن نائما! اذ يردف فورا “ولم أنم الليلة ساعة واحدة” ولكنه يعود فيؤكد حالة الخيال وحرية تجواله “وظل خيالى يجوب أرجاء الزمان الشامل للماضى والحاضر والمستقبل معا ثملا بخمر الحرية المطلقة” ص (113)، فالنتاج الطبيعى هنا لاطلاق مستويات الوعى معا هو حرية تمازج المحتوى فى لعب وحضور وتنقل سهل خطر فى آن: وعلى ذلك نمسك بمفردات المجموعة من الأول:
– ونحن نرى تداخل المستويات فى “العين والساعة” وفى “من فضلك واحسانك” وفى “الليلة المباركة” حتى “رأيت فيما يرى النائم”، ولكننا قد نواجه الفصل القاطع بين مستوى وآخر مثلما فى “أهل الهوى” حيث يظل الماضى محظورا تحت وطأة تاريخ ارهاب ذئاب القبو.
وهنا يجدر بنا أن نعرج الى استطراد واجب: وهو توظيف محفوظ للحلم والجنون والسكر والمخدرات لتفكيك التركيب البشرى شبه الواحدى الى مكوناته المتعددة، فهو اذ يطلق سراح التعدد لا يترك الأمر فوضى بلا دلالة، بل يؤلف بين المستويات والمحتويات بشكل سلس وقادر، ويضيف بحدسه الى ما يجدر “بالعلم” أن يضعه جادا فى الاعتبار، ومثال ذلك تصويره لعالم العفاريت بأنها “وجود” يحل بثقل حقيقى، يكاد من دقة تصويره له أن نحس به ثقلا ماديا ملموسا وبذلك لا يعود العفريت هو ذلك الانشقاق المغترب الذى يأتى من بعيد، أو ذلك الرمز المجهول من عالم آخر، واما هو (العفريت “برجوان” مثلا) “وجود جديد، ثمرة للرغبة الحارة المستميتة، كحضور ذى وزن ملأ فراغ الخلوة بثقله غير المرئى” أهل الهوى ص (20) وفى نفس الوقت فهو يعلن طبيعة مثل هذا الوجود المتجسد اذ هى من تراكيب الداخل أساسا “وشع نور فى الباطن فتجسد فى مثال” ص (110) العين والساعة.
ومحفوظ بذلك يتقدم خطوة تنويرية ليواجه مشكلة اغترابية طالما شقت الانسان واسقطت سائر مركباته الى خارجه، فما الجان أو العفريت أو الخيال الا “حضور” مقتحم، أو “حضور” بديل، أو حضور مجسد، لبعض تراكيب الداخل اذ تنطلق من اسار “وحدة” هشة.
– وفى “الليلة المباركة” تبدأ القصة باعلان الخمار عن حلمه، “بأن هدية ستسدى الى صاحب الحظ السعيد” ص (125)، يعلنها فى جو لا يعرف التحاور باللفظ العام الكلام المألوف، وانما يمارس التناجى “فى الباطن” والتحاور “بالنظرات”، وتمضى القصة كلها فى نقلات سريعة أقرب الى الصور منها الى السرد اللفظى أو التسلسل المنطقى، وهى لغة الحلم الغالبة حيث الحلم صور وحضور عيانى متلاحق ومكثف، قبل أن يكون رمزا ودلالة، ويتضح ذلك بشكل مباشر ومكرر فى سلسلة “رأيت فيما يرى النائم”.
خلاصة القول أن حدس نجيب محفوظ قد استطاع بشكل فائق أن يقتحم التركيب البشرى بنشاطه المتناوب واسقاطاته المجسمة، وأن ينسج من هذا وذاك رؤية قصصية لها وظيفتها التحريكية الكشفية: قبل وبعد محتواها الدلالى والرمزى، وهو فى هذا يواكب ويسبق المنظور التركيبى للذات البشرية، ويتجاوز المفهوم الدينامى التقليدى، كما يتجاوز أيضا – دون تخط أو تعسف – التركيز على المحتوى الرمزى لطبقات الشعور، وان كان نجيب محفوظ قد يذهب فى بعض أعماله الى المبالغة فى الرمزية لأسباب محلية ومرحلية تتعلق بحرية الفكر فى مرحلة تطورنا الحالى، فان استعماله للرمز فى هذه المجموعة كان له طابعه الخاص، وحدوده الجديدة.
سادسا: دور الرمز ومحدوديته
اقتحم نجيب محفوظ فى هذا العمل مستويات الوعى الأخرى حتى تبينت له معالمها “كما هى” لا كما تشير اليه أو تدل عليه فقط، ولكن القارئ لا يستطيع بسهولة أن يخلص نفسه من التقاط الاشارات الدالة على رموز شائعة فى كتابات محفوظ السابقة بصفة عامة، وتلاحقنا هذه الدلالات سواء قصد اليها محفوظ واعيا، أو فرضت نفسها عليه فى أثناء ابداعه وهو يكشف الغطاء عن طبقات الوعى الأخرى، وقد ترجع بعضها أو جميعها الى اسقاطات القارئ نفسه ناقدا كان أو متلقيا عاديا.
ولنبدأ بالقصة الأولى كمثال وتحد معا:
فالمغزى المباشر يقول أن القبو هو الرحم، وأن السائر على اربع هو الطفل، وأن المسيرة كلها هى الحياة الفردية المحدودة، وأن النهاية هى كفن أسود “متلفعا فى عباءته السوداء” ص (45) وقد أوتى الكتاب بشماله “حاملا بيسراه حقيبة متوسطة الحجم” ص (45)، وبالتالى تكون نعمة الله الفنجرى هى الدنيا (15)، وتكون علاقة عبد الله بنعمة الله هى علاقة الامتحان الذى ابتلى به ابن آدم (ابن ناس) وهو يغترف من اغراءات الحياة الدنيا، ويفشل عبد الله نتيجة انسياقه الى التمادى فى الطبقة السطحية من اللذة الواعدة بالخلود الزائف، وكذلك نتيجة لتاريخ قاهر غاب عنه مع ما غاب من ذاكرته، ولكن:
ما علاقة “الدنيا اللذة” بذئاب القبو؟ وما علاقتها بالعفاريت؟ وما علاقتها بمستويات الغرائز؟ ان الاجابة على هذه الأسئلة تمنعنا من القفز الى اختزال رمزى مسطح.
ومع ذلك، فالدنيا (نعمة الله الفنجرى) تستعمل عذوبة الفطرة وقوتها للأغراض الأدنى دون فرص التنمية الأعقد، والدين للتخويف والتطويع “الفتى يساق كل عصر لتلقى دروس الدين” ص (14)، “المهم أن تعلمه كيف يخاف” ص (14)، وبدا يناسب مقاس الدنيا لا أطول ولا أقصر، والدنيا تستعمل الغريزة فى عملية ترويض وسلب نكوصى، ولا تطلقها فى عمليات التطوير والتكامل، وبذا تصبح الفطرة “براءة عمياء” وتصبح الغريزة زوابع تنحنى لها ثم تركبها، ثم هى تستعمل الذكاء (السحر) لتسيطر على العدوان لصالح اغراضها.
فالعدوان فى الظلام ذئب كاسر، ومع ذلك فهو تحت رحمتهان على ان ثمة عدوانا آخر تخاف منه، وهو عدوان الفطرة الزوبعة التى لا تخاف ولا تروض الا بالقمع بدروس الدين (وليس بالدين) وبالانهاك الجنسى وليس الارتواء الجنسى، ثم هى فى النهاية “تعشق حتى الموت، وعشقها لا دواء له” ص (19) فهى العشق الموت أو هى الموت.
ورغم كل ذلك، فانى لست راض عن هذا الاستعمال الرمزى، او هذا التفسير الرمزى، وكلما وجدت حلقة منقودة فى التسلسل، أو ثغرة ضعيفة فى التفسير، زاد أملى فى أن أكون مخطئا وأن تتخطانى المسألة برمتها دون تفسير.
وقد يظهر الرمز جزئيا بشكل متواضع فى لمحة عابرة مثل رؤية عبد الفتاح “صورته على ضوء البطارية الخافت جسما بلا راس” ص (65) ثم بحثه عنه داخل الدولاب ورؤيته “بدله المعلقة مشتبكة فى معركة بالأيدى والأرجل” ص (66) بما يكاد يشير مباشرة الى ذهاب وحدة العقل بالتفكك الى وحداته الأولية (ذواته) المتصارعة المتشابكة بلا رئيس أو رأس منظم.
وكذلك ما ذهب اليه وأعلنه من ترادف بين “فقد البيت” وفقد العقل “افقدت بيتى أم فقدت عقلى” ص (127) مما يحمل جرعة زائدة من “المباشرة”.
لكن الالحاح على الرمز بقدر مفرط من المباشرة قد يصل الى صورة مرفوضة حتما (16)مثلما أوضحت أضعف قصص المجموعة “قسمتى ونصيبى”، فشتان بين الصورة الرمزية لهذا الانقسام فى الفكر والعقل دون بقية الجسد، وبين التعدد الذى ظهر فى “العين والساعة”، وبدرجة أقل فى “الليلة المباركة” أو “رأيت فيما يرى النائم”، لكن من الجدير أن نحترم قدرة محفوظ على تنبيهنا – ولو برمز مباشر – الى طبيعة جديدة لانقسام الكيان البشرى، لا بين عقل وعاطفة، أو بين شر وخير، أو بين ضمير ومذنب، وانما جعلها بين طبع عملى انبساطى، “يفضل اللعب فوق السطح ومعاكسة السابلة والجيران” ص (92) وطبع انطوائى مفكر يحب أكثر فأكثر “مزيدا من القراءة والاطلاع”، ويبدو أن تأثر محفوظ بيونج (17) فى هذه القصة كان له وضع خاص، فقد رفض التوحد بالذوبان “ذوبان أحدكما فى الأخر مرفوض” ص (94) واجتهد فى محاولة الى “الوفاق” بالحب بين النصفين وكأنه يعنى تسوية ما، ولكنه لم يشر الى الأمل الأبعد فى تكامل ولا فى بالتفرد individuation وجعل القصة تستمر على أنهما “نصفان” وليسا وجهين أو تنظيمين أو بنيتين “فعاش كل منهما نصف حياة، وتعلق بنصف أمل” ص (103)، وهذا أيضا من آثار تجزئ الذات الى أبعاضها دون النظر فى عمقها التركيبى فى شكل ذوات (وليست أجزاء أو أنصاف) متكاثقة متداخلة (الأمر الذى نجح فى غير هذه القصة نجاحا بلا نظير)، وبتقدم التباعد بين النصفين: يتحدد التنافر ويتعمق الشق النصفى حتى ينتهى الى استقطاب مضيع “نحن مختلفان تماما” “فانك أن اخترت الحكومة اخترت من فورى المعارضة والعكس بالعكس” ص (102).
وتمضى القصة لتعلن أن القضاء على أحدهما بالالغاء “الموت فالتحنيط” هو الكبت الغائر “موطن الحقيقة الباكية” ص (103) فهو سيعيق النصف الحى الباقى ويهدده فيعيش “تحت سماء ماجت بالغبار فلا زرقة ولا سحب ولا نجوم” ص (104) لا يفعل شيئا – مهما فعل – الا أن ينتظر الموت.
الرمزية هنا صارخة حتى لو جددت فى امكانات الاستقطاب، والمباشرة مزعجة لأنه يبدو أن الوصاية الثقافية قد ثقلت بوزنها على الحدس الفنى، ولعل نجيب محفوظ – مع ذلك – فى حفاظه على واحدية النصف الأسفل بما يحمل من جنس كان قد تجاوز فرويد، مثلما تجاوزه يونج، وان كان فى نهاية الأمر قد أضعف – بشكل ما – ما أرادته الرمزية القحة من القصة، لأن النشاط الجنسى – عندى – مرتبط نوعا وكما باختلاف البنية المقابلة للتعدد داخل الكيان البشرى، فالجنس ليس مجرد آلة منفذة تخدم الفكر السائد، بل هو جزء لا يتجزأ من البنية “الفكرية الدوافعية الجنسية فى آن” والتعدد الذواتى – كما أشرنا – يتضح فى هذه المجموعة، وهو ليس غائبا عن محفوظ ولا هو ثانوى، ففى العين والساعة ظهر جليا وقد أشرنا الى ذلك قبلا، وفى رأيت فيما يرى النائم يظهر فى حلم 6 مباشرة “ودق الباب دقا متتابعا، ففتحته، فخيل الى أنى أنظر فى مرآة” ص (151)، وفى حلم 12 نرى التعدد فى شكل أرقى حيث كان من “جنس آخر” “صرخة أنثى فيما بدا لى” ص (164) أى أن الكيان الأنثوى فى الذكر استقل ثم واكب بعضهما البعض، فبعد حوار شديد القصر يشتركان فى نفس التهمة ويمضيان معا “كشهابين فى ظلمة الليل”.
– فاذا غامرنا بقراءة القصة الأخيرة – أيضا – من بعد رمزى باعتبارها – مرة أخرى – مسيرة الحياة وقد تلاحقت فى صور مرئية فى نسيج هذا الابداع المتميز لأمكننا القول دون جزم:
1- تبدأ القصة من أحب نقط بدايات محفوظ اليه “الظلام المحيط” (قارن مثلا ظلام القبو فى أهل الهوى) “ولكن وعيى يرافق الظلام المحيط” ص (141) الحلم الأول، وتنتهى غائصة فى جذب يأسه – تحت مظلة سوداء (قارن العباءة السوداء: أهل الهوى) – “اننى جالس تحت مظلة سوداء” ص (172)، الحلم الأخير.
2- وهى تبدأ أيضا “شدتنى بخيوط خفيفة ومضت نحو الخارج” ص (141) الحلم الأول و“واننى لن أحيد عن التطلع الى الأمام” ص (142) نفس الحلم، “ليس معى من الحوافز الا الظمأ والشوق” (18) ص (142) (كل ذلك يكاد يترجم مباشرة الى ما يقابله فى الولادة بيولوجيا ونفسيا – وتنتهى الى “أتسلى بمشاهدة صندوق الدنيا” ص (172) الحلم الأخير، ثم “وأقبلت أنزع الأوسمة والهدايا من أركان جسدى” ص (173) نفس الحلم، وذلك استعدادا لانتظار الزائر الهام، ثم اذا به هو الذى “يشق نفسه طريقا الى الخارج وقد خف وزنه دون حاجة الى خدمات الزائر، ليرتفع فى الفضاء بسرعة متصاعدة، فينعتق الى هناك حيث الوعد بمسرات تعجز عن وصفها الكلمات” – ص (173) وما بين هذه الولادة العنيفة والموت المنتظر (فى انتظار ملك الموت عزرائيل بهدوء مستسلم) ثم الموت الاختيارى (19) أقول ما بين هذا الحلم الأول والحلم الأخير تمضى الحياة فى أطوارها شبه المعروفة والتى التقطها الحدس الفنى وأضاف اليها، فنجد الحلم الثانى وهو يعلن “المواجهة”، وجها لوجه أمام أرض الواقع بتضخمها المتعملق وانفجارها المبهر، وارعابها دون التخلى، حتى الاستسلام لحوذتها “عدوت منها ولكنى عدوت فى مجالها وحضنها” ص (143)، وتدور نفس الدوائر شبه مغلقة، ولكن فى حركة مرنة تذكرنا برحلة الداخل والخارج “فلا منفذ للهرب، ولا صبر على التوقف والاستسلام” (20)ص (143) وهو فى هذا الاستسلام مثله مثل غيره ممن يعدون “وتبين لى أنى لست الوحيد فى المأزق، وأن ملايين يلهثون من العدو” ص (143) ولا يخفف من بعض ذلك الا الأمل فى بعض الترويح الجماعى الفنى ولكن: “هل يطيب الغناء والمطرب يتخبط فى القبضة”، ومع انعدام الغناء الجماعى (حيث كل يغنى على ليلاه) فقد بدت بداية الرحلة خليطا من الوحشية والجمال، وهذه لمسة أخرى تعلن روعة التناقض الواقعى الداعى لمكونات ولاف التكامل.
حلم 3: ولا يمكن ألا يتحرك الموقف من هذا المأزق شبه الدائرى (مادامت الحياة تسير واذا بالانشقاق الأولى يتم كمحصلة لحركة التقدم والتأخر (آفة الحب الحياء)، ويخطو النمو من الموقف الاكتئابى الناتج عن آلم ضرورة اختراق الواقع، الى العلاقة السطحية بالآخر التى تخفف من حدة الآلام قليلا أو مؤقتا، فمع اللقاء الودى لرفيق الصبا يذهب الحزن مؤقتا، ليبدأ الامتحان الأكبر والتخبط المعرفى (الذى سبق الاشارة اليه فى هذه الدراسة، ومع كل جرعة معرفة تطل الأحزان.
حلم 4: ولا يمكن تحمل جرعة المعرفة دفعة واحدة، فنهرب الى التخدير والثرثرة (فوق النيل والتاريخ) (21)، وحين تنتهى الثرثرة – بعد تبين أن كل شئ قديم معاد، “جميع الشكاوى مسجلة على حجر رشيد” ص (147) تلوح آمال الثراء كبديل اغترابى آخر.
حلم 5: ويتأرجح البندول من أقصى المثال والزهد، الى أقصى البهلوانية والبحث عن دراهم تحت سحابة متحركة، والممثل “الانسان” واحد فى الحالين، والنهاية هى “الركض من” وكذلك “الركض الى” “هدف ما” .. فيما بعد الرؤية.
حلم 6: وفى المواجهة التالية (22) مع الشق الأخر، تبدأ محنة محاولة معرفة الماضى (التاريخ الفردى أو الجمعى أو كليهماك قارن بوجه خاص: أهل الهوى)، ويتجسد هذا التاريخ فى ما هو الذات الأخرى وقد تعرت، لتطل أشباح الجريمة الأولى، ولا ينقذ من التفكير (والمواجهة) الا مواصلة “الجرى معا” فيما يشبه التسوية التسكينية، فيختفى الزمن اذ تغلق الدائرة بالركض “محلك سر”، “فلا يوجد ليل ولا نهار، ولكن يوجد الهواء والركض” ص (153)، ويستمر العدو بالقصور الذاتى حتى بعد اختفاء “الآخر” (23) المبرر للركض الواعد بالنجاة (سواء كان هذا الآخر ذاتا داخلية أم أملا خارجيا وهما واحد): اغتراب آخر بتسوية فاشلة معوقة للنمو.
حلم 7: ويظهر مهرب “فنى” أرقى من الغناء المتعذر ونحن نتخبط فى القبضة (حلم 2) وأكثر اغراء من “الركض” معا فى دائرة مغلقةن فيمضى “الانسان” يفرط فى الاهتمام بالطبيعة وشذاها أكثر من نتاجها اللاهث الغارق فى الجمع والتكدس، ومع الالتحام الكامل بالطبيعة فى صورة فنية بديعة ينعتق المطارد (بفتح الراء) – ولو مرحليا – بتوحد نكوصى ناجح.
حلم 8: ولكن هذا الحل لا يحتمل الاستمرار، لأنه يستحيل على الانسان أن يحل مشكلة وجوده بأن يرتد “غصنا” متنازلا عن بشريته الرائعة رغم تركيبها المتكاثف المعقد، فهو يدفع الثمن بمزيد من تنازله عن ذاته فى امعية بشعة تسير فى زفة كل سلطان فتجعله نهبا للأحوال بلا حول، ورغم أنه يدرك “بالحمق” (والتبعية) (ص 156 ، 158) ما لم يدركه بغيره، فان العمى يطيب له مثله مثل الآخرين (زاوية العميان – ص 157).
حلم 9: ومع تقدم العمر تبدأ العزلة تلبس ثوب الحكمة (المدينة خالية، وكليلة ودمنة دستور المرحلة، ويتولد منها نوع من التسليم الايجابى) “فما أبالى أطال الليل أم قصرا” ص (160)، ولكنه ليس بحلن فالتعاسة قديمة، ولكن: ليرفل – ولو مؤقتا – فى فندق “الرضا”.
حلم 10: وتعلن العزلة وتحتد فى صحراء لا يحدها الأفق، ومع زيادتها يتدفق الوعى بتاريخ مماثل، فاذا بأسير آخر للوحدة يعلن وجوده “أنا الخلاء”، ومع زيادة المعرفة الخاصة (سيدنا الخضر) تزداد الوحدة ظهورا وخاصة فى مواجهة الأغراب، فيدرك الهارب اليها الا صبر عليها.
حلم 11: ويتراجع الحل المغرىن الحل بالحكمة فالرضا فالوحدة والعزلة، ورغم عدم تبين الغاية المرجوة تبرق لحظة خاطفة كأنها القبلة (بكسر القاف) الهادية (24) المنيرة، ولكن سرعان ما تنطفئ بهجتها (25) لتترك وراءها الحزن الحتمى، ولكن يظهر وسط الانخداع اليائس بريق أمل “ما”.
حلم 12: ولا يرجى تحقيق هذا الأمل الا ببحث جديد “فى الماضى” (هكذا دائما!) فتظهر أوهام وشائعات التهمة الموجهة لوجودنا (الفاكهة المحرمة – المعرفة الخطرة – قتل الأخ (الآخر) – قتل الرب: المسيح – الانفصال عن الكون.. مما يتواتر عبر تاريخ الانسان كما يتهم نفسه، وكما يستوعبه محفوظ تماما..) ليستمر السعى مسوقا بحفز الهرب الى الخلاص (وربما التكفير أو التطهير).
حلم 13: لم يظهر حتى الآن حل يشير الى أن المسيرة لابد أن تتجه الى ارساء علاقة “بآخر” مشارك (وليس كمثل رفيق الصبا المؤقت فى حلم 3 الذى يبدو صاحبا من الداخل)، الآمر الذى يستلزم استخدام وظيفة الجنس فى الحفز الى المخاطرة، وبمجرد أن يطرح هذا الامر فانه يفشل حين تتركز العلاقة الجنسية فيما يشبه الأوهام الأوديبية ثم يتمخض الجنس تدريجيا عن التهام المرآه (الام) جزءا جزءا ولا يبقى الا لسانها يعلن سبب فنائها: الهرب من “الوحدة” بلا نجاح والسعى الى “الحنان” بلا تحقيق – قضية الأزل – “متى سمعت هذه العبارة؟” ص (166).
حلم 14: ومرة أخرى، وبعد أن تلتهم المرأة عضوا عضوا بما تمثله من أمومة وجنس معا، (الا لسانها)، تعود دورة النمو للنشاط اذ تدب الحياة شابة من جديد، فيواصل الشاب السعى وهو يتبع “نفسه” فى أمل متجدد ولكن – مرة أخرى – سرعان ما يخبو من الانهاك والاغتراب، ومع ذلكن فاليأس لا يحل كاملا اذ مازال “هاتف الغيب يبشر بالعزاء” ص (168).
حلم 15: ثم سعى جديد، ولكنه سعى مباشر الى معرفة “أخرى” تجمع بين الحكمة والرؤيا والحدس الأعمق، ولكن الكشف المعرفى يصدر من عالم آخر: قديم حكيم، وكأنه الحل الدينى والصوفى يتم على حساب الذات المحدودة، بل على حساب الارادة، فالجريمة الأولى تبدو وكأنها بلا غفران الا باعلان الاستسلام لقوة مجهولة، أو معرفة غامضة، أو تأثير قهرى.
حلم 16:ولا تعود الذات الى حدودها الضيقة بعد هذه الجرعات من الرؤية والتفتح – رغم المضاعفات – بل تنطلق لتتفتح آفاق جديدة نحو قوة خارقة وخلود “ما” (26)، ففتوجه المسيرة نحة الآخرين، لكنها لا تلبث – كالعادة – أن تنهك فترتد الى الذات المحدودة “سعادتى الشخصية” (المستحيلة ما دام ثمة آخرون)، ويلزم الصراع فتبدأ المطاردة لتختفى القوة ولا يبقى الا الجسد منهكا بين أيدى المطاردين، ولكن: لا يختفى الأمل رغم كل شئ.
حلم 17: وأخيرا تأتى النهاية بالموت الاستسلامى شبه الارادى (كما ذكرنا ص 126)، ولا يطرح أصلا احتمال التكامل فلاخلود، ويظل الأمل فيما بعد فى “مسرات”، وليس فى تناسق الكمال”.
وبعد:
فلابد من اعتذار بلا حدود عن محاولة تعرية هذا العمل العظيم على هذه الصورة المختزلة، كذلك لابد من تكرار اعتراف مبدئى باحتمال الخطأ، ويظل النص الفنى هة الأصل الصادق “حتى لو صح التأويل وليس بسبب صدق التأويل”، وأن كان لنا أن نضيف كلمة اخيرة هى تتعلق بما وصلنا من غلبة اليأس على هذه المجموعة رغم اصرار الأمل، وما طرحته القصة الرؤية من أمل المسرات النهائى رغم أن المسيرة الحيوية ليست دائما نحو السرور، وأنما هى أساساً نحو التكامل، ومع تسليمنا المؤقت بنتاج الوحدة والامهاك من تراوح ما بين اسستسلام اليأس وخدر السرور لا يجدر بنا أن نستبعد الكاتب والناقد من نفس المصير، ولكن أيضا لا يجدر أن نستلم له، بل ولا نستطيع ذلك بعد كل هذا التحريك.
سابعا: بعض رؤوس مواضيع: “غير ما فات”
كالعادة: لابد من ايقاف، ولا مفر من أشارة الى ما لم تنتاوله هذه القراءة من ملاحظات جديرة بالدراسة والنظر، وخاصة فيما ترتبط به من أعمال نجيب محفوظ الأخرى، ولا يسعنى الا أن أكتفى باشارات محدودة الى بعض رؤوس المواضيع “الأخرى” التى استرعت انتباهى دون توقف لحصرها والتعليق عليها، آملا أن أرجع إليها، أو داعيا غيرى لتناولها، اذ شعرت أنى أنتفض العمل بشكل ما مالم أعلنها:
1- النقلات والتغير النوعى:
يتميز ادب نجيب محفوظ، المتأخر نوعا، ربما بدءا بالحرافيش: بايضاح ظاهرة هامة جديرة بالنظر، ألا وهى “نقلاته النوعية المتغيرة الاتجاه والمفاجئة” وهى من صفات مسيرة النمو النشطة، وهو أمر نفتقده فى كثير من الأعمال المبررة (بفتح الباء وتشديد الراء الأولى وفتحها) بأسبابها فى الماضى والمتأثرة بالحتمية السببية الفرويدية فى العادة (27)، وتلاحظ هذه النقلات عند نجيب محفوظ فى ظاهرتين الأولى: فى تكراره لعرض ووصف ما يمكن أن يسمى “إعادة التعرف” أو “تجديد الادراك” (28)، والثانية: فى وصفه لتلك الطفرات المفاجئة إلى أعلى أو الى أدنى، وما يعقبها من تغير، وأورد هنا بضعة أمثلة لتوضيح ذلك دون تعليق:
(أ) ص 23: لكنه وجد نفسه راقدا فى حضن الفتور الجليل: يرى الأشياء لأول مرة.
( أهل الهوى)
(ب) ص 27: بدا كل شئ بالقياس اليه – بخلاف المرأة – كأنما يحدث هكذا لأول مرة فى تاريخ البشر:
( أهل الهوى)
(جـ) ص 46: ورغم ارهاقه كان يرى ما تقع عليه عيناه بوضوح شديد فكأنه يراه لأول مرة، فمازج نفوره حنين غامض.
( أهل الهوى)
(د) ص 65: ومن خلال تجربة طارئة: التحم بأثاث حجرته التحاما غريبا جنونيا .. وكأنه يكشف لأول مرة الفراش الخشبى ذا اللون البنى.
( من فضلك واحسانك)
(و) ص 109: ولكن الحياة كلها تجمعت أمام عينى فى التماعة خاطفة مثل كرة من نور منطلقة بسرعة كونية.
( العين والساعة)
(ز) ص 126: وخيل اليه أن أشبح البيت يتبدى فى صورة جديدة.
( الليلة المباركة)
(ملاحظة: لم استشهد بالتغيير النوعى الذى تكرر طوال أحلام “رايت فيما يرى النائم” لأنه من طبيعة تنقلات الحلم وتبديل لقطاته وصوره).
2- العرى والتعرى:
يستعمل نجيب محفوظ عامة، وفى هذه المجموعة خاصة، ظاهرة العرى والتعرى بتواتر يحتاج إلى تأمل فدراسة، وهو لا يقف عند دلالة واحدة بل قد يشير بذلك الى المعرفة الأخرى أو الفطرة أو النكوص أو كشف الداخل أو غير ذلك، وايضا سأكتفى بالعينات تعليق:
(أ) ص 5: بدا عاريا تماما.
( أهل الهوى)
(ب) ص 8: المؤكد أن الذئاب هجموا عليه فضربوه وجردوه من كل شئ
( أهل الهوى)
(جـ) ص 137: ومضت الوطأة فى صعود فنزع جاكتته وبنطلونه وطرحهما ارضا، ولك يجدث ذلك اثرا يذكر، فتخلص من ملابسه الداخلية.
(الليلة المباركة)
(د) ص 151: فخيل الى أنى أنظر فى مرآه، أنه صورة طبق الأصل منى، إلا أنه عار تماما الا مما يستر العورة.
(الحلم 6: رأيت فيما يرى النائم)
(هـ) ص 166: فأعرضت عنى ومضت، ثم رجعت وهى تربت خد شاب شبه عار.
(حلم 13: رأيت فيما يرى ..)
3- العدو والاتهام والمطاردة:
الشائع – حتى علميا – أن المطاردة والاتهام والاضطهاد هى مظاهر ومشاعر مرفوضة أساسا، الا أن النظر الى هذه الظواهر من عمق آخر يرى فيها أنها “أعلان وجود” بكل ما (29)، فالحاجة للآخر التى لا تتحقق بالحب والمواكبة قد تعلن بالفر والمطاردة، والمطاردة تحمل عناصر الشوفان (من آخر) وأهمية المطارد (بفتح الراء) فضلا عن أثبات القدرة على التقدم ولو هربا، كما أنها تلوح – بشكل ما – بأمل الخلاص، ويبدو أن نجيب محفوظ قد أدرك كل ذلك وأكثر منه بحدسه الفنى اساسا، وهاكم بعض العينات:
(أ) ص 38: دار الحديث يوما عن هارب تبحث عنه الدولة لتشقنه.
(أهل الهوى)
(ب) ص 79: (تلقى “عبد الفتاح” المنشور بقلب خافق، لكن قلبه توقف عن الحقان عندما تيبن أنه لا علاقة له بعثه)
” ودار راسه فشعر بان اصبعا ستشير اليه بالاتهام”.
(من فضلك واحسانك)
(السياق هنا يلزم بتذكر أن عبد الفتاح كان يسعى سعيا إلى أن يطارد ويتهم (بضم الياء) طلبا لأهمية أو ذكر “ما”).
(جـ) ص 136: وأوسع الرجل خطاه، فطالت المسافة، فأسرع بدوره رغم سكره.
(الليلة المباركة)
(يستبدل بالمطاردة هنا من آخر،”الملاحقة” لآخر، والدلالة تتشابه من عمق معين، مع ملاحظة أن الملاحقة هنا كانت للذات الأخرى وليست لآخر حيث انتهت من تباعد فتقارب الى “غزو ثقل جديد ينقض على منكبيه” ص(137) وكأنهما اصبحا واحدا، ولكن باقحام مخل).
(د) ص 150: رأيتنى عقب ذلك وأنا اركض بسرعة فائقة، ولكنى لم أدر أأركض وراء هدف أريد أن أدركه من مطارد يرون القبض على.
(حلم 5: رأيت فيما …..)
(انظر كيف وصل حدس محفوظ الى ما ذهبنا اليه فى الفقرة السابقة من تكافؤ المطاردة والملاحقة).
(هـ) ص 151 ،152:” لولا مجيئك ما لحقتنى الشبهة”، ثم: “سنفكر فى ذلك ونحن نعدو” ثم:” أجر، أجر، ألا تشعر بفساد الغرفة؟” وأخيرا “لماذا لا اسمع اصوات من يطاردونا؟”
(لاحظ هنا كيف ينقلب الجرى” سويا”، الى مطاردة “ما”، ثم”تتلاشى”- ولولا الاكتفاء بالأمثلة دون التعليق لأشرت الى بعض معنى ذلك: تركيبا ذواتيا داخليا).
(و) ص 154: وفى لحظة مشرقة، استحلت غصنا فأفلت من مطاردة السمسار
(حلم 7: رأيت فيما يرى ..)
(لاحظ كيف تخلص من المطاردة بالالتحام بالطبيعة: نكوصا، ومع ذلك…).
(ز) ص 156: ” فسألتها بشدة: ماتهمتك؟” ” التهمة التى لا يبرا منها احد حتى أنت…”.
(اذا فثمة تهمة، ولا مفر من الهرب).
” فقبضت على يدها وأنهضتها، ثم انطلقنا معا كشهابين فى ظلمة الليل”.
(ح) ص 17: ولكن ما كاد يزايلنى القلق ترامى وقع اقدام ثقيلة تطاردنى، وهزئت بالمطاردة والمطاردين و”… لم يصع جسدى بأمرى، وتطايرت قوثتى فى الجو فوقعت فى يد المطاردين بلا حول”.
(حلم 16: رأيت فيما يرى ..)
***
4- الجنس والعدوان والجنون:
على غير عادة نجيب محفوظ، لم يطلق للعدوان سراحه فى السلوك الظاهر، فكاد ينعدم القتل الذى يكاد لا يخلو له عمل منه صراحة ومكررا،كذلك لم يظهر الجنس بشكله المحورى الوجودى وأن أطل فى خلفيات كثيرة، وحتى حينما ظهر صريحا فى “أهل الهوى” مثلا، فقد كان يعبر عن الاستغراق فى “الدينا” أكثر من وظيفته ودلالته المباشرة.
أما بالنسبة للجنون، فأن التفكك والتعدد قد حلا محله بشكل أو بآخر بحث نرى أن محفوظ يستعمل لفظ الجنون أكثر بشكل لغوى يعنى الافراط والمبالغة والغرابة (مثلا ص 25، 35) وهو يختلف عن العمق الذى يوظف فيه ظاهرة الجنون المبدع فى نسيجه الفنى فى أعمال أخرى (اللهم الا فى قصة من فضلك وأحسانك ص 65 ،66) فقد أحسن – هنا أيضا – عرض هذه الحبرة الجنونية التفككية المجددة (بكسر الدالين مع تشديد الأولى).
ثامنا: خاتمـة
بديهى أن ما تقدم ليس نقدا نفسيا بالمعنى الشائع، ولكنه قراءة خاصة بما هو أنا: بما فى ذلك معايشتى لما هو “نفسى”: معرفة منهجية، وذاتا معانية، وحرفة مشاركة، وهى قراءة أتعلم منها ما يضيف الى فكرى، ولا أفرض عليها ما سبق أن تعملته، والمحاولة مستمرة.
[1] – لا مفر من أن يقرأ القارئ هذه المجموعة برمتها قبل أو بعد قراءة هذه الدراسة ويا حبذا لو قرأها “قبل” و “بعد”، فإن تلخيص قصصها يشبه الاستحالة فضلا عن أنه لن يغنى فى مقام هذه الدراسة خاصة شيئا.
[2] – سوف أؤجل التناول المقارن الشمولى لأعماله المختلفة – ما أمكن ذلك – فى هذه المرحةل حتى أغطى بعض أعماله المستقلة واحدا واحدا، ويكفى الإشارة إلى فكرة العودة والتكرار فىموضوع: أولاد حارتنا ثم حكاية بلا بداية ولا نهاية أو غلى موضوعات الحارة والفتونة .. مما يحتاج إلى عودة مفصلة.
[3] – فرج أحمد فرج (1982) فصول – المجلد 2 عدد 4 ص 175 – 177.
[4] – وربما على أعمال غيرها كثيرة منذ “الطريق” و “الشحاذ” …
[5] – العجز هنا ليس سببا مباشرا لفتور الحب الشهوى، بل لعله إعلان لعجز هذا النوع المنشق من الحب عن أن يروى شبق الوجود المعرفى فى البحث عن الأصل والمصير.
[6] – ورد لفظ الآخر فى النص هكذا بين علامتى تنصيص، وربما كان ذلك يشير إلى دلالة التعميم الذى ذهبت إليه، أو إلى بعد تاريخى غائص يعنى الذات الأقدم المحتواه فى التركيب الأحدث والعاجزة – وحدها – عن هذه المغامرة قبل تطور الوعى المعرفى بالدرجة المناسبة.
[7] – يمثل نجيب محفوظ ما تعنيه “السببية الغائية” التى ينطلق الدفع فيها نحو غاية محددة بالتركيب وحركة التاريخ وليس بالأسباب التفصيلية وجزئيات المحتوى، ويمكن مناقضة هذا الموقف مع “السببية الحتمية” عند فتحى غانم حيث يغلب عليه الفكر الفرويدى المبرر للأحداث والمفسر لها بشكل ملح (راجع الإنسان والتطور عدد أكتوبر 1983) دراسة عن “الأفيال”.
[8] – لابد أن أذكر هنا ما أعنيه بالغريزة بالمعنى التركيبى (البنيوى) حيث أقصد بذلك “التركيب الجبلى – أساسا – المهيأ للبسط Unfolding، المندفع إليه تلقائيا فى وقت النضج المناسب وتحت الظرف الملائم، وهو يشمل طاقته فى طبيعة تنظيمه، ومع أنه عرضة للقمع والشجب إلا أنه متاح له فرص الإضافة والتكامل فى “الكل”، وإعادة التنظيم، وفى هذا يستوى الجنس والجوع والعدوان والدوافع للمعرفة، وهذا الأخير مرتبط بأول الدوافع الفطرية وهى ما أسميه: الحفز إلى التطلع Orientation.
[9] – يؤجل بعض الصوفية مشاهدة وجه الله تعالى (قمة الكشف المعرفى) إلى المرتبة الأعلى من الجزاء فىالآخرة، وما السعى فى الدنيا إلى ذلك إلا لمجرد ضبط الاتجاه لاطلبا للتحقيق العاجل.
[10] – تقربنا هذه الصورة – رغم اختلاف المنبع والمسار – إلى بعض ملامح المنهج الفينومينولوجى فى البحث.
[11] – اكتفيت هنا بالتركيز على ما يتعلق باطلاق غريزة المعرفة من خلال هذه الخبرة “الجنونية”، وقد أغلفت جوانب أخرى (للاحياء) أدت إلى الحوار بين الكتب والبدل داخل الدولاب، ومع صورته فى المرآة.. ةهذا كله مرتبط بما أعرض هنا إلا أن له مدخلا آخر ليس هذا مكانه.
[12] – بكسر اللام.
[13] – هذا المقام – فى رأينا – هو مقام الربط بين المعرفة والهم، ومن أبسطها “ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله” أو “يخلو من الهم أخلاهم من الفطن” وقد وصلت هذه المعرفة المزعجة عند المتنبى أحيانا قدرا من التعرية لاشك يعتبر صدمة للشائع وتحديا للاستسلام الغبى ومجلبة للهم مثل “تيقنت أن الموت ضرب من القتل” أو “هل الولد المحبوب الا تعلة، وهل خلوة الحسناء الا أذى البعل”… الخ.
[14] – يقابل ذلك مثلا فى الف ليلة وليلة: ان يكن حلما فما له يمتلئ به أكثر من اليقظة نفسها ص (16)
[15] – يذهب أحد علماء النفس (فرج أحمد فرج) الى أن القبو هو الرحم وأن البداية هى الطفولة، ولكنه يذهب – فى اصرار – الى ان المسألة كلها هى حكاية علاقة الرجل بالمرأة، فنعمة الله الفنجرى هى المرأة الأم المقابلة لتخيل الأم Phantasmere (جابرييل ريبان)، وأننا لسنا الا أمام “قصة حب” بالمعنى الأولى الشامل. (المرجع السابق ص 103).
[16] – شعرت بنفس درجة الرفض ازاء الرمز المباشر كما ورد فى آخر قصة قصيرة نشرها نجيب محفوظ فى ابداع (مايو 1983 العدد الخامس/السنة الأولى ص 4 -6) تحت عنوان “الفأر النرويجى”
[17] – كارل جوستاف يونج
[18] – بل أنه يشير اشارة مباشرة الى صدمة الانفصال العنيف عن جسد الأم بفعل ايقاع الحياة اللاهث “فصل بيننا قطار سريع طويل رج الأرض ومن عليها” ص (142)، وما يتبع هذه الصدمه من قلق وجودى حر يقابل الرج تماما.
[19] – قرار الموت هنا ليس ضربا من الانتحار وانما نهاية شبه ارادية لبرمجة فردية متعلقة بهدف ظاهر أو خفى، فهو اختيار تتوقف بعده الحياة اذ حققت أغراضها فى كيان بشرى بذاته.
[20] – فكرة رحلة الداخل والخارج التى قال بها “جانترب” Gun trip وغيره تشير الى أن مسيرة النمو ليست خطية مضطردة وانما هى نتاج محاولات متكررة لنكوص (الى الرحم)، متبادلة مع محاولات أنجح لاقتحام مؤلم للعالم الخارجى، فهى تظهر وكأنها ذهاب واياب مغلق، وفى الواقع – فى الأحوال الطبيعية – هى كذلك مع تغير موقع المحطات الى الأمام، والذى يحتم هذا التقدم هو مأزق اللاعودة (الى الرحم) ودفع الحركة الحيوية فى آن وهذا يكاد يكون الترجمة الاقرب لما أشار اليه محفوظ بحدسه أو علمه.
[21] – العلاقة بين هذا الحلم وبين “ثرثرة فوق النيل” علاقة مباشرة وخاصة مع الاشارة الى شطحات التاريخ “كما يفعل قدماء المصريين” حتى عم عبده، يبدو هو عم عبده خادم العوامة هناك.
[22] – يتم النمو كما يقول اوتورانك واريكسون وكاتب هذه الدراسة فى دورات مكررة مع فروق تفصيلية ونهايات متصاعدة، وبذا فان الانشقاق والتعتيم المرحليين يتبادلان مع المواجهة ومحاولة الولاف المرحليين أيضا… وهكذا.
[23] – قارن استمرار نصف الحياة (كالموت) بعد اختفاء قسمتى فى قصة “قسمتى ونصيبى” .
[24] – قارن هذه اللحظة باشراقة عمر الحمزاوى فى الشحاذ، ثم انطفائها
[25] – قارن ايضا مسار “التجرية الطارئة” فى “من فضلك واحسانك”
[26] – يمكن أن تقارن مثل ذلك – مع الفارق – جلال صاحب الجلالة فى الحرافيش
[27] – ضربنا قبل ذلك مثلا لمثل هذا بفتحى غانم واشرنا الى دراستنا للأفيال، ونضيف هنا أن نفس البعد غالب فى زينب والعرش،و فى الرجل الذى فقد ظله على حد سواء.
[28] – وهو أقرب ما يكون الى ما يسمى: تغير الذات ، أو تغير الواقعDepersonalization & Derealization
[29] – يمكن أن يكون هذا نفسه هو معنى ودلالة ضلالات الاضطهاد والمراقبة والاشارة Delusions of persecution and reference.