مجلة الإنسان والتطور
عدد اكتوبر 1983
تكوينات نثرية
د. ماهر شفيق فريد
التكوين الأول
أعمدة المعبد قائمة، فى جلالها الحجرى، كموسيقى متجمدة.
من القائل؟ تطوف بها أرواح الموتى – فى ماض مترب – مارة بين الفناء والرواق، متخبطة – كخفاش أعمى – على الجدران، لا تنثى رغم ذلك، باحثة عن قدس الأقداس. السعيد السعيد من وجده.
تتنقل روحه بين هذه الأعمدة، تعانق المعنى الذى فاض من روح الانسان فنا ودينا وحضارة. هاهنا يلتقى الخالق والمخلوق، يتقاطع الزمن والأبدية، يتصالح العقل والمادة، ينحل الازدواج.
عند الفجر تستضئ الأعمدة بنور وليد، يذوب الظل فى الأركان، ونبدأ حياة النهار. لا جمران مقدس يسفر عن وجهه الآن – ذاك جزء من طقوس الليل – ومن ناحية النيل تهب نسمة طرية. فى الأفق شراع أبيض نحيل، اذ يمر القارب بين صخور جرانيتية، تعض فى الأرض راسخة، ويمر فوقها هواء الفجر الرطيب.
وفى وقدة الظهيرة تكتسب أعمدة المعبد حضورا أشد رسوخا منه فى أى وقت آخر. تلتحم الشمس مع الحجر فى عناق يبدو – لفرط اكتماله – أبديا، تطل عين ثابتة على الأرض لا تطرف، تسود روح النهار: الجلاء، والفهم، والانضباط. فى هذا الضياء العميم يلتمع الشراع الأبيض، وتستضئ الأمواج، ويسرى فيها دفء الشمس، وكأن حرارتها قد ذابت فى ذراتها، وانحلت اشعاعا ونورا.
عند الأصيل يأخذ المشهد فى التغير، على نحو بطئ ولكنه محسوس. النور تمتصه تدريجيا قوى الليل الزاحفة، والظل يسترد سلطانه، والعتمة تدب فى الأركان، كعنكبوت رقيق النسيج، يرتعش فى الهواء، اذ تحمل النسمات الوافدة رسالة من مكان بعيد..
اذ يبدأ الظلام فى احتواء المعبد، تختفى تيجان الأعمدة، يفرز الليل روحه سرا وصمتا ونجوى. من الأفق الغربى تأتى نسمة باردة، والصحراء الممتدة الى آخر المسافات تستنيم أيضا لسحر الليل، تستعد لاستقبال الشبكة الفضية التى يرميها عليها القمر، ياسرها برقيته؛ والصمت تقطعه – لمدة ثانية – صيحة طائر ليلى متوحد، سرعان ما يمر، فلا يعود يعكره – من بعد – سوى طنين جندب رتيب، يلوح – لفرط رتابته – جزءا من الصمت.
أعمدة المعبد – اذ يتعاقب عليها الليل والنهار – راسخة فى مكانها، هى هى، لا ينال منها دورات الزمن وايقاعات الفصول. النيل فى مجراه – منذ التأمت أفرعه السبعة – هوهو، لا يعنيه أن يرفع من فوقه شراع أو ينكس. الصخور الناشئة فى قاع النهر هى هى، تعودت على سماع خرير المياه، اذ تعلق أطرافها ثم ترتد معابثة لكى تتناثر رذاذا. الصحراء – حيث مدينة الموتى – هى هى، سواء أشرق القمر أو غاب. من أين يجئ التغير اذن؟ ما المتحول فى قلب الثبات؟ انه الوعى، هذه الثغرة فى جسم الكون، هذه الدودة فى التفاحة، هذا النقص فى ماسة الطبيعة الكاملة.
التكون الثانى
يمر به القارب بين مستنقعات الدلتا فى وقت الأصيل، يلوح مجدافه فى يده تارة من وراء أعواد البوص، ويختفى تارة أخرى، والماء ضحل تتسايل ذراته برتابة على جدران القارب، وقد رقت النسمات الآتية من ناحية البحر، وأرهف الكون سمعه لموسيقى الغروب. قاربه – كأنما فى حلم – يعبر الأفق الى مأواه، ويلتمس الأخلاء الى السكينة.
هاهنا مملكة النبات المتكاتفة تبسط سلطانها، وتزحف على جوانب البحيرة، متشكلة على شكل أجمة هنا، وعقدة من الجذور هناك، تستدق نصالها حينا وتعرض أحيانا، كلوحة من عمل هنرى روسو. عالم النبات – على العكس من عالم الحجر – يعوزه تحدد الخط، ووضوح القطع. انه خداع، متنام، متكاثر، يزحف فى الزوايا والأركان، ويستمد وجوده من أعماق الماء، حيث الحياة الخفية ووحوش الأعماق، مادة الوجود الغفل، مادة محايدة لا تعرف عقلا، ولا تصميما، ولا غاية.
فى هذا السكون الناعس لا حاجة به الى أن يركز على ما يفعله، اذ يجدف. ليس فى البحيرة – التى يعرفها كظهر يده – مفاجآت ولا دوامات ولا مصدر للخطر. هى طبيعة نباتية بليدة، دأبها فى التكاثر عديم المعنى؛ وبعد قليل يجد ذاته قد رست على شاطئ البحيرة الآخر.
ينساب القارب بين أعواد البوص، يرتفع المجداف أو ينخفض، تختفى آخر اشعة الشمس بعد أن تركت على الأعواد ظلا أحمر، يستيقظ العقل أو يغفو، والرحلة مستمرة، كأنما نحو الأبدية، أن كان ثمة شئ بهذا الاسم.
يفتح عينيه من اغفاءة خفيفة ليجد الظلمة قد تكاثفت، والبرد يشتد، وأصوات البحر البعيدة تأتيه فى خفوت، ويده مستمرة – طوال الوقت – فى تحريك المجداف آليا، يتوق الى الوصول الى الشاطئ، اذ يغالب النعاس، وهذا التعب الذى يتفتر بجسمه.
يلوح له – نصف واع – ان أحراش الدلتا النباتية تغدو تدريجيا غابة استوائية متكاثفة، وان البحيرة تكتسب أبعاد البحر. ويشوقه أن يتتبع هذه التحولات، وأن يرحل الى بعد آخر، ولكنه يعرف أن هذه التهويمات سرعان ما تقترب من نهايتها، اذ تبطؤ مقدمة القارب، ويزداد الماء ضحالة، وينغرس المجداف فى الطين، ويدرك أنه بلغ غايته.
يشوقه – لمدة لحظة – أن يتخيل أن شيئا خارقا للمألوف حدث، أو واحة من الرعب قد لاحت فى صحراء من الملل، أن يكتشف – فجأة – أنه كان يقود القارب فى الاتجاه الخطأ، وأنه قد خرج – دون أن يدرى – الى عرض البحر. ينبطح على قاع القارب اذ يرى الأمواج العالية تتسايل من حوله، صاعدة به هابطة، يكلل ذؤابتها الزبد، وتيار تحتى قوى يدفع قاربه رغما عنه، وتصفعه الريح بالرذاذ، فلا يدرى – فى ظلمة الليل – من أين يأتى الخطر، ولا ماذا يقاوم، لأن كل ما حوله قد استحال عدوا، قوة أولية باطشة، تحطم وتمزق وتعول، تكسر هذا الوعى الانسانى الذى تقحم على جمودها، تعيده الى حالة التشيؤ التى انبثق منها بعد أجيال عديدة من التطور والمعاناة والطفرة.
لكن لا شئ من هذا يحدث، لا شئ – فى وعيه الغائم – يتوهج بلهب من الرعب الساطع، لا شئ سوى قارب صغير يعبر البحيرة – بين أعواد البوص – ومجدافه يظهر تارة ويختفى تارة أخرى، وخرير الماء رتيب رتيب.
انجلترا، جامعة كيل
9 يناير 1976