نشرت فى مجلة العربى الكويتى
عدد فبراير- 2002
قضية للمناقشة
أصول معالجة الأصول
ما حدود حريتنا فى التعامل مع الموروث الإبداعى للأسلاف؟ سؤال يبدو منصبّاً على حالة بعينها، لكنه بين يدى أستاذ فى الطب النفسى معروف بتمرّده على المسلمات الذهنية الشائعة، يكتسب ابعاداً مترامية.
من حق المفكر، بل من طبيعة الفكر، أن يتحوّل من موقف إلى موقف، ومن فكر إلى فكر،حتى لو تناقضت أفكار كل مرحلة مع لاحقتها، لكن من حق القارئ (والناقد، بداهة) أن يتابع مسار الفكر والمفكر ما أتيح له ذلك، حتى يتوقف عندما شاء من مراحل، أو يقارن أو يراجع (ما أمكن ذلك).
حول منتصف الأربعينيات، فى الرابعة عشرة من عمرى، كنت أتردد على منزل المحقق الأديب المفكر الراحل محمود محمد شاكر فى شارع السبق بمصر الجديدة، وكان بيته مفتوحا طوال أيام الأسبوع، حتى لمن هم فى سنى آنذاك، وليس فى يوم معين لندوة خاصة. صدر ايامها تحقيقه الأخير فى السيرة النبوية العاطرة، ولم أكن افهم ماذا يعنى تحقيق التراث ومدى مسئوليته، ومن هم أهله، وما هى أصوله والتزاماته، وما يترتب عليه، تعلمت منه ايامها أمرين مازلت أفتقدهما فى أغلب ما يتصادف أن أقوم به من تقييم أبحاث على أعلى مستوى لأعلى المناصب الأكاديمية:
الأمر الأول هو ضرورة الرجوع للأصل دون المقتطف حتى أطمئن إلى سياق المقتطف، وكان من ضمن ذلك أن نهانا أن يكون مصدر علمنا بديننا اساساً مبنيا على الرسائل المختصرة التى كانت تصدرها جماعة الإخوان المسلمين آنذاك، للشباب خاصة، والأمر الثانى: هو ضرورة الالتزام بالتأكد من حرفية النص وأمانة النقل قبل الحكم عليه أو النهل منه. وحين رحت أقرأ فى “إمتاع الأسماع”، كنت أتعجّب من دقة الهوامش وأمانة المقارنات، ومصداقية النقل من المصادر المتعددة للنص نفسه.
الاجتراء على النصوص:
حضرنى كل ذلك حين تجرأت للنظر فى بعض مواقف النفّرى، المرة تلو المرة، وكانت النسخة التى اعتمدت عليها هى الطبعة التى صدرت باللغتين العربية والإنجليزية من مكتبة المتنبى، والتى قام بمقابلتها على سبع نسخ: “بعناية وتصحيح واهتمام!!”، أرثر يوحنا أربرى. وحين قررت أن أكتب قراءتى لبعض هذه المواقف استلمهاما موازيا، أزعجنى، أيّما إزعاج، أمران: الأول: هو ما أعرفه وما لا أعرفه عن حقيقة هذا النص، متى قاله صاحبه؟ وكيف انتقل شفاهة؟ ومن الذى دوّنه؟ ومتى دوّنه؟ وكيف انتقل حتى حدثت هذه الاختلافات فى النسخ المختلفة؟ والثانى: هو ذاك التغيّر الهائل الذى يمكن أن يطرأ على نص موقف من مواقف النفّرى لمجرد تغيير التشكيل من فتحة إلى كسرة، أو بزيادة حرف جر، أو حتى بغياب نقطة يختلف معها المعنى (مثل تجاور، تجاوز، لاحظ الفرق!!) أو نقص حرف عطف، فكدت أعدل تماماً عن الاستمرار فى المحاولة، لكننى عدت إليها بعد أن قررت، أو انتبهت، أن قراءاتى لهذا النص هى “استلهام”، وليست تفسيرا، ومادام الأمر كذلك، فإن أى إشارة يمكن أن تكون مصدر استلهامى على مسئوليتى، دون أن يمس هذا الاستلهام النص الأصلى، فجعلت المتن الأساسى، دون الطبعات فى الهامش، هو مرجعى فى قراءاتى تلك.
فى الآونة الأخيرة (وقبل الأخيرة) استسهل الباحثون التطاول على النصوص، اجتزاء واختصاراً وحذفاً وتحويراً، قام بعضهم بذلك من خلال التقريب والاستعجال والسطحية، كما فعلها البعض الآخر من خلال التحيّز بالانتقاء المغرض، كذلك تجرأ كثير من الناشرين، بشكل تلقائى أو وقائى، على حذف كلمات أو فقرات، وأحياناً حذف فصول بأكلمها من نصوص قديمة، ثم حديثة، مرّة بحجة تجنّب خدش الحياء العام، وأخرى بحجة التحديث … إلخ. وإذا كانت المبرارت للناشرين هنا وهناك هى مبررات مادية أو شبه أخلاقية، فإن مبررات تلاميذ صاحب النص أو مريديه أو حتى أبنائه نم ظهره بدت أكثر حاجة إلى مناقشة ومراجعة.
حين يحذف، أو يحوّر، أحد تلاميذ مدرسة فكرية أفكار أستاذه باعتباره أدرى بما كان يعنيه أستاذه، أو حين يحذف ولد ما كتب والده باعتبار أنه أولى الناس بذلك، ينبغى أن نتوقف، وأن نحاسب.
اضرب لذلك مثلاً محدداً فى حوار جاد جرى بين عقلين مجتهدين بمناسبة إعادة نشر كتاب مهم، هما صديقان بالمعنى الكريم لحوار العقل عن بُعد، الأول ناقد متابع موسوعىّ أكاديمىّ لا يكف عن الاجتهاد وأمانة الشهادة وقرص الأذن أحياناً والثانى ناقد ومسئول عن صفحة ثقافية فى إحدى أهم الصحف العربية وأعرقها.
تحت عنوان ” وأين المذهب الوجودى؟” نبّه د. ماهر شفيق فريد إلى عدم أحقية أى شخص أن يحذف من عمل شخص آخر، أى كلمة، أو فقرة، أو صفحة، ناهيك عن فصل بأكمله، حتى لو كان هذا الشخص الحاذف هو “ابنه من صلبه” وقد ناقش د. فريد حجة خشبة الابن (سامى خشبة) باعتبار انه حذف هذا الفصل لأن المذهب الوجودى “قد اندثر تماماً .. إلخ” وقد أنهى مقاله “… بأنه كفانا كوارث الناشرين الذين يستبيحون لأنفسهم أن يعملوا أقلامهم فى نصوص نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس بالحذف والتغيير حفاظاً على الأخلاق الحميدة.. الخ”. وبين البداية والنهاية راح د. ماهر فريد يفنّد رأى الحاذف الابن، وهو يحاول أن يثبت له أن المذهب الوجودى لم يندثر بدليل كذا وكيت، وفلان وفلان، محلياً وعالمياً .. إلخ.
ثم أنه قد ألمح قرب النهاية إلى أنه حتى لو كان قد اندثر فلا يحق لأحد أن يحذف أى مذهب من تواريخ الفلسفة.
أصالة البكارة:
وصلتنى الصرخة واضحة تقول “ليس لمخلوق أيّا كان، وتحت أى ذريعة أن يحذف ما ليس هو كاتبه”، هذه الصرخة هى ما ينبغى الوقوف عندها حتى لو لم نتناول تفاصيل المحتوى.
من كثرة ما قرأت من تطوّر فكر بعض الروّاد، وصلت إلى قناعة تضيف إلى هذه الصيحة ما يلى:
“.. إن الحذف مرفوض أحياناً حتى من كاتب النص نفسه وهو على قيد الحياة، بمعنى أن أى رأى سمح صاحبه أن يرى النور ليقع فى وعى متلقّ ما، هو رأى لم يعد ملك صاحبه، حتى لو نسخه هو شخصياً وتبرّأ منه فى حياته، وأثبته ذلك فى طبعات أحدث مهرها باسمه، فإن عليه أن يترك الرأى الأول كما هو، ليصبح العمل الثانى تطوّراً يرصد إيجاباً أو سلباً.
إن المراحل الأولى للفكرة البديعة تكون أحيانا أكثر أصالة وأعمق اختراقاً حتى لو كانت أقل صقلاً وأضعف سنداًَ، ثم تأتى الكتابة اللاحقة فتعيد النظر فيها، وقد تضيف إليها وتحسن تربيتها، لكنها (الكتابة اللاحقة) أحياناً ما تمحو أصالتها وتسمح جدتها (جدة الكتابة البكر الأولى). ومن هنا أقول أنه ليس من حق الكاتب نفسه أن يحرم التاريخ من فحص محاولاته الأولى. عليه أن يتركها كما هى بين يدى من “يهمه الأمر”. هذا أمر يحتاج إلى أمثلة للتوضيح:
سيجموند فرويد كتب “المشروع” The project يفسر به السلوك البشرى من خلال تصوّره لعمل خلايا المخ وتربيطاتها، كان ذلك حين كان فرويد شابّاً أكاديمياً يبحث فى الباثولوجيا العصبية، ثم إنه بعد أن تحوّل إلى التحليل النفسى، تنكّر لهذا “المشروع” ورفض أن ينشره “على الكافة حتى نشر بعد موته، ثم بعد قرن من الزمان تبين – لى على الأقل – كيف سبق فرويد معظم ما توصّلت إليه العلوم العصبية الحديثة لتفسير السلوك البشرى من منظور عصبى بيولوجى، يستعمل الآن لإثبات هذا الفرض أحدث المناهج وأعقد التكنولوجيا.
إن الرواد، ومنهم درينى خشبة، قد لا يعلمون ما هو الأهم وما هو المهم فى إنجازاتهم، أنها مهمة النقاد والمؤرخين مادامت النصوص بين أيدينا تقرأ، وتعاد قراءتها مع كل إضافة لاحقة، أو منهج أحدث، أن سيجموند فرويد حين تصوّر أن “تفسير الأحلام” هو أعظم إنجازاته لم يكن محقاً، بل إن الرأى الغالب الآن، وهو ما أوفق عليه، أن هذا التفسير كان عملاً من أسخف شطحاته وأكثرها تعسّفا، خصوصاً إذا قيس بأعماله الأخرى التى لم يفرح بها فرويد كما تستحق (مثلاً: “ما بعد مبدأ اللذة” أو أفكاره عن “غريزة الموت” … إلخ).
مع الأسف، ومع كل احترامى لخشبة الابن، جاء رده على د. ماهر شفيق بعيداً عن أصل القضية، فقد حاول أن يثبت أن المذهب الوجودى لم يعد له وجود فعلاً، وهات يا أسماء اتهمها بأنها لم تتأثر بهذا المذهب أصلاً!! إن نفى التأثر بين عقلين بشريين يكاد يكون مستحيلاً لأن ذلك يتطلب أولاً: الإحاطة بكل ما كتب الأول وكل ما كتب الثانى، ثم ثانياً: تحديد مستوى التأثر والتأثير الذى ننفيه، ثم بعد ذلك يمكن النفى بصعوبة شديدة، أما إثبات تأثر عقل بآخر فى جزئية محدودة فهو أسهل وإن كان – غالباً – أكثر تجنّياً.
ثم ينتهى رد خشبة – مع الأسف مرة أخرى – بقوله: “… إننا بعد أن اندثر ذلك المناخ ( المناخ الذى يوحى أن المذهب الوجودى مذهب مهم) واندثر قبله ومعه المذهب نفسه، فإننا يمكننا أن نحذفه من أشهر المذاهب المسرحية دون أن نخسر الكثير!!!
دفاع عن الأخلاق:
إننا نخسر الكثير جداً بمثل ذلك، ونحن أعلم بما نخسر، قد يكون للابن أن يحذف ما شاء فى كتاب يقوم هو بتأليفه بعد والده لكن ليس من حق أحد حتى لو كان الكاتب أن يقترب من أمانة أودعها صاحبها دفتى كتاب له ثم رحل. إن جون ستيوارت مل ليس ملزما بما كتبه والده جيمس مل. إن ما نفرد بلويلر الابن كتب كتاباً فى الفصام حول الستينيات جاء مليئاً بالاختزالات والأرقام المهمة (وهى الطريقة التى شاعت فى الستينيات وما بعدها). لكن الكتاب جاء خالياً من الأصالة والعمق، وهو رغم اختلافه عن أبيه، لم يقترب من كتاب أبيه الذى كتبه سنة 1911 من منطلق فينومينولوجى عن الفصام أيضاً ومازال كتاب الأب هو المرجع الأعظم لفهم خلخة وتفسّخ الواحدية فى هذا المرض. وقد كان فضل بلوير الأب فى نفى صفة العته المبكر (الذى قال به كريبلين) عن الفصام فضلاً لا ينسى حيث ظل هذا النفى حتى الآن هو المبرر للحفاظ على الأمل فى شفاء هذا المرض مهما استفحل، لم يحذف بلويلر الابن حرفاً مما قاله بلوير الأب وكان لكا منهما فضله الخاص بطريقته.
إن محمد عبد القدوس- على تقواه وورعه- هو الذى يقاضى ناشر أعماله أبيه لأنه تجرأ وحذف ما حذف تحت زعم الحفاظ على أخلاق لم يحدد لنا تعريفه الخاص بها، وما أصعب الإشكال.
ليس من حقنا أن نحذف شيئاً مما قاله السلف، لكن من حقنا أن نعارضه وأن نصارعه، وأن ننفيه، وأن نكذبه، بأسمائنا نحن، دون المساس بما ذهبوا إليه صواباً كان أم خطأ.
هذا من حيث المبدأ: التدخل بالحذف أو بالإضافة مرفوض شكلاً، وبالتالى كما يعلمنا رجال القانون الأفاضل، لا يوجد مبرر للنظر فى الموضوع، إلا أن النظر فى الموضوع قد يزيد القضية وضوحاً، كما يزيد الرفض جدة، ذلك لأنه لو ثبت أن أسباب الحذف كانت ضعيفة أو خاطئة، إذن لزادت المسئولية، وتأكدت مشروعية الحذر والتنبيه، فعن الموضوع نقول:
إن المذهب الوجودى أشمل وأعمق من أن يحدهّ ما كتب عنه، وما سوف يكتب عنه، وهو مذهب يعاش أكثر مما ينظر فيه وحوله. هو مذهب أرحب وأعم من كل الأسماء التى اقترانت به، من أو سارتر حتى عبد الرحمن بدوى. وهو مذهب قليل الحظ فى أوطاننا خاصة، فقد شاع عند العامة أنه مرادف للإلحاد ، كما شاع عند بعض الخاصة أن سارتر هو أهم روادّه. إننى أواجه عمق وجذور هذا المذهب فى حوار مع مريض عقلى أمىّ لا يعرف القراءة والكتابة ونحاول معاً أن نتخلّق من خلال حوار المرض والعلاج، فنكتشف ما قال به هذا المذهب دون أن ندرى (المريض وأنا)، ثم إننى قد أقرأ لاحقا ما وجدناه (مريضى وأنا)، فى الكتب، وقد لا أجده، فأقول لنفسى إنه سيُكتب يوماً.
بل إننى واجهت قضايا هذا المذهب يوماً وأنا ألاعب فلاحاً عجوزا الدومينو ونحن نتكلم عن الموت، ونكتشف أن الوعى بالموت هو حافز الحياة، كما أن التهديد بالتفسّح فالعدم، هو ضام نحو الواحدية ONENESS والتوجه إلى وجه الحق الواحد الأحد.
استمرار النماء:
من الذى يستطيع أن ينفى أى وعى بشرى من “حضور” مبادئ هذا المذهب فى حركة نمائه؟ حتى اقتران هذا المذهب بمقولة شكسبير الشهيرة، على لسان هاملت “أكون أو لا أكون” هو استسهال يختزل جوهر هذا المذهب الذى يلزم من يريد أن يعيش كما كرمه الله، يلزمه أن: “يتخلق باستمرار” لتصبح القضية “أكون أو أصير”، وليست مجرد “أكون أو لا أكون”.
مرة أخرى: ليست هذه هى القضية. القضية الأساسية هى أنه ليس من حق أى مخلوق كائنا من كان، ناشراً، أو ابنا، أو مريدا، أو مفسرا، أن يحذف مما ترك لنا الراحلون حرفا تحت أى ذريعة.
حتى لو قيل إن النسخة الأولى محفوظة فى دار الكتب للباحثين فى التاريخ، فإن هذا ليس مبررا أن أقرن أسم مبدع راحل، بعمل ناقص، فيظهر فى صورة لم يقرها هو قبل رحيله.