نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس:15 -9-2016
السنة العاشرة
العدد: 3303
أصداء الأصداء:
الدراسة الجامعة (1)
الطفولة نبضٌ وتجدد باستمرار..”3″
تجاوز الأوديبية، ودوام الطفولة فينا، وجدل النمو
(7) تجاوز الأوديبية:
لا يخفى - بصفة عامة- كيف أن نجيب محفوظ يحمل لسيجموند فرويد قدرا مناسبا من الاحترام والاعتراف بالريادة، إلا أنه لم يُستدرج - مثل إحسان عبد القدوس مثلا – فيسمح للفكر التحليلى النفسى أن يأخذ دورا محددا أو مباشرا فى إبداعاته، بل إنه تناول فرويد فى “حارة العشاق” بشكل مباشر أكثر مما تأثر بفكره، ولعل أثر فرويد على إبداع نجيب محفوظ هو أنه سمح له أن يطلق نبض الجسد، ولغة الجنس بسلاسة حاضرة، وحيوية فياضة، لا أكثر.
أما علاقة شخوص محفوظ بالأم – عامة- فهى علاقة عظيمة الدلالة يمكن إرجاعها إلى علاقته شخصيا بأمه دون أن نقصرها على ذلك، والباحث من مدرسة التحليل النفسى عن أوديب فى أدب نجيب محفوظ لا بد أن يتعسف حتى يجده، اللهم إلا فى السراب، وقد أوضحتُ فى دراستى السابقة لهذه الرواية(1) كيف أن العلاقة فى السراب كانت بادئة من الأم إلى الإبن وليس العكس كما يزعم فرويد(4) وعلى الرغم من كل ذلك فيصعب أن نتكلم عن الطفل فى الأصداء دون أن نعرج إلى استقصاء الموقف الأوديبى: وفيها “أن العلاقة الاحتوائية فالجنسية الملتبسة تبدأ من الأم”.
فى فقرة ”المهمة” (90) لم يفصح صاحب الأصداء ولم ينف الموقف الأوديبى، ولم تكن العلاقة فى هذه الفقرة مع الأم – هذا إن كانت هناك علاقة أصلا- بل مع بديلة لها “الجارة”، وكان الأهم فى الفقرة هو ما ذهب الطفل لإحضاره، من الجارة (بديلة الأم)، وليس ما كان من تفريج الجارة له أرجاء بيتها حتى “مضى الوقت مثل نهرٍ جار”، ولم تختف أمه الحقيقية (الأصل) عن هذه الصورة للأم بل “كانت..ترد على خاطرى أحيانا فأتخيلها وهى تنتظر” أمـه الحقيقية، تنتظر ما ذهب لإحضاره، أم تنتظر ما لم يصرح به محفوظ؟ بل إنه من المحتمل أن انتظار الأم هكذا كان رفضا للموقف الأوديبى المحتمل وليس ترجيحا له.
وهكذا يبدو كم تكون قراءة هذه الفقرة -أوديبيا!! – تعسفا لا مبرر له.
لكن فى فقرة النهر (فقرة 97) تصرح العجوز التى التقى بها بعد فترة وهى تُذَكِّرُهُ بنفسها ” كنت أول تجربة لى وأنت تلميذ “و” لم يكن ينقصنا إلا خطوة!”، فإننا لا نستطيع – رغم حذق محفوظ فى التخفى- إلا أن يخطر ببالنا هذا الميل إلى الأم البديلة، لكن ليست كل علاقة بين صغير وكبيرة (سنا) هى أوديبية أصلا، فليس هنا ثَمَّ تنافس مع أب، وليست ثمة محرمات، وليس ثَمَّ عمًى عن طبيعة العلاقة.
وقبل ذلك، فى فقرة “المتسول”(36) أطلت إطلالة جنسية بين فتى فى العشرين وجارته – الرحبة السخية الأنوثة – فى الخمسين، ومع ذلك، لا يمكن اختزال هذه العلاقة إلى المستوى الأوديبى فحسب.
من كل ذلك نستطيع القول إن محفوظ الطفل فى الأصداء (وغالبا فى غير الأصداء) لم يركز بشكل مباشر أو غير مباشر على العلاقة الأوديبية ودورها فى نمو أو تشويه الطفل، وإن كان قد تناول العلاقات الأمومية الطفلية بكل عمق، كما تناول العلاقات الجسدية والعاطفية والجنسية بكل جسارة وإحاطة معا..
إن إصرارى على الفصل بين أسطورة أوديب وبين نمو الطفل ليس إنكارا مباشرا لعقدة أوديب، لكنه تأكيد على أبعاد أعمق وأرحب لمسار الطفل النامى، وهو إشارة إلى أن توجُّه بعض الرغبات الحيوية أو العاطفية أو الجنسية إلى الأقربين من الجنسين، أو إلى من هو أكبر سنا، لا يحتاج إلى كل هذه الأساطير شبه العلمية، بل إنى شعرت أن المغالاة وربما سوء الفهم أو سوء التأويل التى قرأ بهما فرويد أسطورة سوفكليس يمكن أن يكون حائلا دون فهم نمو الطفل بالمعنى الذى أردنا أن نقدمه فى هذه الدراسة، وبيان ذلك:
إنه ليس من المفروض ولا هو مطلوب أن ينتصر الطفل على والده بعد منافسة جنسية تمر بالتقمص حتى يستقل، أما أن ينتصر الوالد على الطفل، وهذا وارد فى أى صراع، فهو قادِرٌ على أن ينفيه أو ينبذه، حلا للموقف الأوديبى، إن المسار الأرجح الذى نتبناه، وهو ما أكده حضور الطفل فى الأصداء، هو أن الطفل يتطور فى طفرات، وأنه إذا تقمص الوالد فإن ذلك مرحلة مؤقتة سرعان ما يخلع بعدها هذا القميص من خلال اضطراد نموه، ليصبح كيانه الطفلى فى صورة الذات الطفلية المتفاعلة إثراءً للكيان الكلى وجزءا منه، وكل هذا لا يحتاج إلى تأويل أوديبى أو خصائى أو جنسى أصلا.
(8) إيجابية الهجران، وازدواجية النداء:
تنتهى فقرة “القبر الذهبي”(48) بأنه: “هنيئا لمن كانت نشأته فى بوتقة الهجران”. ومع أنه كان مناما، ومع أن النقش كان على قبر، ومع أن القبر كان ذهبيا، إلا أن العبارة لم تفقد معناها الدال، فمنظر القبر تحت أغصان شجرة سامقة مغطاة بالبلابل الشادية، لا يعلن الموت مهما أوحت الألفاظ، ومن منطلق ما تدعونا إليه الأصداء لإعادة النظر فى إشاعات التربية، فإن هذه الفقرة تشير إلى دور “الهجران الإيجابي” (إن صح التعبير) مع وفرة الرعاية وإحاطتها فى مقابل الحرمان النبــذى أو اللامبالى من جهة أخرى، وقد ذكرت فى الدراسة التشريحية كيف يزعم رهط من علماء النفس، وإلى درجة أقل علماء التربية، أو من يسيئون فهم هؤلاء وأولئك، كيف يزعمون أن:…..الهجران – خاصة فى الطفولة – كله شر، وأن “الطفولة السعيدة” هى القادرة أن توصلنا إلى “الصحة السعيدة” التى تحيطنا ونحن نرفل فى “مجتمع الرفاهية”، أى التى تتم بعيدا عن “بوتقة الهجران”، وكل هذا يضربه محفوظ فى جملة واحدة.
الواقع الذى نستلهمه من هذا الإعلان “هنيئا لمن كانت نشأته فى بوتقة الحرمان: هو أن الطفل ينشأ سويا نابضا بقدر ما تتناسب وتتبادل جرعات الهجران مع جرعات الرِّىّ والحنان، وأنه لا مفر من الممارسة المتصلة لحركية “الهجران فالإحاطة” وهى المقابل لما يسمى برنامج “الذهاب والعودة“In and out program والذى يشير إلى أن النمو لا يسير فى خط طولى، وإنما يضطرد فى بسط متناوب حين يمضى الطفل -والكائن الحى بصفة عامة – فى حركية نمائية لا تهدأ.
بوتقة الهجران تشير هنا إلى ما يصل وعى الطفل بأى درجة بما يفيد: التهديد بالانفصال، بالخروج من الرحم (الجسدى ثم النفسى)= بالخروج من الجنة الأولى، وكل هذا هو من آلام الولادة (ولادة الذات) وليس من واقع التهديد بالبتر (الخصي=عقدة الخصاء عند فرويد) هو مجرد ذراع فى حركية الدخول والخروج (= برنامج الذهاب والعودة).
أما الهجران السلبى المدمر لنشأة الطفل السليمة فهو أقرب إلى “محرقة” الحرمان” منه إلى “بوتقة الهجران” التى أشاد بها محفوظ هنا، وللتمييز فإن محرقة الحرمان يمكن أن تتمثل فى موقفين على طرفين متباعدين:
(ا) الأول: الإهمال برودا أو نبذا أو إنكارا.
(ب) الثانى: الحيلولة دون الانفصال عن الأصل (أى دون الولادة النفسية) تحت زعم فرط الرعاية حتى الاحتواء المُلْتِهَمْ، ومن ثم الحرمان من السير على طريق التفرد سعيا لمواصلة جدل الاستقلال المحاور.
الأصداء هنا، مثل كثير من أعمال محفوظ، تكشف ضرورة الحفاظ على أهمية الحرمان الإيجابى بشكل أو بآخر.
هذا الانفصال/ الاتصال النمائى ليس ضد الحنين إلى العودة، فهو (الانفصال) لا يحول دون الاحتفاظ بحق النداء الواعد بالتلاشى فى رحم كون أكبر، بل إنه يحفزه ويحافظ عليه طول الوقت، وهذا ما تعد به أغلب الأديان والرؤى التكاملية أو التصوفية، يظهر هذا فى الفقرتين التاليتين مباشرة بعنوان “الرسالة (49) ثم النداء (50).
فى فقرة الرسالة يجد كلمة واحدة فى الورقة الملقاة المطوية “تعال..ستجدنى كما تحب”، وهو يتلقى الدعوة على الرغم من أنها ليست موجهة إليه، فيستجيب بأن يــقبل على الدنيا “التى لا ينضب فيها معين الحب” ليتجاوز تردده فيبدأ إجراءاته ليكون له مدفن خاص فى هذه المدينة المترامية”، وهنا تصبح دعوة إلى اقتحام الدنيا الواعدة بالحب، وليست دعوة إلى النكوص إلى الرحم الواعد بالحماية دون الحياة، كما تتأكد مسيرة الإقدام بالاستعداد الراضى بالنهاية الطبيعية بديلا عن أوهام الخلود والتأجيل.
هذه الاستجابة للرسالة بالإقدام على الدنيا، وفى نفس الوقت: الرضى بالموت، هى النتاج الطبيعى للأثار الإيجابية التى يـكافأ بها من “نشأ فى بوتقة الهجران”، حيث قلنا فيما سبق من دراسة تشريحية : و”…..ظهر لنا المدفن وكأنه حقيقة الحكاية المتجددة، وليس مضجع الجثة النهاية”
أما فى الفقرة التالية “النداء” (50) فإن الدعوة تتجاوز الوعد بأنه “ستجدنى كما تحب” إلى “أترك كل شيء واتبعني”، وهى ليست دعوة لترك الدنيا والطرب ولا هى دعوة للعصيان، بل هى دعوة حوارية، وليست قهرا مفروضا وحتميا، حيث تنتهى الفقرة بـ “كلانا لم يعرف اليأس بعد”.
كل ذلك يؤكد أن الطفل (فالإنسان) لا يكف عن الحوار مع البدايات والنهايات أبدا، وأن “بوتقة الهجران” هى جزء لا يتجزأ من حيوية الجدل الحيوى، وأن نداء الدنيا التى “لا ينضب فيها معين الحب ” لا ينفصل عن نداء الموت الذى لا ينتهى معه جدل التحدى الواعد بتخليق الممكن فى أرض يقين النهاية.
فمزاعم وجوب الحب الدائم، وضرورة الرعاية المتصلة للأطفال، وحتم الاستجابة لهم طول الوقت، وتجنب حرمانهم، (قال ماذا؟) من متطلباتهم (التى لا نعرفها) كل هذه المزاعم تتعرى أمام هذاالإبداع المؤكـِّد على حـتمية الهجران، وعلى أهمية تلقى رسائل الحياة مع استيعاب نداء الموت فى آن واحد.
وبالنسبة للتأكيد على: أين يقع هذا من الطفولة، ومعرفتنا بها؟ فإن الإبداع الحقيقى ينبهنا إلى أن الطبيعة إنما تـلهم كل أم (و: أب) بهذه المسيرة الطبيعية لطفولة الإنسان ومتطلبات نمائه (التى لها ما يقابلها فى سائر الأحياء)، وأنه علينا أن نخفف من غلوائنا فى إسقاط ما نحتاجه نحن من رعاية ورفاهية على متطلبات الأطفال واحتياجاتهم.
وهكذا يمكن أن نستهدى بالإبداع الأصيل إلى تعديل خططنا التربوية بشكل أو بآخر.
(9) التأكيد على جدل النمو
من المناسب أن نتذكر كيف يقفز الموت (بصورتيه: السلبية والإيجابية) كلما اقتربنا من وعى الطفولة أو تعمقنا فى طزاجة الحركة، وأيضا كلما استبعدنا الاستسلام لليأس، وأرى أن ذلك تأكيد لهذا القانون الأساسى لجدل رحلة الحياة، يتضح ذلك بشكل يكاد يكون مباشرا فى فقرة (104) حيث تبدأ الفقرة هكذا: أحببت أول ما أحببت وأنا طفل، ولهوت بزمنى حتى لاح الموت فى الأفق، وفى مطلع الشباب عرفت الحب الخالد الذى يخلفه الحبيب الفانى.
فتأمل كيف يلهو الطفل بأمان فى رحاب التوجه إلى الموت الخاص: “لاح الموت فى الأفق”، ثم انظر كيف يتفجر الخلود بالحب من الأسى لفناء الحبيب، إلى أن تنتهى الفقرة بجدل متجدد يقول:
وتبين لى أن بينى وبين الموت عتابا، ولكننى مقضى على بالأمل.
فنلاحظ دقة التعبير ودلالته، وكيف أنه “مقضى عليه بالأمل”، وليس بالموت. ومتى يكون الواحد مقضى عليه بالأمل إلا أن يكون حوارا لا ينقطع، وجدلا يتخلق باستمرار؟
هنا يؤكد محفوظ من جديد أن الحياة -بدءا من الطفولة- هى الصراع المتصل نتيجة لــ”حتمية الأمل”
وهذا بعض ما نعنيه بما قصدنا إليه من تعبير “دوامية الطفولة”
(10) علاقة الطفولة بالـ “فطرة”
مثل كلمات “الحقيقة، و”السعادة”، والحرية” وغيرها، تلك الكلمات الكبيرة الرائعة الغامضة الضائعة الملتبسة، تطل علينا كلمة “الفطرة”، وهى كلمة تتردد كثيرا مع ذكر الطفولة والبراءة والبدائية (و البدئية)، كما تتردد مع ذكر “الإيمان” و”التلقائية” و”الطبيعة “كذلك، وكل هذا يضعنا فى حرج شديد ونحن نستعمل بعض هذه الكلمات لنصف هذا الجانب من الطفولة
فـفى حديثنا عن دوام نبض الطفولة نقترب أكثر من حيوية “الفطرة”، وهى ما يمكن أن نصيغها فى ترديد الصوفى البسيط: “ربى كما خلقتني”، وحين أحاول تعريف الفطرة شخصيا أجتهد قائلا: إنها “قوانين الحياة الحاضرة والمتخلقـة من جدل النمو وطفرات التطور”.
فأين يقع الطفل من كل هذا؟ وأين يقع دوام نبض الطفولة من كل هذا؟ وماذا تضيف الأصداء إلى مفهومنا هذا؟
إن ما نعنيه بدوام نبض الطفولة- كما أشرنا- هو ألا تختفى الطفولة لحساب ما بعدها من مراحل النمو، وإنما تظل نابضة داخل/ ومع / ومن / وبـ: كل مرحلة تالية، يتجلى هذا الفرض خاصة فى فقرة “سيدتى الحقيقة” (116) فمحفوظ يبدأها من سعيه المعرفى “فى منازل الحقيقة فى عصر الفطرة”، وهو يتدرج من طفل يرنو إلى المرأة وهى تقرفص أمام طشت الغسيل، ويداه تلعبان فى الماء، وعيناه تسترقان النظر، إلى طفله وهو يلهو فوق السطح فى الليالى البدرية ويمد يده فى الفضاء ليقبض على وجه القمر، إلى أن يخترق نظره (نظر الطفل) جدار القبر ليتعرف على ما وراءه بما يفاجئنا أنه ليس ظلاما ولا ترابا وإنما رفقة طيبة، ومنزل من منازل الحقيقة، يمتلئ بشغف حى لاشك أنه دافئ موقظ معا.
كل ذلك يحكيه الطفل المستمر مع محفوظ، ذلك الطفل الذى تجاوز البراءة الساذجة، وتداخل فى كل مرحلة نمو لاحقة، إذ راح يترجح متعبدا مستكشفا ما بين بؤرة جسد امرأة، وحضور وجه القمر، لينتهى إلى جمال وجه الموت، وأنس نبض القبر.
فهل يمكن أن يكون ذلك كذلك من كيانٍ طفلىّ ساذج غفل بريء كما نصوره غالبا، أم أنه نبض الطفل – فينا- حاضرا طول الوقت من الولادة حتى الموت، بل وبعد الموت
“عندما نزور القبر فى المواسم أركز عينى على جداره لأرى. “نعم الرفيق الشغف والمنازل”
الفطرة هى هذا الطفل المستمر النامى – مع كل ما يليه، وهو فيه- دون تشويه، وطبقات المعرفة ومنازل الحقيقة هى الإبداع الأصيل الذى يختلط فيه المجرد بالعيانى، والخيالى بالواقع.
(11) الشيخ عبد ربه “يخفى الطفل ويدعى “تــوهه”:
حين ظهر الشيخ عبد ربه التائه أثناء نشر الأصداء فى الأهرام ظهر بترتيب خاطئ بعد أن كان قد حضر وتحدث وأفتى وتذكر، وحتى بعد أن ترتب الوضع وصحح، فى الطبعة المتكاملة، ثم بعد ذلك وأنا أكتب الدراسة التشريحية فقرة فقرة، وحتى وقتنا هذا، على طول هذا المدى كنت غير مرتاح لظهور هذا الشيخ عبد ربه، وقبل أن أقترب كثيرا من نجيب محفوظ -شخصيا – عبرت له عن مشاعرى نحو هذا الشيخ، حتى أننى قلت له مباشرة أننى لم أحبه، ولم أرحب بحضوره، ولم يكن محفوظ قد صرح لى بعد، بأنه هو شخصيا الشيخ عبد ربه، (وقد ذكر مثل ذلك فيما بعد فى بعض أحاديثه الصحفية)، وقد خجلت – بأثر رجعى – من ذلك التصريح بعدم حبى للشيخ عبد ربه، فما دام محفوظ قد رضى أن يتقمص هذا الشيخ أو يتقمصه الشيخ، فربما أكون قد أوصلت إليه أننى لا أحبه، مع أننى – والله العظيم – أحب نجيب محفوظ رغم أنف الشيخ عبد ربه، فكان لزاما على أن أفصل بينهما دون إذن من خالقه المبدع.
بينت فى دراستى التشريحية للأصداء لماذا تحفظت على ظهور هذا الشيخ هكذا دون دعوة من القارئ (أنا) حتى خيل إلى أنه كان عليه أن يسأذننى قبل ظهوره، وقد استبنت أسباب التحفظ وراء رفضى هذا، وهو خوفى أن تنقلب أصداء السيرة الذاتية إلى سيرة ذاتية فحسب، وبالتالى تختفى أصداؤها أو تخفت، وكذلك خوفى من الحكمة المباشرة على لسان شيخ لا أستطيع أن آنس له إلا وهو مـليء بطفولته، الأمر الذى افتقدته عند الشيخ عبد ربه دون “محفوظ”.
ثم أضيف هنا أنه قد خيل إلى أنه منذ ظهور الشيخ التائه وهو ينادى على “ولد تائه يا ولاد الحلال”(فقرة 120) انشق الطفل مستقلا عن كلية الوجود، إذ حل محله ذلك الشيخ الطيب الذى غلبت حكمته على طزاجته، وأيضا غلبت مباشرتـه على شاعريته.
وقد رفضت – فى قراءتى التشريحية الأولى – زعم محفوظ أن طفله تاه منه منذ سبعين سنة، وافترضت أنه إذا كان الولد تاه، فهو قد تاه “في” الشيخ (أكرر “في”)، ولم يته “منه”، وحين زعم الشيخ عبد ربه أنه فقده ; منذ أكثر من سبعين عاما” فغابت عنه أوصافه شرحت ذلك باعتبار أن الطفل (الذات الطفلية) حين تذوب تكاملا فى الكل النامى، لا يعود لها أوصاف مستقلة، إلى آخر ما ذكرت فى اجتهاد الدراسة الأولى التى شرحت فيها ذات عبد ربه إلى مفرداتها الثلاث: إلى شيخ يطلق الحكمة، وناضج يستمع ويصف ويسجل الحكمة،،وطفل ضال يبحث عنه الشيخ دون جدوى بسبب ضياع معالمه، مفترضا أنه ضاع حين استوعبته حكمة الشيخ، ولكن هأنذا أتراجع قليلا عن هذا التفسير وإن لم أنكر مبادئه الأساسية، وإليك ما عنَّ لى تعديلا وإضافة:
فالطفل الذى بقى نابضا ولم يغب أبدا رغم اختفاء أوصافه مباشرة هو طفل نجيب محفوظ وليس طفل الشيخ عبد ربه الذى تاه منه، ذلك أننى وأنا أبحث عن معالم الطفل فى الأصداء اكتشفت أنه بقدر ما حضرت الطفولة بشكل مباشر فى النصف الأول من الأصداء (الــ 119 فقرة الأولى من 224 فقرة) توارت (الطفولة) بشكل واضح منذ ظهور الشيخ عبد ربه، إذن فقد تاه الطفل فعلا، والآن أصحح قائلا: لا، إنه لم يتكامل (تماما) فى “الشيخ عبد ربه” حتى أصبح لقبه (عبد ربه التائه)، بل لأن الشيخ عبد ربه قرر أن يتنازل عن خدمات هذا الطفل الجميل، ومضى يلقى إلينا بالحكمة مباشرة. اختفى طفل عبد ربه بطزاجته المندهشة، وإضافاته الأصيلة، ليحل محله الشيخ عبد ربه الذى لا يخلو من طفولة، ولكنها طفولة تطل من عباءته أحيانا، وتمتنع عنا كثيرا.
ذكرنا فى الدراسة التشريحية تفاصيل أنواع العلاقات بين حالات الذات: الطفلية والوالدية والناضجة، وتصورت أن ثمة تصالحا قد تم بالاندماج بين الوالد والطفل (=الذات الوالدية والذات الطفلية)، وهو الذى خلق لنا الشيخ عبد ربه التائه (كما يوحى اسمه) لكننى تحفظت على هذا الاحتمال حين أنهيت تأويل تلك الفقرة قائلا:
وهذا هو تفسيرى لماهية الشيخ عبد ربه، لكنه تفسير غير مطلق، فاعتراضاتى على حكمة الشيخ المباشرة والسطحية فى أحيان كثيرة – مثلا - تنفى هذه الدرجة المباشرة من التصالح.
ثم إنى حين جئت إلى هذه الدراسة الجامعة، تأكد لى هذا الغياب الغالـب لما هو طفل وطفلى بكل صور تجلياته مع ظهور الشيخ عبد ربه، فأيقنت أن تفسيرى السابق ليس فقط تفسيرا غير مطلق، وإنما الأرجح أنه تفسير غير صحيح، فقد حل الشيخ محل الطفل (بغير وجه حق)، ولعل هذا هو ما جعلنى لا أحب الشيخ كثيرا، فأتحفظ على ظهوره.
ثم إنه يحق لى أن أضيف – الأن- أنه: ولو أن الشيخ عبد ربه أزاح الطفل ليبلغنا بحكمته ما كان الطفل يوقظنا إليه بطزاجته ودهشته وحبه وانسيابه وشقاوته وحيرته، فإن ذلك لا ينطبق على نجيب محفوظ شخصيا، كما عاشرناه فى الــ “هنا والآن” وكما تجلى طفله فى بقية أصداء سيرته الذاتية التى كانت تتخلق معنا - شخصيا- وهو ما زال محتفظا بكل حيوية طفولته الخلاقة، وهو لم يستطع أبدا أن يلبس ثوب الحكيم المتوازن، إلا أحيانا أمام غرباء، مثلا:فى بعض “وجهة نظر الأهرام”، وبعض مواقفه السياسية العاقـلة جدا” (زيادة عن اللزوم)، وهو فى هذه الأحوال يبدو وهو يمسك العصا من منتصف نصفها تماما، فى حين أنه إذا اختلى بنا أمسك بها من أسفلها وراح يديرها فى الهواء وهو يلقى بآرائه الحرة الحلوة هنا وهناك، فيبدعنا وكأنه يمزح، فنتخلق أطفالا حول طفله أكثر حبا وقدرة فى نفس الوقت. ربما جاء من هنا تحفظى على الشيخ عبد ربه، ليس لأنه بلغ مبلغ محفوظ ”الأهرام” دون محفوظ الإبداع، ولكن لأنه بدا لي- فى أحيان كثيرة- وصيا على طفلنا الجميل بلا مبرر.
[1] – نجيب محفوظ: “السراب”، 1948، للطبعة الأولى مكتبة مصر، القاهرة.
[2] – يحيى الرخاوى: “تفسيرات أخرى للموقف الأوديبى”، ورقة ألقيت فى الندوة الشهرية لجمعية الطب النفسى التطورى بدار المقطم للصحة النفسية يونيو 1997.