نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 29 -9-2016
السنة العاشرة
العدد: 3317
أصداء الأصداء:
الدراسة الجامعة (1)
الطفولة نبضٌ وتجدد باستمرار..”5″
الحلقة الخامسة من الفصل الأول:
بين طفل عبد ربه وطفل محفوظ (الطفل النامى فى الكل الواحد)
مقدمة:
مازلنا نتعلم ماهية الطفولة “فينا الآن” من أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، وهذه هى الحلقة الخامسة والأخيرة من الفصل الأول من الدراسة النقدية الجامعة، بعد أن قمت بدراسة الأصداء فقرة فقرة فى عمل سابق بعنوان “أصداء الأصداء”(1)، وهذا الفصل هو تحديث للفصل الأخير الذى صدر كمحاولة أولى ملحقا بالدراسة التشريحية.
(14) عن الطفولة والتعرف على الموت ثم….
بدأت الأصداء ونجيب محفوظ يحكى عن خبرته طفلا أمام موت جدته، وحين حل عبد ربه محل محفوظ، أخذ يتكلم بلسانه هو حتى وهو يذكر أيام طفولته، فتبدأ معظم الفقرات فى النصف الثانى من الأصداء بـ: “قال الشيخ عبد ربه التائه” (ثم قد يحكى عن طفولته)، بدلا من المباشرة دون وصاية، مثل ما اعتدنا عليه فى النصف الأول، مثلاً:”كنا أبناء شارع واحد (فقرة 6) أو “كانت أول زيارة للموت عندنا (فقرة 2) إلخ، ومن هذا المنطلق حاولت أن أميز بين “طفل عبد ربه” و”محفوظ الطفل”، مع أن هذا الأخير قد ظهر فى النصف الثانى أيضا رغم أنف الشيخ عبد ربه.
كنت قد وجدت لنفسى تبريرا لغلبة حكمة عبد ربه على طزاجة طفل محفوظ فى النصف الثانى من الأصداء، ذلك أننى قدرت أن ظهور الشيخ عبد ربه قد أُعْلِنَ ليحدد لنا مرحلة متأخرة من سيرة الكاتب الذاتية، أعنى أصداءها، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يكن ثم مبرر أن يعود الشيخ ليتكلم عن ذكرياته (ذكريات الشيخ عبد ربه، وليس محفوظ) طفلا، فكنت أشعر كلما فعل ذلك أن الطفل يقفز من عباءته بالرغم منه، ولكن الشيخ يلاحقه بالوصاية والتوجيه.
وأورد هنا مثلا صريحا للمقارنة بين “طفل عبد ربه الشيخ” و “الطفل محفوظ: “الطفل النامى فى الكل الواحد”، وهو موقف : كيف واجه كل منهما الموت:
يحكى الشيخ عبد ربه فى فقرة: “الضيف”(161)، عن ذكرياته طفلا فى مواجهة الموت، فيذكرنا ذلك بما حكاه “محفوظ الطفل: عن ذكرياته إزاء موقف مشابه “فى مواجهة الموت”، فقرة “رثاء”(2).
حين واجه محفوظ الطفل الموت فى ثانى فقرة من الأصداء، واجه جِدته، ومفاجأته، وعملقته معا،”رأيتنى صغيرا”، و “رأيته عملاقا”، ثم إنه أحس به (بالموت) متسللا يملأ حجرات المنزل، فلاذ بحجرته، لكنه سرعان ما تجاوزه إلى الحياة: “فتحت الجميلة ذات الضفيرة الباب عليه، فقبض على يدها فى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون” فاندفع إليها وهو”..يجذبها إلى صدره “بكل ما يموج فيه من حزن وخوف”.
هذه الصورة لمحفوظ الطفل نرى فيها كيف يعيش كل طزاجة الخبرة، ويؤلف بكل اندفاعات الحياة المتدفقة بين جـدة الموت وعملقته، وبين عطش الجنون وروعة العلاقة بالآخر، دون أن يتعارض أى من ذلك بكل ما يموج فى صدره من “حزن وخوف”.
أما طفل الشيخ عبد ربه التائه فهو يهرب من الموت (فقرة “الضيف” 161). هو لا يواجهه كما واجهه محفوظ الطفل وهو يسير فى الشارع على الأعناق، أو وهو يملأ الحجرات بعد وفاة الجدة (فقرة “رثاء”)، نقول إن طفل عبد ربه قد هرب “من المواجهة”: أرسلنى أبى لألعب بعيدا”، والأدهى من ذلك أن أبوه فعـل هذا “حرصا على راحته” (أى وصاية!!)، ثم إن الموت هنا لم يـواجَهُ بشكل فــردى له معالمه الخاصة (مثل موت الجدة فى فقرة “رثاء”) بل إنه “قش” الجميع واختفى “ولما رجعت وجدت البيت خاليا، فلا أثر للضيف ولا للأحباب.”
هكذا نرى أن هذا الموت الأخير هو الموت الذى يعرفه الكبار وليس الموت الذى يكتشفه الأطفال، هو الموت المفاجئ، المنقض، الذى يقش ولا يميِّز، هو الفقد الذى لا يفجر ما بعده، بالمقارنة بالموت التجديد، أو الموت البعث الحافز للهرب إلى الحياة، وليس المبرر لـلتوقف عند العدم الجماعى.
(15) إستدراك طفلى (أصل الحكاية)
كنت قد أنهيت جولتى مع طفل وطفولة الأصداء بهذه الفقرة عن الفرق بين موت وموت، ومن حيث المبدأ لم أجد تناقضا بين الموت والطفولة كما علمتنا الأصداء، ثم حين قـلبت بعض الصفحات الأصل موضوع هذه الدراسة وجدتـنى قد أغفـلت جوانب أخرى، وحضورات متنوعة مما يمكن أن يكون طفلا وطفليّأ، فتصورت أننى لو أعدت قراءة النص من هذا المنطلق، فلن ينتهى هذا الفصل أبدا، ومن بين ما عثرت عليه من فقرات كنت قد تجاوزتها، فقرة “أصل الحكاية” (118)، حيث وجدت فيها من الطفولة المباشرة والصريحة الدلالة ما يؤهلها أن تأتى بعد الفقرة الأخيرة المقارنة بين موت وموت، لا لأُدْخِل البهجة على القارئ فأسترضيه أو أعتذر له، ولكن لأعلن نقص هذه الدراسة، وأى دراسة، قياسا بثراء الأصل، وفى نفس الوقت كى أختم الحديث عن الطفولة، بما هو طفولة، وربما إغاظة للشيخ عبد ربه أيضا، فهذه الفقرة وردت قبل ظهور الشيخ عبد ربه بفقرة واحدة (هى 118 عبد ربه ظهر فى الفقرة 120)، ولعل الخوف من تمادى انطلاق هذه الطفولة الهائصة هى التى استدعت ظهور الشيخ عبد ربه ليضبط الجرعة:
فى هذه الفقرة (118) جرعة من الطفولة المباشرة لا يمكن إلا أن توقظ فينا أطفالنا كما هم، وليس بوصفهم طاقة، أو طزاجة، أو تمثلا فى واحدية متكاملة، فمعالم الطفولة هنا صارخة جميلة هائصة، حيية: فى آن :(2)
خلاصة التشكيل فى هذه الفقرة تبدو كالتالى:
(1) الطفل (لا الطفلة) هو الذى يلعب الحجلة (وهى لعبة البنات أساسا) فأى تعميم دال.
(2) والطفلة هى التى نظرت إليه نظرة غامضة (فأى وعد مخلِّق للوجود).
(3) والاستعراض الزهوى وطفلنا يعدو يذكرنا باستعراض ذكور الطيور أمام إناثها.
(4) ودعاء الأم لكل مخلوق، يعود بنا إلى تعميم طفلى فياض.
(5) وهمس الأم خوفا عليها من النظرة وخوفا عليه من الجرى هو ضمن الرعاية الوالدية اللازمة لكل طفولة بكل صورها.
وبعـد
إن ما قدمناه فى هذا الجزء عن تجليات الطفولة فى الأصداء يمكن أن يكون قد أسهم فى إثبات ما ذهبنا إليه من فروض حول طاقات الطفولة وصورها ودورها فى الإبداع، وكيف تجلى حضورها الدائم عند محفوظ فى أغلب الأصداء (خاصة قبل ظهور الشيخ عبد ربه).
قبل أن نشير إلى دور “الحفاظ على الطفولة ودوامها فيما هو إبداع، نود أن نعدد دون إعادة الصور التى تبدت لنا فى الأصداء لما هو طفل وطفولة، سواء فى الدراسة التشريحية (الفصول الأربع الأولى)، أم فى هذا الفصل من الدراسة الجامعة، فنذكر بعض عناوين لما حاولنا بـيانه من حضور متنوع لما هو “طفل”.
1- الطفل الكشف
2- الطفل التأُّمل
3- الطفل المَرَح
4- الطفل الحُلْم
5- الطفل الجنون
6- الطفل الطرب
7- الطفل التعلم
8- الطفل الحكمة
ولعل القارئ يلاحظ أننى استعملت فى وصف الطفل “إسما” دون صيغة الفاعل (الطفل الكشف وليس الكاشف، التأمل، وليس المتأمل..إلخ)، ذلك أننى أردت من جديد التأكيد على حرصى أن تخدم هذه الدراسة وتضيف إلى الإعلاء من شأن استمرارية الطفولة فى تآلفها فى الكل البشرى كيانا حاضرا فاعلا، بدلا من الحرص على تمجيد أطفال خارجنا بما لهم من “صفات” كذا وكيت، تلك اللهجة التى تسحبــنا حتما إلى الماضى أكثر من أن تحفزنا إلى الحفاظ على زخم الطفولة فينا “هنا والآن”: لنتكامل بها.
إن هذا التجلى العام لما هو طفولة متنامية، طفولة لم تعد كذلك إلا بقدر الحفاظ على الطزاجة والأصالة، وكذلك الحرص على تجديد الدهشة والإدهاش، هو الذى ينبغى أن نحرص على تعلمه من المبدعين وما أبدعوه.
إن الدعوة المتكررة إلى الإعلاء من شأن الأطفال، وحقوق الأطفال، وفرص الأطفال، راحت تحل محل الحرص التربوى لاحتواء ما هو طفل فينا ونحن ننمو، احتوائه لنتكامل به، لا لنعود إليه نكوصا، وعندى أن المبالغة فى وصف براءة الأطفال والحرص على حريتهم ومرحهم وخيالهم خارجنا هو فى كثير من الأحيان إسقاط يعلن أننا عجزنا أن نحافظ علينا أطفالا مبدعين، وبالتالى رحنا نبحث عنا فى أطفال خارجنا.
لعل من أصالة هذا العمل- أصداء السيرة- وتفرده هو أنه نجح أن يبين لنا هذا البعد من الحضور الطفلى المتجاوز، وحتى ما لاحظناه من الخفوت النسبى لما هو طفلى بعد ظهور الشيخ عبد ربه، إنما يـثبت بشكل غير مباشر ما ذهبنا إليه.
إن الإبداع يستمد زخمه الأصيل من الجنون والطفولة معا، شريطة ألا يكون الجنون جنونا ولا الطفولة طفولة، ونظرة خاطفة لما وصف به نجيب محفوظ هذه القوة المبدعة البادئة بطفولته المتدفقة وهو يصف خروجه - طفلا – من أسى فقد جدته قائلا: ” واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون”، تجعلنا أقرب إلى تصديق الفرض القائل: إن من يحافظ على هذه الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون على مسار نموه ليتمثلها بأدوات نضجه، دون أن يلغيهـا بالوصاية أو النبذ أوالإنكار أو الموسوعية أو المنهج المتحجر: هو الذى يمكن أن يستمد منها طاقة الإبداع وأصالته أبدا.
لعل نجيب محفوظ بما هو، وبما أبدع طول حياته، الأمر الذى تركز أخيرا فى هذا العمل كمثال، قد استطاع أن يحل المسألة التى شغـلت النفسيين أبدا، “أن نعطى الطفل الحكمة والنضج، دون مساس بطفولته ببراءته بحلاوة صدقه(3)،
أوضحنا فى الدراسة التشريحية ما يقابل ذلك فى المدارس الأخرى بما يستحق الإعادة هنا دون الاعتذار عن التكرار:
فهذا التكامل “بالطفل والوالد معا ” هو ما ما يسميه إريك بيرن “الناضج المتكامل “Integrated Adult وهو ما يسميه يونج تحقيق التفرد Individuation وهو ما يقع فى منطقة عصر الإنسان الثامن عند إريك إريكسون (الحكمة فى مقابل اليأس)(4) وخلاصة كل ذلك يقول:
إنه فى هذه المرحلة الختامية الولود (“ختامية” بلغة الزمن أى فى منطقة آخر العمر، و”ولود” بلغة تجدد الوجود بديلا عن الخلود) فى هذه المرحلة من العمر المبدع يكاد يتناسق الوجود فى وحدة واحدة، إذ تستوعب الذات الناضجة أغلب مكونات ما عداها من ذوات، فتصبح الذات الطفلية صفة متكاملة فى الواحدية التكاملية، وهذه السمة النابعة من الطفولة هى التى أسماها إريك بيرن الباثوسPathos (بمعنى الوجدان المعرفى النابض، وتصبح الذات الوالدية صفة أيضا وليست ذاتا مستقلة وهى ما أسماه إريك بيرن الإثوس Ethos أى الأخلاق الطبيعية المسئولة، وبالتالى يصبح الوجود واحدا له تجليات (وليس تبادلات) وجدانية معرفية نابضة طازجة، ملتزمة أخلاقية راعية واعية، واقعية بسيطة عملية عادية، كل ذلك فى “كل واحد”.
بديهى أن هذا التحقق “الواحدى المتكامل ” (المستحيل) لا يكون أبدا فى صورته المطلقة إلا إذا أصبح الإنسان كيانا إلهيا لا تأخذه سنة ولا نوم، الأمر الذى ما زال مستحيلا لما هو كيان بشرى تأخذه “سنة” ويغلبه “نوم”. إلا أن التوجه نحو هذا التحقق شبه الإلهى: سواء على مسار النمو الفردى للذات وهى تعاود الولادة من جديد فى أطوار التجدد والبعث فى كل مرحلة من مراحل النمو، أو وهى تمارس الإنتاج الإبداعى بديلا عن هذا الإبداع الذاتى شبه الالهى، أو جنبا إلى جنب معه، هذا التوجه فى ذاته هو كل ما يستطيعه الإنسان فى مسيرة حياته الفردية المتواضعة، وبقدر ما ينجح فى تحقيق ذلك، يصبح شخصا قريبا من محفوظ (شخصيا)، وقريبا من أصداء نجيب محفوظ إبداعا كما بَيَّنا، حيث أن هذا الطفل الدائم فى صورة تلك الطاقة المبدعة هو الذى أعطى الأصداء (بل ومعظم أعمال محفوظ، وأيضا وجوده الشخصى)(5) أعطاها، روحها الطازجة، وبساطتها المتحدية، ونقلاتها المفاجئة، ودهشتها المتجددة، ودهشتنا منها وبها أبدا، على الرغم من خفوت بعض ذلك مع الظهور المباشر لحكمة الشيخ عبد ربه التائه.
[1] – يحيى الرخاوى: أصداء الأصداء، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ)، المجلس الأعلى للثقافة، 2006
[2] – (ملحوظة: قمت بحذف تفسيرى الوارد فى الدراسة التشريحية لتراجعى عنه)
[3] – من قصيدة “الطفل العملاق الطيب” ديوان سر اللعبة للكاتب 1974 دار الغد للثقافة والنشر.
[4] – يحيى الرخاوى ديوان “سر اللعبة”، دار الغد، للثقافة والنشر، القاهرة، 1978، ثم دراسة فى علم السيكوباثوجى (شرح ديوان سر اللعبة) 1979
[5] – د. يحيى الرخاوى: تقاسم على أصداء السيرة الذاتية، الفصل الثالث ،الإنسان والتطور، عدد61، يوليو 1998
Bern E. (1961): Transactional analysis in psychotherapy. New York Groove Press، Inc.
Jung، C.G. (1953) Collected works. Pantheon Books، New York.
Erikson، E. (1963) Childhood and Society، ed.،2W.W. Norton، New York.