نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 13 -10-2016
السنة العاشرة
العدد: 3330
أصداء الأصداء:
الدراسة الجامعة: أصداء السيرة (1)
الفصل الثانى: تجليات الموت وتشكيلاته
مقدمة:
كانت نشرة الأسبوع الماضى بعنوان “حيرة فى اختيار الفصل الثانى”، وانتهت النشرة بترجيح أن يكون الفصل الثانى “عن الوجود والله والوعى الممتد“، إلا أننى حين رحت أجمع عناصر هذا الفصل من الأصداء وحدها فوجئت باستحالة فصله عن عموم هذه القضية الجوهرية التى يمكن القول أنها كانت محور كل إبداع شيخنا، كما أننى لا حظت كيف ورد الموت فى أول فصل نشر من هذه الدراسة الجامعة (1) “ماهية الطفل وتجليات الطفولة“، وعجبت كيف يرد الموت بهذا الوضوح وهو يتناول الطفولة ، وتذكرت مقالا لى بعنوان : “هل يعرف الطفل معنى الموت”، وتساءلت، هل الموت الذى ظهر فى هذا الفصل الأول عن الطفولة له علاقة بهذا المقال، ودفعنى ذلك إلى احتمال تفضيل أن يكون الفصل الثانى عن الموت وليس عن علاقة شيخنا بالله بالذات، وإن كانت الوصلة واضحة، وقبل أن أرجع إلى هذا المقال الذى نشر فى صحيفة يومية، قليلة التوزيع(2) وجدت أننى حدثته واقتطفت أغلبه فى مقال كتبته عن شيخنا بعد رحيله مباشرة نشر فى مجلة وجهات نظر عدد أكتوبر 2006 بعنوان “همسةٌ عند الفجر: تشكيلات الموت/الحياة”، ففضلت أن أنشر بعض هذا المقال الأخير كمقدمة للدراسة عن الموت فى الأصداء باعتباره الفصل الثانى، وكنت قد صدّرت هذا المقال بمقتطف من ملحمة الحرافيش يقول “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”(3) وألحقت هذا المقتطف بقول طاغور:
“قالت لى الغمامة: سأمّحى
وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم
وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه
وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال
وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة
وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك
وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر”
* * *
وهاكم بعض ما جاء فى المقال (منذ عشر سنوات تماما (2006).
….”لا أشك فى أن شيخنا قد اختار الموت راضيا حين شاء الله تعالى أن يختاره إلى جواره بعد أن هيأ ربنا الظروف لذلك، كما أننى لم أشك أنه اختار الحياة طول الوقت، حتى لحظة اختياره الموت، اختار الحياة ليس بمعنى الاستمرار على ظهر هذه الأرض كائنا بشريا جسديا متحركا حاضرا..فحسب، ولكنه اختارها أكثر: كيانا فاعلا مبدعا جميلا مضيفا بما تيسر مهما نضبت الموارد وضعفت الأدوات. وحين تيقن أن الله تعالى قد أراد أن يجعل الأدوات أضعف حتى العجز، والمجال أضيق حتى الاختناق، اختار شيخنا أن يقولها بملء وعيه أنْ “كفى”. لم يكن اختيار الحياة بديلا عن اختيار الموت، كان اختياراً متداخلا، متكاملا مكمِّلاً. حين آن الأوان: قالها شيخنا بملء وعيه أنْ: “كفى”، ومضى إليه راضيا مرضيا، ومع يقينى أن هذا حقه بلا منازع، فقد رحت أعاتبه: “لم قُلْتَها شيخى : “كفى”؟(4) لِمَ قُلْتَها الآن ونحن فى أشد الحاجة إليك؟ لم قلتها أصلا؟ لم وافقتَ؟ لم تركتنا؟ ولم أكن أعرف أنه ترك لى الرد مسبقا واضحا جليا فى أغلب أعماله حتى آخرها، “أحلام فترة النقاهة”، ومن قبلها “أصداء السيرة الذاتية”.
……
فرانسوا ميتران:
لكن ثمة حكاية تستأهل الحكى قبل المضى فى عرض بعض ردوده تلك:
اتذكر أننى فى أوائل معرفتى الحميمة به شخصيا، كان الرئيس فرانسوا متران يقترب من الموت بعد أن أصيب بالسرطان وتأكد من قرب النهاية، سأله أحد الصحفيين بعشم (أو وقاحة) عن توقعاته بعد الموت، وعن مدى إيمانه أو رغبته فى الجنة، فأجاب دون استهانة وبكل شجاعة، أجاب بما تيسر له، ومن ذلك أنه يرى أن الخلود فى الجنة بلا نهاية هو أمر يدعو للملل، نقلت للأستاذ هذا التصريح متعجبا، وربما مُعْجبا بشجاعة متران ومساحة الحرية التى تسمح بمثل هذا التصريح، أطرق الأستاذ رأسه ليس قليلا، وقد عودنا أنه حين يفعل ذلك فهو يُعمل فكره دون التزام بالرد. صمتّ منتظرا، وطال الانتظار ثم نبهته بكل العشم أنى أحتاج إلى تعليقه، قال: “أنا لا أوافقه”، قلت له “ألم تلاحظ شجاعته حتى لو اختلفنا معه؟ ألسنا نفتقد إلى هذه المساحة من الحرية التى يتحركون فى إطارها بلا سقف يُقَزِّمهم؟، قال: “ليكن، لكنك تسأل عن رأيى فيما قال، لا عن ما أتاح له إبداء رأيه”. انتبهت إلى دقة انتباهه، ووافقته، ثم أردفت أننى ما زلت أنتظر تعليقه على تصريح “ميتران”، قال بعد قليل: أنا لا أوافقه. إسمع يا سيدى: أنت حين تحب شخصا أَلاَ تكون حريصا على البقاء معه أطول مدة ممكنة؟ قلت نعم. قال: هل يمكن أن يخطر ببالك ما هو ملل وأنت تحبه فعلا ؟ قلت: لا، قال، فإذا كنت تحب الله سبحانه، فهل تشبع من قربه مهما امتد الزمن بلا نهاية، أم أنك تزداد فرحة وتَجدُّدًا طول الوقت؟”
صمتُّ شاكرا، فاهما، متعجبا، متأملا داعيا.
نعاهدك ألا تموت بما تركت فينا:
كان هذا الحديث – على ما أذكر – قبيل وفاة ميتران ( 8 يناير 1996) ، رحت أتأمل يقين شيخنا من حبه لله ورغبته فى البقاء إلى جواره، يدور فى فلكه إلى أبد الآبدين، لم يخالجنى أدنى شك فى موقفه هذا طوال معرفتى له بهذا القرب، وحتى قبل معرفتى الوثيقة تلك،…
إنهيته بقولى:
“يا شيخنا: مازلنا فى حاجة إلى بقائك بيننا ….، ربنا يخليك لنا ولهم، وإن تَمُتْ- بإذن ربنا,لا بمديتهم- فنعاهدك ألا تموت بما تركت فينا ولنا”
مضى على استجابة هذا الدعاء إثنى عشر عاما، ثم اختاره ربنا، وبالتالى آن الأوان أن نفى بما تعهدنا به، … “الا يموت بما ترك فينا ولنا”.
……….
كيف أحب محفوظ الموت وهو يحمل كل هذا الحب للحياة؟
لم يتمنّ محفوظ الموت الاختفاء/العدم لحظة واحدة، لكنه رحب بالموت الرحيل الجسدى حين يحل آوانه: طول الوقت.
من أكثر الأعمال النقدية التى لا أتردد فى الفخر بكتابتها هو ما جاء بالجزء الأول من نقدى لملحمة الحرافيش الذى صدر فى أكثر من موقع منذ سنة 1990، وقد كان بعنوان “دورات الحياة، وضلال الخلود: ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش (5).
يقول محفوظ فى الملحمة (ص 64): “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”.
حاولت فى نقدى هذا أن أبين كيف كان الوعى بالموت، الموت الامتداد، الموت الهارمونى الأكبر، هو المحور الأساسى للملحمة، التى تجلى فيها كل من الإيقاع الحيوى، وإعادة الولادة، المرة تلو المرة، كأروع ما يكون التجلى، كما تعرى وهم الخلود على هذه الأرض، حتى ظهر أنه العدم الخامد، أى الموت الذى نخافه جميعا.
وصلنى من الملحمة – ومن غيرها – كيف أن التوليف الجدلى بين الموت والحياة هو أصعب مراحل جدل الوجود.
الطفل يعرف الموت أفضل:
منذ ذلك الحين رحت أحاول التعرف على الموت من خلال إبداعات متعددة، حتى تحددت معالمه لى أثناء نقدى بعض حكايات هانز كريستيان أندرسون الخرافية للأطفال. اكتشفت: فى قصة “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة” كيف يرسم أندرسون موت الصغيرة، تقول القصة:
صاحت الصغيرة: جدتى خذينى معك، أعلم بأنك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت. ستختفين مثل الموقد الدافئ، مثل البطة الشهية وشجرة عيد الميلاد المباركة، ثم أسرعت بشحط عيدان الكبريت الباقية فى الحزمة تلو الآخر، كانت تود بشدة أن تبقى جدتها، أضاءت عيدان الكبريت ببريق أصفى من ضوء النهار، لم تكن جدتها فى يوم أحلى وأكبر منها الآن، حملت الجدة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا بألق وفرح عاليا، عاليا جدا، حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، كانا عند الله”
علمنى أندرسون من خلال هذه القصة حتى النهاية كيف يمكن أن تكون النقلة هادئة بين الحياة والموت، إلى الله سبحانه..، كل ذلك ووعينا يضىء المرة تلو المرة فى نعومة حانية، وألم جميل، بما يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وإلى خالقنا ورحمته، وبما يجعل الموت هو القريب البعيد، هو الذى نخشاه بقدر ما ننتظره، هو الطريق إليه ونحن نعيش واقعنا نجمع بين قسوة الفقر، وقرص الحرمان، ونداء الطبيعة، وفرحة الأمل، وقوة الخيال، فى نفس الوقت.
فى قصة أخرى لأندرسون للأطفال أيضا بعنوان “قصة أم” يتجسد الموت الذى خطف الصغير من أمه الثكلى فى شكل شيخ غريب، فتهيم الأم على وجهها نائحة باحثة لتسترد ابنها المخطوف، وفى سبيل ذلك تضحى بكل شىء تعطيه لمن تقابله، وما تقابله، فى مقابل أن يدلها على أين ذهب الشيخ (الموت) بابنها: تضحى بعينيها فلا تعود تبصر، وبلسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا بالموت ليس عَدَماً بل مشتلا انقلب فيه الراحلون إلى زهور واعدة بما لا نعرف،
وتنتهى القصة بأن ترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على استرجاع ابنها حيا، وتسلم ابنها زهرة بين الزهور فى مشتل الموت، زهرة تنتظر قدرها وتقبله، إنها تتنازل عن محاولتها استرداد طفلها قائلة للموت: “….إحمله، إحمله بعيدا إلى ملكوت الله، إنس دموعى ، إنس دعواتى”
يتعجب الموت (الشيخ) قائلا: “لا أفهمك، ألا تريدين طفلك، أتريدننى أن آخذه إلى هناك، حيث لا تعلمين” ؟
ترد الأم: لا تسمعنى حين أسألك بخلاف مشيئتك، التى هى المُثلى، لاتسمعنى لا تسمعنى”، وحنت رأسها إلى الأسفل إلى حضنها، ومشى الموت بابنها إلى البلاد المجهولة.
رثاء عاِتبْ
لم استطع أن أقف موقف هذه الأم الجميلة من رحيل شيخنا الجميل، الأم تعرفت على مشتل الموت بهذه الشجاعة والسهولة ورفضت استرجاع ابنها بعد أن اطمأنت عليه، لكننى رحت أعاتب شيخى أنه رحل دون استئذاننا. بل إننى رحت أطالبه أن يوقف الزمن، مع أنه القائل على لسان شمس الدين الناجى فى ملحمة الحرافيش (ص 127) “إن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقاس….”
……….
……….
كيف كان شيخى يتلقى الموت:
عاصرت شيخى مع بعض الحرافيش الأصليين، فرحنا بكل الجزع نفقد الحرفوش تلو الآخر فلا نستطيع أن ننسى الموت أو نتغافله، بل إن الموت سبق رحيل هؤلاء الحرافيش حين اختطف باكرا صديقا – ليس حرفوشا – هو مصطفى أبو النصر ثم اختطف صديقا لاحقاً فى عز وهجه هو أ.د. محمد راضى (6)، ثم رحل من الحرافيش كل من بهجت عثمان، وأحمد مظهر ثم عادل كامل (بلغنا رحيله من أمريكا بعد أن زارنا بضعة أسابيع) كان تفاعل شخينا لكل ذلك هادئا صادقا متألما لعله يتمثل دائما فى القول الرائع:
الموت حق، ولكن الفراق صعب.
وبعد
اعتبرت هذه المقتطفات مقدمة للفصل الثانى عن: “كيف نتعلم الموت من الأصداء”، وآمل ألا أتراجع الأسبوع القادم، حين نرجع ونواصل دراسة “الموت فى الأصداء”.
[1] – نشرة : 25-8-2016 “أصداء الأصداء: الدراسة الشاملة: الفصل الأول: ماهية الطفل وتجليات الطفولة”
[2] – يحيى الرخاوى: مقالة “كيف و متى يعرف الطفل ما هو الموت؟ و نحن أيضا!!؟” جريدة روزاليوسف اليومية بتاريخ 25-11-2005
[3] – نجيب محفوظ: من ملحمة الحرافيش: (ص 66)
[4] – قصيدة رثائه “لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى”!! جريدة الدستور : 6-9-2006
[5] – يحيى الرخاوى : “دورات الحياة، وضلال الخلود: ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش، نشرت فى مجلة فصول، المجلد التاسع، العدد الأول والثانى، سنة 1990، وفى يحيى الرخاوى قراءات فى نجيب محفوظ “الإيقاع الحيوى ودورات الحياة” فى ملحمة الحرافيش . الهيئة العامة للكتاب سنة 1990
[6] – وبعد ذلك بسنوات الدكتور محمد عبد الوهاب أستاذ الطب البيطرى