الأهرام: 30/1/2002
أصداء شخصية: نجيب محفوظ
أو [نجيب محفوظ : السهل الممتنع]
استهلال واعتذار:
حين طـلـب منى أن أقوم بتحليل شخصية نجيب محفوظ إسهاما فى هذا العمل الهام، فزعت من حيث المبدأ، ورفضت من حيث المنهج، إن كل ما يستطيعه أى شخص يريد أن يضيف لمحة قصيرة التقطها من جانب من جوانب حضور محفوظ الشخصى أو الإبداعى هو أن يرصد بعض ما تردد فى وعيه من أصداء شخصيته: مبدعا وفردا عاديا حاضرا: يجلس على المقهى ويمشى فى الأسواق. وحتى هذه المهمة بدت لى من أصعب ما يمكن، لذلك قررت أن أكتفى بمحاولة توضـح معنى شائعا، لكنه ملتبس عند معظم الناس، وهو المعنى الذى تمثله شخصية نجيب محفوظ خير تمثيل، أعنى معنى “السهل الممتنع”.
كثير ممن يرددون تعبير”السهل الممتنع” لا يدركون أبعاد مضمونه تحديدا. إنه تعبير يشير إلى كيف أن الأمر، أو الشخص، الذى قد يبدو سهلا واضحا مباشرا، هو فى نفس الوقت فريد نوعه بحيث لا يمكن أن يتكرر أو حتى يقلد. قد نستعمل هذا التعبير بسطحية عابرة، وقد يعنى معنى شديد العمق من حيث إشارته إلى نوع رائع من تمام دورة ارتقاء بشري، دار دورته حتى عاد إلى أبسط صور التواجد محتفظا بعمق خاص يجعل من البسيط ما يرادف أروع العمق. إن النبى صلى الله عليه وسلم لما دار دورته الكاملة بما فى ذلك الإسراء والمعراج ، ظل يمضى بين الناس بشرا يمشى فى الأسواق، وجـدا طيبا يداعب أحفاده، وإنسانا لينا رقيقا يلين لهم بما رحمة من ربه. لم يكن ذلك على حساب عمق وجوده، ولا عظمة رسالته، ولا مسئولية حمله لذلك القول الثقيل، الذى أضاء به الدنيا قبل أن نتراجع نحن عن حمل منارته.
لاحظت هذا الحضور لما هو “سهل ممتنع” مع اثنين حظانى ربى أن أقترب منهما، الأول وأنا بعد صبيا لم أبلغ السادسة عشرة من عمري، وهو يحيى حقي، والثانى وقد شارفت على السبعين وهو نجيب محفوظ. إن الذى جعلنى أتمثل أكثر ما هو “السهل الممتنع” فى يحيى حقي، أننى عرفته فى بيت وحضور المرحوم محمود محمد شاكر، كانا يمثلان عكس بعضهما البعض فى ظاهر حضورهما، كما كانا فى نفس الوقت أقرب من عرفت إلى بعضهما البعض. يمكن أن يوصف محمود شاكر “بالصعب الجميل”، فى مقابل يحيى حقى “السهل الممتنع”. كان صوت محمود شاكر، وحسمه، وغضبه، وحضوره الموسوعي، ودقته المنهجية ترعب – لأول وهلة – كل من يتعرف عليه لأول مرة، لكن ما إن تقترب منه أكثر حتى تجد بداخله طفلا وديعا رقيقا محبا كريما متسامحا عطوفا جميلا، ليس أسهل منه ولا أقرب. أما يحيى حقى فبعد أن تأخذك سهولته ودماثة حضوره يستدرجك – دون أن تشعر – إلى أغوار لم يكن ظاهره ينبئ بها أبدا. فتعرف أنه “ممتنع” فعلا. كتابة يحيى حقى تتصف بنفس الصفة ، “السهل الممتنع”.
نفس التحدى وصلنى وأنا أقرأ القرآن الكريم مع أولادى ثم مع أحفادى قبيل المغرب فى رمضان. أتعجب كيف أن هذا الكتاب الذى لا ريب فيه هدى للمتقين ، نزل بهذه الصورة الشديدة السهولة – خصوصا إذا قارناه بالأدب السائد فى عصر التنزيل – تلك الصورة التى تنساب دون شرح إلى عقل طفل صغير، أو وعى عجوز أمية، بمثل ما تصل إلى عقل فقيه حاذق ، أو عالم نـحرير، يتم ذلك هكذا طول الوقت عبر أكثر من أربعة عشر قرنا دون أن تزداد الصعوبة، وهو يفجر وعى أعماق من يقترب منه بما يجعله – طبعا – ممتنعا عليه. أليس تنزيلا من رب العالمين.
مريد يتحرك فى رحاب شيخه:
حين أتاحت لى الظروف أن أتحرك خلال هذه السنوات الثمان الأخيرة (تقريبا) فى رحاب وعى شيخى الجليل نجيب محفوظ ، رحت أعايش هذا المعنى الرائع ماثلا أمامى طول الوقت. كنت قد استشعرت نفس المعنى من كتاباته قبل أن أعرفه شخصيا، لكننى لم أكن أتصور أن حضوره اليومى العادى بين الناس هو مـثـل أروع لأجمل صور “السهل الممتنع”. كنت أحسب أنه يقضى وقته بين الناس ليزداد احتكاكا بمادة إبداعه، وليأتنس بهم بعيدا عن الورق والقلم والكتب والرمز، وإذا بى أكتشف أن وجوده اليومى هذا أكثر “سهولة”، وفى نفس الوقت أكثر”امتناعا” لأنه أكثر إبداعا متحديد بإعجاز أن يوجد واحد مثله، أو حتى أن ينجح أحد أن يقلـده.
ماهو السر فى هذا الذى يصلنا منه بهذه الصورة البسيطة الجميلة المتحدية المعجزة فى آن”؟ للإجابة على هذا السؤال حاولت أن أضع فرضا يقول:
إن ذلك لا يتم إلا إذا تقارب الواحد من بعضه البعض، إذا تناغمت مستويات وجوده، (= منظومات دماغه) مع بعضها البعض، فتكون النتيجة أن الخطاب يصل إلى المتلقى عبر أكثر من مستوى من مستويات وعيه وفى نفس اللحظة. من هنا يستقبل كل متلق المستوى الذى يناسبه فيبدو له الخطاب سهلا، فإذا ما اقترب ليفحص الأمر أو يحاوله ، فإنه يكتشف أن هذا الذى تلقاه لم يكن خالصا منفصلا عن غيره من سائر المستويات، بل كان متضمنا إياها. من هنا يأتى “الامتناع” لأن هذه المرتبة من التناغم لا يصل إليها إلا مبدع متكامل، يعيش إبداعه بقدر ما يفرزه، وهو يفرز إبداعه من خلال ما يعايشه.
هذا هو المدخل الذى أساهم به فى محاولة التعريف بما يميز نجيب محفوظ إنسانا ومبدعا بصفتى مريدا عاجزا، لم يستطع أن يستوعب إلا بعض ما تردد فى وعيه من أصداء حضور شيخه، فأقدم ذلك على محورين:
المحور الأول: نجيب محفوظ : يمشى بين الناس، مبدعا لهم.
المحور الثانى : نجيب محفوظ : يستوعب التاريخ ويفرزه.
المحور الأول: محفوظ: يمشى بين الناس مبدعا لهم
فى أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ: “…تذكرت كلمات بسيطة، لا وزن لها فى ذاتها، مثل “أنت”، “فيم تفكر”، “طـيب”، “يالك من ماكر”..، ولكن لسحرها الغريب الغامض جـن أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف”.
هذا بالضبط ما وصلنى من كلماته العادية، ولفتاته الطبيعية، وما يترتب عليها إذ “لسحرها الغامض ..جـن بعضنا، وثمل آخرون بسعادة لا توصف”.
عرفته بكل هذا القرب بعد الحادث القـدر، وكان قد توقف عن القراءة قبل ذلك، ثم توقف عن الكتابة بعد الحادث، ففزعت أشد الفزع وآلمه، ورحت أتساءل كيف يمكن لهذا العقل البشري، لهذا الوعى الخلاق، لهذا الإنسان الحاد التلقى الغامر الإبداع، كيف يمكنه أن يستمر وقد ظل أكثر من سبعة عقود يتلقى ليرسل. يتمثل ليقول. يستوعب ليبدع. كيف يمكنه أن يستمر دون قلم وورقة. دون نشر وهجه المتجدد يضيء وعينا المتلهف. دون تلوين وتشكيل وإعادة تشكيل، دون استلهام إلهى. أو وجد نبوي؟ وحين لم تسعفنى الإجابة جزعت، وصبرت، وأمـلت، وثابرت، فإذا بعشرتى له وتلمذتى على هدى خطاه الوديعة على أرض الواقع اليومى تخفف عنى ما أصابنى من ألم، وما تصورت من عجز، إذ راحت أصداء حضور شيخنا الجليل تجيب على ما حيـرنى بما هدانا الله إليه، فجاءت إجابته – من واقع حركتنا اليومية – تـحقق لى فرضا طالما شغلني، فرضا يقول:
“إن الحياة الحقيقية هى الإبداع الحقيقي: قبل وبدون أى ناتج إبداعى آخر، خارج عن ذات صاحبه.
قيل وكيف كان ذلك ؟
رحت أتأمل اختراقه لكل ما أصابنا إذ أصابه، رحت أتابعه وهو يروض الـقدر بفعل هادئ طيب صبور، ساعة بعد ساعة ، يوما بعد يوم، جلسة بعد صحبة، حديثا بعد نكتة، فعاينته وعايشته وهو يبنى معمارا جديدا هو ما أسميته : الإبداع حى ===حى (استعارة من التعبير صواريخ جو===جو)، أعنى الإبداع الذى يصل مباشرة من وعى يتخلق إلى وعى يتشكل، دون حاجة لأن يصاغ فى رموز خارج ذات صاحبها. أنا لا أعنى بذلك -فقط-ما يشبه العلاقة الصوفية التى تتم بين الشيخ ومريديه، ولكنى أتذكر أيضا علاقة الطفل بأمه (وكلاهما- الأم والطفل- يعاد تشكيله إذا صحت العلاقة الجدلية) كما أتذكر علاقة الرسل بحوارييهم، قبل الوحى وبعده.
حين بدا لى أن هذا الفرض الذى افترضته يمكن أن يكون صحيحا، فرحت فرحا غامرا إذ تصورت أن الله سبحانه قد أفاء علينا برحمته حين ألهم شيخنا أن يواصل إبداعه فينا إذ نتشكل -هكذا- فى حضوره الحى المبدع، (كان هذا قبل أن يعاود كتابة أحلام فترة النقاهة). فإذا بنا نتعرف على مقاييس أخرى للإبداع، مثل أن يخرج الواحد منا -من جلسته- غير ما دخل، أو أن يكتشف الواحد منا- وهو يتحدث إليه- غير ما قصد، أو أن يتذوق الواحد منا -فى حضوره- طعم الهواء الداخل إلى صدره غير ما ألـف، كل ذلك من واقع هذه المعايشة البسيطة الصادقة العميقة. لقد راح شيخنا يقرؤنا ويكتبنا ثم يعيد كتابتنا، وهو لا يكتفى بهذا، بل يسمح لنا أن نعيد قراءته واستقبالنا له.
تأكد لى من خلال هذه الخبرة أن الإبداع ليس قاصرا على ما يكتب أو ينـشر، ولا هو قاصر على تشكيل اللون أو تنغيم اللحن، وإنما الإبداع أساسا هو نوع الحياة التى يحياها الشخص، فحين يكون التــلقى طازجا، والدهشة حاضرة، والتعلم مستمرا، والأسئلة لها نفس احترام ويقين الإجابات، تصبح الحياة – مجرد أن يمر عليك اليوم تلو اليوم وأنت حي- إبداعا فى ذاتها، مجرد أن تعى كيف تشرق عليك الشمس، أن تسمع همس أنفاسك، أن تتمتع بتأمل عروق ظهر يدك، أن تعنى لمن تقول له “صباح الخير” أنه “صباح الخير”، أن تسمح لحلمك أن يبقى فى وعيك بعض الوقت كما هو دون إضافة أو تأويل أو تفسير، كل هذا إبداع فى إبداع، تأكد لى كل ذلك أكثر فأكثر حين عايشته مع شيخنا هذا، فى زمننا هذا، طوال هذه السنوات الأخيرة بما يحتاج إلى إيضاح. فى بعض ما يلى من عينات ليست مفصلة بشكل كاف:
= يخرج الواحد منا من مجلس نجيب محفوظ مختلفا، يحدث هذا بدرجات متفاوته لمعظم من يحضره، يخرج وقد تغير فيه شيء ما، شيء طيب وعميق: أحيانا أحسه بدرجة ما من التحديد، وأحيانا يصل إلى وعيى رغما عنى فأنزعج منه أو أفرح به، وأحيانا أرجح أنه حدث ولا أدرك تفاصيله، فأنتظر تراكماته مع غيره حتى أستبين .
= من علامات نجاح هذا النوع من الإبداع الجميل أننا لا نمله، نحن لا نشعر مع شيخنا هذا بالزمن أصلا.. أراهن لو أن أحدا جلس مع نجيب محفوظ ونظر فى الساعة مرة واحدة يستعجل الوقت (بشرط ألا يطغى على جلسته جسم غريب لحوح لا يعرف طبيعتها)
= يتسع صدر شيخنا لأى اختلاف وكل اختلاف، ليس فقط فيما يصله، ولكن فيما بين المتحاورين بعضهم مع بعض. وإذا بنا نتحمل بعضنا بعضا أكبر مما لو تواجهنا بعيدا عنه. وهذا من علامات وضرورة التخلق الجديد لذواتنا فى رحابه، ونحن نتعلم كيف نتحمل الغموض، ونثرى بالاختلاف للتوليف.
= تتعاظم التفاصيل الإنسانية البسيطة فى حضور محفوظ، فتصبح لها نفس أهمية ودلالات القضايا العامة، ففى عز انهماكنا-مثلا- فى تعريف المثقف، أو مناقشة اتفاقية الجات، أو مصيبة فلسطين، يسأل نجيب محفوظ عن نتيجة فحص قلب أحدنا ممن يكون قد أخطره باعتزامه استشارة طبيب، أو عن أحوال قادم من سفر بعيد ، يحدث كل هذا العادى بشكل غير عادي، فيغوص فى عمق وجداننا معا، حتى نصبح واحدا حوله، فنتقارب أرق وأقرب فى كلية متناغمة جديدة.
يحدث كل ذلك دون أن نسميه إبداعا، ودون أن يبدو عليه أنه هو قائد هذه السيمفونية الإنسانية من التواصل الجميل.
أنت فى جلسة نجيب محفوظ، لا تملك إلا أن تنسى أنك تجلس مع نجيب محفوظ الذائع الصيت الحاصل على نوبل، الكذا وكيت، بل إنه هو شخصيا أكثر واحد لا يلاحظ أنه “نجيب محفوظ” بل مجرد واحد منا: يقوم لكل قادم، ويرد على كل سائل ، مهما صغر أو كان ضيفا يحضر لأول مرة. هذا الحضور الإنسانى الرقيق ليس منفصلا عن إبداعه المسجل المعلن الناتج منه بعيدا عن حضوره الشخصى اليومى. وكأن هذا الإبداع العادى هو الأرضية الأصل التى يمارس محفوظ من خلالها حضوره الإيجابى المتفجر إبداعا روائيا بمختلف أنواعه.
بدا لى أن محفوظا يقرؤنا ويكتبنا بكل اللغات، وكل من عاشره أكثر من مرة لا بد أن يلاحظ لغات تحاوره المتعددة سواء بالكلام أم بالصمت الـمـفعم، أم بالإيماءة المتسامحة أم بالضحكة العريضة.
ذات مرة تساءلت ماذا لو أنه غاب عن جلساتنا هذه، لا قدر الله، ثم أدرنا نفس الحديث، وتناولنا نفس المواضيع، وتحمسنا نفس الحماس، واختلفنا نفس الاختلاف: هل يتبقى فينا ما يتبقى وهو بيننا؟ لا أظن. بل إننى تصورت أن أحدا منا لن يحضر أصلا فى المرة التالية . لأنه سوف يفتقد ذلك “الحضور الخاص المعجز معا”.
المحور الثاني: محفوظ يستوعب التاريخ ويفرزه
كيف يكون واحد من الناس، هو نفسه تاريخ ناسه؟ وكيف يقوم هذا الواحد وهو ليس مؤرخا – بتسجيل تاريخ ناسه فى إبداعه؟ يفعل هذا وذاك دون تكلف ودون افتعال، وبأسلوب يصل إلى كل واحد، وفى نفس الوقت يعجز عن فعل مثله أى واحد.
لعل نجيب محفوظ كان يصف نفسه حين أعلنها على لسان أب يخاطب ابنه فى مقدمة روايته “العائش فى الحقيقة ” وهو يقول”… كن كالتاريخ، يفتح أذنيه لكل قائـل، ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين”. التاريخ الذى يعـنيه محفوظ هنا ليس هو التاريخ المكتوب فى كتب التاريخ أو وثائقه، وإنما هو التاريخ الحى الماثل فى وعى الإنسان وهو يعمر الأرض، وهو يتعثر، وهو ينتكس، وهو يبحث عن الحقيقة، وهو يصاب بالعمى عنها، ليقع ثم يقوم، ليعاود البحث. إن تعبير محفوظ “كن كالتاريخ ..” لا يعنى التشبيه، بقدر ما يحدد ما هو التاريخ، وكأنه يقول “..أنت (أنا) التاريخ”، ذلك أنه أردف بعد هذه النصيحة من الأب استجابة الإبن وهو يقول: “..وسعدت جدا بالتوجه إلى تيار التاريخ الذى لا أعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذى شأن إلى مجراه موجة مستمـدة من حب الحقيقـة الأبدية”.
التاريخ الحقيقي، والتاريخ الوثائقي
لا أريد أن أدخل فى مناقشة إشكالية مدى مصداقية “علم التاريخ” أكاديميا، إن مدخلى هنا يتجاوز ذلك وأنا أستمع لأصداء نجيب محفوظ وهى تتردد فى وعيي، إننى أكتشف أن لوحين محفوظين يدقان لحنا تاريخيا رائعا مخترقا. لوح يمثل إبداعه، ولوح يتجلى فى شخصه:
اللوح الأول : هو التأريخ بالإبداع، وقد رأيته أكثره دلالة وإحاطة من كتب التاريخ يكتبها مؤرخون محترفون وأكاديميون، هو أصدق أيضا من التسجيل الوثائقي، ومن الرص الشهاداتى. المبدع يحتوى الواقع ثم يفرزه، وهو يسجله بموضوعية فائقة لأنه يتجاوز الحكى المعلوماتى ، والتصوير الساكن، والوثائق والشهادات المشبوهة. النص الأدبى – مثلا – يعرى الواقع الخارجى والناس من خلال معاناة فإبداع كاتبه، ثم يأتى الإبداع النقدى بعد ذلك ليعيد قراءة النص فيصنف ويرتب الواقع البشرى أعمق وأكثر دقة وإحاطة، إنه يخلق من الواقع واقعا أصدق، لا خيالا بديلا. من هذا المنطلق تعتبر إبداعات محفوظ من أهم المصادر التى يمكن أن تساعدنا للتعرف على أنفسنا وعلى تاريخنا، وعلى امتدادنا إلى ما يمكن أن نكونه.
أما اللوح الثانى، فهو التاريخ المسجل بيولوجيا فى خلايانا، هو اللوح المحفوظ المبرمج القادر المسمي”الدنا”DNA، حيث يقع فى بؤرة محورية الوجود، ليتجلى فى الذاكرة والوراثة والمناعة والطفرات التطورية . إن التاريخ الذى يسجل فى نوايا خلايا الأحياء نوعا بعد نوع، حتى الإنسان جيلا بعد جيل هو التاريخ الحقيقي، حيث لا يخضع للأهواء أو يقبل التزوير. لقد كدنا ننجح فى فك رموز أبجدية اللوح البشرى عامة (الجينوم) ، ولنا أن نأمل فى أن ننتقل لفك رموز الجماعات فالأفراد حتى يمكن أن نقرأنــا دون تدخل مريب. وحتى ذلك الحين نحن لا نملك إلا أن نقرأ ما يصدر عنا، وما يصدر منا، سلوكا وإبداعا، رمزا ومباشرة.
إن الفرض هنا أصعب، وهو من قبيل التفاؤل كما ذكرت، أملا فى أن هذا الشيخ الرائع يمثل “ما هو نحن” أو ما يمكن أن نكونه”.
وفيما يلى عرض بعض عينات من إبداع محفوظ، ثم من تجليات حضوره الشخصى لتفسر لنا ما أعنيه بهذين اللوحين الذين حفظهما لنا محفوظ بإبداعه وحضوره جميعا.
اللوح الأول: التأريخ بالإبداع
أولا : التجلى فى أحداث الماضى مباشرة (قراءة فى تاريخ مصر القديمة)
بدأ نجيب محفوظ الكتابة المنشورة سنة 1932 بترجمة “مصر القديمة”، ثم تلاها مباشرة تقريبا (بعد مجموعة قصص قصيرة: همس الجنون 1938) بثلاثية عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة (1939. 1943، 1944 على التوالى). وهو لم يعد إلى مثل هذا التناول، بعد نضج فائق، إلا ليكتب “العائش فى الحقيقة (1985) بمستوى آخر فى عمق آخر(هذا ، فضلا عن لمحات عابرة فى قصص قصيرة هنا وهناك). هذه الرحلة فى التاريخ لا تمثل تماما ما أعنيه بـــ: التأريخ بالإبداع”، (أو الواقع الإبداعى) على الرغم من أنها سميت المرحلة التاريخية (محمود العالم). إن تقييم هذه المرحلة من وجهة نظرالمداخلة الحالية هو أنها تعتبر إعادة بمثابة صياغة لتاريخ قديم معروف. إن هذا لا يعدو أن يكون بمثابة تحديث خيالى لقراءة فى التاريخ، فهو ليس تمثلا إبداعيا لواقع معاش. هذا المستوى هو “قراءة” أكثر منه “معايشة”، فانصهارا، فإعادة تشكيل. هى قراءة توصل إلينا ما هو نحن سهلا مسلسلا، دون أن تفرض علينا حقائق جامدة نخضع لها قسرا حتى لو لم تكن هي، هذه الترجمة من وقائع تاريخية جامدة إلى ابداع سلس لا يقدر عليها إلا من ملك آداة موضوعها ليصنعها منسابة بهذه السهولة التى تمتنع على غيره.
ثانيا : التجلى الرمزى
لم يفصل إبداع محفوظ بين تاريخنا(تاريخه) وتاريخ البشرية (بل تاريخ الحياة أحيانا). هو لم يقصد ذلك ابتداء، لكن انتماءه إلى الحياة، ودوام سعيه لاكتشاف الحقيقة، ألهماه أن يقرأ تاريخنا على أرضية أوسع بامتداد أبعد. إن حضور شعب، ثم فرد على هذه الأرض أو تلك فى زمن محدد، ليس إلا تجسيدا لمسيرة الحياة برمتها حيث يستحيل فصل الوجود البشري، حتى فى حضوره الفردي، عن ملحمة الوجود الحيوى (التطور). من هنا راح محفوظ يبحث بإلحاح لم يهمد عن “الطريق” إلى الله ، بقدر ما راح يحفر حول جذور الحياة لعله يسبر غورها فى هذه المحاولة تداخل الموقف الفلسفى بالموقف الصوفى بالموقف التأريخى. هكذا اضطر محفوظ – ربما تحت إلحاح إبلاغ الرسالة – أن يبالغ فى اللجوء للرمز وهو يعيد كتابة التاريخ حتى خيل إلى أن ما يميز هذا التجلى الرمزى لم يكن استيعاب الواقع إبداعا بقدر ما كان إظهار القدرة على إعادة تشكيل التاريخ حالا بلغة آنية لا أكثر. اعتبرت أنه قد غلبته إغراءات الأداة القادرة على تطويع أى شيء حتى تاريخ البشرية حتى بدا لى مدرسا يلخص لنا درس الحياة بطريقة سهلة قريبة وهو يقوم بإعادة صياغة التاريخ كتابة موازية للرسالات الهادية دون إضافة معينة. تجلى هذا البعد الرمزى فى أكثر من عمل كان أهمها، وأخطرها، “أولاد حارتنا” حيث بلغ الرمز من الوضوح ما عرى المرموز له حتى رجحت كفة سلبيات المحاولة على إيجابياتها، وترتب على ذلك ما ترتب. لكن الرمز تخـفى أكثر فى أعمال أقل طموحا مثل “حكاية بلا بداية ولا نهاية” وهو يقدم الكتب الثلاثة التى هزت البيت الكبير والطريقة . لم يتردد محفوظ فى تقديم كوبرنيكس فى ثوب الشيخ أبو كبير هو يعلن “..أن بيتنا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة”، كما ألبس سيجموند فرويد ثوب الشيخ أبو العلا “ذاك الوحش الذى يتلذذ بالأعراض..”، هذا كله أوصل معنى “التسهيل بالتعميق”، وليس بالايجاز أو الحذق والترجمة إلى اللغة المعاصرة، وهو أمر بالغ التعقيد إذا ما اقتربت منه، أو حاولت مثله:
ثالثا: التجلى الأعمق لدورات الحياة
تتكرر محاولات محفوظ لصياغة التساؤلات الأساسية لمسار ومصير الإنسان فى توجهه نحو المطلق بدءا بزعبلاوي، حتى تنضج التجربة لتؤتى أكمل ثمارها حين يمتلك محفوظ ناصية الرقص مع دورات الحياة مباشرة دون حاجة إلى رمز يستعيد به أحداث التاريخ . راح محفوظ يتناغم وهو يدور مع المطلق، وهو يعرى ضلال الخلود ويساويه بالموت الآسن، كما استطاع أن ينبهنا كيف أن “الوعى بالموت” هو أعظم حافز للحياة. نجح محفوظ فى الحرافيش أن يرسم دورات الحياة وكأنه يلف معها فى سيمفونية الإيقاع الحيوى دون حواجز، “تعالوا نأخذ عينة محدودة من الحرافيش:
= “لو أن شيئا يدوم، فلم تتعاقب الفصول؟
[هل تصدق أن هذه فقرة كاملة فى الرواية؟ فقرة رقم “45”]
ثم نقرأ بعد ذلك بخمس صفحات فقط:
“الشمس تشرق”، الشمس تغرب، النور يسفر الظلام يخيم”
هل يوجد ما هو أبسط من ذلك، لو أن هذه الجمل وضعت فى كتاب للقراءة الرشيدة لأطفال فى المرحلة الابتدائية لكانت مناسبة من فرط سهولتها، أما موقعها فى سياق ملحمة الحرافيش التى بدأت دوراتها بعاشور الناجى لتنتهى بعاشور الناجى أيضا فهذا هو ما يمتنع على غير محفوظ حتما.
بدت لى ملحمة الحرافيش خاتمة هذه المحاولات لفرط ما اتسق تناغمها، إلا أنه عاد من جديد إلى دورات الحياة وهو يبحث بنفس أهدأ فى رحلة ابن فطومة، وأيضا ظهرت دورات أخرى مؤخرا فى أصداء السيرة الذاتية . هذا تاريخ دوار يحضره محفوظ فى “هنا والآن” ثم يحركه فى دورات الحياة الحالية وكأنها تتكرر، وهى لا تتكرر بل تتجدد حيويتها.
رابعا: التجلى المتابع المستوعب للواقع الظاهرى (روايات الأجيال أساسا).
لا يكاد يخلو عمل من أعمال محفوظ، حتى ما غاص منه وبه فى خيال شاطح (مثل رأيت فيما يرى النائم وليالى ألف ليلة، وحتى أحلام فترة النقاهة) من حضور الواقع الظاهر كما يعيشه أى منا بلغته الآنية وحضوره البسيط العميق الرائع. يتجلى ذلك بوجه خاص فى روايات”الأجيال” خاصة، بدءا من الثلاثية ، وليس انتهاء بحديث الصباح والمساء (الذى شرح فيه تطور الطبقة الوسطى المصرية بشكل خاص خلال قرنين من الزمان، منذ نزول نابليون على شاطئ الإسكندرية 1798 حتى أحداث سبتمبر السادات 1981)، ثم “يوم قتل الزعيم” و”باقى من الزمن ساعة”.
خامسا: التجلى السياسى
أظهر التجلى السياسى فى إبداع محفوظ مدى سعة المسافة بين موقف نجيب محفوظ المتحفظ (لا المحافظ) وهو يدلى بآرائه السياسية فى الحياة اليومية ، وبين نجيب محفوظ السياسى والثائر المغامر حتى القتل فى إبداعه الروائى. يبدو أن إبداعه هذاهو بمثابة التعويض الذى يعادل موقفه المحافظ فى الحياة العادية، هذا الإبداع عوضه عن التزامه المتحفظ أبدا. نقرأ ذلك التنبيه على ضرورة التحفظ وهو يصدر من الوالد للإبن فى مقدمة العائش فى الحقيقة “..ولكن إحذر أن تستفز السلطان، أو تشمت بساقط فى النسيان”. ثم إنه ألحق ذلك بقوله مباشرة “كن كالتاريخ ..إلخ. ثم إنه أكمل بعد ذلك، وكأنه يصف نفسه ثانية، ويخاطبها: “…أما أنت ، فتريد الحقيقة ، كل على قدر همته”. بـدا البعد السياسى فى إبداع محفوظ مكملا لــ (وليس بالضرورة متناقضا مع) الرأى السياسى فى تصريحاته وأحاديثه الرسمية المنشورة (دون أحاديثه الخاصة). ومع ذلك فإنه لا يكاد يخلو له عمل واحد من التجلى السياسى الناقد الثائر المقتحم للجارى على السطح بما فى ذلك التاريخ المسجل بالوثائق والشهادات، إلا أن بعض رواياته حظيت بقدر أكبر من غيرها فى الاهتمام بهذا البعد مثل الكرنك، وثرثرة فوق النيل، ويوم قتل الزعيم ، وميرامار واللص والكلاب والشحاذ. إن أى مؤرخ أكاديمى لا يضع هذه الأعمال المتميزة الروائية السلسة كمصدر من أهم مصادره، يمكن أن يفوته الكثير.
ليس معنى أن محفوظا استطاع أن يمتلك ناصية الأحداث ليمزجها فى خياله المبدع ثم يخرج بها فى هذه الصورة الروائية السلسة أنه ابتعد عن الأحداث لصالح إبداعه، بل لعله أضاف إلى الأحداث حقيقة أغوارها بفضل إبداعه. أتم محفوظ هذا التأريخ ليصبح فى متناول كل الناس، وفى نفس الوقت هو ممتنع عن غيره من فرط سلاسته وعمقه معا، هكذا.
سادسا : التجلى الذاتى (السيرة الذاتية)
صرح محفوظ أكثر من مرة أنه لن يكتب سيرته الذاتية ، بل إنه ذهب أبعد من ذلك حين برر تحفظه هذا بأنه لا يرى فى سيرته الذاتية ما يستأهل الإشارة بوجه خاص، فهى -حسب قوله- لا تختلف عن سيرة أى مواطن مصرى وجد فى ظروفه، وهو لم يكن فى ذلك مدعيا التواضع ، بل لعله – من فرط أمانته – أراد أن يبلغنا أنه (نجيب محفوظ) يمكن أن يتكرر بلا أدنى تقديس. ثم إنه فى نفس الوقت لم يتردد (ولا يتردد) أن يجيب كل سائل عن خصوصياته إجابة صادقة ومباشرة، وإن لم تكن كاملة طبعا.
على الرغم من هذا العزوف المبدئي، فإن سيرة نجيب محفوظ تجلت فى كل أعماله (عدلت عن أن أقول أغلبها)، هى لم تتجل ببعدها الظاهر، وإنما بمستوياتها الكيانية المتعددة . إن نجيب محفوظ ، هو من المبدعين القلائل (أو النادرين) الذين لم يعيشوا هذا التناقض الصعب بين ما هم، وما يكتبونه. وفى نفس الوقت إنه لا يوجد تماثل أبدا بين شخصه وبين ما يكتب. إنه يحضر -شخصيا – فى كل ما يكتب، وهو يحضر مبدعا لشخوصه المتفردة – غير ما هو -أيضا فى كل ما يكتب. كلا الحضوريـن سهل ممتنع، فعلا، لكن لكل لغته، وتشكيله ليكمل بعضه بعضا. ومع كل هذا التحفظ ، فإن محفوظ قد سمح فى بعض أعماله بجرعة أكثر فأكثر من سيرته الذاتية بدءا بالثلاثية ، ثم المرايا، فحكايات حارتنا، ثم أخيرا أسمعنا أصداءها أكثر اختراقا وتكثيفا فى “أصداء السيرة الذاتية ” .
اللوح الثاني: نجيب محفوظ يستوعبنا. فهل هو يمثلنا؟
إذا كان إبداع محفوظ قد غمرنا بكل هذا الثراء والإثراء لما هو تاريخ، فإن شخصه-بيننا- ليس أقل ثراء، ولا أقل إعجازا. فى خطوط عريضة، سوف أحاول أن أكشف عن بعض ما عايشتـه مما هو نجيب محفوظ المواطن المصرى الذى يعمل موظفا: يأتمر، ويأمر، ويقبض مرتبه، ويحال إلى المعاش، ويرعى أسرته، ويمشى بين الناس، ويطرح نفسه حيثما كانوا، ليجعلها فى متناولهم طول الوقت دون تردد. ثم إنه يبتعد ليشحذ وعيه مبدعا متخفيا بروائعه المضيئة والمحركة دون أن يتعارض هذا مع ذاك، إن حضور نجيب محفوظ هكذا يبدو مختلفا من حيث الموقف والموقع، لكنه أبدا ليس متناقضا، ولا هو متصارع مع بعضه البعض. إننى – من باب التفاؤل المؤلم – رحت أتصور أنه بحضوره اللاقط المـشع معا، يمكن أن يمثل تاريخا يشير إلى إمكانياتنا الكامنة، فنشعر أننا مطالبون بإطلاقها تتحرر وتضيف، وفيما يلى بعض تجلياته فى الحياة العادية ومن ذلك:
أولا: محفوظ رب الأسرة والحرفوش (الدائرة الخاصة نسبيا)
هذا بعد لا يحق لى – ولا لأحد- أن يقترب منه، فهو ما أتاح بعضه لبعض حوارييه إلا ثقة بهم، ويقينا من أمانتهم، ومن عجب أن يكون مثل هذا البعد هو الأهم عند كثير من النقاد والمؤرخين، ليس بالنسبة لمحفوظ فحسب، وإنما بالنسبة لأى قائد أو رائد أو مبدع، مع أنه – فى نهاية النهاية – بعدا ليس متاحا أبدا مهما ترك من علامات، أو استنتج من شهادات الأقربين. إن ما يمكن أن أشهد به فى هذه المنطقة، على قدر ما أتيح لي، هو أنه بـعد لا يتناقض – عموما – مع غيره فى عمق جوهره، لا بالنسبة لنجيب محفوظ مبدعا، ولا بالنسبة لنجيب محفوظ شخصا يمشى بيننا، ويسمح لخاصته أن يعرفوا أكثر فأكثر. هذا التناسق بين الشخص وإبداعه ليس حال أغلب من هم ليسوا محفوظا من المبدعين. إنه بعد طيب رائع، لا يزيد الأبعاد الأخرى إلا عمقا، وثراء، ومصداقية، ونبضا حيا. كيف حقق نجيب محفوظ ذلك؟ وهل كانت له مضاعفاته التى دفعها بصبر ورضا دون أن ندري؟ لست أعرف. وليس من حقى أن أتمادى أكثر.
ثانيا: محفوظ الموظف (المطيع، والمرؤوس، والرئيس المسئول والرقيب ..)
كان لهذا البعد أروع الأثر فى تكوين محفوظ الإنسان والمبدع معا، فقد أدى عدة وظائف لا يمكن تصور تمامها إلا من خلاله، لقد سمح هذا البعد لمحفوظ أن يخالط الواقع حتى يعجن بمائه يوما بيوم، فتعمقت علاقته بالالتزام الراتب (الروتين) الرائع، وتأكدت صلاته بالناس الحقيقيين. ثم إنه من كثرة ما أحب هذه الفرصة وأدرك مدى ضرورتها وروعة عطائها، اندفع فى “حضرة المحترم” يقدسها حتى ألهها، وكأنه ضرب ما عاشه فى مائه، ليبلغنا مدى قدسيته رغم اغترابه الظاهر. لا أظن أن أحدا وهو يتعامل مع نجيب محفوظ الموظف كان يستطيع أن يتبين منه نجيب محفوظ المبدع، فإذا علمنا أنه لم يكن أبدا ثـم تناقضا، وأن كثيرا من مادة إبداعه كان مصدرها هذا العمل البسيط الجميل المنتظم المستمر، أمكننا إدراك ما نعنيه بتحقيق المعادلة الصعبة.
ثالثا: محفوظ السياسي
تحدد هذا البعد من قبل أن يكتب محفوظ زاوية “وجهة نظر”أسبوعيا فى الأهرام، لكن حضوره السياسى مواطنا عاديا لا يقتصر على ما نقرأه له فى هذه الزاوية،، فهو لا يتردد فى إعلان موقفه السياسى الحريص ألا “يستفز السلطان” فى أى مناسبة. إننى أشهد أننى لم أعرف عنه نفاقا فى ذلك، وإنما هو يختار أى لمحة إيجابية لأى حاكم، فيأمل فيها أكثر مما تعـد، وكأنه يغرى الحاكم -بذلك – بالعمل على الاستزادة فى هذا الاتجاه. وهو على الرغم من تصنيفه باعتباره من المحافظين فإننى لا أشك أنه من أول من يتقدم المعارك متى فـرضت عليه (علينا). إنه فقط يرفض المعارك المؤجلة، والمؤجلة لكل ما هو إيجابى آنى واجب الأداء حالا.
يكمل هذا البعد أيضا تلك الممارسة السياسية العادية الدؤوب ، مهما بدت تحصيل حاصل، ومهما تأكد من لاجدواها، فهو يذهب إلى صناديق الانتخاب، ولا يتعالى عن الإجابة عن أى سؤال مهما كان السائل، حتى لو رجح أن هذا السائل سوف يلوى إجابته، من منا يستطع فعل ذلك بهذه البساطة التى نراها فيه؟ من منا يستطيع أن يواصل المشى فى طريق يعلم يقينا أنه مسدود النهاية، لكنه يواصل المشى فيه؟
محفوظ المقهى (قديما) والفنادق (بعد الحادث)
هذا حضور آخر، فيه من السياسة والخصوصية معا، ما لا يترادف مع الحضور السياسى التصريحاتى (وجهة نظر الأهرام) ، أو مع الخصوصية المغلقة الحميمة (الحرافيش)، لكنه أبدا ليس متناقضا مع أى بعد آخر (كيف يفعلها هكذا ذلك الرجل ؟؟!!).
إنها مدرسة مفتوحة لكل من أراد دون أى استئذان أو تحفظ، ودون أوراق اعتماد أو شروط. وهو، وحتى كتابة هذه السطور ، ما زال حاضرا جدا وسطنا طول الوقت. هى مدرسة لا أعرف لها مثيلا، فهو يبدو بيننا- بكل ما امتـحن به من إعاقات حسية- أكثرنا حضورا، وديمقراطية، وانتباها، وتقبلا للاختلاف، وتسامحا، وتعلما(لا تعليما فقط).
هل يمكن أن يكون “هو” “هكذا”، ما يمكن أن نكونه نحن؟
حين نلتقط هذا الحضور التاريخى فى ذات محفوظ، باعتباره أجمل وأروع من يمثلنا (ياليت)، وحين نتابع هذه الإحاطة الدقيقة لتاريخنا فى إبداعه، قد نضبط أنفسنا ونحن نتسائل كيف ذلك؟ هل هذا الرجل هو أصدق ما يمثلنا؟ أم أنه التحدى الملقى علينا لنكونه؟
إن مجرد تصور صحة هذا الفرض يحملنا مسئولية مؤلمة، بقدر ما يحيطنا بتفاؤل مسئول.