أسئلة حول الشخصية المصرية
مع أ. د. يحيى الرخاوى
ـــــ
الظواهر السلبية عند المصريين؟
- ما هى فى نظرك أهم الظواهر السلبية التى تميز المصريين (غالبيتهم) وأسباب ذلك؟
إسمح لى أن أقول – وإن بدا أنى متحيز لأهل بلدى – أنه بالرغم من وجود مظاهر سلبية، كثيرة وظاهرة، إلا أنها أبدا لا تمثل غالبية المصريين بحال من الأحوال، لا حالا ولا تاريخا، لأننا لوكنا غالبية سلبية لما استطعنا أن نصمد كل هذا التاريخ تحت كل هذه الظروف، ولا يصح إطلاقا أن نتصيد هذا السلوك الفردى أو ذاك لنقول إن المصريين كذا، أو إنهم كيت من الصفات السلبية، فظروف مصر كانت ينبغى أن تجعل هذا الشعب أفاقا أو منحلا على طول الخط , ولا هو هذا ولا ذاك، بل هو شعب يبنى بلده رغم كل شيء، بل وهو رائد فى بناء من حوله, وما حوله مهما بدا عليه من سلبيات.
فإن كان من ضمن إيجابياتنا أن نعترف ببعض سلبياتنا، فدعنى أقول إن اللامبالاة (أو الأنامالية: أنا مالى) التى قد يتصف بها الشعب المصرى، وكذلك تحمل الحاكم الظالم أكثر مما ينبغى، وعدم الانتماء إلى قيمة العمل انتماء متصلا وكافيا، كل هذه المظاهر هى من سلبياتنا فعلا، ولكن من عمق آخر قد نقرأ فيها ما يشبه الصبر، والثقة بالزمن والاحتجاج على التوالى، فنحن لا نحتمل الدكتاتور لأننا نرضى عن حكمه، ولكن ربما ثقة منا – كشعب حضارى انتصر دائما على مقومات هزيمته – ثقة منا بأنه سيرحل، أو ستجىء له مصيبة تأخذه، (مثلما يقول المثل عندنا) ونحن قد نكسل فى عملنا، ولكننا نعمل فى القطاع الخاص وفى الخارج بطاقة لا يقدر عليها غيرنا، وكأننا حين نكسل أو نتكاسل نحتج بما معناه ‘على قد فلوسهم’, وهكذا، وبديهى أننى لا أحبذ هذا ولا ذاك، ولكننى فقط أحاول مع الاعتراف بأن كل هذا سلبى، أحاول أن أقرأ فى الظاهرة ما وراءها.
- ظاهرة الميل إلى الاتكالية والسلبية وعدم الميل إلى النظام، ما تفسيرك النفسى لها ؟
أولا سبق الكلام عن ما يقابل الظاهرتين الأولتين، أما عدم الميل إلى النظام فنحن نعتبر من أحسن بلاد العالم الثالث نظاما، وقد يرجع هذا إلى عراقتنا فى نظام الرى مثلا، وضرورة اعتمادنا فى الزراعة على دورات بذاتها، ومقادير من المياه بذاتها، ولو أننا حقيقة لا ننتمى إلى قيمة النظام، إذن لتوقف المرور نهائيا فى بلد مثل القاهرة مثلا، ثم لا يصح أن تقارنا فى هذا ببلد لها أضعاف إمكانياتنا، وعشر عددنا، فعلى قدر فلوسنا، وبقدر عددنا تسير الأمور، وأنا غير راض عن أى درجة من الفوضى مهما كانت التبريرات، ولكن لكل شىء أوان.
– ما رأيك فيما يشيع عن سلبية الشخصية المصرية؟
لا أحسب أننى فى موقع يسمح لى بالتفسير أو بالتبرير لما يقال عن سلبية الشعب المصرى، أو الشخصية المصرية.
ذلك لأن الأمر يحتاج إلى إحصائيات أولا للتحقق من هذه المقولة.
بل إن الأمر يحتاج قبل ذلك إلى تعريف لماهية السلبية المزعومة التى وصف بها شعبى الذى أنا منه بكل تأكيد، وأيضا – رضيت أم لم أرض – بكل فخر.
وسوف أكتفى بعرض انطباعاتى بهذا الشأن من منطلقين محددين:
المنطلق الأول: هو شخصي، ورغم أننى لا أمثل شعبى، إلا أننى مصرى بالضرورة، ومصرى بالولادة، ومصرى بالإنتماء، وأكاد أقول مصرى بالاختيار لو خــيرت (ورحم الله مصطفى كامل)
والمنطلق الثانى: هو خبرتى فى ممارستى للطب النفسى مما أتاح لى رؤية عينات بلا حصر من أفراد هذا الشعب وهم فى حالة عرى كامل، أو تمزق كاشف، أو تحد متألم (وهذا ما يسمى المرض النفسي)
أقول من واقع هذا وذاك فإن ما يسمى سلبية هو النتاج الطبيعى لعوامل التاريخ والجغرافيا، وذلك من حيث أصالة وعمق العلاقة بين الإنسان المصرى وكل مما يلي:
أرض منبسطة – قـدر دورى (فيضان النيل) – زراعة موسمية (قديما) – خلود محتم ورب واحد (نحن من أول الموحدين) – زمن ممتد، حياة راسخة.
وأحسب أنه إذا اجتمعت هذه العوامل وتغلغلت عبر آلاف السنين، فلا بد أن تفرز إنسانا له تفاعل هادئ (يبدو لامباليا)، وصبر على الحكام (يبدو مستسلما) وهو ليس كذلك لأن منطقه التاريخى يؤكد له أنه الأبقى وأن هذا الحاكم إلى زوال: ليرحل لتجيله مصيبة تأخذه !!!!)
واستيعاب لغزاة حتى يصيرهم مصريون دون أن يصيروه محتلا (يبدو مهزوما).
أما السلبيات الأحدث فأحسب أنها جاءت نتيجة الاستعمار التركى فالبريطانى من جهة، ثم نتيجة الحكم الشمولى الذى غذى الاعتمادية والاتكال من جهة أخرى.
وأخيرا فلا ننسى أننا نتحدث عن شعب من شعوب العالم الثالث، ولا يصح مقارنته إلا بمن هو من العالم الثالث حيث مازلنا فى سنة أولى ديمقراطية وسنة روضة إبداع وسنة تانية تصنيع، وسنة عشرة طائفية وقبلية وتعصب.
ورغم كل ذلك فالنبض الحضارى يسرى فى عروقنا لا تخطئه عين حاكم مدقق.
– هل السلبية والإهمال سمة من سمات المصريين؟
طبعا لا… ولابد أن أحذر ابتداء أننى مصرى، ومتحيز، وأننى أرد على مثل ذلك من واقع تحيزى، ثم بالنظر فى التاريخ من ناحية وفى ممارستى لمهنتى من ناحية أخرى.
فلا يمكن أن يكون الإنسان المصرى الذى بنى الهرم وترك كل هذه الأثار الدالة على الحضارة سلبيا ولن يمكن أن يكون المصرى العلام أو رجل الأعمال المعاصر الذى يبرز كل أقرانه متى أتيحت له الفرصة فى الخارج سلبيا
كما أننى – وأنا أفخر أن أعتبر نفسى مصريا نموذجيا عاديا- لست سلبيا الآن وأنا أرد على هذا التساؤل بمنتهى الجدية
لكننى فى نفس الوقت، أقر وأعترف أن السلبية منتشرة بين المصريين بشكل ظاهر لا يمكن إخفاؤه مهما بلغ الحماس أو خلط فى التاريخ.
– إذن: ما الذى يفسر هذا التناقض: توجد سلبية ولا يوجد إنسان سلبى، هل السلبية تخلق نفسها؟
أرجع ذلك إلى سببين أساسيين:
1- نوع التعليم
2- ونوع تنظيم الفعل اليومى والعلاقة بالعمل
وأضيف سببين ثانويين:
1- نوع الممارسة السياسية
2- ونوع العواطف الاعتمادية
أما نوع التعليم فهو يعامل عقل الطفل المصرى ثم الشاب المصرى بطريقة تجعله ينقلب إل وعاء للتلقى، وهذا هو أول سبب يخلق السلبية، فالسلبية ليست سمة ثابتة من سمات الشخصية وإنما هى طريقة لعمل العقل، والعقل الذى تعود على التلقى دون الحوار والمشاركة، سوف يظل كذلك ما لم تتغير طريقة معاملتنا له احتراما وتحريكا
أما نوع تنظيم الفعل اليومى: فقد اختلت عندنا القيم خاصة بعد قيام حركة الجيش التى انقلبت إلى ثورة فى المجال القومى والخارجى دون المجال السلوكى والأخلاقى، فقد أصبحت رشوة العاملين هى الأساس، وأصبح الالتزام بالسعة والموعيد هو تحبيك لا لزوم له، وأصبحت كراسى المكاتب أقل من عدد الموظفين الفروض أن يجلسوا عليها، وأصبح الذهاب إلاى العمل هو غاية المراد وليس العمل ذاته.
وقد ترتب على كل ذلك آفات تعتبر وقودا لكل ما هو سلبى حقيقة وفعلا مثل آفة التقريب، والفتوى بغير علم، وأنن كله مثل كله، وتجاوز الإتقان، والوصول عن غير طريق الإنجاز
فإذا انتقلنا للأسباب الثانوية وجدنا أن الممارسة السياسية منذ هذه الحركة المثورة فى مناطق محدودة هى ممارسة علوية ليس فيها حرية أو حوار حقيقى، فالجيش ما زال يحكمنا والبديل هو جيش المتدينين المتربصين بالجيش الخفى، ولكن لا يوجد شارع سياسى ولا أحزاب سياسية وإن كانت توجد صحافة حرة تقوم بوظيفة التفريغ والـــ ” فضفضفة” أكثر من وظيفة الرقابة والمشاركة.
ثم يأتى السبب الثانوى الثانى وهو ما أسميته الاعتمادية العاطفية، وهو يظهر فى العلاقات الأسرية الممتدة جذورها إلى العلاقعات القبلية، ثم تضخمت بالاعتمادية على الدولة تحت وهم الاشتراكية، وزادت وفاضت بحكاية أخلاق القرية ورب العائلة فى الشق الثانى من الحركة المثورة، وبعد أربعين سنة نأتى ونتساءل من أين تأتى السلبية، إن الشعب المصرى إن لم يصبح سلبيا للمناه لوما شديدا باعتبار أنه كائن حى لم يتفاعل كما ينبغى لما فرض عليه.
- ماذا حدث للشخصية المصرية خلال السنوات الأخيرة؟
الشخصية لا تتغير خلال سنوات، الشخصية تكاد تكون مثل بصمة الأصابع، صحيح أنها تتغير من حيث المبدأ، ولكن ببطء شديد، ونتيجةلتراكما متعاقبة، قد يتغير فرد نتيجة لحدث ما، ولكن أن تتغير الشخصية القويمية بهذه السهولة كما يوحى السؤال فكلا وألف كلا، ومع ذلك، وبفرض أنها تغيرت، فنحن لا نحذق قراءة التاريخ إذا تكلمنا على السنوات الأخيرة، فمن يــعلى من أدب الستينات ينسى أن هذا الأدب قد تكون ونضج، ولم يبق إلا أن ينبسط وينشر،قبل ذلك بكثير، تكون فى وجدان المبدعين فى الأربعينات وحتى أواخر الخمسينات ليظهر فى الستينات مثلا، والذى يحاول أن يلمز عصر السادات ويعزو سلبيات الشخصية المصرية فى صورتها الأحدث، تلك الصورة الظالمة المظلومة، يعزو كل ذلك إلى ما يسمى بالانفتاح ينسى أن هذا هو نتاج مجتمع وحكم ونظام الستينات مثلا،وكل ما حدث أنه ماإن أتيحت له الفرصة حتى ظهر، ولا بد أن نتحمله قبل أن نسارع بالحكم عليه بهذه السطحية المتحيزة.
الإنسان كائن بيولوجى حى، طفولته من أطول طفولات الثدييات، وإنما تحسب نتائجها بأواخرها، فإذا كنا قد رأينا سلبيات الثمانينات، فهذا يدل على أن التكوين كان خاطئا وسطحيا، وما إن أتيحت الفرصة حتى ظهرت السلبيات.
- هل أصبحت الشخصية المصرية سلبية، انتهازية، أنانية؟
لا أظن – مرة ثانية أن المسألة هى كان وأصبح، إن البعد الحضارى الحقيقى، لابد أن يقاس بالحقب والقرون، نعم عندنا الأنانى منذ القدم، والأنانى يترعرع أكثر فى عهد الدس والظلام، واختلال قيم التقييم، وقد يؤجل ظهور الأنانية التى تتكون فى هذه العهود، لتظهر فى أول فرصة متاحة، لأن أخلاق القهر ظاهرها الالتزام، وباطنها الانتهازية والدس، وإنما مسألة ظهور هذا أو ذاك مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.
– هل ترتبط الشخصية بالنظم الاقتصادية سلبا وإيجابا؟
- طبعا، ولكنها ترتبط أكثر بالعلاقات الاقتصادية، وأهم ما فى النظم الاقتصادية هى العلاقات التى تفرضها، فلا يكفى أن نرفع شعارا ونكتب عليه اشتراكية، لنقول إن الشخصية أصبحت مصبوغة بما تمليه النظم الاشتراكية من عدل، وموضوعية، ولكن لا بد أن تمارس الأخلاق الاشتراكية طول الوقت وعلى كل المستويات ظاهرا وباطنا، ولايتم هذا إلا بتأصيل طويل المدى ينبع من اقتناع القادة لا من وصاية الفئة المميزة والتى تعيش هى وأولادها تحت لا فتة لا تتناسب مع ما تدعو به، وحجتها أنها تقبض ثمن مغامرتها بوضع رأسها فى كفها ليلة كذا، الاشتراكية موقف لا يتجزأ، له جانب اقتصادى جيد، لكن له بعد أخلاقى أروع، والاثنان مرتبطان أشد الارتباط وأبلغه.
- هل فعلا أصبحت الشخصية المصرية بلا هوية؟
طبعا ليس كذلك تماما، وعموما فالهوية تتكون فى سن الشباب وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل خاص، لأننا لا نستطيع أن نتعرف على ماهية الافتقاد إلى الهوية إلا من خلال النظر فى أزمة الانتماء، وأزمة الإبداع عند الشباب خاصة، فالشباب هو فترة تكوين الهوية.
- ماذا تعنى بأزمة الإبداع عند الشباب، وما هى مشكلة الشباب المصرى فى رأيك فى هذه المرحلة؟
- أحسب أن شبابنا قد وقع فى محظور خطير لا يـنــتبه إليه أحد بالقدر الكافى، ألا وهو العجز عن الإبداع، أو قل إستسهال التقليد.
شبابنا يقلد، يقلد، يقلد، يقلد، وهو لا يقلد شباب أوربا أساسا، بل ما أراه أن شبابنا يقلد والسلام، فهو إما أن يقلد الغرب، وإما أن يقلد السلف، وإما أن يقلد اللاشيء، المهم أن يقلد .
***
تعدد الوجوه للشخصية المصرية
– كم عدد الوجوه التى يرتديها الإنسان كل يوم؟
ـ أى عدد، حسب تعريف كلمة “الوجوه” فأحيانا يكون كل تعبير وجه هو حالة “ذات”، بمعنى أنه كيان منطلق غير الكيان الظاهر لأول وهله.
هل يمكن للإنسان أن يعيش بوجه واحد طيب أم أنه يجب أحيانا أن يرتدى وجه ذئب؟
– المسألة ليست إما وجه ذئب أو وجه طيب المسألة أن لكل حال وموقف وجه يناسبه، لا أكثر ولا أقل.
– هل أى إنسان يحتاج أن يرتدى أكثر من قناع ليتواصل مع الناس أو يعيش فى المجتمع؟
– إن إرتداء الوجوه ليس عيبا ولا نفاقا بلى هو انتقاء الوجه المناسب للفعل المناسب والموقف المناسب. كما ذكرنا فى الاجابة الثانية
– عندما يستخدم الإنسان هذا القناع أو يلجأ إليه هل من الممكن أن يتحول ذلك لمرض؟
– إذا زادت المسألة عن الحد، فإنها تصبح نفاقاً، بل إن الأمر قد يصل إلى ما يسمى “إضطراب الشخصية” وهناك شخصية وصفتها “هيلين دويتش” إسمها شخصية “كأن” وهى غير شخصية الإمّعة أى التابع طول الوقت، “شخصية كأن” تصف شخصا يتقمص من حوله أياً كان، فهو مع المتدين أكثر منه تدينا، ومع المهرج أكثر منه تهريجاً، وهو يلبس هذه الوجوه دون تبعية ودون نفاق، لكنه يلبسها بدون وعى كأنه إناء فارغ يٌمْلأ بما حوله سلبياً، لا أكثر.
– هل يوجد نموذج الرجل الطيب أو الساذج الذى كان يظهر فى روايات نجيب محفوظ، ومحمد عبد الحليم عبد الله الذى يعتقد الناس أنه يرتدى أقنعة يتخفى وراءها وهو غير ذلك؟
– نعم، وإن كانت الأمثلة والاستشهادات بهؤلاء الكتاب غير دقيقة.
– هل من الممكن أن يتغير الإنسان مرة واحدة إذا تعرض لموقف شاذ مثل أن يصبح غنيا مرة واحدة بعد أن كان فقيرا أو العكس؟
– أى تغيير يحتاج إلى وقت، ووقت طويل جدا، التغيير الحقيقى لايحدث إلاكجزء من عملية النمو، هذا أمر يحتاج إلى وقت. لكن من الممكن أن يتم تغيير ظاهرى، أو سلوكى مؤقت ثم، يتعمق بعد ذلك بالتكرار ومرور الزمن.
– لماذا لا يحب المصريين الأغنياء؟
– من قال إن المصريين لا يحبون الأغنياء؟
من قديم والناس المصريون يتقربون للأغنياء ويحبون الكرماء منهم، وهم لا يحبونهم استجداء وإنما اعترافا بفضلهم، أما الأغنياء الأغبياء فالمصريون قد يتعاملون معهم نفاقا طيبا حتى يأمنوا شرهم من جهة، ولا مانع من خير محتمل.
– لماذا الربط بينهم وبين الأعمال غير المشروعة؟
– هذه أيضا ليست قاعدة، لكنها اتجاه محتملْ، وغالب، وبعض تفسيره ما هو معروف من ليونة القوانين مع الأغنى والأقدر، وصرامتها مع الأفقر والأضعف (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الغنى تركوه، وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد).
– لماذا كانت الرأسمالية فى الأربعينيات وطنية والأن أصبحت حرامية. ما السبب فى ذلك؟
– هذه ليست حقيقة مطلقة، ففى الأربعينات كانت هناك رأسمالية وطنية، وفى نفس الوقت كانت هناك رأسمالية إقطاعية شديدة القسوة والظلم، وأيضا لم تكن فى الرأسمالية القديمة للعمال أية حقوق حقيقية، ومع ذلك ففى رأسمالية اليوم بعض ذلك، وهكذا لا يصح التعميم.
– ما هى الأسباب فى رأيك التى تدفع بالبعض للصعود إلى الهاوية والمغامرة والمقامرة بمراكزهم الاجتماعية ومستقبلهم المهنى بل ومستقبل كل أفراد أسرهم.. وهل ِمنْ ضمن هذه الأسباب الجشع المادى أم الخلل النفسى؟
أولا: أنا لا أحب تكرار تعبير “الصعود إلى الهاوية” فهو قد استعمل بسهولة مفرطة حتى فقد معناه.
ثانيا: كلمة الجشع المادى لا تكفى لوصف هذه الحالات أنا أتصورأن ما نحن فيه هو خلخلة كاملة للقيم ترجع إلى مسألة “الرقص على السلم“التى عشناها أكثر من نصف قرن إن للاشتراكية قيمها الرائعة وللرأسمالية قيمها المفيدة بشكل أو بآخر،لكن الذى حدث حين اهتز المجتمع من أعلى دون أى ارتباط بحركية الناس الحقيقية اختفت القيم التى كان الناس يتماسكون بها(لا يتمسّكون بها) إن الذى يربط ناس أى مجتمع إلى بعضهم البعض هو نسيج ثقافة بذاتها، والذى يدعم هذه الثقافة ويحفظها هو نوع القيم السائدة.
نحن نعيش – منذ استولى العسكر على الناس والوعى والاقتصاد بلا روابط غائرة يمكن أن تلغينا وتحفظنا حتى لو أخطأ البعض أو تخلى بعض الوقت عن هذه القيم.
النتيجة هى عدم الأمان لكل الناس حتى لأغنى الأغنياء، ونتيجة عدم الأمان هذا هى الاستغراق فى الجمع للجمع حتى التراكم والتكاثر، ثم البحث عن اللذه السطحية بلا ارتواء وفى هذه الحالة لا يوجد فرق بين ملياردير وبائع سمك وسمكرى سيارات، الكل غير آمن، والكل يجمع، والكل يستعجل اللذة السطحية فيما لا يبقى، بغض النظر عما عنده، أو عند بقية الناس، لأنه فرد يدور حول نفسه بلا معالم ولا انتماء إلا ألفاظ يرددها وصفقات يعقدها لذاتها.
– ألا يفترض أن تكون المكانة الاجتماعية والثقافية درعاً واقياً للفرد يحيمة من ارتكاب تلك الجرائم والتجاوزات.. فإذا كان هذا الفرض غير متحقق على أرض الواقع حالياً.. إذا ما هو الدرع الحقيقى الذى يتحصن به الإنسان فى مواجهة الاغراءات المادية؟
– لا طبعا، ثم إن القيم اختلت، بهت تعبير المكانة الاجتماعية، لم نعد كلمة أستاذ جامعى تعنى عند عامة الناس شيئا يفيد مركزا اجتماعيا، ولا كلمة دكتور ولا كلمة عالم أما مسألة المكانة الاجتماعية الخاصة بأرقام الحسابات فى البنك فعامة الناس لا تفهم – مجرد تفهم – ماذا تعنى كلمة مليون أو مليار – حين تقول فلان ملياردير أنت لا تشير إلى مكانة اجتماعية وإنما أنت تحدد وشما رمزيا لا أكثر، قد يكون رمزا طبقيا لكنه لا يعنى شيئا يتعلق بالمكانة الاجتماعية، أو بالقيمة، أو بالكيان البشرى المتميز بما هو فرد فى مجتمع إنسانى.
أما الدرع الحقيقى، فهو الانتماء للمجتمع ومحاسبة الله، الله بمعنى الحق، والعدل الذى ينبهنا أن المعاذير (التى أصبح يندرج تحتها إقرار الذمة المالية المزور وغسل الأموال، لا تنفع صاحبها أمام ضميره ونفسه “بل الإنسان على نفسه بصيرة ولوألقى معاذيره” وأيضا الآية “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى” هذا ليس استشهاد سطحيا بالقرآن الكريم، كما يفعل المقاولون حين يرفعون لافته “وقل اعملو…” ثم يعملون أسوأ ما يمكن فتنهار العمارة على من فيها وهو ذاهب لأداء العمرة الرابعة عشر. إنه موقف قيمى ينبع من الإيمان دون أن تشوهه السلطة الدينية.
– هل يحتاج موظفو المناصب العليا والمواقع القيادية إلى تأهيل نفسى يؤهلهم للتعامل مع مقتضيات هذه الوظائف الحساسة بتوزان نفسى؟
– تأهيل نفسى ماذا؟ مَن يؤهل مَن؟ اهتزاز القيم لم يدع أحدا سليما، والذى يدعى قدرته على التأهيل النفسى بهذا المعنى الأخلاقى – وأنا منهم – هو الأحوج للتأهيل النفسى. دعونا لا نسطح الأمور وكأنها مسألة وعظ وإرشاد وتأهيل أخلاقى!! وخطب وشعارات.
– ما هو السبيل لنا – كقراء ومواطنين نشتاق للخروج من حالة اليأس والاحباط التى نشعر بها عند متابعتنا لمثل هذه القضايا؟
– لا سبيل إلا بمواجهة حازمة وشجاعة لكل المؤسسات المتهالكة الدينية والسياسية والإدارية الفاسدة، لابد أن يجتمع الناس إلى بعضهم البعض فى وحدات صغيرة تتلاقى بإصرار عنيد فى تزايد مستمر لعل، وعسى. حتى شعارات الديمقراطية، والاسلام، والأمركة، والعولمة، وحقوق الإنسان هى كلمات جوفاء فى نهاية النهاية.
الأمر يحتاج إلى تثوير منتظم مضطرد طول الوقت.
***
الغضب والشعب والمصرى
– لماذا أصبح الإنسان المصرى فى حالة غضب دائم سواء داخل منزله أم خارجه؟
لا أظن أن الإنسان المصرى فى حالة غضب لكننى أرجح أنه فى حالة ‘قرف” بما يترتب عليه من زهق (ضجر)، الغضب عندى شعور راق شريف متحفز، هل تذكرين الشاعر يقول ‘وتعلم كيف تغضب”، الغضب حافز للفعل، أما القرف فهو تبرير للانسحاب كذلك الزهق (الضجر) هو تململ فى المحل (محلك سر) وأظن أن كلا من القرف والضجر يرجع إلى ميوعة الوضع القائم سواء فى تركيبة الحكومة ومفاجآتها أم فى قوانين التعامل وفرص العمل وفقد الأمانى.
– لماذا اختفت قيمة التسامح من عند الإنسان المصرى الذى عرف قديما بالتسامح والصبر والاحتمال؟
لم تختف قيمة التسامح تماما والذى يتابع نقاش فلاح كفر الهناودة مع البيه عاطف لابد أن يقر ويعترف أن التسامح مازال قائما ويجعله عامر.
وحتى الخيبة البليغة التى ظهرت فى شكل العقاب الفورى بإزهاق الأرواح والتخلص من المختلف، لا تصف الشعب المصرى كله وإنما هى بثور على وجه الوعى المصري، أظهرت من ناحية شكل الارهاب الدموى ومن ناحية أخرى ظهرت فى أشكال الإعدام بالجملة مما لم نعتد فى القضاء المصري، ولا فى الحكم المصرى ومع هذا وذاك فإن الشعب المصرى فى نظرى مازال أكثر تسامحا من أى شعب آخر أعرفه.
– والغضب أصبح منتشر بين الرجال والنساء والأطفال على قدم السواء حتى إن كل الناس لايحتمل الآخر حتى لو احتك به دون مقصد على سلم أتوبيس فى وسط الزحام أو كسر علبة إشارة مرور أثناء سيره بالسيارة؟
يقول المثل المصري” دى سن دبانة دى قلوب مليانة” وهذا المثل يرد على هذا السؤال مباشرة لقد إمتلأ وجدان ووعى الانسان المصرى رجلا أو طفلا أو إمرأة حتى لم يتقى فى طاقته سوى بعض ملليمترات لاتسع أى إحتمال صبرا وتأجيل.
ثم إن الإنسان المصرى الصبور طبعا وتاريخا أصبح لا يثق فى الصبر من كثرة الوعود دون وفاء، وكثرة التأجيل تلو التأجيل، من هنا كانت عتبه الاستثارة قريبة جدا، منخفضة جدا ومن ثم الاحتكاكات المشتعلة.
– ماهو الحل لعودة قيمة التسامح؟
– لاتوجد حلول فى برشام.
– لابد من ثورة تعيد للشعب المصرى علاقته بربه.
- لابد من حقائق تعيد للشاب المصرى علاقتة بالطين من ناحية وبالأمل من ناحية.
- لابد من فرص عمل تتيح قدرا حقيقيا من الموضوعية والأمان
لابد من حرية.
لابد من حوار.
– بماذا تتميز الشخصية المصرية عبر التاريخ؟
لا يصح أن نقف أمام التاريخ وكأنه كيان ثابت، التاريخ هو حركة ممتدة، ولا يمكن الكلام عن الشخصية المصرية تاريخا باعتبار أن الإنسان المصرى الحالى هو امتداد استاتيكى لجده الأسبق، فالمسألة أن التاريخ يورثنا أنفسنا لنعيد صياغتها لا لنطبع بصماته عليها.
كما لا يمكن أن أعمم القول وأصف المدفون فى الهرم بنفس الصفة التى أصف بها من بناه حجرا حجرا فماذ ا يعنى السؤال بتميز الإنسان المصرى عبر التاريخ.
ورغم كل هذه التحفظات فإننى أستلهم النيل وفيضانه المتكرر، ثم حدب الصحراء وشريط الخضرة لأقول إن الإنسان المصرى صديق الزمن، وايق من الرى بعد الحفاف قادر على تخضير الأصفر واستنبات القفر، صبور على حاكمه الظالم لثقته أنه زائل لا محالة، وهو سهل مثل سهل مصر، معطاء مثل نيلها، ممتد مثل صحرائها… إلخ وبذلك أعود إلى تحيزى.
- تأثير هذه الصفات على مستقبل مصر؟
المستقبل هو حاصل ضرب الحاضر فى الماضى، وهو ما نفعله الآن لا ما ننتظره غدا، وأظن أننا فى مأزقنا هذا بين بقايا السطة الجيشية النفعية المخفية فى ثياب ما يسمى النظام الحالى والحزب المزعوم، وبين تربص انقضاض السلطة الدينية الشكلية من باب الحيش أوالديمراطية الخادعة بين هذا وذاك نحن فى مأزق حياة أو موت، والمستقبل يتوقف على الإحابة على أسئلة جوهرية تحدد هويتنا وقدراتنا،:
فهل الديمقراطية الغربية التى ستأتى بالسلطة الدينية لا محالة هى الحل؟
وهل الميوعة السياسية الحالية التى لا تولد إلا الفراغ هى الحل؟
وهل نحن قادرون على مواجهة التحدى الحضارى حقيقة وفعلا؟
وهل عندنا بديل حضارى يكمل نقص حضارة الغرب ويحاورها وربما يرثها؟
وأنا – كفرد – عندى إجابات إيجابية وأحمل مسئؤليتى حقيقة وفعلا تجاه كل هذا- ولكن كعضو فى جماعة ومواطن فى أمهة تعيش تاريخها ليس عندى نفس التفاؤل ولا نفس الطمأنينة لأى قدر من المسئولية الجماعية تجاه كل ذلك
- علاقة السلطة بهذه الظاهرة؟
باختصار، ومن واقع ما تقدم السلطة تتخبط، من القهر إلى الرشوة، ومن التفكير الآمل إلى الوصاية الجاهزة، ومن التشبه بالعصرى إلى التمسح بالتدين، ومستشاروها لا يدركون أن كل هذا يزيد السلبية من ناحية، ويقترب من خطر النار القادرمة من ناحية أخرى.
- كيف تناول الفن وعلى وجه الخصوص المسلسلات فى التليفزيون علاج هذه الظاهرة؟ وهل استطاع التعبير عنها كما يجب؟
طبعا لا لم يستطع، بل إنه غذاها فى بعض الأحيان من حيث لا يدرى.
ففيما عد بعض الأعمال التى تعتبر فلتة، فإن ما أشاهده مصادفة من المسلسلات أو المسرحيات أوالأفلام مازال يلجأ إلى الخطابة المباشرة أو غير المباشر، أو النقد أحادى النظرة، أوالإثارة السياسية العالية الصوت، لا أكثر.
وأحيانا أتصور أن السلطة والفن متآمرين لصالح الجماعات اللتان يتصوران أنهما يحاربانها
ولعلى مخطئ.
***
العقل المصرى.. والاجتهاد
– ماهى مقومات الاجتهاد؟
مرة أخرى تلقى هذه الصفحة بالكرة مشتعلة، ترتطم بمدارات عقولنا الثابتة، اذا تفتح باب الحديث عن “الاجتهاد” رمز حرية العقل ودليل شجاعة التفكير، وقبل أن أدلى بدلوى فى هذه القضية، أود ان أحذر من خدعة تصور أن الحديث عن ظاهرة ما هو فى ذاته فعل مغن، اذ ينبغى – مثلا – الا يلهينا الحديث عن أزمة التفكير عن ممارسة فعل التفكير نفسه، كما لا ينبغى أن يرضينا الحديث عن ظاهرة الاجتهاد بدلا من محاولة الاجتهاد ذاتها وهكذا.
والاجتهاد يعنى الحرية الفكرية الشجاعة التى تسمح بالاقدام على مراجعة المسلمات، وإعادة تفسير ما سبق تفسيره ولو اجمعت الاغلبية على قبوله.
ولا شك اذن ان قدر الاجتهاد الممكن يرتبط ارتباطا مباشرا بمساحة السماح المتاحة، وهذه المساحة ترتبط ارتباطا مباشرا بكل انواع السلطة ومدى طغيان الأفكار الجاهزة.
والعقل المصرى إذ يستعد ليأخذ دوره فى الدورة الحضارية الجديدة عليه ان يبحث عن المقومات التى تؤهله لذلك، وأولها تحصيل كل المعطى من المعلومات المتاحة باعتبارها مجرد أبجدية يصنع من حروفها كلماته الحضارية الجديدة المضيئة، ذلك انه يستحيل أن يكون للاجتهاد معنى أو قيمة أو جدوى اذا نبع من فراغ، فرن كثيرا من الأكفار التى تبدو أصيلة لاتدل الا على جهل صاحبها، وضبط الجرعة بين الخضوع للموسوعية التحصيلية، وبين الاقدام على الاجتهاد الابداعي، هو الفعل اللازم لاتاحة الفرصة لنمو ثمار العقل بما يفيد ويبقى.
وأحسب ان تاريخ العقل المصرى لا يعلن تميزه بوجه خاص بفكر نظرى متكامل، يشير الى قدرته على الاجتهاد الشامل المغامر، فحتى ثورة اخناتون العقلية التوحيدية لم تأخذ شكل النظرية المتكاملة بقدر ما اتصفت بالحدس الصوفى والفعل الثورى الاجتماعى معا، وقد يرجع ذلك الى طبيعة العقل المصرى الا يمانى العملى معا، مما قد يعزى بدوره الى طبيعة الارض المصرية واتصافها بالبسط الجغرافى مع ارتباطها بدورات النيل القدرية، الا ان التاريخ يقول أيضا ان تفاعل الحضارة الاسلامية مع يقين استقرار العقل المصرى على فكرة الخلود قد سمح بنمو الافكار الاجتهادية المضيئة، ومازالت مشاعل الشافعى أو ذى النون المصرى ترسل ضياءها حتى الآن.
على أن هذا الافتقار الى التنظير المتكامل لاينبغى أن ينقص من قدرتنا على الابداع والاجتهاد الفكرى المغامر اذ يظهر فى المجالات العملية والتطبيقية اساسا ذلك أن مجرد الاجتهاد الفكرى اذا لم يلحقه تحقيق ثورى فانه يظل صورة فنية لا فاعلية لها، وهى ان دلت على شرف العقل وطموح الوعى فهى لاتعدو أن تكون زينة المكاتب – مثل جمهورية أفلاطون – لا جدوى ملموس يمكن أن يقاس بوحدة الزمن المتاح للوعى البشري، كذلك فان العكس صحيح، اذا لابد أن نعترف أن التغيير الثورى اذا لم يرتبط باجتهاد فكرى مسبق فى العادة فأنه يخاطر بلا ضمان.
والمشاهد الأمين لمرحلتنا الراهنة لابد وأن يلاحظ أن العقل المصرى يتمطى فى تكاسل خائف بعد طول سبات، وهو يتحس طريقه بين شواهد القبور ومعلقات المتاحف، وعلى ذلك فان اجتهاده محدود محدود محدود، وينبغى ألا نعجب ونحن نقلب صفحات التاريخ القريب فلا نجد نظرية مصرية صدرت فى ماهية الانسان وتفسير الحياة، ونمائية الوجود، اللهم إلا رسالة مطولة من فنان رائد الى قاريء ذكى (تعادلية الحكيم) ومقالا مسلسلا هرمى القوانين كتبه جراح عظام من هواة الفلسفة (وحدة المعرفة لا ستاذنا د. محمد كامل حسين)، وعلى حد علمى فان موسوعية استاذنا العقاد الحافلة، وحتى اصلاحية عميدنا طه حسين الناقدة لم تقدم أى منهما على اجتهادات شاملة متكاملة، ومشاعل النقل الأمين التى حمل لواءها رواد الجيل السابق من امثال استاذنا زكى نجيب محمود وأحمد أمين وسائر من أثرانا بأبجدية المعرفة من كل صوب وحدب من أساتذة الجامعات ورهبان المكتبات والمعامل، كل هؤلاء الرواد كانوا يمهدون لنا طريق المعرفة حتى نستطيع أن نستعمل أبجديتها فى صياغة كلمتنا الجديدة بما يناسب لغة العصر واحتياجاته.
– والآن أين من سيقولها؟ وكيف السبيل؟
اذا كان لنا أن نأمل فى أن نقوم بدورنا فى دورة الحضارة الجديدة فلابد من مقومات أساسية ليكون الاجتهاد هو شرف العقل ومسئولية الوعى فعلا، فلا يقتصر على تعديل هذه الجزئية أو يكتفى باعادة تفسير تلك الصورة الثابتة، وأرى أن من أهم تلك المقومات على سبيل المثال:
1 – ضرورة زيادة مساحة السماح، لا من جانب السلطة بأنواعها فحسب، وانما من جانب الاحتكارات العملاقة لأسواق الافكار سابقة التجهيز، سواء المصنعة فى المصانع السلفية المسلحة، أو المستوردة من بلاد الياس والغرور، مع التنبيه على أن أخطر أنواع القهر الآتى من هذه المصادر هو ما تغلغل فى النفس حتى ليصبح قهرا داخليا يمنع اعادة التفكير أو حتى مجرد الحلم فيما هو مفروض أو مقرر، وبهذا يصبح الانسان سجين ما وضع فى داخل داخله وليس فقط ما وضع حوله من أسوار خارجية.
2 – ضرورة تناقص الشعور بالنقص تدريجيا (بما يشمل تناقص نقيض النقص ومكافئة وهو الشعور بالغرور أو الاستهانة) وذلك من خلال استمرار فعل المعرفة منذ الولادة وحتى الموت (قبل وبعد ودون المدرسة والجامعة والمعهد والمعمل.. الخ)
3 – الاصرار على استمرار الاستقرار مع اكبر درجة من التفاعل الحى الداخلي، فالاستقرار سوف يتيح الفرصة لاختيار الأفكار اذ يمنع اجهاض أجنة الاجتهاد أولا بأول، والحركة التفاعلية الصحية سوف تضمن لاينقلب الاستقرار الى مجرد موت تسكينى هامد.
4 – تنمية القدرة على الخطأ، وقبول شجاعة التراجع بمسئولية ومرونة.
5 – تشجيع التفكير المخالف والتدريب على حق إعادة النظر فى كل شيء مادام الحوار متصلا والبقاء للأصلح وما ينفع الناس.
وبعـد
فلا شك ان زيادة مساحة السماح دون بذور اجتهادية كافية ونشطة سوف يسمح لكثير من الحشائش الضارة أن تنمو، ولكن علينا الا تخشى ذلك، لأنها سرعان ما ستتضاءل بجوار الثمار النشطة نتاج هذا العقل المصرى الجدير بكل احتراما القادر على كل إثمار.
وبهذا وحده نكون قد اكرمنا عقولنا التى وهبها الله تعالى لنا باستخدامها فيما خلقت له، ومن نكون أهلا لحمل أمانة التفكير.
***
الاغتراب على الطريقة المصرية
– ما رأيكم حول مفهوم الاغتراب؟
– الإغتراب فى العصر الحديث. هو المظهر السلوكى لتجزئة الإنسان وإنشقاقه الداخلى. نتيجة لفقد المعنى الذى تدور حوله حياته، وفقد الهدف الذى يسعى إليه فى رحلة عمره، وينشأ الإغتراب إذا ما تقطعت توصيلات السلوك. إذا أنفصل الأستذكار عن نتيجة الإمتحان. أو إذا انفصلت نوعية الدراسة عن طبيعة التخصص المهنى فيما بعد. أو إذا انفصل العامل عن نتيجة عمله.. إذا حدثت هذه التقطعات التى تحدث عادة دون وعى الشخص ورغم إرادته، فإننا نكون فى حالة مواجهة حادة لظاهرة الإغتراب كما ينبغى أن نفهمها.
ومسيرة الإغتراب طبيعية تماما. لأن النمو البشرى ليس نموا مضطرد مسطحا. ذلك أن مواجهة العالم الخارجى بكل تفاصيله ومواجهة الحقيقة الداخلية بكل عشوائيتها. أكبر من احتمال الفرد وخاصة فى المراحل الأولى من تواجده. فى هذه الدنيا. لذلك فإن الفرد يواجه هذا وذاك. وخاصة فى مراحل الطفولة والشباب بالغاء جزء من ذاته مرحليا.
حتى الشباب الذين يرفضونه فى ثورتهم فى المراهقة – وما بعدها – فهم يرفضون الإعتراف به. أكثر مما يرفضون حقيقته. لأن بديل الإغتراب. هو المواجهة الشاملة المتواصلة لما بداخل النفس وما بخارجها فى نفس الوقت. وهذه المواجهة أكبر من قدرات الشباب. وإن كانت هى فى نفس الوقت هدف ثورته!!
الجنون اغترابا
– هل يعنى هذا أننا أمام نوعين من الإغتراب؟
نعم، فهناك الإغتراب المرحلى الضرورى. وهو طبيعى ومن صلب عملية النمو. والنوع الثانى هو الإغتراب الدائم الهروبى. ويرجع أساسا إلى أمرين – فى يقينى – هما الخوف والظلم.
الخوف من الرؤية ومن المواجهة ومن الوضوح. ومن المعرفة ومن الجديد.. كل ذلك لابد وأن يؤدى إلى إلغاء جزء من الذات. وبالتالى إلى الإنشقاق فالإغتراب. ما الظلم فإنه يؤدى إلى انسحاب جزء من الذات، فالتخلي، فالاغتراب كذلك!!
– ما هى انعكاسات حالة الإغتراب على التركيب النفسى للشباب؟
- الفرنسيون هم الذين استعملوا هذا التعبير ‘الإغتراب العقلي’ لوصف الجنون بوجه خاص. وكانوا يعنون به الإنفصال الكامل لجزء هام من العقل ثم استقلال هذا الجزء ونشاطه التلقائى عديم الصلة ببقية الشخصية من ناحية. وبالمجتمع من ناحية أخرى. إذن فمنتهى الإغتراب العقلى هو الجنون ذاته. ويستوى فى ذلك الشباب وغير الشباب إلا أن الشباب أكثر عرضة لهذا.
والإغتراب يبد داخل النفس وأن كانت صورة السلوكية وآثارة الاجتماعية هى المظاهر الملموسة المقابلة للدراسة. والمجتمع كعضو متكامل إذا لم تخدم أجزاؤه ومؤسساته هدفا محوريا واحدا – وليكن الوطن أو العقيدة أو المذهب أو الحياة.. الخ – فإنه لابد سيتفسخ. والعلاقة بين الإغتراب داخل النفس والاغتراب خارجها فى المجتمع علاقة تغذية متبادلة. ينمى أحدهما الآخر باستمرار ومن هنا تنشأ الخطورة، ولابد من قطع هذه الحلقة المفرغة.
المرأة أكثر اغترابا؟!
– رغم أن الاغتراب ظاهرة عامة، هل نجد فرقا بين شدة حالته عند الذكر والانثي؟
المرأة المعاصرة فى محاولتها إكمال مقومات نضجها والقفز عشرات السنوات للحاق بالوعى البشرى الأرقى. قد تجد نفسها مواجهة بأبعاد لا قبل لها بها (!!).
فتتراجع وتنشق وتغترب. إذ لا تحصل إلا على ظاهرة الحرية وقشور الثقافة الخالية من المعنى على حساب جوهر وعيها. وعلى النقيض من ذلك نجد المرأة المستسلمة لدورها الأنثوى أقل إغترابا.. ولكن على حساب المستوى الأدنى للوجود.
– الأدب الصق الفنون بحالة الإغتراب نريد توضيحا لهذه العلاقة؟
الأدب هو الإغتراب الذى يهزم الإغتراب (!!) بمعنى أن الأديب ذاته قد يكون إبداعه الأدبى. هو إسقاط لاغترابه الذاتى. وفى نفس الوقت محاولة للعثور على حل وسط بتحقيق نوع من التلاحم خارج نفسه الداخلية. فالأديب كشخص فرد قد ينمى الإغتراب لدى ذاته. ببعض ما يسقط على الورق. إلا أن هذا الفعل الإبداعى ذات نفسه، هو علاج المجتمع المغترب لأن الأدب الحق هو الذى يواجه عامة الناس. بما يحاولون أن يخفوه عن أنفسهم فيوقظهم على ما فى ذلك من ألم.
وكلما زاد المجتمع اغترابا كلما كان أحوج إلى الأدب المثير الحافز. لا الأدب المتسكينى ولا إلى الأدب الصراخى.
حاليا فى مصر الآن طبقة جديدة هى الأعلى صوتا، الأقوى قدرة على الشراء حتى أن الدراما التليفزيونية تنقل حياتهم وتمتلئ بأخبارهم صفحات الحوادث فى الصحف والمجلات.
– ما ثأثير ظهور هذه الطبقة بهذا القدر من الخصوصية والتميز على فرص ومسار الطبقة الكادحة؟
هذه حقيقة أزلية وليست حادثة جديدة أو فريدة، وهى قديمة قدم الحياة والأحياء وليس فقط قدم الحياة الإنسانية، إلا أن قوانين التطور التى كانت تزعم أن البقاء للأقوى أو أن البقاء للأجمل أو الأكثر تكيفا وتناسقا مع المحيط لم تعد هى الأصل، وظهرت قوانين تفسد الانتقاء الطبيعى لأنها تستمد مشروعيتها من السلطة المكتسبة والمحتكرة والمستغلة، وليس من قوانين البقاء والارتقاء.
هذا ما يحدث فى العالم كله، وإن كان يحد من التمادى فيه بعض التنظيمات التى تمارس – أو تدعى – الشفافية والديمقراطية والفرص المتساوية.
أما فى مصر فالقوانين ممطوطة، والجماعات الخاصة وأهل الثقة يمارسون نشاطاتهم فى سرية تكاد تتجاوز كل القوانين. وبالتالى فإن تكوين هذه الطبقة الجديدة القادرة هو أمر مزيف ليس على أساس تطورى أو ثقافى رفيع أو إبداع مميز، وإنما على أساس الصفقات والتسهيلات واختراق القانون.
– ماذا يميز هذه الطبقة عن الطبقات الأخرى؟ و ما أثر هذا الانفصال أو الانعزالية على كلا الطبقتين؟
أخطر آثار هذا الانفصال هو عدم الانتماء، الذى يتمادى حتى يصبح كل من الطبقتين بلا وطن، إن هذا الموقف اللامنتمى لا يقتصر على الطبقة الثرية التى استغنت عن الوطن نتيجة للثراء والاستقلال الاقتصادى حتى عن تحكم الدولة (اللهم إلا فى القروض دون الضرائب)، وإنما هو يصف أيضا الطبقة الأفقر، نتيجة للشعور بالظلم، ومن ثم العصيان الوطنى إن صح التعبير.
– عندما يعرض التليفزيون هذا الثراء الفاحش فإنه يحرض على الحقد الطبقى؟ كيف يؤثر ذلك فى نسيج المجتمع الآن ومستقبلا؟
أنا لا أكاد أتعرف على مصر حين أشاهد التليفزيون ثم أنزل إلى الشارع خصوصا فى الأقاليم، لا يمكن أن تكون المذيعات والممثلات والمغنيات فى الإعلام التليفزيونى المصرى، هن هن من نفس الشعب الذى تحجب نساؤه فى الأقاليم بنسبة تكاد تصل إلى 100%، وفى القاهرة والاسكندرية أقل قليلا، إن مقارنة بين ملابس وديكورات من يظهرن فى التليفزيون وبين الجارى فى الشارع المصرى يعلن هذا الانشقاق بدرجة منذرة.
المسألة ليست مسألة تدين، وإنما الأمر أصبح لغة سياسة ورمز طبقى، حتى المحجبات من الطبقة الأعلى لهن حجاب خاص يعلن عن طبقتهن المميزة.
– تروج الاعلانات لهذا الانفصال بدعوى الخصوصية والتميز إلا يعد هذا خطابا مدمراً؟
الإعلانات مصيبة أخرى، وهى تقتحم البيوت اقتحاما، وتستفز، هذا فضلا عن إعلانات الصحف التى تتكلف الملايين أحيانا، ثم يمتد هذا الإعلان إلى إعلانات الوفيات، حتى فى الوفاة أصبحت البراويز والبنط الكبير يميز الناس عن بعضهم.
ولا أخفى أننى تصورت أن هذه الطبقة المتميزة تكاد تتصور أن الله سبحانه سيحاسبها حسابا خاصا. أى والله.
– هل نزوع الفرد للتميز هو نزوع فطرى أم مكتسب بفعل العوامل السائدة فى المجتمع؟
النزوع الفطرى موجود، والتميز غير مرفوض، لكن يختلف الوضع حسب الأسس التى يتم بها، وقد أجبت فى البداية أن هذا النزوع ليس فقط فطرة فردية، بل هو فطرة تطورية بقائية، لكن على أسس تحفظ النوع وترتقى به، وليس على أسس تزيف الوعى وتبرر الظلم.
****
شيوع الالفاظ النابية فى الشارع المصرى
– رأى الطب النفسى فى شيوع الألفاظ النابية فى الشارع المصري، وبأقسام الشرطة، أيهما أثر في، أو تأثر من الآخر، ومن أين يبدأ العلاج: من الشارع..أم من أقسام الشرطة؟
نعم، توجد ألفاظ نابية فى الشارع، وللأسف بين الشباب والأطفال بصفة خاصة، ولست متأكدا إن كانت زادت أم أن زيادة السكان وزيادة الزحام فى الشوارع هو الذى أعلن حجمها.
ورغم اعتراضى الشديد على هذه الظاهرة من حيث المبدأ إلا أننى لا بد أن أعترف ابتداء أن المسألة ليست بهذه البساطة، فلكل شعب طباعه وطريقته فى التعبير، ولا يصح أن نقيس سلوك الشعب المصرى بسلوك شعب السويد أو شعب اليابان مثلا فنحن شعب يتكلم بصوت عال، ويشير بيديه أثناء الكلام، ويكثر من التأكيد والقسم، ولا أظن أن هذا كله ينتمى إلى الظاهرة التى أتحدث عنها الآن، لكنه الأرضية التى تخرج منها هذه الظاهرة، وفائدة دراسة الأرضية بهذه الصورة هو أننى حين أعالجها لا بد أن أجد الوسيلة التى تحافظ عليها دون أن تتطور إلى السباب وجرح الحياء.
وبألفاظ أخرى لا بد أن أحرص على قبول السمات الأساسية للشعب المصرى مع العمل على وضع الحدود لهذا التجاوز العلني.
وبديهى أن هذا التجاوز هو تعبير عن نوع من العدوانية العامة، ليست عدوانية نحو بعضنا البعض بقدر ما هى عدوانية ضد السلطة،والقهر وعدم الاحترام المتبادل بين السلطة والناس، وبين الناس وبعضهم بالتالى، بل و بين الإنسان وربه.
فظاهرة الميكروفونات المتعددة فى قرية صغيرة قبل الفجر وحتى الأذان وبعده، إنما تحمل كل سمات العدوان على خصوصية الإنسان، وعلى دماثة القيم الدينية الحقيقية واحترام الآخرين من خلال رحمة الله، ورغم أنه لا توجد صلة مباشرة بين الألفاظ النابية، وبين الاعتداء الأذاني، إلا أنهما ينبعان من منبع واحد، وأستغفر الله العظيم.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى الألفاظ النابية فى أقسام الشرطة، وهذه أيضا سمة مصرية بوليسية والعياذ بالله، ورغم ما بها من اعتداء صارخ على كرامة وحقوق المواطن البرئ فى كل الأحوال، إلا أن ضابط الشرطة أحيانا ما يستعملها كبديل لقرار النيابة، والمحاكمة، فيصدر الحكم “بالتعذيب”، ويقوم بالتنفيذ الفورى، وكأن لسان حاله يقول، إن الردع الخاص المباشر والفورى ‘هكذا’ أرحم من أن أترك هذا المتهم أو المشبوه، أو حتى البرئ حتى يسجن وتجوع أسرته وتتشرد كذا من الوقت.
وأنا لا ألتمس مبررا لرجال الشرطة فى هذه التجاوزات، إلا أنى أيضا أحذر من الانسياق وراء تقديس ما يسمى حقوق الإنسان كما يروج لها فى الغرب بشكل مبالغ فيه يخفى حقائق أخطر من القهر السرى والسحق المنتظم، ولا أحسب أن رجال الشرطة يستعملون هذا العدوان اللفظى إلا مع نوع معين من الناس يستدعون استعماله ويقبلونه فى معظم الأوقات،.
وأخيرا فإن علاقة هذه البذاءة الشوارعية، بهذا الردع البوليسى ليست مباشرة، بل لعل سباب الرجل لزوجته أمام أولاده أقرب إلى تفسير سباب الشباب بعضهم بعض من هذا السباب الحكومي.
أما من أين يبدأ العلاج، فهو يبدأ من كل جانب، من الوعى الديني، والإحترام الإنساني، وفرص التعبير، ودفء العلاقات، ولكن العلاج ليس أبدا خطبة أخلاقية أو وعظا وإرشادا فحسب.
***
عن سكان المقابر
ماذا أيضا عن سكان المقابر ؟
لا بد أن نتعلم كيف لا نستسلم ” هكذا” لكل ما يشاع ويقال، إن كلمة المقابر هى كلمة محملة بانفعالات سلبية وحزينة، وقد تنتقل هذه المشاعر هى هى لمن يتسعمل تعبير ” سكان المقابر”، ولكن هذا لا ينطبق إلا على من يزورها مرة ليودع عزيز أو ليتذكر حبيب غاب، لكن السكن فيها أمر آخر،إن الناس – عامة الناس، وخاصة هؤلاء الناس – أذكى من الحكومة وعلاقتهم أقرب إلى الواقع،إننا ندعو إلى أحياء سكنة من دور واحد منعا للتلوث( أحياء الفيلات) والمقابر كلها هى كذلك: أحياء من دور واحد فى الأغلب، وبعض المقابر هى أنظف وأكثر تجهيزا بالمرافق من كثير من الأحياء الشعبية، بل إن المقابر أكثرترحيبا بساكنيها وحنانا عليهم من المساكن الشعبية المتراصة شققها بعضها فوق بعض مثل علب الكبريت الفارغة،وليس ذنب الناس،ولا هو عار عليهم أن يصلحوا خطأ ارتكبه سابقوهم، فليس فى الإسلام -مثلا- مقابر بهذه الصورة التى ورثناها عن قدماء المصريين، كل ما هو مطلوب فى الإسلام لموتانا هو مكان فى الخلاء يستر ما تبقى منا دون معرفة لمن هذا القبر أو لمن ذاك، هذا هو الإسلام،فإذا كانت التقاليد وقدماء المصريين قد تركوا لنا هذا الإرث الضخم، ويبدو أنه يكمن فى عمق وجودنا تفضيل الموت على الحياة،وبالتالى وجدنا أنفسنا نعيش والمقابر من حولنا فى وسط المدينة،ولو بالزحف المتواصل، فراح الناس البسطاء الفقراء الشجعان يصلحون هذا الذى كان بالحلول الذاتية التى بتلقائية متحدية.
وأخيرا فإن المقابر مصدر إلهام رائع لمن أراد أن يتعلم من الموت،ويخاطب ما بعده، ومن بعده،فيضيف إلى الحياة، وأنا لا أدعى أن هذا هو حال سكان المقابر لأنهم بالتدريج ينسون الموت طبعا ( الحى أبقى من الميت) لكن هذا حالى أنا شخصيا،فكلما ذهبت للمقابر ورأيت موتانا وأحياءهم رجعت بثراء آخر، لعله لا يحدث مثله لمن يسكن هناك بصفة مستمرة.
***
التليفزيون وسيلة لتدمير الأنتاج
– هل أصبح التليفزيون وسيلة لتدمير الإنتاج والذوق فى مصر من حيث عدد ساعات الإرسال، فهل تقضى ساعات الإرسال هكذا على حيوية المواطن المصرى فلا يستطيع الانتاج ؟
–لا أعتقد أن تفسير تدمير الإنتاج هو مسألة بهذه البساطة، صحيح أن هناك أخطاء فى توقيت الإرسال لدينا، فأحيانا تبدأ السهرة، ولمدة ثلاث ساعات، بعد الحادية عشرة مساء، لكن مثل هذه الأخطاء ليست هى السبب – طبعا فى تدمير الإنتاج.
فمسألة الإنتاج (وحيوية المواطن المصرى) هذه مسألة سياسية دينية، أخلاقية، حضارية فى المقام الأول، وهناك شعوب كثيرة عندها عدد محطات تليفزيون أكثر منا وساعات إرسال لمدة أبع وعشرين ساعة يوميا، وهى أكثر ثراء منا بمئآت المرات، ومع ذلك لم يتأثر إنتاجها، فإنتاج العامل الأمريكى يأتى فى مقدمة عمال العالم، يليه العامل اليابانى، وكلاهما لا ينقصهما التليفزيون أو الفديو، بل ويزيد على ذلك فرص أماكن اللهو، وأماكن الشرب بأسعار فى متناول الجميع.
وأنا أيضا لا أنكر أن الإرسال بصورته الحالية قد أثر على تبكيرالفلاح مثلا فى الصباح للذهاب إلى حقله قبل الشمس، أو حتى والدنيا مازالت عتمة (من النجمة، هذا التعبير الذى يعنى بداية اليوم والنجوم مازالت ترصد فى السماء)، يمكن بتقليل ساعات الإرسال وضبط مواعيده أن نجنب الفلاح مثل هذا، ولكن هذا حل هروبى مؤقت، لأنه إن عاجلا أو آجلا ستتواصل شبكات التليفزيونات فى العالم بطريقة لا يمكن وقفها، فإذا نحن توقفنا عن الإرسال فسيلتقط من يريد البرنامج الذى يريده من أى محطة فى أى وقت ليلا أو نهارا.
فالمسألة إذن تحتاج لنظرة أبعد، وحل أكثر جذرية، لأن كارثة قلة الإنتاج عندنا تنبع أصلا من الاعتمادية، وفقد الدافع الذاتى والدينى لإتقان العمل، وشرف العرق ولكن هذا حديث آخر.
***
المثقف والمتعلم والمجتمع المصرى
– ما هو الفرق بين المثقف والمجتهد؟
المثقف هو الشخص الذى يستوعب الوعى العام لمجموعة البشر الذى ينتمى إليهم، ثم هو يمثل هذا الوعى ويساهم فى توجيهه إلى ما يعد به على سلم الحضارة والتطور.
أما تعبير المجتهد ثقافياَ فهو جديد علىّ، وإن كنت استقبلتُه على أنه يعنى المثقف الحقيقى نظراً لاحترامى الشديد لفعل الاجتهاد، وهذا ما يميز هذا الموقف الجاد، ولكن ينبغى أن نميز هذا التعبير عن تعبير آخر مثل “مدعى الثقافة”، أو “المثقف المزيف”، أو حتى “المثقف الموسوعى” الذى يتصور أن صفة المثقف تتناسب مع كم المعلومات وليس الموقف الوجودى المشارك (كما سبق بيانه).
– التركيبة النفسية للشخص البسيط الآمن.. هل هى اكثر بساطة من المتعلم أو المثقف.. وما الذى يؤثر فيها ويحددها؟
الشخص البسيط ليس آمناَ بالضرورة، فلماذا هذا الترادف بين “البسيط” و “الآمن”، كما ورد فى السؤال. كل الضحايا الأبرياء الذين تقذفهم اسرائيل وأمريكا بالقنابل الخبية، ليل نهار هم بسطاء ولكنهم ليسوا آمنين، كل ضحايا العمى التعصبى والتطهير العرقى فى العراق وغيره بسطاء وليسوا آمنين، كل ضحايا الحكومة ومظاليم الأسعار بسطاء وليسوا آمنين، أما مقارنة هذا الوصف المزعوم “البسيط الآمن” بالمتعلم أو المثقف فهى مقارنة لا معنى لها لأنه لا يوجد تقابل بين هذا وذاك.
– برأيكم ما هى الدوافع والأسباب وراء اختفاء ثقافة الإجادة فى مجتمعنا المصرى، وفى مقابل شيوع ثقافة الإهمال والتسيب؟
– تعبير ثقافة الإهمال والتسيب هو تعبير فضفاض لا أريد أن أشارك فى تسويقه، الحكاية هى أن المجتمع المصرى – مثل أى مجتمع – ليس له شكل محدد المعالم من حيث وجود ناس، لهم نظام يجمعهم، وإدارة تدير هذا النظام بشكل معلن مستمر، لا يتغير إلا من خلال ما حدده هذا النظام من قواعد. هذا ما يمكن أن يسمى “دولة” عليها مسئولية نحو ناسها الذين يستفيدون من المشاركة فى قبول النظام وبالتالى تحمل المسئولية، نحن نفتقر إلى ألف باء ما هو دولة تدير مجتمع متحضر “هيبة الدولة” قد اختفت من وعى الناس. الدولة غير حاضرة فى سلوكنا اليومى، ولا فى تركيبة المشاعر، ولا حتى فى حسابات المكسب والخسارة، إذا أردنا أن نتعرف على حضور “ما هو دولة” علينا أن نقيس ذلك بأصغر التفاصيل وليس بأفدح الكوارث: يوجد إهمال فى توصيل المعلومة للطفل والتدريس، تسيب للفرد قبل المجموع. فى تقييم مدى وصولها وجدواها (الغش فى الامتحانات)، يوجد إهمال فى تطبيق قواعد المرور، وتسيب فى احترامها، يوجدإفراط فى إصدار قوانين وتعليمات من أول حزام السيارة حتى نظم الاستثمار، وبالتالى يوجد تحايل وتسيب فى التطبيق، يوجد إهمال فى تحديد نظام وهدف وجدوى البحث العلمى وبالتالى يوجد تسيب يصل إلى درجة التزوير فى أقدس مجال علمى وجامعى.
لابد أن تبدأ المسألة من الأشياء الصغيرة جدا من أول ركن العربات فى الشوارع الضيقة على الجانيين حتى نظافة المراحيض العامة.
هذه العلامات الصغيرة هى المقياس الأول الذى يمكن أن نقيس به احتمالات غرق عبارة، أو خسارة حرب، أو وفرة انتاج، أو أصالة إبداع.
***