يحيى الرخاوى طبيب نفسى
أسئلة حول الشباب
مع أ. د. يحيى الرخاوى
ـــــ
الإدمان وتأثيره على الشباب
- بماذا تفسرازدياد وتفاقم ظاهرة الإدمان، خاصة بين الشباب ؟
هذه كارثة لها أكثر من وجه، لا يمكن اختزالها إلى تفسير احد، فمن ناحية هى إعلان أن ثمة قوة شرائية مادية قد وجدت فى حوزة من هو ليس أهلا لها، فلا بد أن نتذكر ابتداء أن الإدمان يكلف صاحبه فى اليوم الواحد ما يقيم أود عشر أسر مجتمعة.
ومن ناحية أخرى نقرأ فى ظاهرة الإدمان أن الحلول الأسهل فالأسهل هى التى أصبحت الأقرب فالأقرب، فنحن -على فقرنا- نشيع أوهاما عن مجتمع الرفاهية، وكأنه غاية المراد من رب العباد، وكأنه ممكن تحقيقه لجموع شعبنا، فى حين أننا نعيش دون مجتمع الكفاف، وهذه الدعاية لمجتمع الرفاهية إنما تقبع فى أرضية الحل الهروبى بالهيروين مثلا إلى رفاهية تخديرية سريعة ومؤكدة، فكأن التعاطى هنا, فالإدمان، هو ترجمة رمزية لأحلامنا المنفصلة عن واقعنا.
ومن ناحية ثالثة نشاهد الشباب فى حضن المخدر وكأنه قد انتصر على خوفه ووحدته بأسرع، وأضمن السبل، فالتعاطى فالإدمان هما إنكار ضمنى للحاجة إلى ‘الاخر’, ولضرورة مواجهة العيش على أرض الواقع وسط ناس حقيقيين مختلفين.
وأخيرا فإن الإدمان يمثل جنة كيميائية مضمونة، فى مقابل التلويح بجنان مؤجلة وكأنها ممكنة، وكأنها غايةالمراد، فكأن الإدمان من واقع التخدير يقول: عصفور فى اليد، وهو ما يقابل فى هذا المقام ما نوجزه فى قول مواز: جنة بالسم خير من جنان بالوعود.
وإذا كان لنا أن نقف من الإدمان موقفا إيجابيا فعلينا أن نحسن الإنصات لكل ذلك، وأن نغير جذريا من كل هذه الأوهام والوعود، وأن نكسر وحدة الشباب، وأن نرسى أرجلنا على أرض الواقع، ليس فقط لنتحمل آلامه، ولكن لننبض مع إيقاع حقيقته.
– لماذا يدمن الشباب! ويقعون فريسة للمخدرات؟
الشباب يدمن ياسيدى لأنه يعلن فشلنا فى أن نحترم فطرته أو أن نتحمل الحوار معه، وخذ بعض التفاصيل: لماذا يدمن:
(1) لأن وعيه ساكن بفضل المؤسسات الساكنة ثم يجد أن هذه المواد المخدرة تحرك وعيه.
(2) ولأن الأطباء يروجون لمسألة أن السعادة يمكن أن نحصل عليها من حبوب كذا وكيت (هناك حبوب مثلا مكتوب عليها “المطمئن”!!، وأخرى مكتوب عليها ما معناه المفرفش..إلخ)
(3) ولأن النقود الكثيرة (للأغنياء منهم) لا يوجد مجال شريف تنفق فيه بفرحة إلا هذا “الدماغ” الصناعى.
(4) ولأن مجالات الإبداع مغلقة، والدراسة مملة، والعمل مغترب، والنظام العالمى الجديد يترك الأطفال يموتون فى البوسنة والصومال.
(5) ولأن الدين الشائع لا يجيب على الأسئلة الحقيقية إلا بمسلمات ساكنة.
ألا يكفى هذا لكى يهرب الشباب إلى غيبوبة كيميائية حتى نفيق نحن أولا؟
– هل المدمن مجرم أم مريض؟
المدمن مجرم فى حق نفسه، وفى حق مجتمعه، وفى حق الأمانة التى سلمها الله له (عقله وقرشه ووعيه)
وهو مريض من حيث شذوذه عن الفطرة ونشازه عن سلامة البيولوجى وشرف الوعى.
– كيف تعالجه؟
لا يفل الإدمان إلا إدمان إيجابى رائع، يعطى للشاب الفرحة من واقع فخره بإنسانيته، ويعطيه الهدف واضحا، والإبداع ممكنا، والانتماء شرفا، واليقظة حركة نحو الآخرين وبهم.
فإن كنت تعنى تطبيبا، فهو المجتمع العلاجى فى حضن الصحراء وبضبط وربط أعلى من الجندية وأعمق من الفن الراقى.
– ما هى أهم الأسباب الخاصة لإدمان الشباب المصرى؟
ماذا تعنى بالخاصة؟ الذى حب ولم ينل (اللى حب ولا طالشى) أم الذى ذاكر ولم ينجح، إن الأرضية التى يترعرع فيه الاكتئاب يمكن أن تجعل أى طارئ بسيط مبررا يتذرع به الشاب ليبرر هروبه فى هذه الغيبوبة القبيحة.
– كيف تقاوم الدول المتقدمة الادمان؟ وهل نختلف عنها؟
لا تعايرنى ولا أعايرك، الهيروين طايلنى وطايلك، إن الدول المتقدمة لم تنجح فى علاج الإدمان بنفس القدر الذى تفشل به الدول المتخلفة، وإن كانت الأسباب مختلفة، والمقاييس التى نقيس بها النجاح مختلفة (والأسباب التفصيلية كذلك مختلفة)
– ما الآثار الاجتماعية والاقتصادية للإدمان؟
أظن أننا فى السنتين الأخيرتين قد شبعنا تخويفا ومعايرة، وأن الإدمان مضر بالصحة ومذهب للعقل، وخراب للوطن وكلام كلام كلام كلام حتى أصبح تكراره أشبه بإعلان إفلاسنا يا سيدى.
الإدمان ضد شرف الوعى، هذا هو كل ما هنالك، وبما أننا لا نحترم شرف الوعى فماذا تريد أن تضيف من مضاعفات أكثر من هذا ؟
لنقدم للوعى ما يشرف به ويتحرك فى اتجاهه بدلا من أن نعلق قائمة المضاعفات المهددة التى تشجع الشباب على الانتحار اللذيذ.
***
تأثير الامتحانات على التركيب النفسى للطلبة
– ماهى السلبيات والإيجابيات التى يخلقها نظام الإمتحانات فى نفوس الطلبة؟
مازالت الامتحانات هى التى يقال فيها ‘شر لا بد منه’، وإذا كانت بلاد العالم المتقدم قد حاولت البحث عن بديل بل بدائل لهذا الشر الصعب، والضرورى فى نفس الوقت، فلا بد أن نعترف أن كل الحلول المطروحة بالطول وبالعرض لم توفق بعد للاستغناء عن الامتحانات بأى صورة من الصور، بإحلال نظام بديل.
وفى مصر بوجه خاص، يصعب البحث عن بديل يحقق العدل، ويكتشف الإبداع، ويضع فى الاعتبار طريقة الأداء بقدر ما يضع كم الحفظ، ومحشور المحتوى.
إذن: ما باليد حيلة، فهى الامتحانات ولكن دعونا نحاول أن نستسلم لهذا القضاء لكن فلنسأل الله اللطف فيه، بأن نجعله أحسن ما يمكن بأقل ضرر وأخف مضاعفات.
وقد يتأتى هذا بتعدد أنواع الامتحانات، حتى تكمل بعضها بعضا، مما لا مجال لتفصيله هنا الآن.
– ما دور أهل الطلبة فى التركيب النفسى لأولادهم قبل وأثناء فترة الإمتحانات؟
هو دور فى غاية الأهمية فهناك أهل يكررون – سرا وعلانية- منذ ولادة أطفالهم أن الامتحان هو الحياة والموت، وهناك أهل يعلنون حالة الطوارئ قبيل الامتحانات بشكل يجعل الاستعداد للامتحان أشبه بالمعسكر الخطير وأحيانا يكون المعسكر محاطا بالأسرار والمخابات.
وهناك أهل يحاولون تعويض ما فاتهم فى امتحاناتهم هم أثناء صغرهم بأن يقوم أبناؤهم بالتفوق ليثبتوا لهم أنهم أحسنوا الإنجاب، وأنهم إذا كان قد فاتهم تفوق قديم فهاهم يحققونه بواسطة هذه الأدوات الجديدة ( أولادهم) وهكذا، والشباب يلتقطون كل هذا، ويتفاعلون له سلبيا فى الغالب مما يؤثر على أدائهم فى التحصيل بل قد يصل الأمر إلى إصابتهم ببعض الأعراض أو الأمراض النفسية.
– بصفتك واضع إمتحانات.. ماهى الأمور التى تحرص عليها عند وضعك للأسئلة؟
هذه – بصراحة – محنة تؤرقنى فى كل موسم امتحانات حتى أعتبر نفسى – شخصيا- فى امتحان كل مرة، ولا أستطيع أن أدعى أننى قادر على وضع ما أتمنى فى كل مرة، فالأمر غير مقصور على فرد بذاته، وإنما هو مشاركة مع زملائى طبعا طول الوقت.
وأول ما أعنى به هو أن يكون الامتحان متفقا مع ما وصل للطالب من تعليمات ومعلومات، تعليمات تبين له طريقة تقييمه، ومعلومات محددة مكتوبة مسبقا فيما يسمى المقرر المحدد.
وبعد ذلك يأتى وضوح الألفاظ فى صياغة الأسئلة، وتحديد المطلوب.
ثم أهتم بتناسب درجات الصعوبة بحيث يصبح الامتحان قادرا على تمييز المتفوق من المتوسط من المهمل، ثم أحاول التوفيق بين جرعة ما يحتاج إلى الإجابة بالتسميع، وما لا يصلح له إلا إعمال الفكر وحل المشاكل، كل ذلك وأنا أتذكر ضرورة وجود ما يسمى نموذج ولو تقريبى للإجابة، مرة أخرى هذه أمانى لا أستطيع أن أدعى أننى أنجح فى تحقيقها كل مرة.
– كنت تخاطب الطلبة فى برنامج إذاعى عن المذاكرة..أعطينا أهم نصائح عن المذاكرة والإستعداد للإمتحان.
أنا أفضل التعبير الوارد فى الجزء الأول من السؤال، وهو تعبير الخطاب، والأفضل منه الحوار، وأخاف وأتجنب ما أمكن ذلك مسألة النصائح المباشرة.
وما كنت أقدمه كان نوعا من تقمص حالة الطالب، وتذكر نفسى أثناء هذه المحنة المسماة الامتحانات، ثم أتكلم مع الطلبة وكأنى أمتحن معهم، لا أمتحنهم، فيصل الكلام بسلاسة وفائدة، ولا أستطيع أن ألخص هنا كل ما كنت أقوله طوال ثلاثين أوستين يوما، لذلك أكتفى بأن أذكر نفسى وأعيد ما كنت أختم به كل حديث، وهو’ إعمل اللى عليك دلوقتي، وسيب النتيجة على الله’، ذلك لأن التفكير فى النتيجة أو الامتحان أثناء الاستذكار يضيع الوقت، ويضاعف الخوف، ويشتت الانتباه، فالوقت ينبغى أن يخصص – الآن- للتحصيل والتسميع والفهم والمراجعة، أما التفكير فى الامتحان فهو فى البداية لتحديد الهدف، وقرب أداء الامتحان لتحديد الأولويات.
– ماذا كان شعورك (سؤال شخصى) أثناء فترة الإمتحانات،ومتى تشعر بشعور مماثل الأن؟
أنا - شخصيا- أكره الامتحانات كراهية حقيقية، وكنت دائما أعتبر أنها نوع من الإهانة لشخصى ولعقلى، وكنت أؤديها لأنها اضطرار لا بديل له وكنت أتحايل عليها بشيء أشبه بالوسواس الإيجابي، بمعنى أن أصرف اهتمامى عن الامتحان نفسه ببعض السلوك المكرر الذى ألزم نفسى بأدائه لأسباب أخرى غير الامتحان مثل: أنه إذا ذاكرت هذا الموضوع وسمعته ثلاث مرات زيادة، فسوف أوفق فى لقاء صديق أو الحصول على أمنية تدور بخلدى، شيء أشبه بإزاحة بؤرة الاهتمام إلى شيء آخر غير هدفه الأصلي، وبهذا أتحايل على هذا الموقف بتجنب التفكير فى الامتحان ذاته
أما شعورى الآن فهو شعور بالتعاطف مع الطلبة، ثم شعور آخر هو أننى أخاف أن أكون أنا الممتحن، فأحيانا ما يسأل زميلى فى الامتحان الشفهى سؤالا، فأتصور أنه يسألنى أنا ولا يسأل الطالب، وهكذا
وأنا أحاول أن أناقش زملائى بعد انصراف الطالب عن قصدهم من هذا أو من ذاك الأمر بشكل أو بآخر، وكأنى أريد أن أطمئن على وضوع الفكرة ودرجة العدل، لى وللطالب على حد سواء.
***
ماذا عن فترة المذاكرة والإستعداد للإمتحان.
– أعانى من السرحان المتكرر لفترات ليست بقصيرة أثناء المذاكرة مما يشتت تفكيرى ويضيع وقتى.. ماذا أفعل لأقضى على السرحان؟
أظن أن مجرد الشكوى من السرحان هى التى ينبغى أن ننبه إلى تجنبهاما أمكن (حتى لو فيه سرحان !!) أولا: لأنه يكاد لا يوجد شيء إسمه “سرحان”، السرحان هو انتباه إلي ” أمر آخر”، فالمخ البشرى لا يستطيع إلا أن ينتبه، وهو إما أن ينتبه إلى الموضوع الخارجى المحدد (المذاكرة)، وإما أن يبحث عن شيء آخر ينتبه إليه سواء عرفناه أم لم نعرفه، فلا بد أن نبدأ -إذن- بأن ننكرعلى أنفسنا حق السرحان، ودعونا نكرر عكس ما نتصور، فيقول الذى يزعم أنه يسرح، أنه “بالعكس”:لا يسرح ولكنه يحتج (على وزن: أنا لا أكذب ولكنى أتجمل)، فالسرحان قد يكون إعلان لاحتجاج على الاستذكار رغم ظاهر الرغبة فى النجاح والالتزام، وقد يكون السرحان نتيجة لحرص شديد على إنهاء أكبر قدر من الاستذكار بأقل جهد..، وهذا نوع من أطماع الشطار، ولكن الطالب حين يعجز عن هذه الشطارة ينقلب إلى الشكوى من السرحان وهكذا.
– ماذا نفعل لنزيد معدل التركيز (أحصل على أكبر قدر من المعلومات فى أقل فترة ممكنة)؟
مسألة زيادة معدل التركيز هذه مسألة مضحكة، فالمطلوب هو زيادة معدل الاستذكار أساسا، وهذه الشكوى هى مرادف للشكوى من السرحان، وأكرر هنا مرة ثانية أن التركيز ليس هدفا فى ذاته وإنما هو نتاج جانبى للاهتمام الحقيقي والمطلوب هو الاستذكار فقط، والتلخيص يساعد على التركيز، وإعادة التلخيص أمر مهم.
والاستذكار مرة أخرى بعد التأكد من الحفظ وهو ما يسمى “التثبيت” هو أمر مساعد، ولكن ينبغى أن نكف عن الحديث عن السرحان والتركيز “على العمال وعلى البطال” كما يقولون.
وأحيانا ما أنصح مرضاى أن يستذكروا كذا ساعة بدون تركيز، وبدون قرار و بدون حتى فهم، وبذلك أضيع عليه فرصة تكرار مثل هذه الشكوى، وأقول للواحد منهم دع التركيز يأتى غصبا عنك، المهم هو عدد ساعات المذاكرة، والتركيز سوف يأتى أو لا يأتي، دع هذا لي، وأنجح فى بعض الأحيان حتى ليكاد بعضهم يشكو بعد ذلك من أنه: “آسف لقد ركزت غصبا عنى رغم نصيحتك لى بعدم التركيز” فتصير نكتة.
– فى كثير من المرات أشعر بعدم الرغبة فى المذاكرة.. ولكن الإمتحانات فى الطريق.. كيف أتعلم أن أتصرف عكس مشاعرى وأستذكر حتى عندما لا أشعر بالرغبة فى الإستذكار؟
من الذى أطلق هذه الإشاعة عن أن الاستذكار لابد أن يتم برغبة أو بدون رغبة، لابد أن نعرف ابتداء الفرق بين الواجب وبين اللعب الحر، الرغبة – بالنسبة للواجب- هى فى اختيار أن أفعله أو لا أفعله، أن أكون تلميذا أو أن أعمل عملا يدويا الآن، أن أستمر فى هذه الدراسة أو أن أختار دراسة أخرى، وبمجرد الاستقرار على هذه الرغبة الأساسية لا ينبغى أن نقع تحت رحمة رغبتنا الآن وعزوفنا غدا عن هذا الدرس أو ذاك الواجب، ينبغى أن نذاكر برغبة وبدون رغبة، والاستذكار بدون رغبة يصاحبه نوع من شرف الإلتزام، وفرحة بقوة الانتصار على الرغبة.
ولا ينبغى أن نصدق أن الاستذكار بدون رغبة لا يفيد، فهو عمل شريف، وتحد للنفس قوى، فهو مفيد حتما وتحت كل الظروف.
– أشعر أننى مهما ذاكرت فلن أكون قادرة على الحل فى الإمتحان أو شرح ما أفهم بوضوح.. أشعر أن الإمتحان وحده هو مهارة أخرى بجانب الدراسة.. ماذا أفعل لأتعلم مهارة حل الإمتحان بطريقه واضحه تعجب المصحح (تقديم الحل بشكل واضح)؟
هذه ملاحظة جيدة، فليس كل من يحذق الاستذكار يحذق الإجابة، والامتحان مهارة مستقلة فعلا، حتى أننا نطلق أحيانا على بعض الأذكياء منا أنهم حريفوا امتحانات، بمعنى أنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف كما يقال، والطالب الماهر فى أداء الامتحان هو الطالب الذى تعلم ماذا يعنى كل نوع من أنواع الامتحانات، امتحان الأسئلة ذات الأجوبة المتعددة MCQ غير امتحان كتابة المقالEssay، والامتحان الشفهى يحتاج لمهارات غير امتحان التحريرى، وكل هذا له تدريبات خاصة وتعليمات خاصة، ويمكن التدريب عليها بشكل منظم وتحت إشراف.
لكن المهارة فى الامتحان تميز الذى أتم تحصيله بكفاءة، إذ يصعب أن يستعمل الطالب مهارته وهو لم يذاكر أصلا، لأن هذا يصبح فهلوة وليس مهارة، والفهولة مرة تصيب وعشرة تخيب.
ثم أرجع للجزء الأول من السؤال والخاص بالشعور أنه مهما ذاكر الواحد منا فلن يستطيع الإجابة كما ينبغي، فأنبه أن هذا يدل على رغبة خفية فى تحطيم الذات (والطمع فى نفس الوقت) من أدراك يابنيتى أن هذا سيحدث، إن الطالب الذى يحاول أن يسمع لنفسه نصف كتاب فى بضع دقائق، فيعلن لنفسه بعد دقيقة أو أكثر أنه عاجز عن تذكر كل شيء، هذا الطالب هو ظالم لنفسه ومحطم لمعنوياته، وأحيانا ما أمزح مع مثل هذا الطالب وأقول له ليكن: ولتذكر لى ماذا أنت ناسيه، فيمضى يعدد أنه ناسى كذا وكذا وكيت وكيت حتى يكاد يسمع كل ما يدعى أنه لا يذكره.
الأصل أن نثق فى أنفسنا وقدراتنا، وأن نذهب مباشرة لبعض ما نعتقد أننا لم نستوعبه فنراجعه مراجعة سريعة قبل أن نتساءل إن كنا سنذكره أو لا نذكره فى الامتحان، ثم بعد ذلك ينبغى ألا نمتحن أنفسنا فى اليوم الواحد عدة مرات، وألا نرسب مائة مرة قبل أن ندخل الامتحان أصلا، والذى يريد أن يعرف كل شيء قبل الامتحان بشهر أو أسبوعين، عليه أن يسأل نفسه ماذا سيفعل فى المدة الباقية على الامتحان، ذلك لأن هذه المدة هى لمراجعة ومذاكرة ما تبقى فلماذا العجلة وتقرير العجز هكذا مبكرا؟
لابد أن نكرر ونتذكر أنه لا يمكن معرفة ماذا ستكون الإجابة الحقيقية إلا أثناء وبعد الامتحان، وأن علينا أن نملأ وقتنا من هنا وحتى الامتحان بالاستذكار وليس بامتحان أنفسنا كل نصف ساعة مرة.
– هل أشترك مع زملائى فى مراجعة بعض الأسئلة والمواضيع الهامة أم أن الدراسه الفردية أفضل من حيث التركيز والإنجاز؟
كل واحد وحسب عادته، فالذى تعود مناقشة زملائه وتبادل الآراء، ونجح وتفوق من خلال ذلك فليفعل، ومن يذاكر وحده طول العمر ويفوق فليفعل، ولا داعى لتغيير الطريقة وخاصة قبل الامتحان مباشرة، على أننى أحذر هنا من أن يستغل بعض الزملاء الخبثاء الوقت فى مثل النقاش الجماعى، و هم يخفون ما ذاكروا، أو وهم يضيعون وقت غيرهم بعد أن تأكدوا من مستوى استيعابه، هذا خطر حقيقى ينبغى الانتباه إليه بشكل فائق.
وأحيانا ما يكون شرح درس لزميل متعثر أو متأخر لظروف خاصة يكون هذا الشرح فى ذاته عمل طيب، للإثنين معا.
– أنجح كل عام ولكنى أريد أن أحصل على تقدير ماذا أفعل؟
أحصل يا أخى ماذا يمنعك؟ أنا شخصيا موافق، ولكن عليك أن تذاكر أولا كما اعتدت، ثم تزيد على ذلك، أما أن ترغب فى التفوق هكذا دون مذاكرة زيادة، فلن تحقق لا النجاح ولا التفوق، واصل عملك كما هو، ثم زد عليه ساعات الاستذكار، ثم تدرب على الامتحانات، ثم توكل، والله يوفقك، ويفوقك يا سيدي( يعنى يجعلك متفوقا!)
– أعانى من التوتر الشديد ليلة الإمتحان وأصبح غير قادر على النوم.. ماذا أفعل لتهدأ أعصابى وأستطيع أن أنام ليلة الإمتحان؟ وكيف أستطيع أن أحافظ على هدوئى فى أثناء الإمتحان؟
أولا: التوتر ليلة الامتحان هو أمر طبيعى، ومن لا يتوتر فهو لا يحس.
ثانيا: الحرص على النوم بشكل متزايد ليلة الامتحان لا يفيد، بل إنه يدخل الطالب فى حلقة مفرغة فهو لا ينام، ولا يذاكر، وأى عدد من الساعات يكفى ليلة الامتحان، كما أن الحبوب المنومة هى مخاطرة غير محسوبة، وخاصة أيام الامتحانات، وقد يستمر أثرها حتى ساعات الامتحان مما يقلل من كفاءة الإجابة.
وأحسن ما يملأ به الوقت ليلة الامتحان هو الاستذكار الذى لا ينبغى أن يكون لتحصيل الجديد، ولكن لملء الوقت بما يفيد.
ولا ينبغى أن نمتحن أنفسنا أو نشكك فى قدراتنا ليلة الامتحان بل لعل العكس هو المطلوب، بمعنى أنه علينا أن نؤكد على ما حفظناه، وأن نكرر أن ما حفظناه هو أكثربمراحل مما لم نحفظه، وأن الامتحان سيأتى أكثر فأكثر مما حفظناه، لأنه هو الأكثر، وهكذا، ولا يصح أن نقلبها غما (قبل الهنا بسنة)، ولنحاول أن نضحك من الموقف ولو على سبيل السخرية الخفيفة من أنفسنا، فإن النكد لن يثبت المعلومات على كل حال، وهناك من ينكد على نفسه قبل الامتحان طمعا فى مبدأ “إن بعد العسر يسرا”، ولا يضحك خوفا من مبدأ “اللهم اجعله خيرا”، وهذا وذاك نوعان من التفاؤل والتشاؤم لا مبرر لهما على كل حال.
– قبل البدء فى الإجابة أقوم بقراءة كل الأسئلة.. مشكلتى أننى عندما أقرأ سؤال لا أعرف حله فإنى أصاب بحالة من الإرتباك الشديد وأتصبب عرقا وأنسى كل ما استذكرت.. ولا أجاوب ولا سؤال فى الورقه .. ماذا أفعل لأنقذ الموقف فى حالة كهذه؟
أولا: هذا غير صحيح بدليل أنك فى سنة رابعة”، ولا بد أنك جاوبت السنة وراء السنة ما أوصلك إلى سنة رابعة. أليس كذلك، فلماذا هذه الإشاعة؟
ثانيا: إن قراءة كل الأسئلة فى البداية هو أمر ضرورى، ولكن محاولة استحضار إجابة كل الأسئلة فى نفس الوقت فى دقيقة واحدة هو أمر مضحك وسخيف.
ثالثا: حتى لو كنت لا تعرف شيئا فما عليك إلا أن تبدأ فى محاولة الإجابة على سؤال تلو الآخر الذى تعرفه أكثر فأقل، وستجد الإجابة تنساب – غصبا عنك- بدرجات أعلى بكثير مما قدرت فى البداية، وفى هذه الحالة بالذات لا بد أن تصر على أن تبقى أنت بالذات فى لجنة الامتحان ولا تخرج إلا آخر طالب بعد انتهاء الوقت، وستتعجب من المعلومات التى تأتى وحدها وتنساب على ورقة الإجابة، وخاصة فى الوقت الأخير (بدل الضائع!!).
– ما الإستعداد النفسى المطلوب ليلة الإمتحان؟ وماهى الأشياء التى يجب مذاكراتها ليلة الإمتحان.. هل أترك تلك اللية للمراجعة العامة فقط أم أقرأ كل كلمة؟ المواد التى أهملت أستذكار بعض الموضوعات فيها طوال العام.. هل أبدأ بإستذكارها الأن من بدايتها.. أم أكتفى بالتركيز بالمراجعة والتأكيد على ما أستذكرت؟
أولا: أنت لا تستطيع أن تقرأ كل كلمة ليلة الامتحان حتى لو أردت.
ثانيا: لا أنصح بأن تذاكر موضوعا جديدا تماما اللهم إلا إذا كان ذلك ضروريا مائة فى المائة بمعنى أنه قد يكون موضوع سؤال مرجح، ولم تعلم عن ذلك إلا مؤخرا، وفى هذه الحال يستحسن أن يشرحه لك موجزا من يعرفه أكثر.
ثالثا: يستحسن تمضية الوقت فى مراجعات خفيفة وليس فى التسميع (لأنك ستسمع حتى تشبع فى صباح اليوم التالى (إنت مستعجل على إيه؟؟).
***
البث المباشر وتأثير
- البث المباشر من خلال الأقمار الصناعية؟ التى تحمل برامجا لا تتفق مع تقاليد ومبادىء المجتمع المصرى والعربى عامة:
– ما تأثير هذه البرامج مثل الأفلام الجنسية؟
هذا سؤال صعب ويكاد يحمل إجابته فى ألفاظه، فمثلا هل تتصور أننى سأرد وأقول إن تأثيرهذه الأفلام هو تأثير ثقافى تحررى وآخر تمام؟ المسألة ليست تأثير على الأطفال أو على الكبار، المسألة هى حقيقية الحرية الداخلية والخارجية التى يعيشها الصغار والكبار، والفرق بين الالتزام والجبن، والفرق بين السر والعلانية، والفرق بين التنظيم والسرقة، أليس الأجدر بنا قبل أن نسأل أسئلة أجوبتها بمثابة تحصيل الحاصل أن نواجه المأزق من أصله، تأثيرها ضار، وإلغاؤها مستحيل، والتنظيم ممكن
– ما تأثير هذه البرامج على المراهقين أو على المرحلة السنية من 13 – 20؟
التأثير على الأطفال أهون من التأثير على المراهقين، فالطفل عنده حب استطلاع لكن المراهق عنده جوع جامح لما يغذى خيالات محرومة.
– ما الذى يجب أن نمنع المراهقين من مشاهدته؟
يا سيدى نمنع ماذا وكيف، هل فكرت كيف تمنع المراهقين من قراءة الصحف، إن مانشتات الصحف أحيانا تحمل عناوين تهزأ بالعقل والمنطق السليم بحيث لو صدقها قارءها (مراهقا أو شيخا) لكان لزاما عليه أن يعيد النظر فى سلامة عقله، إننى أعتبر مثل هذه الأخبار التى تزأ بنا وبعقولنا نوع من تشويه العقل وتعرية الشذوذ الفكري، ثم تقول لى نمن المراهقين، سوف أرد عليك بغيظ مقابل: نمنعهم بأن نقفل التليفزيون ونجلس أمام بعضنا البعض كاذبين مبلمين، ثم يغلق كل واحد حجرته على نفسه وعينك لا ترى إلا النور إلى أن لا ترى النور.
كيف نصل بالمراهق كى يؤدى هذه الرقابة على نفسه بنفسه وبقناع شخصيته؟
أظن أننى سبق أن ذكرت هذا فى السؤال قبل السابق، وأكرر بإيجاز: إنها التربية السليمة، والدين الطيب ( وليس فقط دين الترهيب والترغب) واحترام ما خلقه الله فينا من جسد وجنس ووعى وإيمان
– ما الواجب على القنوات الثقافية أن تفعله لدعم القيمة المصرية والمعرفية، ومواجهة البرامج الاجنبية الأخري؟
هذا سؤال جيد، فالمنافسة الحقيقية هى أن ننجح فى أن نعرض مادتنا بأكبر قدر من التشويق، وأقل قدر من الخطابة، وأعظم قدر من الالتزم، وأضرب لك مثلا بهذا البرنامج الجديد “صباح الخير يا مصر”، وأظن أن الشاب فى الصباح يفضل أن يتابع فقراته الخفيفة السريعة السلسلة على أن يحول “الدش ” إلى جسد عار، أو حيوانان يتناسلان على الصبح يا فتاح يا عليم.
– كيف تقوم الأسرة بعمل رقابة ذاتية على أولادها؟
ألا تكفينا رقابة المصنفات ورقابة الصحف، ورقابة الضمير، ورقابة الأبحاث الزائفة، أى رقابة أو تجسس تريد أن تضيفها أيضا؟ حين نزرع الأخلاق الحقيقية تصبح الرقابة داخلية وما على الخارج إلا أن يدعمها، الرقيب الحقيقى هو أن يتعلم الإنسان فى كل الأعمار ما ينفعه مما يضر، ما يحترم به نفسه مما يهين به نفسه، ما يشكر به ربه على نعمة جسده وعقله مما يكفر به نعم الله خالق الفطرة السليمة، هذه هى الرقابة الحقيقية والتربية السليمة.
– كيف نقاوم البداهة التى تقول: ‘ان الممنوع مرغوب’؟
ولماذا نقاومها ما دامت بداهة على حد قولك، نحن نبدأ معركة لا لزوم لها حين نبدأ بمبدأ “إن المرغوب ممنوع” فيرد علينا المحرمين بقولهم “إن الممنوع مرغوب”، وأنا لا أقصد أن أفتح الباب سداح مداح، وإنما أنا أعرف أن المسألة بهذه الصورة تكاد تأخذ مفهوما بوليسيا رقابيا لن يجدى على المدى الطويل بما نريده لنا وللأجيال القادمة من قوة وحرية وأخلاق حقيقية.
– ما الواجب على القنوات الثقافية أن تفعله لدعم القيمة المصرية والمعرفية، ومواجهة البرامج الاجنبية الأخرى؟
هذا سؤال جيد، فالمنافسة الحقيقية هى أن ننجح فى أن نعرض مادتنا بأكبر قدر من التشويق، وأقل قدر من الخطابة، وأعظم قدر من الالتزم، وأضرب لك مثلا بهذا البرنامج الجديد “صباح الخير يا مصر”، وأظن أن الشاب فى الصباح يفضل أن يتابع فقراته الخفيفة السريعة السلسلة على أن يحول “الدش” إلى جسد عارى، أو حيوانان يتناسلان على الصبح يا فتاح يا عليم.
******
التيارات الفكرية والتطرف
– شباب مصر أين يقف من التيارات الفكرية اليوم؟ وما هو مفهوم التطرف، وقد شاع – هكذا- بين الشباب، بما يعد ظاهرة مهددة لأمل الناس وحركة المستقبل؟
أحب- أولاً- أن أدافع عن كلمة التطرف (وليس عن مفهوم التطرف كما شاع حديثا)، فالتطرف كلمة لها أصل دقيق، و ”وجه آخر” لا ننتبه اليه عادة وقد سبق ان ميزت على هذه الصفحة بين التطرف والتعصب، حيث نبهت انه لا ينبغى ان يكون هجومنا على التطرف لمجرد انه يمثل موقفا قصيا على طرف القضية، وانما يجدر بنا ان نحذر من الجمود والتوقف عند ذاك الطرف، الجمود بمعنى التمسك بالموقف الطرفى دون حوار أو احتمال حركة، وهذا هو التعصب.
– هل معنى ذلك انك تدافع عن التطرف؟
ليس تماما،وانما انا اميز بين مفهوم سييء شاع، وبين حماس منتظر من الشباب، ومطلوب من الناس، ذاك انه اذا كان التطرف هو نقطة قصوى فى حركة مستمرة، فهو بذلك ضرورة حتمية فى حركة الحوار، اما اذا كان نهاية المطاف، ومهربا يختبيء فيه الشاب (والانسان عامة) من مسئولية وجوده مختلفا مع ‘آخر’ فانه التعصب والجمود بكل ما يحمل من صمت الموت وخطر الانفجار.
– فأنت تريد ان تميز اساسا بين الحركة والسكون، أو بين التطور والجمود، وكان الجمود والسكون هما الخطر من التطرف وليس التطرف ذاته؟
اعتقد ان هذه هى قضيتنا الحقيقية مع الشباب وغير الشباب لأننا نحتاج ان نتطرف فى موقفنا مع الحق، مع الناس، مع العدل.نحتاج ان تكون معالمنا واضحة تجاه المبادىء، والأنتماء،والقيمة، وهذا يجعلنا نقف بعيدا عن ميوعة الوسط وخبث التسويات النصفية، لكن هذا الوضوح بالنسبة للأهداف والمباديء لا ينبغى ان يبرر الجمود بالنسبة للوسائل، والمرونة اللازمة للمسيرة الواقعية نحو اهدافنا هى ضد التطرف حتما، وليس معنى ان اكون انا الممثل الأول، أو الأوحد، لما هو الحق ‘كما أراه شخصيا.. ودائما ” بل لابد من حوار وسماح، وانصات، وإعادة نظر طوال الوقت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه”.والله لو واضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان اترك هذا الامر أو اهلك دونه، ما تركته… وقال”… ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن..” اذن قد يكون من الشرف والفخر ان اتطرف ومن الجبن والغرور أن اتعصب.
– اذن فما الذى يقلب هذا التطرف الواضح الحركة، إلى ذلك التعصب الجمود الانغلاق (مما يمكن ان يسمح لنا بتسميته: الوجه السييء للتطرف، أو التطرف الجمود)؟
أعتقد أنها عوامل كثيرة ذات تاريخ طويل، وما يهمنا الان هو ان نعلنها صريحة ومباشرة هكذا: إن المشكلة ليست مشكلة شبابا متدين خائف منسحب مندفع معا، ولا هى مشكلة شباب متحجج رافض حالم – ايديولوجيا !- بالمساواة المستحيلة والعدل الرومانسي، وانما هى مشكلة مجتمع بأسرة، افتقد الحوار الحقيقى حتى انتهى الأمر بفصائله إلى الرؤية الواحدة، فالرأى الواحد، والموقف الواحد، على طرف واحد، قصي، بلا حراك.
– ولكن كيف ذلك ونحن نعيش فى ظل ديمقراطية تسمح بالجدل واجتلاف الآراء وتعدد الأحزاب فى ظل حماية القانون؟
انا لا أنكر القدر المتوضع من الحرية التى تظلنا، لكننا مازالنا فى بداية الطريق، فلا يكفى السماح الخارجى لنقول: حرية، ولكن لابد ان يمتد هذا السماح إلى داخلى بما يسمح بحوار أساسى مع نفسي، حوار حقيقى فيه كل احتمالات المراجعة والتراجع أو التغير فى اى اتجاه أفضل، وهذا أمر يحتاج إلى وقت طويل وممارسة وقيم راسخة ونضج كاف، واسمح لى ان أقول لك إن الحوار بلا فاعلية حقيقية،ذلك أننا قد نتبادل الكلمات، وقد نتراشق المقالات، وقد نتصايح المباديء وقد نتحزب السياسة، أنما يتم وقد تجمع كل فريق فى جزيرته المنعزلة، ينصب على كثبانها مكبرات الصوت وأشرطة التصفيق، وهات ياصياح الفخر والهجاء والكر والفر، والاتهام والدفاع (وكاننا نتحاور) فتتباعد جزر وجودنا عن بعضناالبعض أكثر فأكثر نتيجة لتنافر الشحنات وصمم التلقي،فتنقلب الأصوات العالية إلى مفرقعات مدوية تسرى فى ظلام العمى والصمم، فتصيب الجميع بما لم يحسبوا
أجيب ان هذا الأمر يحتاج إلى مزيد من الأيضاح، وخاصة ان الشباب يعتبر ان مجرد اعلانه اختلافه هو دليل على قوة احتجاجه وهو يعلن رفضه مسبقا ومؤكدا وهو يحسب انه بذلك يمارس حرية الحوار، فهلا أوضحت لنا – ولهم – كيف يكون حقيقيا، وما هى طبيعة الحوار الجارى الآن ؟
أولا: إننا نتحاور ليثبت الواحد منا للآخر انه (الواحد) على صواب تماما (100%) وان الآخر مخطيء تماما (100%) لدرجة لو صدقناها لحسبنا أن واحدا من المتحاورين هو أينشتين وأن الثانى متخلف عقليا (وبالعكس).
ثانيا: اننا نتحاور لنتخلص من وجود الآخر، لا لنستلهم منه ما غاب عنا.
ثالثا: نحن نبدأ حوارنا عادة بمسلمات نفرضها فرضا كان نستشهد بقول مأثور، أو سلفية مقدسة، أو ايديولوجية براقة، ثم نرتب على ذلك ما يليه من دفاع وهجوم ونفى وإثبات، ومع ان مثل هذه البديهات والمسلمات الأولية هى أولى الأمور بالمناقشة وإعادة النظر.
رابعا: إن حوارنا عادة ينتهى بانتهاء ‘تبادل الكلام ‘ سواء كان ذلك مصحوبا بغصة العجز عن اثبات وجاهة الرأي، مع استمرار التمسك به، وهذا وذاك لا يضيف إلى المنتصر أو المنهزم أيه اضافة، وانما يكون الحوار حوارا اذا لا حقنى بعد انصرافى من المواجهة لا حقنى وهو يلح على عقلى ووجداني، فى يقظتى وأحلامى مما يضطرنى إلى اعادة النظر ومغامرة التغير.
– ولكنك بهذا تضع القضية وكانها قضية فكرية، بل دعنى اقل فلسفية، فاين البعد الاجتماعي، والبعد الاقتصادى والبعد النفسى ؟
-اسمح لى أولاً أن أنيه على أن استعمال كلمة فلسفة بعيدا عن دورها الفعال فى الممارسة اليومية هو انتقاص من شرف حركة عقولنا، فالفلسفة هى ممارسة العقل الفعلى – لا المجرد – لتحريك وتغيير واقع الحياة وطبيعة الوجود، واذا كنا نتحدث عن التطرف والجمود، فالفلسفة المعاشة بالحركة والمراجعة، ثم دعنى انتقل بعد ذلك إلى التنبيه على خطورة الانسياق وراء التفسيرات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية استسهالا، بمعنى أنه لا يمكن القول أن الشباب الأكثر فقرا هو الأكثر تطرفا مثلا (حتى لو قالت الاحصاءات ذلك) لأن الشباب الأكثر ثراء هو متطرف أيضا وإن كان تطرفه سلبيا، بمعنى أنه يقبع ساكنا مجمدا على طرف القضية، ولكن على الناحية الأخرى أمام الفيديو، وفى صالات الديسكو، وهو لا يراجع موقفه، ولا يحاور ما يستورده من عادات، ولا ما يلقى اليه من أفلام وخيالات، فهو متطرف ساكن مقابل المتطرف المندفع من موقع تجمد متفجر معا.
– فماذا عن البعد النفسى والاجتماعى؟
- بصراحة، وبالرغم من تخصصي، فأنا لا أحب أن أقحم التفسير النفسى هكذا فى كل شيء ومع ذلك فدعنى أقل لك أن التطرف والجمود هو موقف دفاعى ضد ميوعة الوسط، وضد غموض القدوة وتذبذبها وضد الانسياق وراء كلمات وشعارات تغرى بما لا تستطيع، وتعد بما لا تفعل، فالشباب فى هذه الأحوال لا يطبق الصبر على الحلول الوسطي، والوعود السرابية، فيضطرأن يتحوصل فى أقصى أحد لاأطراف، محتميا بفكرة الخاص الذى يعده بحسم أوضح، وحل أسرع، ومصير أضمن، وبالنسبة للموقف الاجتماعي، فان مجتمعنا قد عاش لمدة ثلث قرن بالتمام ‘ينبغى أن يفكر به، حتى سادت قيمة ‘الجماع’ فى كل المجالات (حتى البعيدة عن السياسة والدين ك مثل مجالس الأقسام أو الكليات أو حتى تقييم البحث العلمي) مع أن الاجماع هو الاعلان عن أضعف الحوار،وكل هذا انما يعلن أننا نعيش مجتمع القبيلة – فكريا – حيث الأقلية (ورأى الأقلية) منبوذة وعاقة حتما.
– ولكن المسألة بالنسبة للشباب اتخذت شكلا محددا فى صورة التطرف الديني،،وفى المقابل التطرف الأيديولوجى اليسارى، فما تفسير ذلك وهل الدين ذو التقدمية يدعوان لمثل ذلك؟
أفهم أن الموقف الايمانى – وسيلته الأولى هى الدين، والتدين – هو حركة فى اتجاه التناغم الأعلي، كدحا إلى وجه الله، ابتغاء مرضاته، وهو الفطرة النامية فى سبيلها إلى التصالح مع أصلها، وبهذه الصورة فالدين نقيض الجمود والتطرف حتما، وأرى أن المسئول عن تشويه الدين بصورته الشائعة بين الشباب هو التناول الطسحى لدور الدين الحضارى والتطوري، فهذه الدعاية للدين بقشور العلم، وهذه الرشاوى المطمئنة والمعفية من التفكير، تقدم الدين باعتباره مظلة جيدة، بها أزرار جاهزة، تمطر أجوبة مصقولة وكاملة لكل من يضغط عليها من الشباب (غير الشباب) – وبالتالى فإن الفكر يتوقف معتمدا على التلقى الذى لا يؤدى إلا إلى مزيد من السكون فالجمود، فالتطرف الخطر، وحتى نحاور هؤلاء الشباب – فى مسلسلات التليفزيون مثلا – لا نحاورهم لتحريك فكرهم، وتقريبهم من الوعى ببقية البشر من أديان ومواقف أخرى، وانما نحن نواجه سكونا بسكون أرسخ، والنتيجة أنهم يخرجون أكثر اطمئنانا إلى سكونهم الدينى (قطاع خاص) من السكون الدينى الرسمى، والأولى بنا أن نواجه السكون لدينى بالحركة اليمانية، وأن نحاور الجمود التعصبى بالابداع المغامر الذى يرينا وجه الله فى أنفسنا وفى الافاق دون استعارة معلومات علم ضعيف، أو خطابة معادة.
– فماذا عن التطرف إلى اليسار وأصحابه يقولون بالتقدمية والتطور كما تشير؟
- التطرف إلى اليسار هو ضد اليسار أيضا، وترادف كلمة اليسار مع التقدمية هو خطأ شائع لأن اليسار موقف فى ناحية، والتقدمية حركة فى اتجاه، والمطروح على الوعى البشرى هو الحركة ضد السكون، وليس اليسار ضد اليمين، وما يعيب شبابنا اليسارى هو أنه يعيش يسار العشرينيات حتى الأربعينيات، ثم إن مسألة شكل التطرف يسارا تعتمد على درجة تطور الشعب عامة، وقارن بين حوار سلطة اليمن الجنوبية بالسلاح والاعدام، وحوار بولندا بالاحتواء والتدرج (وكلاهما يسار شديد).
*****
مكتب التنسيق
– “التفسير المادى” لا تجاهات “مكتب التنسيق”؟
ظريف هذا التفسير المادى للتاريخ وللعواطف والميول والاتجاهات، وبشع أيضا، هو ظريف لأنه يعطى إجابات مباشرة واضحة لأشياء تبدو من بعيد ضخمة فخمة، فيريح الواحد منا من الأوهام الآملة، ومن الأحلام الوردية ومن عبء القيم أحيانا.. ما دامت قد أصبحت مسكنات فاسدة – مثل بقية بضائع اليوم – قصيرة العمر قليلة النفع.
وهو بشع لنفس الأسباب!!
وكثيرا ما أحسن أن هذا التفسير لازم مرحليا على الأقل، ما دامت القيم قد أصبحت معلقات على الحوائط، وما دام الجمال قد اقتصر على “ملزات” داخل صوان زجاجى، وبعد ووجدت فيها هذا العام.
فقد ظهرت نتيجة الثانوية العامة ووجدت فيها هذا العام علامات صحية جديدة، حين تواضع المصححون فكفوا عن تفريخ العباقرة بالجملة، وها نحن نقبل على مرحلة “الاختيار”.
ولابد أن ندرس معا المقاييس التى تغرى طالبا ما بالاختيار لمعملنا ننبهه ونوجهه فى هذه اللحظة الحرجه من حياته ومازلت أذكر أنها فى المقام الأول كانت ومازالت مقاييس مادية بحته (تقريبا) فمنذ الترمن ربع قرن قال لى والدى وأنا أسأله عن أى كلية أختار “أنت رجل قد ملكت أمر نفسك” يبدو أنه قالها بعد أن تأكد من “مجموعى”، فاعطانى الحرية كاملة لما اطمأن إلى أنه ليس ثمة مجال للاختيار، بشجاعة العقلاء منحت ميولى الأدبية أجازة إلى أجل غير مسمى وأصبحت طبيباً الحمد لله على كل حال.
وحين تتبعت بعد ذلك مؤشرات الاقبال على كليات الهندسة حول الستينات، استشرت خيرا، وقلت إن الدولة تتجه إلى التصنيع وها هو الشباب المتفوق يستجيب وها هى الصحراء تناديهم أو تنتظرهم “يا صحر المهندس جى” ويتخرج الشباب والمهندسون والمهندسات يجيب ظنهم (بالتكليف والتسويف) يجلسون على مكاتب يدفعون اوراقا لاعلاقة لها بتعليمهم ولا بآمالهم ولا بنداء الصحراء عليهم التى يبدو أنها استغنت عن خدماتهم (بفعل مراكز القوى كما أوضح الرئيس مؤخرا) وينظر المهندس (دآلة) إلى الأثنين وعشرين جنيها فى أول كل شهر ثم إلى زميله الطبيب الأقل مجموعا فى الثانوية العامة يكسب عيشه مرتاحا وحر (إلى خدما) فهدى أخاه الأصغر هاما إلى طريق السلامة وينتبه الاهل والطلبة إلى حقيقة الاحتياجات ومصادر الرزق، وترجع الموجة إلى مد كليات الطب، آمنين إلى فقر الدولة وعدم قدرتها أو جرأتها على تأميمه الطب فى المدى القريب على الأقل، وهكذا تستيقظ الميول الطبية فجأة ويهتم الشباب بالآم البشر المرضية وتجرى المجاميع العالية إلى كليات الطب.
أما بالنسبة للقسم الأدبى فقد خطيت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بنصيب الأسد من طلبة هذا القسم، وأحاول أن أحد تفسيرا ما بأقل أتبينه ولكنى أكتشف من خبرتى أن كثيرا من الرغبات اتجهت إلى هذه الكلية ‘المودة’ لأن بعض بنات من عليه القوم قد قررن فجأة الإشتغال بالسياسية – أو هكذا تصدر الشباب وأقابلهن مصادفة فى عيادتى وأسأل بعضهن عن سبب دخلوهم هذه الكلية (ويسمونها “سياسية واقنصاد” تدليلا) فألمح آمالا فى وزارة الخارجية ولكنى لا أقابل (وربما مصادفة) من لعرف أمانة العمل الاساسى ومسئوليته أو تأثير العامل الاقتصادى مسار الأمم والحضارات ويسعى بدخوله هذه الكلية إلى اصول هذا الفريق أو ذلك وتمر الايام وتقابل الآمال صخرة الواقع وتكاد تنحسر الموجة كما سمعنا هذا العام هذا بالنسبة إلى تنافس القمة.
أما بالنسبة إلى زحمة القاع فالأمر أصعب وربما أخطر، فإن تنافس ثلث مليون شاب وفتاه على بصفة الآن معقد فى كلية أو اثنين لا ينتج عنه الا مظاهر مرضية خطيرة سميت أخيرا بمرض الثانوية العامة’ وهى للأسف تشبه إلى حد كبير أعراض مرض الفصام العقلى الخطير.
وهنا أقف وقفة متأنية مع الشباب وأهمس اليهم بسر أرجو أن يصدقونى فيه هو أن العمال الحرفيين المهرة يكسبون أضعاف أضعاف خريجى الجامعة وأن قانون العرض والطلب لابد وأن يعزى أى شاب (أو حتى خريج الجامعة) أن يغامر هذه المغامرة الصعبة التى أنادى بها الآن، وخاصة لمن تصور من الشباب أنهم لم يوفقوا أو حتى فشلوا وعلى المتفوقين أن يدفعوا ثمن تفوقهم) أهيب بهم أن يذهبوا إلى مواقع العمل مباشرة فى مواقع التعمير وداخل الورش الفنية وأن يسألوا عن “يومية” العامل الماهر (مبلط القيشانى أو البناء أو الخراط.. الخ) وأن يتأملوا عرقهم الشريف الذى يضفى عليهم صحة وربماً وأن يعدوا الجنيهات التى يقبضونها آخر النهار، بل أنى أدعو الشباب إن كان صادقا فى محاولة التغير، ساخطا على سوء مستوى المعيشه أن يحطم داخله – ولو على سبيل التجربة – ويقوم يوما أو بضعة أيام بأبسط الأعمال غير الفنية حتي، فيحمل مقطفا أو قصعة مونه ليصعد بها السقالة طوال النهار فى رجولة (الفظة تصلح للجنسيه بالمعنى الأء لرى) ثم يقبض آخر النهار جنيها أو جنيها ونصفا ويحافظ على ماحل على جسده من صحة وعلى عقله من جلاء ويستطعم ما اشتراه بهذا المبلغ ثم ليقرر بعد ذلك شيئا فى أمر مستقبله – واللى تغلب به العب به.
أما بالنسبة للدولة، فإنى أقترح ألا تكتفى بالمدارس الصناعية والفنية بل أرجو أن يكون اتقان حرفة ما جزء لا يتجزأ من الدراسة العامة لمدة اثنى عشر سنة (من أولى ابتدائى حتى الثانوية العامة)، ثم أقترح – لو أمكن وبالبته يمكن- أن تشترط لدخول الجامعة أن يمضى الطالب بعد الثانوية العامة عامين فى حرفته هذه، يقبض فيها أجره المرتفع، ويسلم جسديا ونفسيا، ويعرف معنى وشرف العمل اليدوى، وهكذا يكون الاختيار لدخول الجامعة بعد ذلك من واقع إمكانيات متعددة، وبناء على مجاميع الثانوية العامة أيضا (إن وجدتم بعد ذلك من يرض أن يدخل الجامعة)
يسألنى الشباب سؤالا مباشرا حين يردنى متحمسا هكذا وكأنى قد وجدت الحل السعيد للمسألة الصعبة “وابنك؟ ماذا تريد له” وأتمنى أن أختبئ فى عبارة والدى “هو حر: قد ملك أمر نفسه”، ولكنى أعجز فأجيد محاولا الصدق “مثل أى أو يمجى أو نقاش أو حجار فرعونى، أريده أن يحترف حرفتي، لعله “يشرب” من خبرتى (شغل المعلم لابنه) ثم يحقق ما عجزت أنا عن تحقيقه، ولكن جزء أصدق، فى داخلى يصبح “لا… ياليته يفعلها – غصبا عنى أو عن أمه – فيعيش يساعده كل الوقت أو بعض على الأقل، وينتصر لنفسه عليها وعلى فينتصر لى، على أن يتحمل مسئوليته ومسئولية مجتمعه من البداية للنهاية، مادام سيسعد سعادة لم أستطع أن أدعيها.. ولم قرأت مثل ذلك على وجوه كل من تصدر فلينقذنا الشباب بالقدوة والفعل أو، فليدفع تمنا أبهظ مما دفعنا وصدقونى.
***
ما هو الحب
- ما هو تصورك للحب الحقيقى؟
يا خبر!! كم أود أن أهرب حتى لا أصدم المحبين، ولكن شكرا على تحديد السؤال بكلمة “تصورك” لأن ذلك أتاح لى أن يكون حديثى هو مجرد تصورمجتهد، وليس أحكام واثق، ذلك أننى من فرط اهتمامى بهذه القضية قلت فيها وزدت حتى مسخت، المهم: تقولين الحب الحقيقي، فأحذرك ابتداء من صفة “حقيقي”، لأن الحقيقة هدف بعيد المنال، وكل ما نملكه إزاءها هو أن نسعى فى اتجاهها، أما عن الحب فالأمر يتعلق بالشائع عن هذه الكلمة، وأيضا يتوقف على: إلى من أوجه الخطاب، أقول لك يا سيدتى ورزقى على الله، الحب الحقيقى هو التواجد مع آخر بإرادة ظاهرة أو خفية، فى حالة يقظة من الرعاية والمسئولية المتبادلة، مع تحمل الاختلاف، ومثابرة الاستمرار، هل فهمت شيئا، أليس من حق الحبين بعد هذا التعريف الجاف أن يلقوا فى وجهى بالبيض الفاسد والطماطم المفعوصة.
– متى يشعر الفرد أن الحب الذى يعيشه هو الحب الحقيقى؟
إن الفرد يشعر أولا أنه يحب، ثم بعد ذلك قد يتساءل إن كان هذا حب حقيقى أم لا، والأحسن ألا يتساءل، لأننى أعتقد أن الحب لا يصير حبا إذا قفز هذا السؤال التالى يقول: هل هو حقيقى أم غير حقيقي، وبألفاظ أخرى أقول: إن الحب (كما هو شائع) يبدو حقيقيا حتى يسأل المحب نفسه إن كان حقيقيا أم لا، والأولى ألا يبحث عن إجابة، فمجرد ظهور هذا السؤال فى الوعى، يجعل الحب ليس هو الذى ظنه صاحبه فى أول الأمر.
آسف مرة أخرى، ولكنى أريد أن أقول إن على المحبين أن يحبوا دون أن يشغلوا بالهم بحكاية حقيقى أو غير حقيقى حتى لا يفسدوا مرحلة العمى اللذيذ الذى تلوح به التجربة فى البداية.
- ما هو إنعكاس الحب الحقيقى فى حياة الفرد؟ (الفتاة – الشاب)؟
ثانية، تقولين الحب الحقيقي؟ حاضر، أنت التى تصرين، إن انعكاس الحب الحقيقى لا يكون فى مدى الشوق أو مساحة الذهول، وهو لا يكون فى احتكار العواطف أو تقديس المحب دون غيره، وإنما الحب الحقيقى – وتحمليني- ينعكس فى حياة الفرد إذا كان بداية انطلاق نحو حب عدد أكبر من الناس والأشياء والأوقات والأحلام، إذا كان مجموع الإثنين المحبين أكثر من اثنين (واحد محب + واحد محب = أحباء كثير، وليس اثنين)، إذا كان عائد العلاقة هو مزيد من الإنتاج والإبداع لكل طرف على حدة، ولهما معا، وللناس بالتالى، إذا كان اختلاف كل محب عن الآخر ليس دافعا للشجار وإنما مثيرا لتعديل زاوية الرؤية لعل التوجه كل من موقعه يقربهمامعا من هدف مشترك غير مرئى فى اللحظة الراهنة، أعنى أن الحب الحقيقى ينعكس فى إثراء حياة من يعيشونه بكل مستوياتها، حالة كونهم وسط بحر البشر الذى يحتاج أن يأتنس بتآلفهم، وودهم مع الناس وليس على حساب الناس، أو استبعادا لبقية الناس.
– هل يشترط الحب الحقيقى بلوغ الفرد سن معين؟
إذا قبلنا هذه التحفظات السخيفة التى قدمتها وكادت تسلب الشائع عن الحب: مثل رفض مسألة “أموت فيه ويموت فيه”، أو مثل الحذر من مبدأ “إنت وبس إللى حبيبي”، أوتحذيرا من الانسياق وراء “يصعب على أنام لحسن أشوف فى المنام غير اللى يتمناها قلبي”، إذا قبلنا كل هذه التحفظات، أقول لك بكل صراحة إن الحب الحقيقى هو حب منتصف العمر، أو بتعبير أدق هو حب النضج الواعي، والنضج لا يرتبط بسن معينة وإن كان أى نضج يحتاج زمنا طويلا حتى يكون نضجا حقيقيا، ولذلك فإننى لا أنصح الشباب مثلا أن يقيس ما يسميه حبا، بما جاء فى هذا الحديث عن “الحب الحقيقي”، إذ يخيل إلى أن الذى يولد الحب الحقيقى فى نهاية النهاية هو الحب غير الحقيقي، وبتعبير آخر فإننى لا أتصور أن أى إنسان يمكن أن يمارس الحب الحقيقى دون أن يكون قد سبق له أن “طب” أو “اندب” مرة ومرة ومرات فى حب غير حقيقي، وخلاصة القول أن الحب ليكون حقيقيا (كما مسخته حالا ) يحتاج لعدد من السنين وعديد من الخبرات، وكأنه قلب جوهر تحميه عدد هائل من الأوراق المحيطة (مثل الكرنبة !!)، ولا يمكن أن تصل إلى قلب الجوهر إلى بإزالة هذه الأوراق طبقة بعد طبقة، على شرط ألا تستهين بفائدة الأوراق وضرورتها لحماية هذا الجوهر القلب، وبالتالى فإن الحب غير الحقيقي- إن صح التعبير- هو هذه الأوراق العظيمة التى تحافظ على الجوهر(القلب الداخلي) حتى نصل إليها فى الوقت المناسب.
– هل الحب الحقيقى مع الزواج يتلاشى أم يزيد؟
وهذه قضية أخرى تتحدي، فليس كل زواج مثل الآخر، وبما أننا تكلمنا عن الحب الحقيقي، فمن حقنا أن نتكلم عن الزواج الحقيقي، والزواج غير الحقيقي، فإذا كان الزواج هو عقد ملكية موثق فى الشهر الاجتماعى فحسب، فإنه مقبرة للحب الحقيقي، وإذا كان الزواج هو هدف ما كان يحسبه الطرفان حبا، إذن فقد حقق الحب هدفه وبالتالى لم يعد للمحبين حاجة إليه (لأن الإنسان لا يحافظ على الوسيلة متى أدت غرضها) وإذا كان الزواج صفقة تعفى طرفيها من مسئولية اختبار حقيقية علاقاتهم مع سائر البشر، فإنه يكون بديلا عن النضج، وبالتالى نبتعد قليلا أو كثيرا عن شروط الحب الحقيقى كما أشرنا حالا، موجز القول أن الزواج الاحتكار، والزواج الانغلاق، والزواج الصفقة المحدودة الأطراف، لا بد وأن يـستغنى به عن ما يسمى حب حقيقي، أى أن الحب يتلاشى (عادة رويدا رويدا) بعد الزواج، أما إذا كان الزواج هو امتداد لعملية النضج، بمعنى أنه إشراك للمجتمع كشاهد وعامل مساعد لدفع محاولة طرفين أن يكملا تدريبات العلاقة البشرية بكل ما تحمل من تحديات وصعوبات، بحيث إذا أتقناها فى هذا النموذج المسئول المعلن، أصبح كل طرف قادر على ممارسة علاقات إنسانية مع ناس آخرين فآخرين فآخرين أفضل فأفضل، وأكثر فأكثر، هنا يكون الزواج مرحلة أنضج فأنضج للحب الناضج أصلا، كما يصبح إضافة معلنة لمسئولية متحدية، ووعدا بأن يكون لحساب المجتمع الشاهد والمبارك وليس على حسابه.
ولا أخفى عليك أننى فى خبرتى المحدودة كان الزواج -عادة أو غالبا- من النوع الأول (الاحتكارى الإنغلاقى الصفقاتى المحددة الأطراف) دون الثانى (المسئولية، والعلانية، ومشاركة المجتمع، تعميقا لعلاقة خاصة لإثراء العلاقة العامة)
– هل يتلاشى الحب الحقيقى مع المشاكل الإقتصادية أم يصمد؟
يا ليتك تستبدلين كلمة يتلاشى يتلاشى يتلاشى هذه بكلمة مثل “يقل”، ذلك أنه من الصعب أن نتصور أن خبرة إنسانية مثل الحب (حقيقى كان أو غير حقيقى) يمكن أن يتلاشى لأى سبب من الأسباب، وبالنسبة للإجابة على هذا السؤال بالذات، فإنه بالرغم من أهمية العامل الاقتصادى فى كل نواحى الحياة، فإننى لا أحب أن أختزل الأمور فأفسر كل الصعوبات بهذا العامل الهام، صحيح أن الفقر هم وقهر، وأن ترعرع الحب مع الهم والقهر أمر صعب، ولكن فى الغنى أيضا رخاوة وفتور، وبالتالى تصبح ممارسة الحب تحت مظلة الوفرة والرفاهية أبعد عن الاختبارات المتحدية، والعامل الاقتصادى للأسف يقع عبؤه عادة فى مجتمعنا على الرجل (الرجل عيبه جيبه)، وحتى لو لم يكن التأثير ظاهرا، وكان الطرف الآخر محتملا، فإن تزايد الحرمان من مطالب الحياة الأساسية، وتصاعد تبادل اللوم مع تلاحق الإحباط، كل ذلك خليق أن يؤثر تأثيرا سلبيا على تعميق العلاقة الإنسانية المسماة بالحب، وبالرغم من كل ذلك فإن الحب إن كان حقيقيا بالمعنى الذى أسلفنا، فإنه يصبح جزءا لا يتجزآ من الواقع، وماالواقع إلا اقتصاد ومسئولية وأكل عيش وعلاقات، فلا يمكن فصل العلاقات الإنسانية عن بقية مكونات حسبة الواقع، وبالتالى فإن العامل الاقتصادى يصبح مجرد متغير من متغيرات الواقع، وبما أن الحب الحقيقى هو فى نهاية الأمر دافع للإنتاج والإبداع، فإنه جدير أن يعتبر دافعا للانتصار تحت كل الظروف، ولست أبالغ هنا حين أقول إن الفقر واقع مر، فلا ينبغى أن نجعله أكثر مرارة بأن نتصور أنه مسئول عن أن يحرمنا من شرف الحب وحفزه (هذا إذا كن حقيقيا !!!).
- هل يتلاشى الحب الحقيقى تدريجيا مع الأيام؟
إن الأيام- الزمن- لا بد وأن تغير طعم الحب، ولكن مسألة يتلاشى هذه، كما قلنا، فيها نظر، يمكن أن نتحدث عن الفتور، أو عن التعود السخيف، أو عن قلب الاختيار المتجدد إلى واجب متبادل، وكل هذا قد يكون المعنى المقصود بالتلاشي، ولكن كل هذا لا يسرى إلى على الحب الشائع وليس الحب الحقيقى الذى تصرين على الحديث عنه، فالحب الحقيقي- كما أشرنا- هو أحد تجليات النضج الحقيقي، والنضج يزيد مع الأيام (حسب مدارس النمو المستمر) ولا ينقص إلا فى حالات المرض التدهوى (مثل عته الشيخوخة)، وبالتالى، ففى الأحوال العادية يظل النضج مستمرا ومتزايدا حتى القبر، وبالقياس السليم فإن الحب – الحقيقي- يظل قائما ومستمرا ومتزايدا حتى القبر، مهما تغير موضوع الحب، لأن الحب الحقيقى يعلم صاحبه كل يوم كيف تيحب أكثر، أكثر كما، وأرقى نوعا، وأكثر عددا من البشر، فكيف تنقصه الأيام وهى تعطى فرصا متزايدة للأخذ والعطاء والتعلم والمشاركة والخبرة والفرص المتجددة.
– هل من الممكن أن يتحول الحب الحقيقى إلى برود وفتور؟
طبعا لا، وإلا نكون قد أسأنا تعريف الحب الحقيقي، إننى أفترض أن الحب الحقيقى إذا تحول إلى برود وفتور فمعنى ذلك - ببساطة- أنه كشف عن أنه لم يكن حقيقيا، هذا كل ما فى الأمر، والحب لا يكون حقيقيا أو غير حقيقى بقدر تأكيد صاحبه على ذلك، أو بقدر اشتعال العواطف ومظاهر التفاني، وإنما الاختبار الجاد لما هو حقيقى أو غير ذلك هو “الزمن”، فالحب الحقيقى دائم الحيوية متفجر الإبداع، دون ارتباط بفرد بذاته، مع ضرورة الارتباط فرد ما فى كل مرحلة، وهو يتميز دائا بقدرات متنامية فى كل اتجاه، فكيف يبرد أو يفتر إلا أن يكون شيئآ آخر.
– هل من الممكن أن يتحول الحب الحقيقى إلى وهم؟
أظن أن الإجابة متضمنة فى إجابة السؤال السابق، الحب الحقيقى لا يتحول إلى وهم تحت أى ظرف من الظروف، وإنما قد يثبت -إذا تعرى باختبار صعب- أنه كان وهما من البداية، لا أكثر ولا أقل
– هل ينشأ الحب الحقيقى بين مسلم ومسيحى؟
الحب الحقيقى (الحقيقي) لا يسأل عن رقم البطاقة قبل أن يمارس نشاطه، وهو علاقة إنسانية فى أعلى مراتبها، فكيف يحول دون انطلاقها أو نمائها لون البشرة أو نوع الدين، إن التنظيمات الاجتماعية، والدينية، والعرقية لعلاقات البشر، هى تنظيمات جيدة لأسباب موضوعية وإحصائية فحسب، فالأرحج – إحصائيا- أن استمرار علاقة إيجابية مع اختلاف الدين أو الطبقة أو غير ذلك يحتاج إلى جهد أكبر ونضج أكبر مما لا يتوفر لمعظم الناس، وبالتالى فإن فشل هذه العلاقة يكون أكثر احتمالا من نجاحها إذا قورن بالعلاقات التى لا تعانى من هذه الصعوبات، أم بالنسبة للحالات الفردية، فإن العلاقة الإنسانية الحقيقية قادرة على اختراق كل الحواجز وتحدى كل الصعوبات، وإن كانت فى كثير من الأحيان سوف تصطدم بالتنظيمات الرسمية، أو بغباء المجتمع، أو بشروط الواقع، وهذا كله ينبغى أن يوضع فى الاعتبار دون حجر على المشاعر الإنسانية من البداية، خلاصة القول أن الإنسان يحب، ما دام إنسانا، ثم ينظم مساره وسلوكه وإيقاعات يومه حسب الواقع (الغبى عادة) من ناحية، وحسب قدراته الإبداعية من ناحية أخرى.
– هل يمكن لامرآة متزوجة أن تحب رجلا آخر؟ وهل يمكن لرجل متزوج أن يحب امرأة أخرى حبا حقيقيا؟
يمكن للرد عى هذا السؤال الرجوع إلى رد السؤال الخامس فإذا سمحت لنفسى أن أثق فى القارئ، وأن أتصور أننى استطعت أن أوصل له “تصورى” عن مسألة الحب الحقيقى، فالإجابة لن تكون صادمة إلا لمن لم يستوعب ما سبق، الإجابة تقول إن المرأة المتزوجة زواجا إيجابيا (بالمعنى السالف الذكر والذى يؤكد أن الزواج الإيجابى ليس إلا تنظيما اجتماعيا لعلاقة إنسانية إيجابية تسمى الحب) إن هذه المرأة لا يمكنها فقط أن تحب رجلا آخر، بل إنها لا يمكن أن تحب زوجها حبا حقيقيا إلا إذا استطاعت أن تحب رجلا آخر، وكذلك الزوج، وليس معنى هذا إفساد العلاقات الزوجية أو إعطاء توصية بالخيانة أو الانحلال أو تبريرا للعلاقات الجماعية النكوصية غير المسئولة، فكل أنواع السلوك المترتبة على الحب تحكمها تنظيمت لاحقة إجتماعية وأخلاقية ودينية، إن من حقنا وفى قدراتنا أن نحب من نشاء، دون احتكار أو وصاية، ثم نرى ماذا يمكن بعد ذلك حسب التزاماتنا، وتنظيماتنا، وديننا وتقاليدنا، كل بحسب ما يحيط به وهو مسئول عنه متحمل له، معا، طول الوقت، طول الوقت.
– ما هى الأسس والعوامل التى يبنى عليها الحب الحقيقي؟
كل ما سبق هو رد على هذا السؤال، ولكن ثمة فرصة لتلخيص “تصورى” على الوجه التالي:
الأسس هى أن عنرف عن ماذا نتكلم حين نستعمل تعبير “الحب الحقيقى”، وأن يترادف ذلك مع النضج الحقيقي، وأن نميز بين الوقوع فى الحب و الموت فى المحب، على ناحية، وبين إرادة الحب، والقدرة على الحب، والاستمرار مع المحب (كما هو وكما يمكن أن يكون، وأكون) من ناحية أخري، وأن يكون الحب الثنائى هو البوابة المقدسة للحب الإنسانى للأخرين الواحد تلو الآخر لحما ودما، وليس بمعنى التجريد وحب الناس عامة وحب الإنسان دون تحديد وهكذا
– ما هى الأسس والعوامل التى تدعم الحب الحقيقى بعد الزواج ليستمر؟
أن يكون حبا حقيقيا، وزواجا حقيقيا، ونضجا حقيقيا (أنظر قبلا)
– هل من شروط الحب الحقيقى أن يكون متبادلا بين طرفين؟
ليس فقط متبادلا بين طرفين، ولكنه يبدأ بين طرفين حتما ليمتد إلى أطراف بلا عدد، فإذا كان الحب لا يكون حقيقيا إذا اقتصر على طرفين، فكيف يمكن أن نتصور أن يقتصر على طرف واحد، وعلى ذلك فلا يوجد شيء إسمه حب من طرف واحد، لأنه بما أن الحب علاقة، فتعريف العلاقة أنها عملية تحتاج لأكثر من طرف حتى تتم، وهذا لا يعنى أن ننكر (أو نمنع أو نرفض) أن يحب إنسان إنسانا آخر حبا حقيقيا دون أن يدرى هذا الآخر عنه شيئآ، ولكن الأجدر فى هذه الحالة أن نسمى ذلك مشروع حب حقيقي، والمشروع (مثل الحلم) ليس أقل واقعية من كثير من أنواع السلوك الواقعى اذيى قد لا يكون واقعا حقيقيا (بمعنى أنه قد يكون مغتربا، والاغتراب ينفى الواقع)، ولكن لا بد من التحذير من التمادى فى مثل هذا “المشروع أو الحلم دون تحمل مسئولية محاولة تحقيقه، ولو بالاختبار، ويمكن أن تثبت واقعية الحلم.إذا قادرا على تغيير موضوعه دون تغيير طبيعته وقوته ودفعه.
– أين تقع أسطورة حب “روميو وجيوليت” من الحب الحقيقي، وماذا كان يحدث إذا لم ينتحرا؟ هل كان حبهما سيستمر للأبد؟
إن من أكبر ما شوه خبرات الحب، وجعلهاغيرحقيقية هى أنها تعتمد فى كثير من الأحيان، وخاصة فى البداية على قصص تاريخية أو وهمية، ولا يمكن التوصية برفض مثل هذه القصص الجميلة، لأنها تغذى حاجة فى الإنسان، وإلا لما انتشرت ولما عاشت، ولكن فرق بين حب يكتب فى قصة، وبين حب يمارس فى الحياة، أم ماذا يحدث إذا لم ينتحركل من روميو وجولييت، فإنى أتصور أن انتحارهما يدل بشكل مباشر على أن حبهما كان أبعد ما يكون عما ذكرنا حالا عن الحب الحقيقي، وبالتالى فإن هذا الحب الانتحارى (أموت فيه، أموت له أموت به أموت معه) هو الذى يسرى عليه كل التحفظات التى أثارتها أسئلتك عن الفتور، والتلاشى، بالزمن، وبالمشاكل، وبالمواجهة..إلخ.
– هل قيس وليلى إذا تزوجا ماذا ستكون حياتهم بعد الزواج؟
أعتقد أيضا أن الذى أبقى قصة قيس وليلى خالدة على مر الزمن، حتى لو لم تكن قد حدثت، هو أنهما لم يتزوجا، ولكى نفهم ماذا كان يمكن أن يحدث فلنتصور ما هو بين ليلى و رد زوجها، الأمر الذى لم يسجله الشعر أو التاريخ إلا على لسان شعر المجنون، وكل من مثال روميو وجولييت أو قيس وليلى يبرر هذا التحقيق المعاصر الذى حاولت فيه تنبيه الشباب إلى”ما ليس كذلك”.
*****
الشعائر الدينية بين الشباب
– نرى الكثير من الشباب فى صراع بين الدين كشعائر، وأسلوب حياة؟
وماهو تحليلك لموقف الفتاة المحجبة والتى تمارس حياتها وتختلط على سبيل المثال، هل يعتبر هذا ليس صدقا مع النفس أم ماذا ؟
أولا: لا يوجد شيء إسمه صراع بين الدين كشعائر والدين كأسلوب حياة، فالشعائر هى مظهر الدين، ولزومياته، لكنها ليست هى الدين، أما الدين – الإسلامى خاصة – فهو موقف حياة، ولا أعنى بموقف حياة تلك المقولة السياسية التى تركز على الحكم مثلا، ولكننى أعنى أنه الصبغة والتوجه والهدف من الوجود، وبالتالى فإنه من البديهى أن يترتب على ذلك نوع آخر من الحياة، ونوع آخر من المعاملات ونوع آخر من الوجود، غير النوع الذى تفرضه الحضارة المادية مثلا.
والفتاة المحجبة التى تختلط هى فتاة مسلمة ملتزمة مثلها مثل غير المحبة، فالحجاب لا يفرض على صاحبته إلا أن تلتزم بموقفها الدينى، لا أن تنعزل وتتقوقع وتلزم بيتها، فلا تناقض ولا كذب.
وإن كنت أعترض على الفتاة المحجبة التى تسير متأبطة خطيبها أو حتى زوجها، (هذا إن لم يكن صديقها، ولعله كذلك فى بعض الأحيان).
كذلك الفتاة المحجبةالتى تجلس فى سيارة وحدها فى أعلى المقطم مع شاب الله أعلم هل هو حليلها أم لا، كذلك الفتاة المحجبة التى تجلس فى بار فى فندق حتى ولو كانت تشرب عصير برتقال!!!!!
هنا نقول لا.
*****
رؤية التفكير والفكر المعاصر عند الشباب
– هل ترى أننا شعب يمارس حياته بأسلوب ديمقراطى، ما هى رؤيتك للإنسان المصرى كتركيبة من هذه الجهة؟
أولا: إسمحى لى أن أتوقف قليلا عند كلمة ديمقراطى هذه، فالديمقراطية خلق بقدر ماهى نظام سياسى، والديمقراطية التزام فردى قبل أن تكون حق قبل الدولة، والديمقراطية، مع اختلاف توزيع القوى وسلطات التأثير وفرص النشر، وصنوف الضغوط هى أمر نسبى تماما، وعندى أن أغلب الشعب المصرى ديمقراطى سلبى، إذ يتبع مبدأ: إصبر على جارك السوء، يا يرحل يا تجيله مصيبه تاخده، وفى نفس الوقت كل واحدمن أفراد شعبنا هو ديكتاتور مطلق، لأنه لا يسمع لغيره أصلا، قد يفوت له ولكنه لا يحسن الإنصات، فالديمقراطية حوار وتحمل الاختلاف، ولكن أغلبنا فى مجالات الدين والعقيدة والمذهب وحتى تشجيع الكورة نتبع مبدأ: إما أبيض أو أسود أو مبدأ: كن أخى وإلا قتلتك، وهذه ليست ديمقراطية بحال من الأحوال.
– الشباب المصرى له وجهات كثيرة وهو لا يكاد يشعر بهذه الفترة الهامة من حياته (فترةالشباب) كيف ترى مستقبل هذا الشباب الذى يشعر بالعجز والشيخوخة وعدم القدرة على الإنجاز نتيجة لظروف شتى؟
لا أظن أن الشباب لا يعيش شبابه لأنه عاجز أو لأنه لا ينجز، ولكننى أحسب أن شبابنا شاخ قبل الفتوة، لأنه لم يحاور ولم يشارك، ولم يختلف، ولم نسمح له بالشك والتجريب، تعريف الشباب عندى أنه هو القدرة على الاكتشاف والانبهار والبدء من جديد، وشبابنا الذى نشأ فى حضن الحكم الشمولى تربى على القدرة على التقديس والاتباع والهتاف وانتظار التعيين، وهذا ما دفع به بخطى عملاقة قفزا إلى الشيخوخة.
أنظرى مثلا إلى علاقة الشباب بالدين، إن الكبار أكثر سماحة، وأكثر صداقة لأهل الأديان الأخرى، وأكثر إبداعا (لا ابتداعا) فى أمورالدين (واقرأى كتاب محمد الغرالى الأخير)، أما الشباب فهو أكثر تعصبا وتطرفا وتبعية واستسلاما، وهذه كلها صفات تصلب العجائز لا مرونة الشباب.
نحن نحتاج إلى كل السماح، وكل الصدق، وكل الحوار لنحافظ على شبابنا من الكسل والتعصب.
أما رؤيتى للمستقبل، فإننى متفائل رغم كل شيء، أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض، ولن ينفع الناس شباب شاخوا قبل أن يعيشوا شبابهم، فهم سيتعلمون حتما من الإحباط والضياع، وقد بدأت الموجة تنحسر فعلا بإذن الله وقوة الحياة.
– لماذا يشعر الشباب بالشتات النفسى فى نظرته للعمل اليدوى ما بين احترامه والخوف من مواجهة المجتمع؟
أظن أن هذه قد أصبحت قضية قديمة جدا، وقد اخترقتها جموع من الشباب العصرى فى العقدين الأخيرين، سواء بعد سفرهم الصعب إلى الخارج فى الإجازات أساسا، ومزاولتهم الأعمال اليدوية هناك بجسارة وحماس، أم بعد اقتحامهم الحرف المختلفة فى فترة انتظارهم أمر التعيين الجماعى ثم اكتشافهم أن أكل العيش بفن الحرفة هو أشرف وأكسب من الجلوس إلى مكتب بشهادة لا ينتفع صاحبها بمحتواها (هذا إذا جلس أصلا).
بل إن فتياتنا أصبحن يرحبن بالشريف المكافح “الكسيب”، أكثر من قبولهن الموظف الكسول المحدود الدخل
فمن الذى أثار هذه القضية من جديد التى إن كانت تصلح فى الستينات فهى لم تعد كذلك ونحن على أبواب التسعينيات.
– ما هى أسباب عدم وجود رؤية واضحة فى التفكير لدى الشباب، وتخبطهم بين الاتباع والإبداع؟
أولا: إن الرؤية الواضحة غير موجودة لدى الشباب والكبار على حد سواء، فنحن مازلنا شعبا يبحث عن هوية، وهو يزيل آثار عدوان الحكم الشمولى التى لم تزل جاثمة على وعينا حتى الآن.
ثانيا: إن الرؤية الواضحة ليست دائما مطلبا جيدا فى ذاتها، فوظيفة التفكير هى الخوض المنتظم فى المنطقة الأكثر غموضا لاستيضاحها فإيضاحها، إن الرؤية الواضحة الجاهزة لا تكون إلا بالاستسلام للأفكار الجاهزة، وهذه ليست من سمات التفكير الجيد ولا هى من سمات الشباب خاصة. ليس المطلوب أن تكون الرؤية واضحة بل إن المطلوب هو البحث عن الوسيلة التى تنمى القدرة لخوض الغموض، واستكشاف الغيب، فى طريقنا إلى مزيد من الوضوح الذى لا يمكن أن يكون مطلقا فى يوم من الأيام.
وثالثا: إن الاتباع مطلوب، والإبداع مطلوب، والذى يرفض الاتباع يستحيل أن يبدع فى يوم من الأيام، ذلك أن الإبداع لا يمكن أن ينشأ من فراغ، لكننا ( وخاصة الشباب) لا نحسن الاتباع، فلا نحسن الابداع، ليس المفروض أن نتبع مغمضى العينين، ولا أن نبدع غير مسبوقين، وإنما المطلوب أن نستوعب ما سبق فنتبع أحسنه، وأن نضيف إليه ما يعيد تنظيمه إلى الأرقى والأبقى.
– فى رأيك إلى أيهما يلجأ الشباب: إلى الفكر المعاصر تماما أو إلى ما يراه أصيلا فى السلف؟
أظن أن الإجابةالسابقة ترد على هذا السؤال، ومع ذلك فإننى أضيف هنا أن المطلوب هو أن نمارس فضيلة التفكير، لا أن نستسلم لجاهز الفكر سواءكان معاصرا أم سلفيا، إن الفكر المعاصر المستورد هو فكر سلفى، كما أن الفكر السلفى المتجدد هو فكر معاصر فلماذا هذه التفرقة.
– ما هى الأسباب النفسية والاجتماعية للجوء الشباب للعنف؟
لا يمكن تحديد الأسباب بهذه البساطة، ومع ذلك فلأوجز رأيى قائلا: الأسباب تكمن فى:
قلة الحوار، وعدم تحمل الاختلاف.
– لماذا يشعر الشباب بالغربة عن وطنهم؟
لأنه لا يوجد نشاط سياسى بالمعنى المعروف (الأحزاب القائمة منفصلة عن الشارع السياسى)
ولأنه لا يوجد مشروع قومى عام يشملنا جميعا، ولأنه لا يوجد تأمين حقيقى وثابت، ولأنه لا توجد قدوة واضحة المعالم.
– اللجوء إلى القدر فى تبرير الأحداث، هل هو هروب من المسئولية؟
لا بد أن نفرق بين اللجوء للقدر، وبين الإيمان بالقدر، فاللجوء للقدر كتفسير أوحد للأحداث هو نوع من الكسل وتبرير العجز، أما الإيمان بالقدر وظروفه رغم بذل الجهد، وشحذ الإرادة، وطول المثابرة، فهذا هو احترام الواقع والاستعداد للبداية من جديد.
– ظاهرة الشيب المبكر لدى بعض الشباب، وتفسيرها من منظور الطب النفسى ومن منظور الدراسات الطبية؟
أولا: لابد أن نفرق بن الشيب المبكر وبين ما يعترى بعض الشباب من بياض محدد فى خصلة أو أكثر من شعره وهو ما يمكن أن يصاحبه بياض فى جلد ملاصق، وهو نوع من الأمراض الجلدية التى تسمى أحيانا البهاق. وهى ليست أمراضا خطيرة، وبعضها محدود المسار، كما لا يصح أن نطلق عليها اسم البرص كما يفعل بعض العامة.
ثانيا: إن بياض الشعر ليس وحده دليل على التقدم فى السن والكهولة، صحيح أنه أكثر تواترا عند من هم أكبر سنا إلا أنه وحده قد يجرى فى عائلات بذاتها حيث يبيض الشعر، فى كل أفراد العائلة فى سن مبكرة دون أن يكون ذلك مؤشر للكهولة.
ثالثا: إن هناك بعض الصدمات النفسية العنيفة تعجل من بياض الشعر (تجعل الولدان شيبا) حيث أن ثمة علاقة بين الهرمون المسئول عن اللون والهرمون المسئول عن الانفعال، وإن كانت العلاقة ليست بسيطة أو مباشرة.
ولكن لا يصح أن نعتبر أن بياض الشعر الناتج عن هذه الصدمة مؤشر للكهولة فى ذاته.
رابعا: إن الشعر الأبيض فى بعض الحالات، وخاصة عند الرجال يكون أكثر جاذبية من الشعر الأسود وخاصة إذا ما اقتصر فى البدايةعلى الفودين، وعلى ذلك فإنى أتعجب من بعض الرجال الذين يسارعون بصبغ شعرهم وكأنهم يخجلون مما يميزهم.
وأخيرا: فإن الشباب أو الكهولة لا يقاسان بالمظهر بما فى ذلك بياض الشعر وسواده، وإنما يقاس الشباب بالعلاقة بالحياة، واستمرار الإبداع، والقدرة على الانبهار، والمرونة والتجدد.
العمل غير المناسب؟
هناك شريحة معينة من المجتمع شاءت الظروف أن تضعهم فى غير أماكنهم الصحيحة فهم لا يجدون أنفسهم فى هذه الأماكن ولا يستطيعون تحقيق ذواتهم أو الإبداع فى هذه الأماكن، مثل أن يكون الواحد محاميا ويعمل محاسبا، مهندسا ويعمل مدرسا، طبيبا ويعمل بشركة أدوية.
– ويكون الوضع كالآتى: أنت تعمل، هذا صحيح ولكن هل أنت تجد نفسك فى عملك ؟ لا ما رأيكم؟
– أولا: المسألة تبدأ قبل ذلك، بمعنى أن التعليم نفسه لا يؤكد على فكرة التخصص كمهارة لا يمكن أن تكتسب بالهواية أو ‘الجدعنة’، فكثير مما يدرس فى الجامعة ليس له علاقة بما يمارس فى الحياة العملية مثلا، وحتى المهندس إذا عمل فى وظيفة مهندس، قد يجد نفسه كاتبا يوقع أوراق الملاحظين، المسألة هى أن الشهادة لا تعنى محتواها أصلاً.
ثم إن الأمثلة التى ضربتها سيادتكم الواحد تلو الآخر لها إجابات مختلفة تماما، فأنا أحذرك من التعميم فالمحامى الذى يعمل محاسب هو فى واقع الحال إما أنه يعمل كاتبا يجمع ويطرح بعض الحسابات، وإما أنه يعمل فى قانونية الحسابات، ونحن نعلم أن مسائل الضرائب، والدمغة، والعوائد إلخ كل ذلك قد يصل فى النهاية إلى المحاكم والذين يطلعون بهذه الأمور هم محامون تخصصوا فى قوانين الحسابات
والمثل الثانى: وهو المهندس الذى يعمل مدرسا قد يعلن أن المهندس لم يمارس الهندسة كمهارة بحيث يبكى عليها أصلا، وإنما حفظها دروسا نظرية، وبالتالى تصبح مهنة التدريس بالنسبة له مثل مهنة الهندسة لو كان فى أول الطريق، وهو وشطارته، ثم إن مهنة التدريس هى مهنة كل تخصص، بمعنى أن المدرس يدرس كل التخصصات، فمن أدرانا أن هذا المهندس لا يدرس الهندسة أو ما إليها. أما الطبيب الذى يعمل فى شركة أدوية فهذا فى صلب اختصاصه، لأن عليه أن يشرح مفعول دواء معين، وطريقة فاعليته، وأعراضه الجانبية، ومضاعفاته، ومقارنته بالأدوية الأخرى ولك هذا عمل طبى متخصص، ولكن المثال المناسب هو ذلك الطبيب الذى يعمل نادلا (جرسون) فى فندق، أو مرشدا سياحيا، وفى الحقيقة أن الجزأء المادى لمثل هذا وذاك هو أكبر بكثير من عمل طبيب شاب، وبالتالى فهو نوع من الاختيار العملى لما هو أكسب وهذا لا يضير أحدا.
ثم نأتى إلى موضوع أن الإنسان يجد نفسه إذا عمل فى تخصصه، أنا أرى أن هذه مقولة جيدة شريطة أن يكون الإنسان متخصصا فعلا وليس حافظا علوم التخصص دون ممارسة، ومسألة أن الإنسان إذا عمل فى تخصصه فإنه يستطيع أن يحقق ذاته، وأن يبدع، هذه أيضا مسألة فيها نظر لأن أغلب الذين يعملون فعلا فى تخصصهم لا يحققون ذواتهم ولا يبدعون، فمسألة تحقيق الذات والإبداع ليست سهلة، وهى تحتاج إلى مجتمع حر مرن كثير الفرص جم التسامح قادر على تحمل الجديد والاختلاف وكل ذلك غير موجود بالقدر الكافى فى مجتمعنا سواء عمل الإنسان فى تخصصه أم لا.
– ما تأثير الفيديو كاسيت على نفوس الشباب؟
– ولماذا نفوس الشباب بالذات؟ إن ظاهرة الفديو كاسيت إنما تعلن لا مركزية الترويح، بل ولا مركزية الثقافة أحيانا، فلم تعد ثمة سلطة مركزية تستطيع أن تفرض علي سائر الناس ما ينتقون للمشاهدة، ولا أن توزع وقتهم – مثلا – بين الجاد والعابر من الأمور، أو بين المادة الدسمة والمادة الخفيفة، وما شابه.
وهذا يهدد المجتمع -ككل- بفقد الوحدة، وتناثر الاتجاهات، كما أنه في نفس الوقت يقلل من فرص قبض السلطة علي ناصية عقول الناس، وأمزجتهم.
والمسألة لا تحتمل الاعتراض، فإن أى إضافة تكنولوجية حديثة، حتي لو ثبتت آثارها السلبية المبدئية، فإنه لا يمكن مقاومتها بالرفض أو الإنكار، لأنها ستفرض نفسها رضينا أم لم نرض.
كل مانستطيع عمله هو اللحاق بها، وتعديل مسارها بما تعد به، لا بما تناقضه، وكذلك التنافس معها- عصريا وتكنولوجيا – بوسائل أكثر عصرية وأكثر جذبا، مثل البرامج المتجددة والحفز الإبداعي غير المتكرر، وهكذا.
ثم نعود إلي أصل السؤال: إن الشباب بوجه خاص يحتاج أن يشعر بفرديته وتلقائيته حتي علي حساب مكاسبه، وقد يلجأ إلي الفيديو لتأكيد استقلاليته، وتعميق اختياره، ولكنه ينسي – عادة- أن اختياراته محكومة بالمعروض فعلا، وأحسب أن المسألة تحتاج إلي وعي كامل من المشرفين علي التربية والإعلام، للارتقاء بالذوق منذ البداية، وبالعمل علي وفرة المادة الحسنة القادرة علي طرد البضاعة الرديئة تلقائيا، والمادة الحسنة ليست دائما هي الوعظ والإرشاد، بل إن الإصرار علي المباشرة في قضية الوعظ والإرشاد وتباع منهج الخطابة والصوت المرتفع وما أشبه; هي من أسباب اندفاع الشباب إلي الاسقلال الترفيهي والإعلامي، وهو ما يوفره الفيديو كاسيت.
بقيت ملاحظة حول بضاعة السوق الرخيصة لأفلام الفيديو كاسيت، وأعني تلك البضاعة الشاذة والغريزية، وهذا والحمد لله ليس منتشرا في مجتمعنا بشكل مزعج حتي الآن، ثم إنه لا ينمو ويترعرع إلا في مجتمع الفراغ والردة النكوصية، وبالتالي فإن الحل هو ملء وعي الشباب بما يفخر به ويشرف بالانتماء إليه، في سلاسة تتفق مع الفطرة والاستكشاف، وليس بقهر وعظي يهمد الظاهرالشائن قليلا ثم يمهد للانفجار إن عاجلا أو آجلا.
– هل يختلف تأثير المواقف الصعبة والمؤلمة على الإنسان، باختلاف مراحل العمر؟
طبعا تختلف، فدائما المسألة مسألة تناسب واقعى وحقيقي، ومن ضمن عوامل التناسب: السن،
فليس من المعقول أن أدعو طفلا فى الرابعة أن يحمل هم دين والده، أو العملية التى ستجرى لأمر خطير ألم بأمه، أو آثار اختفاء شقيقته، هذه كلها أمور شديدة الوطأة، وفى نفس الوقت من المعقول ألا يشارك شاب فى السابعة عشرة من عمره فى الموقف المؤلم الذى يعيشه والداه نتيجة عدم تناسب الدخل مع متطلبات الحياة، الواجب هناأن يدعى للمشاركة حتى يواكب الألم الناتج عن الحاجة الحقيقية، فقد يزيده هذا احتراما لكفاح والديه، وتقليلا من المغالاة فى طلباته وهكذا.
– كيف تترك هذه المواقف تأثيرها على الشباب من الجنسين؟ وكيف يمكن معالجة الآثار السلبية لهذه المواقف؟
كما أن السن هو عامل هام فى ضبط جرعة الصعوبة والألم كذلك فإن التفاعل للصعوبة والألم يختلف بالنسبة للشاب عن الفتاة، وللرجل عن المرأة بصفة عامة.
فالفتاة مثلا يجرحها تماما الإهمال أو النسيان، والشاب يجرحه تماما الشعور بالصد، والمرأة يجرحها إنكار أنوثتها أو أمومتها، وأقسى الأمور على الرجل (كما قال أعرابى) ”وقوف الكريم بباب اللئيم ثم يرده”، وهذا ما يعبر عنه المثل العامى بالقول: “الله يلعنك يا زمان وأنت بقيت بالهم، والكلب لما حكم قاله الأسد يا عم”.
– كيف يمكن التعامل مع هذه المواقف لحظة وقوعها، بحيث لا تترك أثرا كبيرا فى النفس؟
حكاية لا تترك فى النفس أثرا كبيرا هذه حكاية لا أحب الحماس لها كثيرا، أحب أن أعيد الصياغة بقولى: لكى لا تترك فى النفس أثرا غائر، أو أثرا معوقا، أو أثرا مهينا، أما أثرا كبيرا أو صغيرا فهذا يتوقف على موقفنا نحن مما ترك الموقف فينا، وبقدر تعاملنا مع آثار الموقف كبيرة أو صغيرة، وبقدر قدرتنا على تمثلها يصبح الأثر الكبير كبير لنا، والأثر الصغير تافه لنا وعلينا.
أما عن التعامل مع المواقف فهو يختلف باختلاف الموقف ومحتواه، وظروف السن، والجنس، والظروف التى تم فيها، فإهانة الإنسان على الملأ غير جرح شعوره فى حديث عتاب خاص وهكذا.
والمثل العامى يقول مامعناه: “تجرحنى فى شارع وتصالحنى فى عطفة” أى أنك إذا آلمت إنسان على الملأ، فلا بد من رد اعتباره على الملأ أيضا.
– هل يجب أن يدرب الإنسان نفسه على المواجهة والتعامل مع هذه المواقف قبل حدوثها، وكيف يتم ذلك؟
طبعا يجب أن يدرب الإنسان نفسه على المواقف الصعبة والمؤلمة، ولكن ليس قبل حدوثها وإنما بعد حدوثها ومع حدوثها، فنحن لا نعرف طبيعة المواقف التى سوف تواجهنا قبل حدوثها، وعلى الإنسان أن يعيش حياته بكل أبعادها، وأن يتعلم الإقدام فى كل شأن، وفى بلدنا يقولون ضرب الطوب ولا الهروب، والشعر العربى يقول:
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور
أما كيفية التدريب، فهو أن نعتبر أن: كل مسألة هى مدرسة، وأن كل خبرة هى فرصة، وأن كل خسارة هى فى نهاية النهاية مكسب بقدر علاقتنا بالواقع وإصرارنا على الاستمرار.
– كيف نواجه الفشل الدراسى، الفشل العاطفى، الفشل فى تحقيق طموح، الفشل فى حل مشكلة؟
يا خبر !! لكل حالة لبوسها، ويستحيل التعميم، فالفشل الدراسى عند طالب متوسط أو دون المتوسط، قد تكون مواجهته بأن أغير نوع الدراسة وخاصة إذا تكرر الفشل، واكتشفنا من خلاله أن الذكاء على قدر حاله، وأن طموح الأهل قد جعلهما يضعان إبنهما أو ابنتهما فى مدرسة لغات أو ما شابه، أما إذا كان الفشل الدراسى يحدث لأول مرة من طالب فى فصول المتفوقين طول حياته، فهذا أمر آخر له مواجهة أخرى وقد يدل على شيء خطير أو أمر خطير.
كذلك الفشل العاطفى، أحيانا يكون فشلا نظريا يعنى لا حب ولا يحزنون، وتجد الشاب يبكى وينعى حظة، ويشكو من الهجر، فإذا سألته عن طول مدة العلاقة أو أسباب الهجر تكتشف أنه لم يكلم فتاته التى يتهمها بالهجر، ولم يقابلها، ولم يفاتحها، فأين الفشل إن المسألة كلها خيال فى خيال، تصدق عليه الأغنية: ”هوه افتكرنى عشان ينسانى”.
وعلى النقيض من ذلك، فإذا كان الفشل العاطفى بعد خبرة، واقعية، وارتباط جاد مثل فسخ خطوبة قامت فعلا لظروف مادية خارجة على الإرادة، هكذا فقد يحتاج الأمر إلى مواجهة شريفة مع النفس وإلى وعى بموضوعية الظروف، وإلى لجوء إلى تعويض شريف فى حضن الأهل والأصدقاء الآخرين، وقد يكون هناك كلام مصرى ساخر، له دلالة قوية، يقال فى مثل هذه الأحوال:
مثل: “بركة اللى جت على قد كده”، أو مثل: “قضا أخف من قضا” أو مثل: “خيرها فى غيرها”
حتى مثل: “اللى تفوتك أحسن من اللى تيجى فيك”.
أما الفشل فى تحقيق الطموح، فإن ذلك أيضا قد يرتبط بموضوعية الطموح وهل هو طموح بحق، أم أنه مجرد أحلام يقظة، والطموح بالذات فى هذه الأيام الصعبة، وللشباب خاصة، يستحسن أن يكون على مراحل، فالطالب فى الجامعة يستحسن أن يطمح بالتفوق هذا العام، أو بالكثير فى البكالوريوس،وليس فى الحصول على الدكتوراة قبل ابن خالته فى كندا مثلا، وهكذا، واحدة واحدة.
وأخيرا فالفشل فى حل مشكلة يتوقف طبعا على طبيعة المشكلة، وأحب أن أقول للشباب بصفةعامة، إن القاعدة أن المشاكل فيهاما يحل، وفيها مالا يحل، فلماذا نفترض أن المشاكل كلها قابلة للحل.
بل إن هناك حكمة تقول إن المشاكل الصغيرة تشغلنى، أما المشاكل الكبيرة فهى تحل نفسها، ومغزى هذا القول أن المشاكل الصغيرة أنا المنوط بحلها، أما المشاكل الكبيرة فلابد من تضافر عوامل كثيرة جدا حتى يمكن حلها، فقد يكون على رب الأسرة أن يحل مشكلة أن يدبر أموره حتى يكفيه تموين الأسرة من السكر طول الشهر، ولكن ليس من قدرته أن يحل مشكلة الدعم على مستوى المجتمع، أو مشكلة تحسين أجور العاملين بالدولة، أو حرب لبنان (هذه نكتة)!!!
موقف(1): شاب شاهد فى طفولته (7 سنوات) والده وهو يعتدى على والدته بالضرب والسباب أكثر من مرة، ولم يتمكن من مساعدتها، وما زال يتمثل أما عينه هذا الموقف ويتألم عندما يتذكره لدرجة تجعله راغبا فى ضرب والده على الرغم من حسن العلاقة بينهما
موقف(2): فتاة فى الرابعة والعشرين تعرضت لموقف صعب فى طفولتها وفى الثامنة من عمرها حيث ذهبت تحتمى فى حضن والدتها عند انقطاع التيار الكهربائى فى الحين الذى لم يكن فى المنزل أحد غيرها، وبعد ساعة اكتشفت البنت وفاة أمها، وكان التيار مازال منقطعا واستمرت تصرخ وتبكى لمدة نصف ساعة إلى أن تحرك الجيران لمساعدتها وهذه الفتاة تكره فكرةالنوم على السرير وتنام على الأرض، ولا تنام فى حجرة مغلقة الأنوار، وخطيبها لا يصدق أنها تريد غرفة نوم بلا سرير، ولا يصدق أنها لا تعتزم إطفاء أضواء غرفة النوم لحظة واحدة.
موقف(3): فتاة فى العشرين من العمر ترفض فكرة الزواج تماما بل وأنها لا تستطيع الإنفراد بأخيها أو أبيها فى حجرة.
لأنها عندما كانت فى الرابعة عشرة، وبينما كانت تسلك طريقا هادئا..توقفت سيارة وخرج منها رجل أظهر لها أعضاءه التناسلية، ثم انطلق بسيارته، ومنذ ذلك الحين وهى تنظر للرجال على أنهم حيوانات.
موقف(4): شاب فى الـ 26، يحب فتاة يعتبرها فتاة أحلامه ولكنه لا يستطيع الاقتران بها لأنه عندما كان فى الـ 12 شاهد والدته تجلس فى سيارة رجل غير والده وقد أمسك بيدها وهو يخشى تكرار التجربة.
موقف(5): فتاة ارتبطت بعلاقة عاطفية بشاب لمدة سنتين اكتشفت بعدها أنه أبعد ما يكون عن الجدية، بل إنه على علاقة مع شقيقتها التوأم والتى لم تكن تعرف بدورها أن فتاها مرتبط بأختها.
موقف(6): شاب ارتبط بزميلة له فى الجامعة، وعندما قرر أن يتقدم لخطبتها اكتشف أنها فتاة لاهية وأنها مرتبطة بأكثر من شاب وأن أحدهم وهو من أسرة ثرية مرشح لخطبتها فما كان منه إلا أن قطع علاقته بها وبكل معارفها المشتركين خشية أن يخبره أحدهم ذا يوم بإتمام خطبتها، الأمر الذى يجعله يستيقظ كل يوم وهو خائف من سماع نبأ وقوعه.
– هل من حق الوالدين الاطلاع على أوراق أو خطابات أولادهم دون إذن؟
من حيث المبدأ، الإجابة بالنفى طبعا، فأى شيء يتم فى الخفاء، يحطم الثقة بين الوالدين وبين أولادهم حتما، والوالد الذى لا يستطيع أن يسير سلوك أبنه إلا من خلال التفتيش، والتجسس، هو لا يرى ولا يسمع ولا ينتبه، ثم إن الوالد قدوة حتما، فإذا فعل ذلك بشكل مطلق وبدون حساب، فكأنه ضمنا يسمح بابنه بالإطلاع على أسراره، وأسرار أمه، ثم أسرار الآخرين بدون إذن.
ودينيا حين نهانا الله سبحانه عن التجسس، “ولا تجسسوا”، لم يستثن من ذلك أوراق وخصوصيات الأولاد.، وأحب أن أنبه أن التجسس ليس قاصرا على فتح الأدراج أو فتح الخطابات، ولكنه أيضا يمتد حديثا إلى استراق السمع للمكالمات التليفونية، وما أشبه، وهذا كله خطر وباطل ومخل.
على أن لكل قاعدة شواذ، والضرورات قد تبيح المحظورات أحيانا.
– هل تعنى بذلك أن هناك ظروفا معينة تسمح بمثل هذا التفتيش؟
طبعا، ولكننى أخشى أن أذكرها فيتخذها الآباء والأمهات حجة، وهات يا اقتحام، ومع ذلك فلا مفر من السماح بالتفتيش فى ظروف خاصة جدا جدا
وفى هذا أرى أنه إذا كان الإبن أوالإبنة يمر أحدهما بظروف تدل على احتمال انحراف، كما يظهر ذلك من خلال تدهور انتاجه التحصيلى فى الدراسة مثلا، أو فى علاقاته الغامضة، أو فى نظام نومه المختلف، أو فى ظهور أعراض شاذة وسلوكات غريبة تستدعى مزيدا من اليقظة، فإننا نعتبر الشاب أو الفتاة فى حالة أقرب إلى عدم السواء، مما يتطلب انتباها خاصا، ومتابعة ظاهرة وباطنة.
أقول هذا بالذات بمناسبةانتشار هذا الوباء الجديد المسمى الإدمان، ولكن ليس معنى ذلك أن هذا هو الحل، أن تنقلب الأسرة إلى عسس وشرطة (عسكر وحرامية)، ومع ذلك أقول إن الانحراف الفعلى، لا الخوف منه، والمرض الحقيقى، لا تخيله هذا وذاك من الضرورات التى تبيح المحظورات، على أن تكون الضرورة بقدرها.
بل إننى أذهب فى هذا إلى ما هو أبعد من ذلك، فأنا لا أميل حتى إلى اختبارات الدم لأتأكد ما إذا كان فى الدم مخدرات أم لا، فقد يكون هذا أشبه بنوع من التجسس الطبى، (اللهم إلا إذا كان فى الأمر جريمة) لأن ثقتى بالمريض، وبالمنحرف لا بد أن تنمو تدريجيا مهما كلفنى الأمر.
– هل هناك فرق فى السماح بالتفتيش بين الولد والبنت؟
أولا: أكرر أننى لم أوافق على مبدأ التفتيش إلا فى حالة الضرورة، وأحدد الضرورة بأنها المرض والجريمة،لا أكثر ولا أقل.
ثانيا: لا يوجد فرق بين الولد والبنت فى هذه الأمور، بل إننى حريص على اسرار البنت أكثر من الولد.
– هل يعنى تصرف الوالدين (بالتفتيش دون إذن) انعدام الثقة فى أولادهم؟
طبعا يعنى ذلك، بل إنه يعنى قبلا انعدام ثقةالأولاد فى ذويهم، ولكننى أحب أن أنبه هنا أيضا على أن وجود جانب سرى خاص لكل إنسان فى كل سن، هو من أهم حقوقه الإنسانية، بل هو من أهم مقومات نضجه، فمن ليس له أسرار، ليس له خصوصية، وبالتالى ليس له انفراديته المميزة، وليس معنى هذا أن نكتم ما بأنفسنا، ولكننا ننتقى لكل شخص ولكل مجال ما يناسبه من جرعة الإباحة والإعلان، وعلى الوالدين أن يدركوا ذلك تمام الإدراك، بل ربما كان لزاما عليهم أن ينزعجوا إذا وجدوا إبنا لهم أو بنتا، تقول كل شيء، أمام كل أحد، لأن هذا قد يشير إلى طفولة ممتدة، أوبله محتمل !!!!.
– كثر الحديث هذه الأيام عن الشباب، فهل للثقافة دور فى هذه القضية، وهل توجد ثقافة خاصة للشباب تأخذ بيده وتهديه وسط الذى يجرى؟
أحب أن أبدا بمحاذير تشغلنى فى هذا الشأن، فأنى اتتبع كل ما يكتب وأخشى أن تفرغ كثرة الكتابة والنصائح القضية من حدتها وخطورتها، والمحاذير ابتداء هى:
أولاً: أنه يجدر بنا أن نتحدث عن شباب الثقافة لا عن ثقافة الشباب، فالثقافة الحية لها طبقات متصاعدة وكل من ينهل منها يحصل على المستوى الذى يتفق مع مرحلته شابا أو يافعا أو كهلا
ثانيا: انه لا يصح تفصيل ثقافة للطفل وثقافة للشاب وثقافة للكهل، حقيقة أن هناك خطوطا عريضة تفصل بين المراحل، إلا أن مفاهيمنا الحالية التى تحدد هذا الفصل هى مفاهيم تابعة من علم متواضعة لا يصح أن نرتكن إليها على حساب الحدس الفنى الاعمق، فحواديت زمان- مثلا – لم تنسج خصيصا للطفل، وإنما نبعت من حدث شعبى جماعى صادق، فأثرت كياننا اطفالا رغم كل المزاعم.
على سبيل المثال: ألف ليلة وليلة ومستوياتها المتصاعدة.
ثالثا: أن الذين يتحدثون عن ثقافة الشباب أو ثقافة للشباب ليسوا عادة من الشباب، فالشباب موقف ومغامرة وحركة، والتخطيط الفوقى يأخذ عادة شكل الاطار الجامد، فضلا عن عجز الكبار الذين ماتت عندهم قدرة الإبداع عن مواكبة سرعة إيقاع العصر.
رابعا: أن أى حل يطرح كنموذج نافع لاحتياجات عقل الشباب لايمكن تقييمه تقييما حقيقيا إلا بعد سنوات تصل أحيانا الى عشرات السنين، فلو أننا تصورنا خطة معينة لثقافة الشباب فلن نعرف جدواها فى إثراء عقولهم – أو تسطيحها – إلا بعد عدد من السنين وبمقياس الابداع وعمق الوعي، لا مجرد محو الامية الظاهرية، فعلينا أن نستهدى التاريخ ونحترم الحدس الصادق لتنتشر موجة من الوعى العام بالمسئولية الفردية والجماعية، والفرصة حاليا متاحة بعد صدمة الفقد وتماسك المسيرة معا، والثقافة الواعية هى من اكثر المعايير حساسية للتغيرات الجوهرية فى حياة الشعوب، وقد تكون فترة حياتنا الان هى من هذه الفترات الخطيرة الواعدة حقيقة وفعلا.
خامسا: أن اعتبار الثقافة الشابة هى ما يثير الوجدان ويقدس المثاليات هو تصنيف خاطىء، وإنما يقاس شباب الثقافة بما تحوى من حركة وبعث، وما تثير من وعى وتجديد.
فاذا كانت هذه هى المحاذير التى تشغلني، فان الواقع القائم فعلا يحتاج إلى وقفة متانية متالمة معا، فالجامعة لا تعطى الشاب ثقافة بمعنى فتح افاق التفكير، لا على مستوى مجاميع الطلبة ولا حتى على مستوى البحث العلمى الحقيقى إلا فيما ندر، فاذا حل الاملاء محل الإطلاع، وحل القياس الجامد محل الفرض المغامر، فلا ثقافة ولا شباب.
وأندفاع الشباب إلى الفكر الدينى يبدأ من موقع طيب ليعلن رفضه لهذا اللصق الظاهرى فوق عقله لمعلومات مشكوك فى جدواها، وهو يسعى فى خطواته الاولى إلى إحياء جانب وجوده الأخر الذى يتناسق مع الكون والذى يعلن الدين أنه ممكن، إلا أن الشاب سرعان ما يجد نفسه محاطا بتفاصيل التفاصيل من دعاة مقلدين ناسين وظيفة الدين وجوهره جميعا، وينساق رويدا رويدا هربا من قشور العلم إلى صخور الجمود، ودور الفن الحقيقى هو أن يغذى هذه الحاجة الدينية للتواصل مع الكون والحديث بلغة أخرى غير حسابات العلم وجزئياته والعلاقة بين الفن والدين علاقة تاريخية وقديمة إلا أنها لا تستثمر ابدا بأدوات العصر بدرجة كافية والشاب ما بين قصور التلقين وجمود الطقوس والاغتراب لا يستطيع أن يحتمل آى مغامرة معرفية منفردة، فيعرف عن القراءة بل يخافها على اساس سد الباب الذى يأتى منه الريح ليستريح وإذ تغلق العقول يستحيل التواصل وتتحسس الأيدى البنادق وتظلم الدنيا..
والحل طويل المدى – بعد ما نحن فيه من عجالة تنظيمية – هو أن تقوم الثقافة بدور جوهرى فى تكوين العقول وتدريبها على التفكير والمغامرة وبعض خطوط هذا الموقف هى كما أتصورها:
1 – أن تكون هناك ثقافة شابة، حية وعميقة ومواكبة. وأن تتاح لها الفرص للنمو والفاعلية من كل المؤسسات.
2 – أن تكون هذه الثقافة فى متناول الشباب (ثمنا وتنوعا وتداولا).
3 – ان توجد ثمة فرص للحوار حولها.
4 – أن نستعيد شجاعتنا ونلقى كل المحظورات بلا استثناء، فلا ندمغ ابتداء من تجرا فهاجم الاشتراكية أو انتقد العلم، ولا نكفر تعجلا من يجروء أن يراجع القيم الدينية الثابتة، مع اشتراط الجدية والمسئولية أبدا، وبهذا وحده تهب نسائم الحرية الحقيقية، وإذ تضيء العقول يختفى القهر والارهاب.
***
– ما هى قواعد اللعبة فى رأيك بين الشباب ومجتمع يسيطر عليه الكبار؟ من هم الشباب ومن هم الكبار أولا ؟
أحسب أن تعريف الشباب حاليا يحتاج إلى مراجعة، فلا أظن أن مجتمعنا حاليا يسيطر عليه الكبار، قد يكون الذى يسيرالمجتمع حاليا هم الأكبر سنا ولكنهم – فى رأيى أقل كهولة- إن المصيبة الكبرى التى لم ننتبه لها بالقدر الكافى هو أن الشباب أصبح كهلا رغم صغر سنه، فى حين أن الكبار، رغم احتفاظهم بشبابهم لمدة أطول، هم ذاهبون بحكم السن لامحالة، وهم لا يجدون من يسلمون له الأمانة ممن هم أكثر تفتحا وإقداما.
ولتوضيح ذلك لابد أن أعيد تعريف الشباب: فالشباب هو القدرة على الانبهار، هو القدرة على الاحتفاظ بالأمل، هو القدرة على الاقتحام المغامر المسئول، هو القدرة على تحمل الجديد حتى لو لم تكتمل معالم هذا الجديد بعد’ فأين هذا كله من شبابنا اليوم؟ إن شباب اليوم سلفى على الجانبين: اليمين السلفى يكرر النصوص الدينية دون إعادة إبداعها، واليسار المسمى التقدمى (وهو لم يعد غالبا) يكرر أيضا نصوصا أحدث دون موقف نقدى أو مراجعة أو إعادة قراءة.
– كيف ترى الشارع الثقافى والواقع الفكرى فى مجتمعنا؟ وهل أدى جمود هذا الواقع فى رأيك إلى أن أصبح معاديا للفكر؟
لست أدرى ماذا تقصد تماما بالواقع الفكرى السائد، وبالشارع الثقافي، إن كنت تقصد ما ينشر، وما يقرأ، وما يناقش، وما يشكل، وما يمسرح، فلا بد من الاعتراف أن هناك اجتهادات محدودة، وتكرار كثير، وسطحية متزايدة، وبعض الإشراقات، لكن الغالبية العظمى من الشباب لا تنتمى إلى أى من هذا بغض النظر عن مدى قيمته أو عمقه أو فاعليته: غثا أو سمينا.
وأخطر الخطر الذى يفصل الشباب عن كل هذا هو الفراغ والانتظار وخلو الوظائف، وأحسب أن كل ذلك متعلق بحكاية خطابات القوى العاملة، بالإضافة إلى مأساة الأوراق الشهاداتية التى تزيد من الأميين بالتعلم، إذ هناك نوعان من الأمية: الأمية بالحرمان من التعليم، وهى أمية أرقى لأنها أصدق، وهى تبحث عن وسائل غير القراءة تتواصل بها، ثم الأمية المنظمة بالتعليم الزائف، فالشهادات فى غالب الأمر تعطى الشاب حق الجهل، و أحيانا حق البجاحة، أكثر مما تعطيه مفتاح المعرفة وفرص الاطلاع.
أما أن الشباب أصبح معاديا للفكر فإن المسألة عندى أصعب من العداء، فالعداء موقف، ولكنى أرى أن الشباب قد أهمل الفكر أو أنكر الفكر أكثر منه قد أصبح معاديا له.
– ما الآثار النفسية لتأخير سن الزواج وعدم القدرة عليه اقتصاديا فى مجتمعنا؟ وكيف ترى علاقات الحب والزواج بين الشباب الآن؟
أحسب أن هذه مسألة شديدة التعقيد، فالبداية اقتصادية بلا أدنى شك، فلا أحد الآن من حديثى التخرج يجرؤ أن يفكر فى الزواج، إذ يقفز إلى وعيه السؤال عن كيف وأين، قبل أن يسأل من، ثم تأتى العادات الغبية سواء فى عدد الغرف اللازمة لإنشاء بيت أو فى ما ينبغى أن تحتوى، ثم تأتى تقاليد المهر والتزامات الجانبين، وأخيرا تأتى سطحية العلاقات والبعد عن الواقع، كل ذلك يقف دون إتمام أى زيجة صحية.
أما علاقات الحب بين الشباب حاليا فهى إما تعبير عن حاجة وجوع عاطفيين بغض النظر عن الواقع أو الغاية، أو هى علاقات سطحية (بدل ما هو قاعد).
– ما تأثير العلاقات مزدوجة الوثاق على الشباب فى محيط الأسرة – المدرسة- أو الجامعة- العمل- الحزب؟
لا أحسب أن كثيرا من القراء يدرك معنى تعبير “العلاقة مزدوجة الوثاق”، وأعتقد أن من الأجدر توضيحه ابتداء، فهى العلاقة التى ترسل رسالتين متناقضتين فى آن واحد، مثل أن تقول للشاب مثلا أنت حر، ثم تحرمه كل مقومات الحرية من استقلال أو فرص للاختلاف، وهى تتمثل – مثلا – فى قول الشاعر العربي:
ألقاه فى اليم موثوقا وقال له “إياك إياك أن تبتل بالماء”
أو هى تتمثل أكثر وأصرح فى علاقة الحماة بزوجة ابنها وهى تدعوها لأكل الخبز (الناشف عادة) فتقول ( مثلا عاميا):
صحيح ما تكسرى، ومكسور ما تاكلى، وكلى يا حبيبتى لمـا تشبعي، وهذا النوع من العلاقات يجعل الشاب يقف عاجزا فى ربكة لا مخرج منها، والحل – رغم قسوته- هو أن نلقى له الحقيقة عارية دون تزويق، ثم نتعاون على اختراق المصاعب معا.
وأفضل أن أقصر الإجابة عن الشباب دون سائر المجالات التى وردت فى السؤال، فالقياس ممكن، والتفصيل أكبر مما يحتمله حديث قصير.
– هل كان خريجو الجامعات سيصبحون أكثر نفعا وعطاء لأنفسهم ولمجتمعهم لو لم يصلوا إلى هذا المستوى من التعليم.. عندما يواجه الشاب نفسه بهذا السؤال ماذا يفعل فى رأيك؟ هل يراجع نفسه ويعيد تقييم مساره؟
لا أظن أن الشاب يسمح لنفسه، أو أننا نسمح له أن يراجع نفسه، نحن نحشر دماغه بكل ما لا يفيد، ونغرق وجدانه فى محيط من الجمود الآسن، ثم نتوقع أن يراجع نفسه، إنه يكسل أن يفعل، وإذا فعل، فإنه يمارس الرفض من الوضع مستلقيا، وهو يستلقى منتظرا خطاب القوى العاملة يوما وراء يوم، وسنة وراء سنة ثم حين يأتى الخطاب يكون قد نسى ماذا ينتظر، فيقبل كل ما يعرض عليه دون خيار، والمنقذ الذى يلوح له فى بعض الأحيان هو سفرة خليجية أو أوروبية من خلال قفزة ضائعة (طرزان كما يسمونها أحيانا) بدون مهارة متميزة، أو حرفة خاصة.
ورغم أن أجيالا من الشباب قد عاشت هذه المحنة، فإنه لم يظهر بديل شريف حتى الآن، مع الاعتراف بمحاولات فردية منتشرة للقفز فوق الشهادة الجامعية إلى الحرف الفنية الأكثر جزاء وإنتاجية.
ورغم ثبوت خطر الانتظار، وعدم جدوى الأوراق المزركشة، إلا أن الجامعة مازالت تمثل مركز الجذب للشباب فى مستهل حياته على الأقل.
ولا أحسب أن هذا العيب هو عيب الشباب، لكنه الوضع العام، الذى كاد أن يؤدى إلى تنمية سلبيات كل النظم معا، فنحن نأخذ من النظام الاشتراكى فكرة العمالة الكاملة، وليس العمل المنتج، ونأخذ من النظام الرأسمالى فكرة التأمينات دون حسم العقاب، وفى جميع الأحوال يصبح الكسل قيمة فى ذاته، ليس فقط الكسل عن الحركة، وإنما الكسل عن التفكير بل عن الأمل أحيانا.
– هل مجتمعنا يقتل الأفكار؟ لو طلبنا منك أن تفحص هذا المجتمع نفسيا.. ماذا تقول عن حالته وعلاجها؟
أظن أننى كففت عن الإسراع بالتشخيص للأفراد، ناهيك عن المجتمع، حقيقة أن المجتمع مسئول ضمنا عن قتل الأفكار، لكن المجتمع هو مجموعة أفراد، كما أن مجرد ذكر التشخيص يكاد يكون مبررا، إذ قد يتضمن ذلك أنه لا ملامة على مريض من حيث المبدأ. ولن ينفعنا فى كثير أو قليل أن نصيغ الأمر إن كانت البيضة قبل الفرخة أم أن الفرخة قبل البيضة، وماذا يفيد لو أننا وضعنا اللوم كله على مرض المجتمع، فسوف نجد أنفسنا نحاسب الشباب عن تغيير هذا المجتمع أليس الشباب هم الذين سيغيـرون المجتمع عاجلا أو آجلا ؟
المجتمع مريض حقيقة وفعلا، لكن الذى سيشفيه هو أفراده، وفى طليعتهم الشباب.
س- لو طرقت باب عيادتك ومعى هذه النماذج: رجل الشارع- المثقف- السياسى الحزبي- رجل الأعمال، كيف ترى سماتها وسلوكها وعلاقاتها مع بعضها كل فى مواجهة الآخر؟
رجل الشارع هو المواطن الأصل، وهو المنبع والمصب، وهو صاحب المصلحة، لكنه للأسف ليس – فى وطننا العربى – صاحب القرار، فهو المحتج سلبيا، العاصى مدنيا، الذى يأخذ بدل البطالة – إن أخذ – باعتباره مرتبا مفروضا من الحكومة ليس عليه فى المقابل أن يؤدى أى عمل كان (وبالتالى أصبح صاحب مصلحة فردية فى النهاية).
رجل الشارع ما زال هو المصرى الصبور الكتوم الآمل العنيد.
أما المثقف المعاصر فهو يكاد يكون عكس ذلك، حتى أولئك المثقفون الذين يرددون تعبيرات خطابية عن رجل الشارع، وعامة الناس، ونبض الشعب.. الخ هم يرددونها على الورق أكثر مما يمارسونها فعلا يوميا ومسئولية إنتاجية.
لكن رجل الأعمال – ولا مؤاخذة- هو أحد صنفين: الذى آمن بأن الحل الفردى والعام على حد سواء هو بالجهود الذاتية أصلا أو حتما، فانطلق ينشط لنفسه، فيصب فى المجتمع حتى رغم أنفه شخصيا أو حتى إن لم يقصد لخدمة المجتمع ابتداء، إلا أن عمله ونجاحه هو جزء من حركة المجتمع، أو هو ذلك الشاطر الذى يحسب أن مهمة رجال الأعمال ونجاحهم تتوقف على الاتصالات، والتسهيلات، والتشهيلات، وهو لا يهمه أين ينبع وأين يصب: المهم أنه يصاعد نجاحه وأملاكه على حساب كل الناس، وأحيانا على حساب نفسه.
ثم يأتى رجل الحزب السياسى، وهو أيضا قسمين، رجل حزب الحكومة وهو أقرب إلى الموظف الرسمى، فهو سياسى بدرجة مدير عام، أو وكيل إدارة، أو حتى ساع، وعلى الجانب الاخر نرى رجل الحزب السياسى المعارض لا يمثله إلا مجرد محرر فى صحيفة معارضة، أو مدرس تاريخ مشكوك فى صحة ما جاء فى مراجعه، أو فتوة يلوح بعصى المعارضة وهو يقضى مصالحه عند أهل السلطة،
أما العلاقة بين كل هذه النماذج للأسف فهى لا تكاد توجد لافتقادنا لما أسميه الفكرة المحورية الموضوعية الضامة التى تجمعنا حول هدف قومى حقيقى يتمثل لنا فى الفعل اليومي.
– ما هى القيم أو الأطر المرجعية التى سنربى عليها هذه الأجيال الجديدة مشيرا إلى هزيمة القيم والأطر السائدة.. كيف ترى هذا التساؤل؟
طبعا هذا تساؤل فى محله مائة فى المائة، ولكن المسألة تفهم خطأ حين نتصدى للإجابة وكأنها دعوة إلى المناداة بالعودة إلى القيم، فهذا أمر شبعنا منه بلا جدوي، إنما تتخلق القيمة مع حركة المجتمع وفى اتجاهات تطوره، ويحسب الناس أن القيمة هى مسألة أخلاقية نظرية، فى حين أنها واقع حى يشكل المجتمع تشكيلا فعليا، وقليل من الناس من يعرف أن الإنتاج قيمة، وأن الموضوعية قيمة، وأن الوقت قيمة، وأن الآخر قيمة، وهذه كلها حين تصبح جزءا لا يتجزأ من خلايانا وليس فقط من فكرنا، تغير المجتمع، وتجذب الشباب، وتبسط الرزق، وتصنع الحضارة.
– لو سأل الشباب كيف يحتفظ بتوازنه النفسى فى عالم مضطرب فيه ما فيه من صراعات وفتن وفوضى ولا منطق.. فماذا تقول لهم؟
أرى أن هذا السؤال لا يختص به الشباب فحسب، بل هو أعم وأشمل، وينبغى أن نتوقعه، أو حتى أن نستجلبه من كل من ألقى السمع وهو شهيد، وبداية لا بد أن نقر أن عالمنا الأرضى هو بطبيعته مجموعة من الاضطرابات والفتن واللامنطق، جنبا إلى جنب مع الحفز نحو الخير والعدل، وأنا أرحب بصيغة هذا التساؤل سعيا إلى التوازن النفسي، بدلا من الصيغ التى شاعت عن مطالب الرفاهية، وإنكار الواقع، ورسم الأحلام، ذلك أن التوازن ضرورة للحركة الهادفة، أما الرفاهية فهى تخدير للوعى وإلغاء للواقع.
أما كيف، فيستحيل أن تصاغ المسألة فى كلمات حديث، وإذا كان ولابد، فإنى أنادى الشباب والمجتمع بشجب ثلاث كلمات وتقديس ثلاثة، على أن تنقلب هذه الكلمات إلى قانون داخلى، وفعل يومى ظاهر:
نشجب:
(1) الكسل، (2) والتأجيل، (3) ولوم الآخر (دون الذات)
ونقدس:
(1) العمل، (2) والإنتاج (3) والعدل ( الممكن)
ولكن توصيل ذلك للشباب لا يأتى بخطبة أو حوار فى برنامج تليفزيوني، وإنما يأتـى بالقدوة، والتدين الحقيقى (المعاملة وإنتاج ما ينفع الناس، ومحاسبة الله)، والانتماء للوطن.
– نحن نفتقد قلمك.. فما الذى يعوقك من الكتابة.. وماذا عن إنتاجك الأدبى والفكرى الجديد؟
أنا لم أتوقف عن الكتابة، ولكنهم هم الذين توقفوا عن النشر، وأعنى بـ هم كل من على اليمين والشمال على حد سواء، فمثلا كتبت فى عز أزمة الخليج عن صدام حسين، وأن الحل ليس فى أن نسميه مجنونا، إذ حتى بفرض جنونه، فإن فى الجنون عقلا، وأنه ينبغى علينا أن نبحث عن الحكمة فى جوف الجنون السياسي، وحين أرسلت هذا الكلام لصحيفة قومية خافوا من نشره وأغلب الظن أنهم حسبوه تأييدا، وحين أرسلته إلى صحيفة معارضة، حسبوه بدورهم اتهاما لصدام بالجنون فأبوا أن ينشروه.
وأنا عادة لا أكتب إلا حين أنفعل وتثور فى وعيى ضرورة المشاركة بما أعتقد أنه إضافة وليس تكرارا، وهذا يتطلب نوعا من العائد الذى يطمئننى إلى أن هناك من يحترم قلمى، لكن عزوفى عن الكتابة للصحف لا يعنى إطلاقا أننى توقفت عن الكتابة برمتها، ذلك أنه بالنسبة للكتابة العلمية، والأدبية إنشاء ونقدا، لم أكف إطلاقا، ولا أستطيع، سواء نشرت أم لم تنشر، ولى فى ثلاثة أعداد متلاحقة فى مجلة فصول – مثلا – أعمال منشورة أعتز بها تماما.
ثم إنى فى سبيل إعداد كتاب موسوعى فى الطب النفسي: رؤية مصرية، باللغتين الإنجليزية والعربية معا، وهو فكر لا يتوقف عند الطب النفسى وإنما يمتد ليتناول مفهوم الإنسان عامة والإنسان المصرى خاصة كيانا وغاية.
وغير ذلك كثير وخاصة فى مجال النقد الأدبي، حيث أتابع أعمال ديستويفسكى نقدا مفصلا أرجو معه أن يكون مرجعا للنفس البشرية يثرى علمنا بالنفس، ويتجاوز العلوم النفسية بشكل أو بآخر.
– “الشباب” ماذا يمثل بالنسبة لدكتور يحيى الرخاوى؟
يمثل الأمل والتحدى والمستقبل، ولكننى أتحفظ فأذكرك بأننى لا أربط الشباب بسن معينة، وإنما أعتقد أن الشباب هو موقف من الحياة بغض النظر عن السن، ولا أخفى عليك أننى أرى كثيرا من العجائز فى سنى أكثر شبابا وحماسا وتفتحا وقدرة على الدهشة والانبهار ممن يسمون أنفسهم شباب، فالشباب عندى هو القدرة على الدهشة، وعلى التحديد، وعلى النقد، وعلى المراجعة، هو مرونة الفكر وتفتح الحواس، فأين هذا كله من الردود الجاهزة والقهر الظاهر والخفى الذى تراه على وجوه الشباب وتصرفاتهم فى كل مكان
– بماذا تفسر إحساس معظم الشباب وعدم وضوح الهدف وانتشار السلبية بينهم؟
المسئولية مشتركة، فهذه المظاهر هى مسئولية الكبار والصغار على حد سواء، فالصغار فى بلدنا هذا فى يومنا هذا ليس عندهم هدف واضح وهم سلبيون فعلا (أنظر إلى حقيقة من يتردد على صناديق الانتخاب)، والشباب تنازل عن شبابه واكتفى لوم الكبار أو انتظار الحل جاهزا منهم
– هل النسبة الأكبر بين مرضاك من الشباب أم لا؟ بماذا تفسر ذلك؟
لا
لأنهم لا يملكون تكاليف العلاج، ولأنهم أقل شبابا ودهشة من الكبار كما ذكرت، والاسشارة النفسية، والتساؤل النفسى، هم من بعض دوافع الموقف النقدى والمراجعى الذى أشرت إليه حالا.
******
شباب مصر إلى أين
محاكاة شباب مصر لشباب أوروبا، وممارستهم عملية التقليد الأعمى
– متى بدأ هذا التقليد؟
- لا أحسب أن شبابنا يقلد شباب أوروبا أساسا، بل ما أراه أن شبابنا يقلد والسلام، فهو إما أن يقلد الغرب، وإما أن يقلد السلف، وإما أن يقلد اللاشيء، المهم أن يقلد والسلام، فالسؤال “متى” ينبغى أن يسبقه سؤال: ماذا يقلد، ومن يقلد، وأيضا لماذا يقلد؟
– لماذا قلد شبابنا شباب أوروبا وتخلى عن هويته العربية وعن قوميته؟
إننى أرى أن الاستعمار مسئول بشكل أو بآخر، ليس فقط مسئول عن تقليدنا لأوروبا، بل مسئول عن تقليدنا للسلف أيضا، ولا أقول تقليدا أعمى وإنما أقول تقليدا سلبيا، فلو أننا أخذنا الصفقة على بعضها لكان الأمر مقبولا أو مبلوعا بعض الشيء، إلا أن الله امتحننا بأن جعلنا نتجرع السلبيات دون الإيجابيات.
فنحن نقلد الملبس الأوروبى ولا نقلد الالتزام الأوربى بالعمل، ونحن نقلد التحلل الأوروبى، ولا نقلد الحرية واحترام حقوق الآخر كما يمارسه فى أوربا الشباب والشيوخ على السواء.
وعلى الجانب الآخر:نحن نقلد ملبس السلف، ومظهر سلوكهم، ولا نقلد إبداعهم وشجاعتهم وفروسيتهم وإتقانهم وجهادهم سرا وعلانية.
فالقضية هى قضية الاستسهال، وانتقاء السلبى من مظهر الآخرين، أو من ملفات التاريخ، وهات يا محاكاة.
وكأن شبابنا بذلك قد أعفى نفسه من مخاطرالإبداع، وفى نفس الوقت قد حرم نفسه من شرف الحياة الإنسانية المتجددة.
والاستعمار حين ينجح فى أن يقسمنا إلى مقلدين متفرنجين، ومقلدين متعصبين يكون قد ألغانا تماما فلا يعود يخشى شيئا، لأنه لا يخشى إلا الند المبدع، ونحن بارتمائنا فى أحضان التقليد تنازلنا عن الندية والمنافسة فى ركب الحضارة.
– كيفية انتشال الشباب وجذبه إلى طبيعتنا وتقاليدنا الأصيلة؟
لاأحسب أن المطلوب الآن بوجه خاص أن نعود إلى طبيعتنا، أو نرجع إلى تاريخنا، بنفس القدر الذى هو مطلوب أن ننطلق إلى حقيقتنا، وأن نفجر فطرتنا، وهى الفطرة الإنسانية التى فطر الله الناس عليها، والتى لم يعد هناك مجال لاحتكارها بلون أو لغة أو جنس أو حتى دين، بعد ثورة الاتصالات والمواصلات، لقد أصبح التكامل الحضارى بديلا عن الصراع الحضارى، وأصبح الإبداع الواجب فرض عين على كل نوع وجنس، وأصبحت قضية محاربة التلوث هى التهديد الجماعى للجنس البشرى بالإنقراض.
فأى مكسب يحققه أى إنسان فى أى بقعة على سطح الأرض ضد غول الفناء والإنقراض هو من حق الجنس البشرى كله، لذلك وجب تقليد اليابانى فى عمله، والإنجليزى فى حريته، والعربى فى شهامته، والسويسرى فى نظافته، والمصرى فى صبره ومرونته، والعربى فى شهامته، هذه مجالات إنسانية عامة لم تعد ملكا لأحد، وفى مثل ذلك فليتنافس المتنافسون.
– ماذا تقول للشباب؟
أقول له: قلد ولا تخف، ولكن ليكن تقليدك جميلا ومتقنا وكاملا، وليكن تقليدك خطوة نحو التطوير والتعديل فالانطلاق فالابتكار، سواء كان مصدر تقليدك هوإنجاز من سبقك على سلم الحضارة، أم كان مصدره هو من أسلمك شعلة تاريخك وفخر أسلالفك، قلد وحور وانطلق، ولا تدخل معارك وهمية لا وقت لها ولا جدوى منها.
– الشباب معذور، والوهم كبير، والألفاظ خادعة، والإغراءات كثيرة، والحرية هى الراية التى يلوحون بها للشباب، وفى نفس الوقت هى الحلم الذى يراود الشباب، فأين الحقيقة من كل ذلك؟
الحقيقة الأولى: هى أن الحرية ممارسة وليست كلاما، وكلما زاد الكلام عن الحرية كانت بعيدة عن حقيقته.
الحقيقة الثانية: هى أنه لا توجد حرية بدون قدرة، فالذى يقول أنا حر لا بد أن يملك مقومات فرض حريته، ورفض الذل، واستقلال الرأى حتى لو خسر فى ذلك مايخسر، فلا يوجد مجال الحرية- بالمعنى المطلق- لشاب مازال يأخذ مصروفه من والده، أو لفتاة مازالت لا تستطيع أن تواجه الإختلاف مع أمها إلا بنوبات الإغماء، وعلى ذلك من يريد أن يكون حرا عليه أن يعرف ليكون قادرا أولا.
الحقيقة الثالثة: أنه لا توجد حرية فى فراغ، فالحرية دائما هى فـى مواجهة آخر، أو مواجهة سلطة، أو مواجهة رأى مخالف، وعلى ذلك فالإنسان الذى يعيش وحده فى جزيرة منفردة لا يعرف شيئا إسمه الحرية أصلا.
الحقيقة الرابعة: إن الحرية لا تنفصل عن نتائج ممارستها، فالذى يقول أنا حر فى السفر إلى الخارج للعمل دون عقد عمل، وضد توصية السلطات ونصائح الأهل، لا بد أن يتحمل نتائج معروفة أو غير معروفة، مثل الوحدة والبطالة، وربما المذلة والإهانة فى الغربة، فإذا نحى باللائمة على غيره فهو ليس حرا تماما.
الحقيقة الخامسة: هى أن الحرية ليست منحة يمنحها الأب للإبن أو تمنحها الحكومة للشعب، الحرية حق من يعمل، وحق من ينتج، وحق من يستقل.
الحقيقة الأخيرة: هى أنه لاتوجد حرية إلا مع ناس أحرار، فلو أن هناك فردا واحدا يتمتع بالحرية على حساب حرية كل الناس الآخرين فهو عبد لنزواته الشخصية لا أكثر ولا أقل.
وأعتقد أنه يحق لى بعد ذلك أن أذكر أن الحرية هى أعظم من أن نتحدث عنها، وأغلى من أن ننساها، وأجمل من أن نشوهها، وإن علينا أن نستقل شبابا وأفرادا وأمة، نستقل بالإعتماد على النفس والعرق والإنتاج، ثم سنجد أنفسنا أحرارا بشكل تلقائى رائع- بدلا من أن نكف- عن العمل، ونتصارح بالألفاظ عن حرية لا نعرف حقيقتها.
الحرية هى العمل
الحرية هى احترام الآخر
الحرية هى الاعتماد على الذات مع التبادل المتكافىء.
الحرية هى قوة الإصرار.
******
الاستسهال عند الشباب
الأستسهال هو عنوان الحياة الآن خاصة مع الأجيال الجديدة التى يحركها الخوف من التفكير بدعوى “اشترى دماغك” فانطلقوا إلى الترفية بكل وسائله، وضلوا طريقم إلى الجدية، كيف نواجه هذا الفكر أملا فى مستقبل أفضل؟؟ وهل أصبح الإسفاف الذى نلقاه بكثرة الآن هو تكنيك لمواجهة أزمة الشباب مع المجتمع؟؟
أنا لا أميل إلى هذا الموقف الحكمى ابتداء، ما ذا تعنى كلمة “إسفاف” التى وردت فى السؤال، وهل إذا تبادل الشباب كلمة أو موقف “إشترى دماغك” يعتبر هذا إسفافا، نحن الذين ملأنا أدمغتهم ببضاعة لا قيمة لها، فإذا رفضوها لأنها لم تغنهم أو تملأهم أو تحركهم، زعمنا أنهم “مسفون” لأنهم اشتروا أدمغتهم بعيدا عما نحشره فيها من غث زائف. ثم إن أغلب الشباب لم ينطلقوا إلى الترفيه كما يزعم السؤال بل لعلهم يئسوا من تحميلهم هما لم يشتركوا فى صناعة أسبابه.
الذى أوافق على الانتباه إليه فعلا هو مسألة شيوع الاستسهال، ولكننى أنبه أن هذا ليس سمة الأجيال الجديدة فحسب، بل هو سمة غالبة فى المجتمع المصرى المعاصر كله، حتى الدين أغلبنا يدخله من باب سوء فهم “النفس المطمئنة” مغفلا أنها لا تكون كذلك إلا وهى راجعة إلى ربها، مارة بعباده تعالى
قبل دخولها الجنة، هذه الثقافة الدينية المستسهلة نسيت وأهملت أن الإيمان هو كدح متصل إلى الحق تعالى بما يعنى ضمنا زخم الكشف ودهشة الإبداع.
– ما الدوافع النفسية وراء ظهور هذه الألعاب الانتحارية الذى يقوم بها بعض الشباب مثل لعبة الموت بحبل المشنقة وتعاطى للهيروين بهدف التجربة؟
– فى خلال أسبوعين اشتركت فى مناقشة مؤلمة حزينة إثر رحيل أثنين من شباب مصر الذين يعيشون فى ظروف لم تكن تشير إلى مصيرهما هكذا. كان ذلك من خلال برنامج “البيت بيتك”.
الشاب الأول (20سنة) بطل فى كرة اليد، مطيع مهذب “لا عيب فيه”، ذهب ضحية لعبة الموت، (رجل الشنق Hang man) اللعبة التى يتشارك فيها شباب يخنقون أنفسهم أو يخنق بعضهم البعض حتى الغيبوبة، ثم يسارع المشاهدون منهم إلى فك الحبل أو قطعة، وإما أن يلحقوه أو يسبق إليه القدر. ولا عزاء للجمود الراكد والجبْن المتصلّب، الشاب الثانى (16سنة) دهسته سيارة فى الطريق الدائرى بعد أن ترك بيته دون إخطار ودون سبب ظاهر، دعونى للمشاركة فى تفسير خروجه من المنزل دون إذن، ودون جوازىْ سفره (الانجليزى والمصرى فوالده يعمل استاذا بالهندسة، وهو رجل أعمال بين القاهرة ولندن!).
حين دعونى للتسجيل الثانى، لم أكن أعلم نبأ وفاة الإبن بعد، أعددت نفسى للدفاع عن حق الشباب فى مواصلة نموهم بممارسة “برنامج الدخول والخروج” الذى هو أساساً قاعدة النمو من أول الخروج من الرحم والعودة إلى صدر الأم، بتكرار منتظم حتى الخروج من النوم والعودة إلى اليقظة فى إيقاع حيوى، وبالعكس. فى طريقى إلى التليفزيون، تذكرت ما أنهيت به البرنامج فى حلقة “فقيد لعبة الشنق” فى الأسبوع السابق حين سألنى المقدّمان عما أُنهى به حديثى للأهل، فقلت: علينا أن “نسمع، ونسمح، ونحتار معهم”. سألنى كثيرون بعد الحلقة عما أعنى بهذه الكلمات الأربع وكان من السهل علىّ أن أشرح الكلمتين الأولتين، (نسمع، ونسمح) مع شكى فى استقبال المستمع لما أعنى. كثير منهم فهم “نسمع” على اعتبار أننا نأخذهم على قدرهم (على قدهم)، كما فهم “نسمح” باعتبارها الحرية المزعومة أو التفويت الكاذب، أما “نحتار معهم” فلم يلتقطها إلا ندرة من المشاهدين. نحن – صغار وكبارا – محرومون من أن نحتار مع أنفسنا أو نختار لأنفسنا منذ استولوا على حقنا فى المشاركة فى الحياة السياسية خاصة مشاركة حقيقية.
دار كل ذلك فى ذهنى وأنا فى طريقى إلى التسجيل، ما إن وصلت إلى هناك حتى قابلنى الصحفىّ الشاب معدّ الحلقة وأبلغنى الخبر المؤلم وهو أنهم عثروا على الابن “الآبِقْ” جثه هامدة فى الطريق الدائرى. حضر والده المكلوم قبيل الحلقة وقمت بتعزيته وهو فى حال، ثم دخلنا معه إلى التسجيل.
حاول المتناقشون كلٌّ من موقعه أن ينبه إلى ضرورة رقابة الأسرة، وإلى الأثر السئ للإنترنت، وإلى السهولة التى يحصل بها الشباب على تعليمات وإغراءات هذه الألعاب الخطيرة، أو الأفلام المثيرة والصادمة، انتبهت ونبّهت أن كل ذلك على العين والرأس، لكنه فى تصورى لا يمثل الورطة الأساسية التى أوصلْنا إليها أطفالنا وشبابنا.
المسألة أن مجتمعنا بصفة عامة قد وصل إلى حالة من الركود والاعتمادية كادت تلغى فرص الحركة المستكشفة والحوار الخلاّق والدهشة المسئولة عند الكبار والصغار على حد سواء، وإذا كنا نحن الكبار قد تعودنا هذه الاستكانة وذلك التسليم، اللهم إلا بالسماح بفقاعات السخط والرفض تتقافز على سطح وعينا، ووسط كلماتنا، مثلما يحدث للطبيخ الحامض، فإن الشباب بطبيعة حركيته وزخم حيويته راح يقاوم أكثر، ويحاول أخطر، حتى الموت.
المصيبة لا تأتى فقط من تضييق مساحة الحركة السياسية التى تسمح بها الحكومة فى صورة أحزاب وَرِقيّة، ونشاطات ندواتيه، وانتخابات مشبوهه، المصيبة أن المجتمع كله أصبح ضد الحركة وضد الكشف وضد الدهشة وضد الإبداع. الأجوبة أصبحت جاهزة وراسخة وثابتة تتنزّلُ من أعلى بيقين راسخ كاتم سواء كانت بيانات وأرقام الحكومة، أو فتاوى ووصاية السلطة الدينية الجاهزة والجامدة والحاسمة وهى تحُدد كل تفاصيل ما ينبغى وما لا ينبغى بحيث لا يتبقى للشباب والناس إلا الطاعة العمياء أو العصيان المتشنج.
النتيجة هى أن الشباب يجد وعيه موصى عليه، مأمور بسكون خانق، مغطى بإجابات جاهزة ضد طبيعته وضد فطرته التى خلقه الله عليها، فيهرب حتى يقضى نحبه، أو يلعب حتى يشنق نفسه، ونحن نمصمص الشفاه، ونترحم عليه ثم نعود إلى سباتنا نسحب علينا غطاء العمى الساكن، أو نختبئ وراء ستائر التأجيل إلى انتخابات قادمة، أو جنة مأمولة، ناسين أننا لن ندخلها إلا بحركتنا نحو الحق سبحانه وتعالى، كدحاً لنلاقيه، وكشفا لنرى وجهه ليس كمثله شئ.
وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى!
– من وجهه نظر سيادتكم هل هناك ألعاب أخرى يقوم بها الشباب؟
– نعم، هناك ما هو أخطر، وما هو أقل، والأخطر أكثر دلالة.
– ما عدد حالات الوفاة التى تسببت فيها هذه الألعاب؟
– لا أعرف
– وماذا عن دور الأجهزة الرقابية حول التصدى لهذه الظواهر للقضاء عليها؟
– المسألة ليست مسألة رقابة لكنها سكون التربية وركود الحوار، وموت الدهشة.
– ما هو تقييم سيادتكم لشباب اليوم وما يعانى منع من مشاكل؟
– لا يمكن التعميم، فهناك علامات مضيئة مثل تواصل الشباب ببعضهم عبر العالم، وعلامات سيئة مثل المخدرات أو التعامل العنيف حتى القتل.
* * * *
ظاهرة تردد الشباب على العيادات النفسية
– زادت فى الأونة الأخيرة حالات تردد الشباب صغار السن على عيادات الأطباء النفسيين. فماهى الأسباب التى تعتقدها سيادتكم وراء هذه الظاهرة؟
– ليس عندى خبر عن هذه المعلومة، المسألة تحتاج إلى إحصاء دقيق وليس مجرد إشاعة، فى خبرتى الخاصة، أظن أن الزيادة طفيفة، وهى نابعة من الأهل أكثر منها من الشباب أنفسهم.
– ما هو تقدير سيادتكم لنوعية الشباب الذى يتردد على العيادات النفسية (هل هم من الطبقات الراقية أم من محدودى الدخل أو من الطبقات الفقيرة)؟
– بصراحة هذا أمر يتوقف على نوع الخدمات، وهل هى بمقابل أم بدون مقابل، خذ مثلا المستشفيات الجامعية على مستوى القطر، ومتى وجدت عيادة نفسية بها، وخذ المترددين عليها وكلهم من الشباب، ثم قارن كما تشاء، علما بأنها أيضا مقارنة غير منصفة لأن القادر منهم (من الطبقة الأعلى) قد يفضل أن يذهب لعيادة خاصة برغم الخدمة المجانية، نفس الأمر قد ينطبق على عيادات الصحة المدرسية والتأمين الصحى …. ألخ.
– هناك 4 ملايين مريض نفسى فى مصر. تُرى ما هى نسبة الشباب منهم؟ وهل هناك حالات ترددت على سيادتكم؟ وما هى أبرز الأمراض النفسية التى يعانون منها؟
– حكاية أربعة ملايين وعشرة ملايين التى ترد فى الصحف وعلى لسان بعض المختصين ينبغى الوقوف عندها بحذر، لأن الحد الفاصل بين المرض النفسى والصحة النفسية غير واضح فليس كل “حزين” مصاب بمرض الاكتئاب، وليس كل قلق على نفسه أو بلده أو مستقبله مصاب بالقلق .. إلخ. هناك أرقام محددة لبعض الأمراض الأخطر مثل الذهان وهى نفس الأرقام العالمية تقريباً. علينا أن ننتبه إلى ما تروجه شركات الدواء أحيانا لأمور غير طيبة وغير أخلاقية، أما حكاية أبرز الأمراض النفسية فهى تحتاج إلى أحصاء دقيق قبل الإجابة.
– التردد على طبيب نفسى يعتقده البعض أنه رفاهية كما أن الأغلبية لا تملك تكلفة التردد على الطبيب النفسى فما هو تعليقكم على هذا؟
– عند بعض الذين يملكون القرش والوقت، قد يبدو ذلك رفاهية فى الاستشارة الأولى مثلا، أما التمادى فى ذلك دون وجود مرض حقيقى فهذا يتوقف على الموقف الأخلاقى للطبيب، والموقف التبريرى لمجتتمع الرفاهية الذى قد يستعمل الطب النفسى كشماعة لفشل أو كسل أو اعتمادية.
– حتى وقت قريب كان التردد على طبيب نفسى يعنى أن الشخص مجنون أو مختل بماذا تفسر زيادة عدد الحالات وخاصة من الشباب الذين يترددون على العيادات النفسية فى الفترة الأخيرة؟
– لم يعد الأمر كذلك، وأنا شخصيا احترم الجنون أكثر من احترامى لكلمة مريض نفسى، وأحب أن أصنف نفسى طبيب مجانين أو للأمراض العقلية بدلا من هذا التميز المائع، أما حكاية وخاصة الشباب فقد سبق الأجابة عليها.
– لماذا ازدادت جرائم المرضى النفسيين والمختلين خاصة من الشباب؟ على سبيل المثال حادث كنائس الاسكندرية – وحادث بنى مزار بالمنيا لشباب يبلغ من العمر (26 عاما)؟
– لم تزد الجرائم تسبب المرض النفسى أو الجنون، ومتهم بنى مزار لم يثبت أنه كان مجنونا أثناء الحادث ولا ثبت بعد أنه ارتكبه أصلا، وحادث الاسكندرية مازال تحت الفحص (عيب كل ذلك).
– ما هى الروشتة الطبية التى تقدمها للتعامل مع الشباب من قبل المجتمع والمسئولين والأسرة؟
– أنا لا أحب النصائح، لكننى أكرر ما قلته يوما فى “البيت بيتك” وهو نسمع (نحسن الأنصات)، ونسمح (ليس بمعنى التسيّب)، ونحتار معهم (بقدر أقل من الإجابات الجاهزة).
* * * *