يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نبذة: مناقشة محدودة لقضية الأخلاق وعلاقتها بالحلال والحرام، وبالابداع والجمال، مسألة خدش الحياء العام نوقشت من جديد فى تساؤل عن تعريف جمالى للحياة، وقبل انتهاء المقال أشارة إلى أن الاتقان، وحضورالآخر فى الوعى والجمال وممارسة الحرية هى قيمة أخلاقية، ثم أوحى المقال بتوصيات محددة حماية للابداع من أدعياء الأخلاق السطحية.
الاهرام: 23/1/2001
أخلاق الإبداع، وإبداع الأخلاق.
”اختلط الحابل بالنابل” تعبير قديم، تبينت ما يعنى أكثر فأكثر وأنا أتابع الأزمة الأخيرة حول الروايات الثلاثة اياها، لم يعد المتابــع عن قرب يستطيع التمييز بين سلطة رسمية، وقراءة نقدية، وموقف أخلاقى، ومنبر إعلامى، ودرس فى التربية الفنية، أو حلقة وعظ من جماعة فاضلة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ماذا يجرى بالضبط؟ لن يكون حديثى عن هذه الروايات المطروحة أو الممنوعة، فأنا لم أقرأها، وما جرى ويجرى حولها وبسببها لا يخصها بقدر ما هو نذير لما هو أخطر.
الخطر الأخطر فعلا هو فى بلبلة الناس الذين اختلط عليهم الأمر، واهتزت المقاييس، فكاد يعجز أغلبهم أن يتبين الصواب من الخطأ، أو الطيب من الخبيث، ناهيك عن تمييز الجميل من القبيح، حدث ذلك بعد أن تبدلت الأدوار، واختلطت الأمور. لم يعد أحد يعرف من مع من؟ إلى متي؟ ولماذا؟
إننا أحوج ما نكون هذه الأيام إلى وضوح الرؤية، وتحديد القيم، وحفز الإبداع فى مواجهة عدو لا يرحم، هذا ما يتبدى لنا منه فى معركتنا المباشرة، فما بالك بما ينتظرنا فى معركتنا الحضارية الأخطر والأكثر امتدادا. إن ما يجرى على الساحة الفكرية هذه الأيام هو غاية ما يرجوه عدونا لنا، إن التمادى فى هذا التذبذب، ثم احتمال ترجيح كفة القهر الخائف، والوصاية الجاهزة، هو انتصار لعدونا يريحه من تحسبه لتهديد حضارى محتمل، المفروض أننا نعد له عدته، إن ناسا ترتبك عندهم المعانى إلى هذه الدرجة، ثم ترتعد منهم الفرائص هكذا، لا يعودون يمثلون تهديدا لأحد، إنـنا – هكذا -نعفى عدونا من مهمة إبادتنا.
هذه المرة يدور الكلام عن الأخلاق واللاأخلاق، وليس عن الحلال والحرام، يدور عن الحياء واللاحياء، وليس عن الإيمان والإلحاد. ومن الذى يديره على الجانبين ؟ وزير دأب الناس أن يلحقوا باسمه صفة “الفنان” تكريما أو لمزا. هذا الوزير قد نصب نفسه، أو وجد نفسه منتصبا، لحماية الأخلاق كما يتصورها، أو كما صورها له خوفه أو حساباته. يفعل ذلك من موقع السلطة التى كان لها تعريف آخر للإبداع والأخلاق والإيمان منذ بضعة شهور، فارتبك الناس.
لا يوجد واحد على أرض هذا الوطن، يرضى أو يحبذ أو يدعو إلى موقف لا أخلاقى، بل إنه لا يوجد إنسان أصلا يمكن أن يتصف بهذه الصفة (صفة إنسان)، دون أن يتحيز لما هو أخلاقى، بل أكثر من ذلك: إنه لا يوجد طاغية طول التاريخ قام بقتل من قتل، وسحق من سحق، وسبى من سبى، إلا وهو يرفع راية الأخلاق، حتى الذين يقتلون أطفالنا فى فلسطين الآن، أقنعوا وسائل الإعلام العالمية أنهم إنما يفعلون ذلك تحت عنوان حماية أولاد الفلسطينيين من أهلهـم الذين يدفعون بهم إلى الموت – بلا رحمة- ليستدروا بموتهم عطف الرأى العام العالمى.
لا أريد أن أستطرد فى التذكير بأن إشكالة تحديد مفهوم متفق عليه لما هو أخلاق لم تحل. صحيح أن هذا ليس وقت مراجعة نظرية، لكن نظرة سريعة لمبادئ عامة يمكن أن تحسم هذا الجدل الجارى الذى شوه كلا من الأخلاق والإبداع على حد سواء، نذكر بعض الإشارات هكذا:
(1) الأخلاق فعل حى يمشى على أرجل. لا فرمانا يصدر من أعلى: كان رسول الله خلقه القرآن.
(2) الأخلاق معرفة هادفة: يقول أرسطو: إن المهمة الحقيقية لداعية الأخلاق فى عصر غير مستقر (مثل عصره وربما عصرنا) هى: الترويج للسلوك الحسن باكتشاف وتفسير الهدف الذى تستهدفه الأشياء.
(3) إن الأخلاق أنواع وتشكيلات، وهى ليست لها مقياس واحد يقاس به كل الناس،والأنشطة، كل الوقت فمثلا: يقسم برجسون: الأخلاق إلى: أخلاق مغلقة/ أخلاق السكون (وهى ليست سوى ضغط اجتماعى بسيط) وأخلاق منفتحة/أخلاق الحركة (وهى أخلاق قائمة على الفاعلية)..إلخ.
(4) إن الأخلاق هى النشاط الحيوى المنتصر (والتر ليبمان).”أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض”.
(5) وقبل كل هذا، وبعد كل هذا فالأخلاق هى اتساق المستويات متوجهة نحو الكمال،= الإيمان.
أكتفى بهذا القدر من التنبيه إلى أن المسألة الأخلاقية هى من بين الكليات البديهية، التى لا يمكن تعريفها بألفاظ، وخصوصا من الجالس على مقعد السلطة، وليس معنى ذلك أننى أفتح الباب على مصراعيه لما يسمى نسبية الأخلاق حتى لا نصاب بانفتاح أخلاقى (لا أخلاقي) “سداح مداح”، على نمط الانفتاح الاقتصادى الشهير بهذه الصفة. فما هى تلك الأخلاق التى يدافع عنها الوزير مشكورا، أو مرعوبا، هل هى أخلاق الترهيب والترغيب، أم هى أخلاق الجمال والإبداع.
مع كل الاحترام للوصايا الدينية الأساسية بكل ما تعنى من إيجابيات، وهى الوصايا البادئة بـ “لا” (لا تسرق، لا تزن، لا تقتل..إلخ) لا أحسب أن هذا هو المطلوب ونحن نتعامل مع الإبداع، فهذه النواهى الرائعة هى خاصة بالسلوك العلنى العام، أما الأخلاق التى نقيس بها الإبداع فهو ما يحققه لنا الإبداع من جمال يقربنا من أنفسنا ومن الله، وهى ما يبعثه فينا الإبداع من دهشة تطلق تطلعاتنا إلى التكامل والتعرف على أنفسنا،وعلى الحق سبحانه وتعالى.
إن المقاييس الأخلاقية التى نقيس بها الإبداع ليست بنفس المواصفات التى نقيس بها الأخلاق فى مدرسة رياض الأطفال، ولا هى هى المقاييس التى نقيس بها الأخلاق فى مجال البحث العلمى، ولا هى حتى المقاييس الدينية العامة التى يعتبرها الدين الحق مجرد بداية لأخلاق أعمق حيث “الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذير”. إن القوانين الوضعية تكتفى بحق الناس على الناس، ولكن القوانين الإلهية تتجاوز هذه المسألة، بعد أن تحتويها،ليظل الإنسان يقظا لحق الله، عليه،له وللناس، طول الوقت.
هل توجد قيم خاصة نقيس بها “أخلاقيات الإبداع” إن صح التعبير؟ نعم، وإليكم بعض ذلك :
أولا: قيمة الاتقان، قد يدرج الاتقان فى الحياة العامة، داخل مصنع مثلا، تحت بند شهادات الجودة (الأيزو)، أو دراسة الجدوى، لكن فى الإبداع يصبح الاتقان قيمة جمالية أخلاقية. نحكم بها على حبكة العمل ومعادله الموضوعى وجديته ومدى تحقيقه لغايته المعلنة أو المضمرة. إن هذه القيمة تدل على صدق معاناة المبدع ومدى الجهد الذى يبذله ليخرج لنا ما يريد، حين يستعمل الأداة المناسبة للهدف المناسب، هو موقف أخلاقى يمثل قيمة راقية إذا ما قورن بضده من الاستسهال والاستعجال، وخدع التلميع، فيما يشبه الإبداع، وهو ليس كذلك إذ لا ينتج عنه إلا زيف قصير العمر مهما لمع بريقه.
ثانيا: قيمة “حضور الآخر” لا يوجد إبداع يمارس فى فراغ. كل مبدع يتمثل له متلق بشكل ما فى مستوى ما من وعيه. لكننا نقابل أحيانا بعض أنواع الإبداع التى تتعالى على المتلقى، وما لم يثبت بالنقد والزمن أن هذا المبدع كان يخاطب متلقيا ما، حتى لو لم يوجد بعد، فإن هذا الاستعلاء قد يصل إلى درجة يؤاخد عليها المبدع بشكل أو بآخر. يكون الإبداع أخلاقيا بقدر ما يكون موضوعيا فى خطابه لهذا الآخر مهما كان بعيدا، أو نادرا، أو غريبا.
ثالثا: قيمة الحرية: الحرية ليست هى إطلاق الحبل على الغارب، ولا هى باب للتسيب، الحرية هى أرقى مراتب الأخلاق، هى الأمانة التى أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان، لا يوجد إبداع بلا حرية. ولا توجد أخلاق بلا حرية: هل يمكن أن يكون الإنسان على خلق، إن لم يكن له حق الاختيار بين ما هو أخلاقى وما هو غير أخلاقى ؟
يبدو أن المجتمع (والسلطة والتاريخ) يمارس نوعا من الإلزام الأخلاقى فى المراحل الأولى من النمو. فى هذه المراحل يمكن أن نصف المجتمع ككل بأنه أخلاقى أوغير ذلك، لكن مع الاستمرار فى النضج، تنتقل المسئولية الأخلاقية تدريجيا للفرد تناسبا مع ما يكتسب من حرية حقيقية تسمح له بمواجهة قيم مجتمعه الخلقية المفروضة، فيعيد النظر فيها، وقد يغامر بتجاوزها إبداعا،لا ليهدمها، ولكن سعيا إلى إضافة تحتويها، لترتقى بها، وتعمق أبعادها.
وكلمازادت فرص الفرد فى الحرية الحقيقية زادت مسئوليته شخصيا فى اختيار موقفه الأخلاقى. سواء فى الإبداع أو التلقى. إن الذى لا يتلقى من النص المبدع إلا اللفظ الذى تصور أنه إنما وضع ليخدش حياءه الهش، دون كلية النص وجماله المتكامل، هو متلق محدود أو مسكين أو عاجز أو صاحب سلطة لم توفر له الأمان الكافى.إن التلقى مسئولية أخلاقية مثله مثل الإبداع تماما.
وبقدر ما يتمتع الإنسان الناضج بهذا النوع من الحرية يمكن أن يستغنى عن القوانين التى تفرض عليه الأخلاق من خارجه، لا لأنه لا يحترمها، ولكن لأن ما يستبقيه منها اختيارا يصبح طبعا لا تطبعا، طبعا يختلط بلحمه ودمه (ثم بإبداعه منشئا و متلقيا) حتى لا يعود يحتاج إلى تذكرة من خارج.
رابعا: قيمة الجمال: جوهرالأخلاق هو التوازن الخلاق، وهذا هو الجمال بعينه، والإبداع ليس إلا تعميقا وتوصيلا لمثل ذلك. إن النشاز مهما نشر أو انتشر، هو قبح أخلاقى بشكل أو بآخر.
هذا عن أخلاقيات الإبداع، فماذا عما أسميتـه “إبداع الأخلاق”؟ هذا أصعب، وفيه نقول:
يتكرر فى مثل هذه المواقف تعبير “خدش الحياء العام”، وهو تعبير يحتاج إلى قدر مناسب من المراجعة الخلاقة حتى لا نستسلم له تقليديا بلا إضافة. تعالوا نقف عند كل لفظ من هذا التعبير:
أولا: بالنسبة للفظ “خدش” لا بد أن نعرف ما الذى يخدش ماذا، فالزجاج مثلا لا يخدش الماس، والعكس غير صحيح، لذلك فإن الحياء الذى تخدشه مجرد كلمة لم يعتدها سامعها، هو حياء من نوع هش، نوع لا ينبغى أن يلجئنا حرصنا على عدم خدشه أن نشوه وعينا أو نزيف جمال إبداعنا.
ثم تعالو إلى كلمة “الحياء” إذ ينبغى أن نميزها ابتداء عن الخجل، وعن الخزى، وعن الجبن، وعن الرقة الزائفة مثلا، بل إن الواجب على من يكتشف أن حياءه هش إلى هذه الدرجة حتى تخدشه كلمة تصف جزءا من جسده، عليه أن يعمل، ونعمل له، على أن يرتقى بنوع حيائه إلى حياء الخوف على الحقيقة، أو الحياء من أن يظلم أو يظلم، أو الحياء من الجهل، أو من التحيز، أو من ضيق الأفق.
ثم ننتقل إلى الكلمة الثالثة “العام: (الحياء العام). إذا تكلمنا عن الحياء العام فلا بد أن نضع فى الاعتبار تلك التطورات التى حدثت وتحدث فى مجتمعنا والتى تشككنا فى أخلاقية ما أصبح عاما. مثلا نحن لم نعد نمارس الحياء من الرشوة، ولا من الغش العام، بل إننا نعلم أولادنا الغش الجماعى بطريقة منظمة تحت سمع وبصر رجال التربية الذى يتوهمون أنهم يحاربون الدروس الخصوصية، فى حين تصدر الأوامر للمدارس، بتحسين نتائج الامتحانات بأى طريـقة حتى لو خالفت الحياء (العام). لماذا نقصر كلمة الحياء على ذكر هذا اللفظ أو ذاك فى هذه الرواية أو تلك، دون أن نمد الحياء إلى ما نبهنا إليه رسول الله [: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت” إن الحياء الأرقى هو الذى تختلط فيه الأخلاق باللحم والدم حتى يصبح به الآخر جزءا لا يتجزأ من الوعى الخاص.
إن المبدع الجميل يغلبه حياء خلاق فى مواجهة قبح عبارة ما، أو تغافل عن اقتباس استحسنه قلمه من وراء ظهره، أو من إغراءـ بدغدغة غريزة لا حضور لها فى أصل السياق. ثم إن حياءه الإيجابى هذا هو الذى يمكنه من أن يعيد صياغة نصه ليوصل به نفس ما يريد بأقل قدر من الفجاجة، دون أن يقلل من عمق الرسالة وصراحتها، وهو بذلك يقدم لنا (يبدع) أشكالا وألوانا من أخلاق جديدة أرقى وأبقى. هذا أيضا “إبداع أخلاق جديدة”
خلاصة القول:
إن ما فعله الوزير هكذا، ورد فعل أغلب المثقفين عليه، قد جعل بعض الهيئات (لا السلطات) الدينية تصفق له داعية ألا يقطع ذنب الأفعى ويتركها، إن كان شهما فليتبع رأسـها الذنبا، فخاف الجميع أن تجتمع السلطة الرسمية على السلطة المحتكـرة لتفسير الدين، فيعاملوننا جميعا باعتبارنا أذنابا تحتاج أن يبادر سيادة الوزير بقطعنا الواحد تلو الآخر خشية أن تنمو لنا أدمغة جديدة.
هذه ليست صرخة يأس أو مجرد احتجاج. هى محاولة إفاقة، وحتى أكون عمليا أقترح ما يلى:
أولا: أقترح أن تكف الدولة عن القيام بدور الناشر، وأن تكتفى بدعم مباشر أو غير مباشر(دعم ثمن الورق مثلا)، ثم تترك الأمر للنشر الخاص الذى يتحمل مسئولية ما ينشر دون لوم على الدولة. (استلهمت ذلك من رأى غير مباشر لشيخنا الجميل نجيب محفوظ).
ثانيا: أقترح أن تقوم الدولة – ما أمكن ذلك – بإعادة نشر الأعمال التى سبق نشرها، إذا ثبت أنها ذات قيمة فائقة. ولم تلق حظا فى الانتشار فى أول محاولة (هذا ما يفعله مشروع مكتبة الأسرة).
ثالثا: أقترح أن يصل سماح الدولة ورقيها إلى درجة تسمح للناس أن تمارس المصارحة، والأصالة، والاختراق، بأقل قدر من الوصاية، وأكبر قدر من الأمل الخلاق. لتظل القواعد الطبيعية هى التى تحدد وتهدى وتقول وتعيد، تلك القواعد التى تحكمها قوانين البقاء،لا تعليمات السلطة، ومن ذلك:
“إن البضاعة الجيدة تطرد البضاعة الرديئة”، أو: “إنه لا يصح إلا الصحيح”، وقبل ذلك، وبعد ذلك: ” أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض”.صدق الله العظيم.