نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-3-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3863
الأربعاء الحر:
أحوال وأهوال (68)
قصة جديدة فى 27 مارس 2018
عليه العوض..!
أطلت الفتاة – طالبة الطب – من النافذة من جديد وهى تحاول أن تروّض غيظها، وراحت تتأمل لافتات القماش التى كادت تحول دون رؤيتها لحركية الشارع كما اعتادت، بل إنها تذكرت كيف خيل إليها ليلة أمس أنها تحول دون وصول ضوء القمر إلى الناس الطيبين، راحت تروّض غيظها وتزيحه بعيدا عن شخص كم التمست له الأعذار، ولكن….، طبعا “ولكن” و”ستين لكن..” أيضا.
قالت لنفسها: لو أننى كنت مكانه وانتبهت إلى صورتى التى اهتزت بكل هذا المهرجان الغبى لأصدرتُ ثلاثة أوامر على الأقل: الأول إزالة كل هذا القبح بالقوة الجبرية، والثانى محاكمة كل من تسبب فيه وتغريمه عدة أضعاف تكلفته لإنفاقها فيما ينفع، مع حرمانه من ممارسة حقوقه الانتخابية عدة دورات، والثالث عمل اختبار ذكاء لمن قام بذلك وإذا ثبت أنه متخلف عقليا بدرجة تعوقه عن التمييز أعفى من العقوبة.
أفاقت من شطحها- وهى لا تبتسم – على صوت يبدو أنه هو هو الذى كان يصلها متقطعا ليلة أمس، رجّحت أنه نفس الصوت لكنه أعلى قليلا فقد استطاعت أن تميز فيه صوت امرأة تنعى أيامها أو عزيزا عليها وهى تردد ” عليه العوض”، تساءلت : يا ترى من هو الذى عليه العوض أو التعويض، وهل هناك تعويض عن كل هذا العبث والتشويه؟ فكرت أن تنزل تبحث عن المرأة الموَلـْوِلـَة وتسألها عن هذا الذى سوف يعوضنا عن كل هذا، ثم أفاقت من جديد، فعدلت عن النزول طبعا، وابتسمت ابتسامة سخيفة لا معنى لها.
بعد قليل دق جرس الباب فقررت أن تتباطأ حتى تفتح أختها فحجرتها أقرب، إلا أن الجرس عاود الدق بعد مدة ورجحت أن اختها لم تعد بعد من الخارج فذهبت لتفتحه، وحين فعلت فوجئت بشرطيين، أو لعله شرطى وأمين ، فهى لا تعرف الفرق، وكانا يمسكان بامرأة، لعلها هى هى، فقد كانت ما زالت تردد “عليه العوض” وهما يدفعانها وهى تبكى بحرقة دون أن تقاوم، سألها الأمين (غالبا هو الأمين فهو صاحب الكرش الأكبر) إن كانت تعرف هذه المرأة التى أشارت إلى أن لها علاقة بهذه الشقة وأهلها، أجابت البنت دون تردد: “نعم” “طبعا”، شكرها الرجل وهى تمد يدها للمرأة لتدخلها وانصرف فى هدوء غيرمتوقع.
أدخلت الفتاة المرأة إلى الصالة وأجلستها على مقعد مريح وراحت تهدّئ من روعها وهى تسألها إن كانت تريد شيئا ساخنا فأجابت بالنفى، ذهبت الفتاة وأحضرت لها كوبا من الليمونادة وزوّدت السكر، وسقتها منه بنفسها، شربت المرأة ومسحت ما تبقى من دموعها بطرف كمها وهى تدعو للبنت بالنجاح والستر وابن الحلال، ثم اسأذنت فى الانصراف، سألتها الفتاة فجأة : “ما الحكاية يا خاله، ومن ذا الذى عليه العوض”، تلفتت المرأة يمينا ويسارا وهى ترتجف، وحين اطمأنت قليلا ردت بصوت منخفص: “منه لله يا بنتى منه لله، رجل طيب، ضحكوا عليه، هو ليس بحاجة إلى أى من هذا”، استعبطت البنت وسألت “هذا ماذا يا خالة”، لم ترد المرأة وراحت تتمتم من جديد “عليه العوض، ومنه العوض”. عادت البنت تسألها إن كانت تريد أى مساعدة معينة، فشكرتها المرأة ودعت لها وله من جديد، وهمـَّت بالانصراف وهى تميل على يدها كى تقبلها وهى تسلم عليهاـ لكن الفتاة نزعت يدها وقبـّلت رأسها.
راحت المرأة تنزل السلالم بسرعة كأنها تقفز عليها، لكنها ما أن أطلـَّت على الشارع من باب العمارة، حتى عادت تعدو صاعدة السلالم قفزا أسرع، وحين وصلت إلى باب شقة البنت دقت الجرس لكنها لم تنتظر، وحين فتحت البنت الباب ولمحتها راحت تناديها بلا طائل وهى تواصل الصعود نحو السطح، فدخلت شقتها وأغلقت الباب وهى تردد دون أن تدرى “هى حرة”، ولم تعرف معنى لما قالت.
بعد قليل سمعت البنت أصوات كوابح وأبواق السيارات وصياح الناس فى الشارع وهو يتزايد باضطراد، خرجت إلى الشرفة ونظرت وإذا بجمهرة من الناس يلتفون حول كتلة منتفخة من القماش، وحين تأملت أكثر اكتشفت أن وجه المرأة يبدو من خلال أعلى طياتها، فاستدارت بسرعة وتناولت سماعتها دون نية استعمالها، آملة أن يوسع الناس لها وهم يحسبون أنها طبيبة قادرة على المساعدة، راحت تخترق طريقها لتصل إلى كتلة القماش، واستطاعت بمساعدة بعض الطيبين أن تكشف عن ذراع المرأة، وجسـَّت نبضها واطمأنت إلى انتظام نــَفـَسها، وتأكدت أن كتلة القماش قد منعت عنها أى أذى يذكر.
انفرجت أساريرها وتأملت القماش الذى أحاط بالمرأة فى حنان واضح، قالت للمرأة وهى تقبل رأسها “الحمد لله على السلامة”، فوجئت بأن المرأة تشكرها وهى تتمتم ، “تحيا مصر”، لم تميز الفتاة جيدا فسألتها “مصر مـَنْ يا خالة؟” فأشارت المرأة إلى اسم مصر المكتوب على القماش الذى كان يلفها فى حنان وهو ينقذها، وقالت “مصر الستر واللطف يا بنتى” قبـّلت البنت رأس المرأة من جديد وهى تقول : آه صحيح.