نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء : 2-11-2016
السنة العاشرة
العدد: 3351
أحوال وأهوال
قصة جديدة:
انتَ مالكْ يا بارد …!؟!
ربما كانت هذه هى المرة الأخيرة، ولكن من أدراه أنها المرة الأخيرة ما دامت القيامة لم تقمْ بعد، لكنه تمنى أن تكون هى المرة الأخيرة، فهو لم يعد يحتمل أى مرة أخرى، كفاه كل المرات السابقة وقبل السابقة، لقد سدّد دينه كله وزيادة، فلماذا إذن هذه الملاحقة حتى الآن، ولو ثبت – لأى سبب لا يعلمه – أنها ليست المرة الأخيرة فسوف يكون انتقامه مـُرْعِبا، لأنه آن الأوان أن يضع حدا لكل هذا.
-2-
طرق الباب طرقاته المعهودة، فلم يقم لفتحه بلهفة مثل كل مرّة، بل إنه قرر ألا يفتح، لكن بعد أقل من دقيقتين عاد الطرق من جديد، فعدل عن رأيه وقرر أن يسارع بالاستجابة برغم كل شىء، واندفع إليه عدوا حتى لا يتراجع وفتحه فجأة وبعنف حتى كاد يقع على ظهره، لكنه لم يجد أحدا خلفه برغم تأكده من الطرقات.
-3-
أمسك بسماعة التليفون وتأكد من وجود الحرارة، وأدار القرص، نفس الرقم الذى أداره مئات المرّات من قبل، سمع رنين التليفون على الجانب الآخر، فوضع السماعة بسرعة وهو يؤكد لنفسه أنه لا أحد هناك ليرد، ما كاد يضع السماعة حتى رن جرس التليفون فرجح أنهم سمعوا جرسه والتقطوا رقمه فأسرعوا بطلبه بدورهم، ولم يرد.
-4-
قال له الصوت بوضوح : “إلى متى”؟ فرد عليه دون تردد”إنت تخرس”،… “انت مالك انتَ”!
-5-
عاد إلى الكتاب المفتوح أمامه: “أسباب انهيار الامبراطورية الرومانية”،أغلقه بسرعة والتفت يتصفح صحف الصباح، واكتشف ما يكتشفه يوميا من أنها نسخ مكررة بغض النظر عن اسم الصحيفة واختلاف ألوان العناوين، لكنه التقط بعض صور مـَنْ فازوا بالميدايات فى الدورة البارالـُمبية ودعا لأهلهم بالصبر، وتساءل لماذا لا تدخل الحكومة- وهى من أصحاب الاحتياجات الخاصة- منافسات التنمية البارالـُمبية ما دامت ليس لها فى التنمية الأولمبية الأصلية من أساسه!
-6-
فتح المذياع وكان قد خاصم التليفزيون بعد أن تأكد من ضرر الاشعاعات تحت الشاشاتية التى تصله من ذبذباته، وأنها السبب فيما أصابه من حساسية فى الجيوب الأنفية ورمد صديدى وتخلف عقلى لاحتمال ضمور فى خلايا المخ، كما أفهمه أحد أصدقائه من هواة التطبيب عبر النّتْ، وحين أدار زر المذياع سمع المذيع يقول: “إنا لله وإنا إليه راجعون، همس بوضوح: “أحسن” وأغلـقه، وغيـَّر المحطة بسرعة دون أن يخطر على باله أن يعرف من المرحوم ، ولا مكان أوموعد العزاء.
-7-
فتح الكتاب وقبل أن يعاود القراءة سمع طرقا مختلفا على الباب وقرر أن يسرع دون تردد هذه المرة حتى لا يفاجأ باختفاء الطارق ثانية، وفعلا لحقه بمجرد فتح الباب، ولم يشمئز من قذارة منظره، كما لم يتقزز من رائحة القفَّهْ فوق ظهره، …..أشفق عليه وهو يلهث ووجد نفسه يدعوه للدخول.
قال الصبى فى دهشة:
– لا مؤاخذاة يا سعادة البيه، “فيه زبالة”؟
رد بسرعة:
– ألا تريد أن تدخل لتلتقط أنفاسك من السلم ؟
قال الصبى:
– ربنا يخليك يا سعادة الباشا، هى الهانم مسافرة؟؟
قال الرجل:
– هانم مَن يا ابنى، هل أخطاتَ الشقة؟
قال الصبى:
– يا سعادة البيه أنا أعمل هنا منذ ثلاث سنوات، ألا تعرفنى؟ حضرتك مش واخد بالك؟ أم ماذا؟ أنا “وِلْعَه” ..!
قال الرجل:
-“وِلْعَه” ؟!!! ياه !! آه ..، لا .. ليس تماما..، تذكرت، لا.. أنت ميدو، أليس كذلك؟
قال الصبى:
– دا كان زمان، أنا “وِلْعَه” الآن
قال الرجل:
– منذ متى؟
قال الصبى:
– من ساعة ما كل حاجة ولـّـعت فى كل حاجة
قالها وانصرف بسرعة،
-8-
رجع الرجل بهدوء كأن شيئا لم يحدث، وتوجه إلى حجرة النوم مباشرة، وارتدى ملابسه كاملة، وعاد فى اتجاه الباب، وأثناء مروره بالصالة التقط كل صحف الصباح المُكوَّمة على طرف المائدة ونزل مسرعا
-9-
اتجه من فوره إلى فَرْشة الصحف على الرصيف المقابل، وتعمـَّد ألا تلاحظ البنت المقرفصة أمام الفرشة اتجاه نظراته وهو يركز على النهدين النافرين ليحولا دون سقوط ذقنها الدقيق فى حِجرها، ألقى الصحف التى كانت فى يده على حافة الفَـََرْشَة، وهمَّ بالانصراف، لكن الفتاة نادته:
– يا سعادة البك، يا سعادة البك، .. انت نسيت صحفك
التفت قائلا لها:
– ولا يهمك، لم أعد أحتاجها
قالت:
– يعنى ماذا..؟؟ هل تردّها، وانت تدفع ثمنها بالشهر؟
قال:
– وهل أنا طلبت ثمنها ؟!!
رفعت الفتاة حاجبيها ومصمصمت شفتيها وضحكت ضحكة واسعة لم ينتبه لها.
-10-
قفز إلى الميكروباص بسرعة، ولم يصبِّح على السائق كالعادة، … السائق هو الذى صبـَّح عليه، ثم أردف:
– خيرا يا سعادة البيه
قال الرجل:
– خيرا إن شاء الله،….. فيه ماذا؟
قال السائق:
– خير؟… وراءك مشوار أم ماذا؟…. اليوم الجمعة !
قال الرجل وهو ينظر فى ساعته، ثم يلتفت لينزل بسرعة:
– آه صحيح !!!! شكرا، نهارك قشطة
نزل بسرعة، والميكروباس على وشك التحرك حتى كاد ينزلق من السلم، توقف السائق بكابح
هز كل الركاب وصاح به، “حاسب يا سعادة البك، سلامتك بالدنيا”، شكره وهويزداد إصرارا على أمرٍ لا يعرف معالمه تماما
-11-
انتقل إلى الرصيف المقابل، والميكروباس يبتعد بسرعة، ولم يكد يسير بضع خطوات حتى سمع الصوت وهو يقول له من جديد : “طيب قل لى: لماذا؟….”، رد بسرعة دون تردد: انتَ مالك انتَ!؟…..قلت لك انت مالك..!
-12-
أثناء سيره، عادت إليه كلمات السائق:”اليوم الجمعة”،راح يفكر فيها وكأنه يكتشف يوما جديدا من أيام الأسبوع،”الجمعة” !!..”سوق الجمعة”، كان نفسه أن يزوره قبل أن يحترق، وجد نفسه بداخله، مع أنه كان لا يعرف كيف يدخلون إليه ، فكل علاقته به كانت من فوق كوبرى الأتوستراد أثناء عودته من عمله، لكنه وجد نفسه بداخله الآن بين كل هؤلاء الناس بسهولة لم يتوقعها، لا يوجد أى أثر للحريق القديم، يبدو أن السوق قد استعاد شبابه لكنه لم يسترد تاريخه الذى سمع عنه، ولم يعاينه، وإذا به يكتشف نفسه وسط خلقٍ كثيرين اسمهم “الناس”، تماما كما اكتشف يوما جديدا اسمه “الجمعة”، ياه !! لا بد أن سيدنا آدم حين أُنـْزِلَ من الجنة هبط إلى هذا السوق أولا، هؤلاء الناس خـِلقة ربنا، وهو أيضا خلقة ربنا، ولعن إسرائيل وأمريكا، وحقد على الصين , وماليزيا ، وسبّ بلدا لا يعرفه، واستطاع أن يصدر القرار الغامض الذى لم يعد غامضا
-13-
قال له الصوت : لا تصدّق نفسك !!!! ؟؟
رد بنفس الحـدّة: قلت لك ألف مرّة إنت مالك يا بارد
قال الصوت: إيش ضمِّنك؟
ردّ بسرعة: ربنا.
قال الصوت ساخرا : يعنى ماذا ؟!!
ردّ زاجرا : يعنى الناسْ….، ملـِك الناسْ…، كل الناسْ، إله الناس،…وانْ كان عاجبك !!!
1/11/2016