“نشرة” الإنسان والتطور
31-1-2008
العدد: 153
نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة
والحلم (29)، الحلم (30)
الحلم (29)
المكان جديد لم أره من قبل. لعله بهو فى فندق وقد جلس الحرافيش حول مائدة. وكانوا يناقشوننى حول اختيار أحسن كاتبة فى مسابقة ذات شأن، وبدا واضحا أن الكاتبة التى رشحتها لم تحز أى قبول. قالوا إن ثقافتها سطحية. وإن سلوكها غاية فى السوء وعبثا حاولت الدفاع، ولاحظت أنهم ينظرون إلى بتجهم غير معهود وكأنهم نسوا عشرة العمر. وتحركت لمغادرة البهو فلم يتحرك منهم أحد وأعرضوا عنى بغضب شديد، سرت نحو المصعد ودخلت وأنا أكاد أبكى. وانتبهت إلى أنه توجد معى امرأة فى ملابس الرجال ذات وجه صارم. قالت إنها تسخر بما يسمونه صداقة وإن المعاملة بين البشر يجب أن تتغير من أساسها. وقبل أن أفكر فيما تعنيه استخرجت مسدسا من جيبها ووجهته إلى مطالبة إياى بالنقود التى معى. وتم كل شئ بسرعة ولما وقف المصعد وفتح بابه أمرتنى بالخروج. وهبط المصعد ووجدتنى فى طرقة مظلمة وقهرنى شعور بأننى فقدت أصدقائى وأن حوادث كالتى وقعت لى فى المصعد تتربص بى هنا أو هناك.
***
القراءة
لا يستعمل نجيب محفوظ لفظة “الحرافيش” هكذا مباشرة إلا نادرا. وثلة الحرافيش الحقيقية هى قديمة قدم نشأتها، لكن المكان هنا – كما لاحظنا – جديد لم يره الراوى من قبل، فهو الإبداع.
محفوظ حين يستعمل هذا الاسم العزيز، والذى شرفت بالانتماء إليه ولو فى الوقت بدل الضائع، لا تكون له علاقة بالحرافيش الحقيقيين على أرض الواقع، كما كان الحال فى إطلاق نفس الاسم على رائعته: ملحمة الحرافيش، دون ربط أيضا
وبرغم ذلك، فبداية الحلم تقترب قليلا أو كثيرا مما يدور فى محيط عدد من المثقفين الذين كانوا يحضرون مؤخرا مجالسه اليومية التى هى ليست حرفوشية إلا الخميس.
حاجة محفوظ –كبداية- (أو الراوى) إلى رضا المثقفين المحيطين به عن سلوكه ليست خافيه فى هذا الحلم، وإن كانت لا تغير رأيه، ولا تمنعه من الانصراف معتزا محتجّا.
بعد تجهمهم وغضبهم، قرر أن ينصرف وهو يشعر بالرفض ويكاد يبكى ويتحسر على عشرة العمر، مما يشير إلى الحاجة إلى مثل هذه الموافقة بشكل أو بآخر، هى حاجة إنسانية أساسية لا يستغنى عنها أى بشر مهما نال من تقدير عام أو خاص، رسمى أو شعبى.
العلاقة بين المرأة التى رشحها صاحبنا للفوز بالجائزة الأدبية، وبين المرأة التى فى المصعد غير واضحة. الراوى دافع عن الأولى برغم سطحيتها وما يشاع عنها، وتحمل فى سبيل ذلك نظراتهم وغضبهم برغم عشرة العمر، امرأة المصعد بدت لى أنها هى هى امرأة الجائزة وقد ظهرت على حقيقتها، مسترجلة مقتحمة.
هو (الراوى من عمق آخر) أيضا يبدو أنه تعرّى أمام نفسه، وربما اكتشف أن الثلة التى اعترضت على رأيه قد التقطت صفقة لا شعورية كانت تجرى داخله دون أن يدرى (نحن لم نعد نتكلم عن محفوظ الحقيقى، بل عن الراوى الذى تقمصه فى الحلم)، المرأة لا توافق على عرض الصداقة الغامض، فنتصور أنه الإباء والحذر، وهى حين تعلن سخريتها من الصداقة بحثا عن قواعد أخرى للعلاقات بين البشر، ربما يخطر لنا أنها تشير إلى مستوى من العلاقات أكثر صدقا وعمقا ومسئولية، لكننا نفاجأ بأنها تمارس معاملة بين البشر من نوع آخر، وهى الاقتحام (الذى ننكره –ظلما- على المرأة)، والسلب قسراً (السرقة بالاكراه) .
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تواصل القهر والإرهاب وهى تأمره بالخروج أمامها من المصعد، ولم يكن ناقصا إلا أن يرفع ذراعيه إلى أعلى مستسلما.
ها هو يستسلم فعلا لمصيره هذا ويمضى فى سرداب الظلام .
هذا الحلم- هكذا- ينبهنا إلى حقيقة هامة فى تسلسل حركية الإبداع، قد تغيب عن كثير من النقاد: إنه مهما كانت بدايات الإبداع مستثارة من واقع ما، كلمةٍ ما، مناقشةٍ ما، حادثٍ وقع للمبدع، أو وقع أمام المبدع، أو حُكِىَ له، وأيضاً مهما كانت البداية مستثارة من شعور عابر عاشه المبدع، أو انتبه إليه فاستثمره – كبداية – فإن تواصل عملية الإبداع لا يعنى، ولا يلزم أن يظل الشخص المثير لحركية الإبداع هو هو، يترتب على ذلك أن نفس الشخص قد يكون جمّاع عدة أشخاص فى تلاحق غير خطىّ، فيبدأ – كما هنا – بالاعتداد بالاختلاف فى الرأى ضد أغلب الرأى السائد، ثم ينقلب إلى شخص محتج غاضب منسحب، ثم ينقلب إلى شخص ثالث يبزغ من داخله أو يحل محله وهو الشخص الذى يرجو أن يعقد صفقة آمِلة من وراء ذاته الظاهرة، وكأنه محكِّم من الذين يتعاملون مع النقد والجوائز من خلال الصفقات، إعلان فشل صفقة هذا الأخير مع امرأة المصعد يبين كيف أنه لم تَعُدْ هو هو الذى بدأ بإعلان الاختلاف والتمسك والرأى
وأخيرا، فلعلنا نلاحظ كيف أن الجزاء كان قاسيا، فالصداقة رُفضت، والإذلال تمّ، والاذعان عرّى، والطرد أهانْ. كل ذلك على افتراض أن هذا الشخص الذى خسر كل شئ ليس هو هو البادى، حتى لو كان الأخير نابعاً من داخل داخله كجزء من الطبيعة البشرية التى علينا أن نعترف بها لنسيطر عليها ونروضها ونحن نحركها فى اتجاه التآلف بها، حتى لا نضطر أن نتعامل معها بالمبالغة فى الإنكار أو المحو أو ادعاء عكسها.
***
الحلم (30)
هذا بيتنا بالعباسية، أدخل الصالة أمى تذهب إلى المدخل وأختى تجئ فتقف لحظات ثم تلحق بأمها، لم نتبادل السلام ولكنى أعلنت عن جوعى الشديد بصوت مسموع، لم يرد أحد فكررت الطلب وسمعت أصواتا فى الحجرة المطلة على الحقل فذهبت إليها فوجدت أخى الأكبر يجلس صامتا ويتربع أمامه على الكنبة شيخ الأزهر، وقال الشيخ كلاما جميلا، ولما انتهى قلت له أنى جائع فقال لى أن أحدا لم يقدم له القهوة ولا حتى قدح ماء، فغادرت الحجرة وقلت بصوت تسمعه أمى وأختى أن يقدما القهوة لفضيلة الشيخ وأن يحضرا لى طعاما ولو قطعة خبز وجبنة ـ ولم أتلق إلا الصمت غير أنى سمعت حركة فى الحجرة المطلة على الفناء فأسرعت إليها وذكرت أنها حجرتى وفيها الفونوغراف والأسطوانات التى أحببتها فوجدت بنت الجيران التى كانت تزورنى لتستعير بعض اسطوانات سيد دوريش خصوصا اسطوانة “أنا عشقت” وكانت تبحث عن إبرة لتسمع أسطوانة فقلت لها إنى جائع، فقالت لى أنها جائعة أيضا. وغلبنى الجوع فغادرت الحجرة وصحت طالبا لقمة، ولما لم أجد أى شئ، غادرت البيت وقد حل المساء، يظل الطريق خال وخفت أن تكون المحال قد أغلقت ولكنى اتجهت نحو المخبز منهوك القوى من الجوع وثمة أمل يراودنى.
***
القراءة
هذا الحلم يتكلم عن الجوع، وهو جوع متعدد التجليات، شامل للجميع: هو جوع إلى “الآخر” إلى الشوفان، إلى “الاعتراف” إلى التناغم الامتداد مع كون أعظم، وباختصار إلى الحياة، فهو فى عمقه “الجوع دون تحديد”.
كل مظاهر الجوع –فى الحلم – من كل الأطراف وبكل الأنواع، ليست إلا ترجمة لجوع أساسى يعبر عنه الراوى بما تيسر حسب الحال والمقام.
بدأ الراوى بإعلان جوعه لأمه وأخته بلهفه شغلته حتى عن أن يتبادل معهما السلام.
ثم انتقل من محيط الأسرة الحميمة (الأم والأخت) إلى وصلة مع آخرين خارج نطاقها، هذه الوصلة كادت تمثل الجوع إلى التجاوز إلى ما بعد الناس، فإن لم يرتوِ من الأسرة فليرتوِ من كلام شيخ الأزهر الجميل.
لكن الشيخ نفسه كان جائعا وعبر عن ذلك برقة بطريقة غير مباشرة بأن نبه إلى عدم تقديم القهوة، فينتهزها الراوى ليطلب لنفسه ولو قطعة خبز وجبن.
ثم يتحرك جوع من نوع آخر، حين تنتقل الحاجة من داخل الأسرة ورمز الدين، إلى الأمل فى التواصل، التعاطف مع “الآخر” (الأخرى) فى الحب “أنا عشقت”،
تحضير بنت الجيران إلى داخل الحجرة يبدو وكأنه وعْد بالاستجابة للجوع الجديد،
لكن الفتاة بدورها جائعة، وكأن جوع كل منهما لا يمكن أن يروى جوع الآخر، إذا ما ألح كل منهما بجوعه معاً فى نفس اللحظة.
البيت (الأهل والزوار، الشيخ، والفتاة) بكل من فيه لم يرو جوعه، فلينطلق إلى خارجه، إلى الشارع إلى الناس، لكن الطريق خال (من الناس)، ومازال الجوع ملحا، فليحتفظ بالأمل فى أن يشبع من مصدر عام، من مخبزٍ ما، لا يعرفه، وهو ليس متأكدا من أنه سيجد فيه ما يشبعه.
ثم هى النهاية المفتوحة كالعادة.
…….
قبل أن أغلق ملف الجوع فى هذا الحلم خطرت ببالى صورة جريتا جاربو، التى ظهرت فى حلم (9) حين تحولت الأخت فيه إلى جريتا جاربو، وحين طلب الراوى من أخته أن يستعيدا المعجزة رفضت، بسبب الأم، التى “تدرى كل شئ”.
هل يسمح هذا الربط أن نلتقط بداية الحلم خاصة أن المكان هو “بيتنا بالعباسية”، نلتقط إشارة إلى أن هذا هو “الجوع الأساسى قبل أن يتميز.
بدأ الحلم هنا بالأم والأخت أيضا، وفى حين أنه لم يفرق هناك (حلم 9) بين الممنوع والمسموح، ربما لأنه لم يكن قد تعلم بعد ما يسمى “نحو الأسرة””Grammer of the family” نجده هنا يبدأ مستثاراً من الأم والأخت حاضرتين لمجرد تحريك الجوع، لكنه ومن البداية يتوجه بعيدا عنهما، ويظل جوعاً متنوع التجليات، دائم البحث طلبا للارتواء ليس بالجنس تحديدا، بقدر ما هو الجوع الأساسى من أول الجوع الحسى إلى لقمةٍ وجبن، مرورا بالمعرفة إلى عموم الناس.