“يوميا” الإنسان والتطور
7-2-2008
العدد: 160
نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة
الحلم (31)، الحلم (32)
حلم 31
أمتطى حمارا يسير بى وسط الحقول خطوات رتيبة وأنا خال من المشاعر تحت أشعة شمس الخريف وترامى إلينا نباح كلب فتوقف الحمار فنخسته بكعبى فعاد إلى السير ويعود النباح فأحدد بصرى لأرى الرجل الذى أقصده. وظهرت امرأة محاطة بالعديد من الكلاب فهتفتْْ فيها لتكف عن النباح فأذعنت، لها فسلمتُ، وقلت إنى قادم لمقابلة الشيخ بناء على خطابين متبادلين. قالت المرأة إنها صاحبة الأمر الأخير وأنها تستطيع أن تقدم الخدمات المطلوبة كما تستطيع أن تفنى من تشاء إن حرضت عليه الكلاب.
فقلت إننى جئت للسلام لا للحرب وإنى أريد عملا. وأشارت إلى فنزلت عن ظهر الحمار ووقفت أمامها فى خشوع وسارت وتبعتها ومن خلفى الحمار تحيط بنا الكلاب ووقفت أمام مبنى صغير فتوقف الركب كله وأمرتنى بالدخول فدخلت وقالت لى أن أنتظر فى الداخل وحذرتنى من الخروج إلى الكلاب التى لا ترحم فسألتها حتى متى ألبى. وماذا عن العمل. وأن الشيخ وعدنى خيرا ولكنها لم تحفل بكلامى وامتطت الحمار وذهبت تاركة الكلاب حول المبنى. وكانت ترسل إلى باحتياجاتى مع رجال أشداء ولكنهم لا ينبسون بكلمة وأفكر أحيانا فى الدخول مع الكلاب فى معركة حياة أو موت. ولكن يتغلب الأمل فانتظر.
***
القراءة
لأول مرة يظهر الحمار فى أحلام النقاهة، (ونادرا ما يظهر فى أعماله عامة).
نجيب محفوظ قاهرى حتى النخاع،
لم أشاهد مسلسل حكاية بلا بداية ولا نهاية، ولكنهم حكوا لى أنه انقلبت بعض أحداثه لتدور فى الريف المصرى، حين أخبروا الأستاذ عن ذلك ضحك ضحكته الجليلة، ولم يعقب.
الحمار الذى ظهر هنا لم أستطع أن أتبين دلالته، تذكرت للتو أن الحمير والكارو فى القاهرة كانت وسائل مواصلات ونقل حيث نشأ محفوظ وعاش ردحاً من عمره، ظهور الحمار هنا سواء كان قاهريا أو منوفياًّ، وصلنى منه – بعد الانتهاء من قراءة الحلم عدة مرات- دلالات رفضتُ أن أثبتها إلا بالإشارة من بعيد، من بينها الصبر، والبطء، والتحمل، واحتمال المهانة بغير وجه حق، والحكمة حين يستنطقه توفيق الحكيم وغيره، ثم اتهامه ظلماً بالغباء، ولم أجدنى متحمسا لأى منها، ولا رافضاً لأى منها.
الخطوات رتيبة هادئة لكن المشاعر غائبة، الأقرب أن المشاعر غابت لغموض الموقف، وخطر التوجه، وطول الصبر، وألعاب التأجيل والتسويف.
هل المرأة هى جولدا مائير أو كونداليزا رايس، أحسب أنها الأولى، وبرغم أنه هو الذى ذهب بحماره إليها، صابرا وهو يخلى نفسه من مشاعر قد تعوق رحلته، برغم ذلك لم تعطه المرأة الأمان، بل تنكرت للاتصالات السابقة، وأفهمته أن الأمر كله بيدها هى، مدعومة بكلابها المفترسة.
أعلن نيته بوضوح وهو يكتم ألمه، السلام لا الحرب، حتى ولو أدى الأمر إلى أن يكون تابعا، عاملا عندها، أو عند من تشاء، لكنه برغم “خشوعه”، وتبعيته، لم يجد العمل الموعود لا عندها، ولا بأمرها، وأصبح انتظاره بالداخل هو السجن ذاته، وانتزعت منه حتى وسيلة الرجوع (أو التراجع) لأنها “امتطت الحمار وذهبت”
لم تحفل المرأة بوعد الشيخ، سواء كان كسينجر أو بوش، أو كل من يعد كذبا بما لا يملك، أما الكلاب الجاهزة للحرب والإفناء فهى تتربص بالخارج طول الوقت. وهى تنتظر إشارة منها مع أنه جاء للسلام مطيعا يطلب العمل بعد أن صدّق وعود الشيخ.
فهو سجينٌ داخل قراره، طريق اللاعودة.
ها هو الفتات يُلقى إليه بواسطة رجال أشداء لا ينبسون بكلمة، وهل عاد ثّمّ مجال للكلام؟ والكلاب تتحلق حول محبسه جاهزة للانقضاض والافتراس.
أعزلٌ، معاق، غير مسموح له إلا بالتفكير – أحيانا – فى معركة حياة أو موت، مع الكلاب!
يتغلب الأمل،
أى أمل وهو فى هذا الموقف؟
فينتظر،
ماذا ينتظر؟
إلى متى؟
برغم موقف محفوظ الواقعى المتألم المعلن وهو يقبل السلام واقعا مرّا لنبدأ من حيث نحن، إلا أن هذا الحلم يجعلنا نتساءل:
هل كان داخل داخله يرى عمق الموقف الحقيقى الأكثر إيلاما بهذا الوضوح، فيكُمن حتى يظهر هكذا فى هذا الحلم الابداع، بعد طول هذه السنين؟
جائز!
وجائزٌ: لا!!!
***
حلم 32
حدثنى الزميل القديم إنه ذاهب للعمل فى اليمن وقال لى إن ثمة كلاما يدور حول دعوتى للعمل فى اليمن وحثنى على القبول فوعدت بالتفكير فى الموضوع دون أن أبدى أى حماس له. وفى البيت الذى أعيش فيه وحيدا مع كلبتى فكرت فى الأمر على غير المتوقع. وشجعنى على ذلك نفورى من كلبتى الذى تولّد منذ أخذ وجهها يتغير ويتخذ صورة وجه إنسان. كانت وهى كلبة خالصة جذابة ومسلية أما بعد التغيير المذهل فلم تعد كلبة ولا بلغت أن تكون إنسانا، وسرعان ما أجد نفسى فى حجرة مكتبى فى اليمن وسكرتيرى الخاص واقف بين يدى، وكانت الحرارة شديدة، فسألت السكرتير عن حال الجو فى هذا البلد فقال لى إنه دافئ شتاء وشديد الحرارة بقية فصول السنة ولكن المبنى مرتفع جدا وكلما ارتفع تحسن الجو وأنه ما على كلما ضقت بالجو إلا أن أكتب التماسا للمدير للنقل إلى طابق أعلى. سررت بعد اكتئاب وقمت إلى النافذة ونظرت إلى أعلى فرأيت المبنى عظيم الارتفاع حتى خيل إلى أنه يلامس السماء.
ورأيت رءوسا تطل من النوافذ العالية فارتعش قلبى لرؤيتها إذ رأيت فيها وجوه أحبة الزمان الأول. سررت سرورا لا مزيد عليه وحمدت الله على قبولى الدعوة للعمل فى اليمن السعيد.
***
القراءة
اليمن هنا ليس بلداً، هو اليمن السعيد.
نجيب محفوظ لم يسافر فى حياته، على ما أذكر، إلا إلى اليمن وأظن إلى يوغسلافيا، ثم للعملية الجراحية فى الشريان الأورطى فى المملكة المتحدة.
الدعوة هنا هى إلى الأمل/الحلم السعيد المتطاولة بنيانه حتى تلامس السماء،
هى نزوع فرار من هذه الدنيا المعتوهة بعد أن رقص إنسانها على السلم، فلا هو ظل حيوانا خالصا مروَّضاً (جذاباً، ومسليا)، ولا هو أكمل مسيرته إلى بشرية تليق بإنسانيته “لم تعد كلبة ولا بلغت أن تكون إنسانا“.
هذا المسخ المعاصر الشبيه بالإنسان البشع أصبح منفّرا وطاردا، وباعثا للفرار من هذه الحياة المشوهة البشعة الخالية من الحياة.
الحرارة الشديدة فى الصيف لم تصلنى منها ريح جهنم،
الأمل فى الارتفاع دورا بعد دور حتى يلامس السماء، وصلنى باعتباره هربا آمِلاً. إلى الفوق،
كان عليه كلما ضاق به الحال أن يقدم التماساً للتصعيد: ليتحقق حلمه الهروبى، الآمِلْ، بسرور لا مزيد عليه، إذْ سيلتقى فى النهاية بأحبة الزمان الأول،
فهو فى اليمن السعيد،
ها هو يتخلص من الحياة المسخ التى تركها وراءه، ومن الحر المتربص صيفا، ومن الملل، إذْ يترقى بالتدريج صعودًا حتى يلتقى بهم “هناك”.
تحت رحمته وفى رحابه،
فى جنة اليمن السعيد.
لكن:
هل هذا هو الحل؟
الحلول ليست مهمة المبدع على أية حال!