اليوم السابع
الجمعة: 28-3-2014
أحكام الإعدام: بين فلسفة القانون وعلم العقاب
ليس من حقى، تحت أى ظرف من الظروف، وبأى مبرر ان أعقب على حكم من أحكام القضاء، اللهم إلا بأن أكون من ضمن هذه الهيئة الموقرة، وأنا أتبع تصعيد المراجعة الطبيعية على درجاتها المتتالية : أبتدائية، استئناف، نقض ..إلخ ، وحتى بعد ذلك، لو ظل حكم يقلقنى، فمن حقى أن أرفعه إلى العدل الحق العليم سبحانه وتعالى، وأنا واثق من إنصافه فى نهاية النهاية، بغير ذلك : لا تكون دولة، ولا تكون مؤسسات، ولا تكون عدالة .
أحكام الإعدام بالجملة التى صدرت مؤخرا أفزعتنى كما أفزعت أى شخص عادى مثلى، أى شخص يحب الحياة ويقدس العدل فى نفس الوقت، لكننى لم أسمح لنفسى بالاعتراض عليها وأنا أتذكر بشاعة الجريمة التى ارتكبت من بعض المحكوم عليهم فعلا ،أو أمثالهم (الله أعلم)، ومع ذلك اقر وأنتبه أنه ليس من حقى أن أعقب عليها، كل ما فعلته أننى وأنا أحترم شجاعة هذا القاضى الذى سمح له فهمه لمواد قانون محددة أن يصدر هذه الأحكام حتى على حساب أمنه شخصيا، أن أدعو له بالمغفرة إن كان قد أخطأ، وفى نفس الوقت أن أدعوا الله أيضا – ومن أدعو غيره- أن تسارع محكمة النقض بنقض الحكم ” لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ “
هذا الموقف الصعب الذى وجدت نفسى فيه جعلنى أتذكر بعض المعلومات القانونية التى تعلمتها من أساتذتى المستشارين فى فى المركز القومى للدراسات القضائية، أثناء تدريسى للسادة مساعدى النيابة ووكلائها بعض جوانب العلوم النفسية وعلاقتها بالقانون، عن الفرق بين قانون العقوبات، وعلم العقاب، وقبل ذلك كانت لى خبرة خاصة للحوار والمناقشة حول فلسفة القانون،وذلك منذ كان المرحوم أ.د. محمد الشقنقيرى يحضر رسالته فى الدكتوراه فى باريس فى هذا الموضوع، وكلاهما (علم العقاب وفلسفة القانون) مكملان لتوظيف العدل فى بناء الأمم وتشكيل الوعى الحضارى الجماعى.
يقصد بفلسفة القانون مثلا البحث عن المعنى الأعمق لأن يكون هناك قانون أصلا، وماهية العدل والعدالة، وهل هى ممكنة إطلاقا أو نسبيا، وعلاقة أن يكون هناك قانون، بأن تكون هناك دولة ومجتمع..وحضارة..إلخ
أما علم العقاب فهو العلم الذى يتناول تعريف ما هو العقاب، أكثر من تناوله تفاصيل العقوبات، وهو يدرس تطور الأنظمة العقابية وتنويعاتها، وهل هى وسيلة للانتقام من المنحرف والتنكيل به، أم أنها تهذيب وإصلاح، وهل ينبغى اجتثاث المجرم من المجتمع، أم إعادة تأهيله ليعود أصلح وأنفع لمجتمعه ونفسه، وكيف؟ وما هو الهدف من العقاب،…إلخ
علم العقاب يعلمنا أن أحكام القضاء تقوم بوظيفتين ” الردع الخاص، للمتهم نفسه حتى لا يكرر فعلته، والردع العام لسائر الناس حتى لا يفعلوا مثل ذلك، لهذا وجبت المحاكمات العلنية إلا باستثناءات مسببة، لأنه لا يكفى أن يطبق القانون، ولكن ينبغى أن يراه الناس وهو يطبق.
ومن وجهة النظر هذه، ودون تعقيب على الحكم ذاته، دعونا نتسائل معا:
- هل هذا الحكم – هكذا – يحقق فلسفة القانون فى إرساء معالم الدولة المتشكلة، بحسها الحضارى، من حيث الإسهام فى تشكيل الوعى العام ليكون القانون جزءا لا يتجزأ من وعينا فعلا، ونحن نحترم الحياة، ونقدس من يرعاها إلى هذه الدرجة؟
- هل هذا الحكم سيوصل لمن خلفهم من الفرقة الباغية ما يجعلهم “يتذكرون” (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيصبحون أكثر عزوفا عن استعمال قتل الناس وتخريب الدولة كوسيلة لتحقيق ما يعتقدون أنه الصواب الأوحد؟
- هل هذا الحكم سيجعل الأمهات والمستضعفين فى الأرض فى مصر أكثر أمانا فى بيوتهم لأن رسالة قد وصلت إلى من يهددون أمنهم أن حبل المشنقة فى انتظارهم بكل هذا الحسم والتعميم؟
- هل هذا الحكم سيجعل كافة المواطنين العاملين يتفرغون للعمل والإنتاج أكثر فأكثر، وهم يملؤون وقتهم أمام الله بما هو أحق بالوقت، لأن وراءهم قانون رادع لمن يخالفه حتى بالفساد أو بالإهمال؟
- أليس هناك احتمال أن يضيف هذا الحكم بعدا آخر نابعا من ثقافة أهل الصعيد الخاصة المتلقة بجذور الثأر ومعقباته ، بعيدا عن السياسة أصلا
وأسئلة أخرى كثيرة
لولا أننى فرح بالمقولة التى يكررها كل الأفاضل من أساتذتى المستشارين أن “القاضى لا يمدح ولا يذم” لقلت مديحا يستأهله هذا القاضى، وأيضا لأعلنت غير ذلك مما لا يحق لى،
وأظل أدعو له وللمتهمين أن يغفر الله للجميع، وأن يحق الحق سبحانه، لتتحق أهداف علم العقاب وفلسفة القانون فى الدرجة الأعلى من التقاضى،
وأن يحفظ مصر وأهلها قضاة ومتهمين وعامة،
وأن يتوب على المخطئين منا حضوريا وغيابيا
اللهم آمين