نشرت فى الدستور
17/9/1997
أبو شادى الروبى
هناك خطأ ما فى القيم التى تسود العصر الحاضر، كنت أحسب ذلك خاصا وشائعا فى العالم الغربى الصناعى المادى فحسب، وإذا بى أكتشف أن العدوى وصلت إلينا، وتغلغت فينا حتى أصبحنا كالصدى الأجوف أو القرود الممسوخة.
حين كتبت فى العدد الماضى عن” ديانا، ودودى ودادى” لم أكن قد علمت وفاة صديقى وأستاذى الدكتور أبو شادى الروبى، كما لم أكن قد شاهدت بعض جنازة ديانا، كذلك لم يكن حادث القدس الأخير، ولاحادث صيدا، قديما بحمد الله وفضل أبنائنا المجهولين، وهكذا تتابعت الأحداث حتى اضطررت لأن أرجع للموضوع لأنظر مرة أخرى فى معنى ذلك كله وما هى منظومة القيم عندنا الآن بما يمثله كل فريق من هؤلاء الراحلين.
(1) أبو شادى الروبى أستاذى وصديقى: مفكر، موسوعى، طيب، دمث، حلو المعشر، حلو الحديث، طبيب بارع، متذوق للكلاسيكيات فى الموسيقى والشعر والتشكيل، حاضر دائما كما ينبغى بما ينبغى لمن يستحق، ولمن لا يستحق، أمله فى المستقبل يحيط بالجميع، ويتركز فى الشباب ولا يكف عن المحاولة، لم يتزوج فتفرغ للمعرفة، والعلم، ومرضاه، واللغة، والتاريخ، والوطن، والناس، لم يحبس نفسه فى برج عاجى، ولم يرفض طلبا لأحد، تبرع بمكتبته وهو مازال حيا لشباب كلية طب قصر العينى، أصيب بجلطة فى المخ من سنوات حبست عنا وعنه الكلام، وتغلب عليها من خلال لغة الموسيقى التى يختص بها النصف الكروى للمخ غير المصاب، حتى استعاد أبجديته ولغته وذاكرته كاملة، حتى أنى من فرط إعجابى بالتجربة والإرادة والكشف طلبت منه أن يكتب هذه الخبرة الشخصية التى تثبت فرضا طالما حيرنى، وهو اختصاص نصف المخ غير الطاغى بالموسيقى والتشكيل دون الكلام والرموز، ولم يسعفنا الوقت لنسجلها فقدنا كل ذلك وكأنى فقدت دعما شخصيا يصبرنى على مانحن فيه، ويشد أزرى لأستمر، وأتلفت حولى فلا أجد لهذا الفقد صدى كما ينبغى بما ينبغى.
لم أذكر مناصبه أو جوائزه أو أبحاثه أو كتبه، فما ذكرت أهم، ولم أنظر فى المجاملة بالنعى فى “الأهرام” سواء جاء فى إطار جميل، أو بألفاظ رصينة، فلا هذا يضيف إليه، ولا ذلك يغفر لنا تقصيرنا نحوه.
(2) ديانا: الجميلة، الرقيقة، الكاذبة، الباردة، الممثلة، الملفته للنظر، المدعية، الانتهازية، المغامرة، المثيرة “من الظاهر”،هى بعد كل هذا، وبهذا “ليست بشىء”، ليست بشىء إنسانيا أو إبداعيا أو حتى عاطفيا، فانظر كيف ودعها الناس فى الخارج: حلال عليهم “كل شيله يشبه إللى له’، فلماذا شاركنا نحن كأننا نشبههم وأن هذه هى هى “القيمة” لدينا هكذا ؟
(3) شهيد القدس: المنتحر فى عمق السرطان الزاحف، ذلك الشاب الذى ضحى بنفسه، بحياته، بروحه، بوجوده، بآماله، بطموحه، بقلب حبيبته، بشوق أمه، بحلم غده، لانذكر حتى إسمه، ولا يرد تصور تفاصيل مشاعره حتى فى الحديث الذى يدور بيننا داخل البيوت، بل نكاد نتبرأ منه بالنسيان على مستوى الشعب، وبالشجب والنصح بضبط النفس من أجل خاطر عيون الأمن الإسرائيلى على مستوى السلطة فأى قيم تسود؟ وأى عصر نعيش؟.