الأهرام: 21/5/1985
آلام القتل ومأزق الطب النفسى
لست ادرى كيف يقرأ الناس هذه الأيام هذه الأخبار، تطل عليهم كل صباح فى الصفحات الأولي: مليئة بالتحدى والاثارة، والفتاوى، والتأويل بأقل قدر من المواجهة الموضوعية ونحن احوج ما نكون الى التمعن فى ‘معنى الحدث’ أكثر من القفز الى تصور اسباب يدعم كل واحد منا بها موقفه المسبق، بدلا من ان يراجع بأمانة متجددة جوانب القضية بكل شرف الألم وإباء المسئولية. القضية: شاب رقيق، وحيد، مهذب، مدلل، رأى رأيا ‘من طبيعة مراحل النمو’ ورأى أهله ضده، ووجد المجتمع والطب فى صف اهله، فانسحب، وفكر، وقرر، فقتل، .. و .. سيعدم (فى أرجح الاحتمالات)، فيكون (رغم العقاب) قد حقق كل ما أراد رغم أنف الجميع (حتى انه استعمل القانون الذى اعدمه كمخرج للفصل الأخير) – اللهم إلا ترك شقيقته تتعذب.
أمانة النظر، وفض التداخل:
والقضية لها أوجه كثيرة، وأى تناول لها بشكل عام، وآى حكم عليها بعاطفة جامحة أو رأى مسبق، هو بمثابة اطفاء النار بالبترول، وعندى انها قضية رأي، تولى فيها الأضعف فرض رأية بقوة السلاح، ولكنه من واقع فرط العجز والشذوذ (وربما المرض – أنظر بعد) لم يفرض رأيه ليغير، وانما لمجرد ان يعلنه قبل ان ينهزم، وتمت التصفية الجسدية هذه المرة ليس للمخالفة فى الرأى فحسب، وانما للغافل عن ما تصوره القاتل وجه الحق، وكأن هذا الشاب قد قرر – بكل عناد وشذوذ – ان يرحم اهله جميعا من عار الغفلة، وغباء الحزن عليه بلا مبرر، ولكن لنبدأ بتناول الأمر من زواياه المختلفة: واحدة، واحدة.
أولا: لا ينبغى ان نخلط بين مسئولية هذا الشباب قانون (من منطلق الطب النفسى الشرعي) وبين شذوذه او مرضه (من منطلق الطب النفسى العلاجي) فليس صحيحا ان كل مريض حتى المجنون هو غير مسئول عن افعاله، بل قد يكون الشخص مجنونا فعلا، وله تاريخ عريق فى ذلك، ثم يرتكب جريمة فى وقت إفاقة، او حيث لم تتعطل قدراته التفكيرية او ارادته او وعيه بدرجة كافية تبرر الجريمة، فيكون مسئولا تماما رغم تاريخه المرضي، فعلينا – اذن – الا نتردد فى وصف شذوذ هذا الشاب بالمرض، دون ان نخشى ان يكون فى ذلك ما يعفيه من مسئولية فعله، هذا امر وذاك آخر – بل ان بعض وجهات النظر فى الطب النفسى الأحدث قد تعتبر بعض الجنون هو مسئولية صاحبه، بشكل أو بآخر، مما لا مجال لتفصيله هنا.
ثانيا: لا ينبغى ان نعتبر هذا الحادث ‘ومن قبله حادث المنيل’ ‘ظاهرة’ وبالمعنى العلمى لكلمة ‘ظاهرة’ حقيقة انها احداث غريبة ومروعة، ولكن الجديد فيها انها اعلنت بهذه الطريقة الملحة، والتاريخ يقول لنا ان هذا الاحتمال ‘قتل الوالدين’ قائم من واقع الطبيعة البشرية، حقيقة ان خروجه الى حيز التنفيذ هو شاذ ومرفوض، لكنه ليس جديدا تماما، فهذا ديستويسفسكى يعلن – فى الأخوة كرامازوف – ان مثل هذا القتل هو أمر كامن فى كل ولد تجاه ابيه وذاك هو ليوناردودافنشى يسخر من سعادة اخيه اذ رزق بمولود فيكتب له ‘.. انت سعيد لأنك خلقت لنفسك عدوا حريصا على استخلاص حريته التى لن ينالها منك قبل موتك’ ‘المصور / 3154’ وانا لا اقول هذا لأبرر قتل الوالدين ولكن لنبدأ النظر الامين من حقيقة بسيطة عرفها الفنان قبل العالم، وبالتالى يكون انطلاقنا منها لاستيعابها وتحويرها، لا لإقرارها اما انكارها ابتداء تحت دعوى اخلاقية او دعاية دينية، فهذا امر انفعالى لا ينتج عنه الا مزيد من المضاعفات، اذن فالأمر ليس ظاهرة ‘جديدة’ ولا ‘شائعة’ والألم الذى يعتصرنا جميعا هو دعوة الى حسن النظر وأمانة التدبر ايمانا واحتسابا، وليس مبررا للشماتة او فرصة لمزيد من القهر الفكرى ‘او الطبي’.
ثالثا: هل هذا الشاب مريض؟
وقد أشرت منذ قليل انه قد يكون المريض مريضا ومسئولا فى نفس الوقت، ولكن علينا هنا ان ندفق النظر قبل الاسراع فى اثبات المرض او نفيه، ففى الطب النفسى – دون سائر فروع الطب – يصعب جدا ان نتبين بشكل قاطع الحد الفاصل بين السواء والمرض، ولابد ان نسلم ان مجرد اختلاف الرأى ليس مرضا، كذلك الألحاد ‘فى ذاته’ ليس مرضا، أو التوقف الدراسي، ولا عكس نظام النوم ‘ينام النهار ويسهر الليل ..’ الا ان كل ذلك مجتمعا بالاضافة الى عدم القيام بعمل منظم له عائد عياني، مع وجود بعض الأفكار الشديدة الغرابة .. بلا فاعلية (آخر سلاله الانسان الراقي.!!) كل ذلك لابد وان ينبهنا الى ان شيئآ ما فى هذا الشاب ‘ليس طبيعيا’ قطعا (مرة اخري: مجرد وجود المرض: فى ذاته لا يعفى من المسئولية).
فإذا تصورنا ان ثمة مرضا قد اعلن عنه هذا الاختلاف فى التفكير، وتغير الاعتقاد عما يراه الأهل وأغلب الناس، فلابد ان نتذكر ان هذه الصفات نفسها – للأسف – قد يشترك فيها مع المرضى كثير من المفكرين والثوار، وخاصة فى بداية مراحل اعادة النظر والبحث عن بديل والاستعداد للفعل، والفرق بين من سيخرج من هذه المرحلة الى القتل او الجنون، وبين من سيخرج منها الى الابداع والثورة هو فرق شديد الدقة بالغ الخفاء لا يدركه الا خبير، واع مرن، مواكب، وهنا ينبغى ان نتنبه الى مقاييس تبدو ثانوية الا انها فى الحقيقة جوهرية وفارقة وذلك مثل: درجة الوحدة ونوعها، نظام الحياة اليومية ومصدر الاعاشة، مجالات الفعل الحقيقى واختبار هذا الفعل على ارض الواقع ووعى الآخرين، فالثائر المبدع مهما بلغ انسحابه واحتدت عزلته لن يعدم ثلة محدودة يتبادل معها الرأى رفضا أو قبولا، وهو دائم البحث عن وسيلة تحقق فكرة على ارض الواقع وان طال الزمن، ويساعده فى ذلك ان يضطر الى ان يكسب قوت يومه على ارض الواقع ووسط الناس البسطاء، اما مثل هذا الشاب القاتل: فقد حرم من كل هذا: فلا ثلة، ولا حوار، ولا عمل يومي، وانما هواية مجهضة، واعتماد مادى على الوالدين بلا مقابل (ربما هذا ما أسمته شقيقته راندا: تدليلا) ثم جهود مثابرة لهدايته ‘بالعافية’ (بما فى ذلك المحاولات الطبية الحسنة النية).
وهنا يجدر بنا ان نتوقف قليلا عند موقف الأهل فى مصر مع اختلافهم مع ابنائهم فى الفكر او توجه المستقبل، فهم من ناحية لا يتركون الأولاد على هواهم، وهذا حقهم بلا شك، ولكنهم فى نفس الوقت يواصلون تركهم يعتمدون عليهم بلا مقابل فى انتظار الهداية الى اجل غير مسمي، حتى تحدث الكارثة، والأولى ان يمارسوا الحب الحازم، ومادام الولد قد اختلف ورأي، فليتحمل مسئولية حياته الآن، وفورا، مهما بلغت قدرات الوالد المادية، فإما دراسة منتظمة، أو عمل وسكن مستقل، ومن الآن، وذلك حتى يقوم الواقع اليومى بما لا يقدر عليه الطب النفسي، او النصح والارشاد، أما ان تتمادى الاعتمادية، والعلاج السري، والصراع المغطى بهذه الصورة، فتلكم هى بعض النتائج دون اتهام مباشر.
رابعا: ولكن على فرض اننا تأكدنا من ان علامات المرحلة لا تبشر بثورة مسئولة او ابداع خلاق، وان ثمة مرضا محتملا ينذر بتفريخ جنون او ارتكاب جريمة، فهل العلاج ممكن فى هذه الحالة؟ وكيف؟
لابد ان نعلن هنا ان العلاج بالمعنى الأشمل للكلمة ليس مسئولية الطبيب النفسى وحده، فما الطبيب الا حلقة فى دائرة متكاملة تشترك فيها الأسرة والمجتمع بكل مستوياته، والعلاج فى مثل هذه الحالات لابد وان يمتد الى كيفية تناول هذا الاختلاف العقائدى والفكرى وتتوقف نتيجته فى كثير من الأحيان على نوع الحوار وصدق المحاولة، لا مجرد ان يتكاتف الجميع – كل من جانب – على اعادة هذا الآبق الى حظيرة المجموع بقوة النصح، وحتم القولبة، وفى احدى مراحل المحاولة (لإعادة أبق) يقع العبء الأكبر على الطبيب النفسي، الذى يقع حتما فى مأزق شديد، فهو يشم رائحة الخطر، وفى نفس الوقت لا يملك ان يتهم مثل هذا الانسان (المفكر) بالجنون، كما أنه لا يملك ان يتدخل فى حريته بالقانون لمجرد الاختلاف الفكري، او العناد الفردى (وإلا لوضعنا نصف مليون فصامى فى مصر وراء الأسوار – الاحصائية العالمية لتواتر الانفصام هى (واحد) 1 % من السكان – وكذلك مليون ونصف آخرون ممن يشتبه فى فصاميتهم – غير الأمراض الأخري) هذا امر غير مطروح بداهة، ويزداد مأزق الطبيب النفسى حين يحاول الأهل ان يستعملوه بطريقتهم، وهم يرفضون فى نفس الوقت ان يعتبروا ابنهم – بعيد الشر – مريضا اصلا، فيطلبون من الطبيب – بكل حسن النية – ألا يأخذ المسألة جدا، وقد يشفق الطبيب طيب القلب عليهم فيقبل ان يتخفى تحت صفة صديق (وهو كذلك) أو زميل، وهنا يحرم نفسه من فاعلية ميزته كعالم متخصص، وحرفى ماهر، بل وقاض موضوعى للصراع الفكرى المحتد علانية أو خفية، ثم ان مثل هذا المريض يهدد الطبيب نفسه – كأنسان له معتقده الخاص، بما يلقى فى وعيه من افكار مخالفة متحدية، ما يضطر الطبيب ‘يدرى أولايدري’ ان يدافع عن نفسه وتوازنه شخصيا، فيصبح – بذلك ممثلا للسلطة، لا قاضيا عادلا، فيزداد المريض عنادا وتوجسا، ثم شذوذا وانسحابا – ثم ..
وهنا يظهر الدور العظيم الذى يمكن ان تؤديه العقاقير النفسية الأحدث لو احسن استعمالها، وعلى الرغم من موقفى الشخصى المتحفظ ضد فرط استعمال العقاقير النفسية، او طول استعمالها ‘احيانا مدى الحياة’ الا اننى شديد الحماس لاستعمال بعضها بخاصة فى مثل هذه الأحوال، بأيد خبيرة، ولفترة محدودة، وذلك حين يتيقن الطبيب ان المسألة ليست مجرد اختلاف فكر، وانما هى تنشيط غرائز بدائية ليست ثوب افكار شبه ثورية وهنا تنشأ مشكلة جديدة فمثل هذا المريض لا يعترف اصلا بشذوذه، فكيف سيتعاطى عقاقير مثل المجانين (على حد خوفه) وعادة ما يوافقه الأهل على ذلك، فيتراجع الطبيب بمنتهى حسن النية ثم ..، ونفقد جميعا (ويفقد القاتل وأخته معنا) والدين من أكرم وأنبل وأنفع المواطنين البررة.
الكارثة الاكبر: ولابد ان نعتبر ان الأمر شديد الصعوبة، وانه بالرغم من ندرة هذه المضاعفات وبالرغم من كل الاحتياطات الممكنة، فان سقوط مثل هؤلاء الشهداء وارد باعتبار ان اى معركة لها ضحايا حتما، صحيح ان ثمة امكانية للاقلال من عدد المستشهدين كما سنوضح، ولكن لا ينبغى ن تقفز الى عقولنا، بانفعال بدائى … ان مزيدا من القهر لازم دائما، بل لعل العكس يكون اقرب الى الصواب فالكارثة الأكبر هى ان ينتهز كل فريق الفرصة، رغم عظم الفجيعة وفداحة الألم، ليروج لأفكاره الخاصة فيعمم الأحكام ويرفع الشعارات، فالقائل – ببساطة – ان القتل حدث نتيجة الإلحاد او الوجودية، ينسى تماما ان قتلا مماثلا قد حدث نتيجة فرط التدين (مقتل المرحوم الشيخ الذهبي) وهنا لابد ان اؤكد ان الأمانة العقلية، والمنطق العلمي، وعمق الايمان الصادق، لابد وان يرتفع بنا فوق هذه الانتهازية الفكرية التى نحاول ان نؤكد بها لأنفسنا قبل غيرنا صحة أفكارنا، فهذه الترابطات الانتهازية هى من اخطر الزلات العقلية لمجتمع يفكر بانفعالاته عقب حادث المنصة.
فكم ملحد فى عالم الغرب مثلا هو أبعد عن القتل من متدين متعصب (خاصة اذا حكم) – وهذه الشهادة الموضوعية ليست دفاعا عن الالحاد اصلا – وهى مرحلة محتملة عند كل شاب – ولكنها ابراء لذمته امام الله والناس، فالله تعالى يأبى ان نستغفل الناس ونلوى الحقائق ترويجا لإيمان سطحى وكأن الايمان بالله سلعة كاسدة تحتاج لمثل هذه الدعاية الجوفاء، مع ان التوجه الى وجهه ايمانا واحتسابا هوقمة حرية الفكر وجوهر نبض الوجود المتناسق، حتى لو مر الكادح الى وجهه بمثل هذه المآزق الصعبة.
… والمستقبل: – اذن، فهذا الحادث، ومثله، ينبهنا الى اننا نمارس اقل قدر من الحوار، واخطر نوع من التربية، ولا اعنى بالحوار ذلك النقاش الموجه مسبقا، انما اعنى تبادل الرأى الحقيقى الذى يكون فيه المحاور مستعدا بأمانة مطلقة ان يتبنى وجهة نظر الآخر ولو لحظة، وان يضع احتمال انه قد يغير رأيه من خلال احترام رأى الآخر، نعم، الحوار الحقيقى هو الذى ندعو فى اوله واخره ان ‘هدانا الله واياكم’، ندعوها بصدق، لا مجاملة او زينة، بما يحمل معنى اننا ربما نكون ابعد عن الحقيقة من محاورنا ‘الآخر’، واننا من خلال الامانة العقلية سوف نقترب كلانا من الحقيقة، فليهدنا الله اليها، واياكم والطبيب النفسي، فى موقف المحاور، يجد نفسه فى مأزق لا يحسد عليه، اذا هو يعتبر من وجهة نظر الأهل والمجتمع من دعائم التكييف والتشكل لصالح الأغلبية، ومن ناحية اخرى هو انسان له فكره الخاص وعقيدته وتوجهه، ومن ناحية ثالثة هو امل المريض فى ان يحسن الاستماع ويصدق الحكم، وما لم يستطع الطبيب ان يستوعب – بصدق داخلى مطلق – الشيء.. وضده، الأهل والولد التدين التقليدى وعكسه، الوجودية والهيجلية، السنة والحلاجية، فانه سيجد نفسه مضطرا الى الهرب من الموقف بالتخلى اما باتهام هؤلاء المفكرين البائسين بالسلامة والسواء، واما بالاندفاع الى القمع بالقهر الكيميائى (أو الحجز الجسدي) طول الوقت، لكل فكر مخالف، دون تمييز، وكلا الموقفين خاطيء وخطير.