نشرت فى روزاليوسف
16-9-2005
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل:
برغم أنك تقرأ هذا الكلام بعينيك، وتقلب الصفحة بيديك، كما تغلق التليفزيون بأصابعك على الريموت أو مباشرة، ثم تذهب إلى الحمام سائرا على قدميك، لتعود عليهما، ثم تستلقى و تتمطى قبل أن تنام، أو تلقى بجسدك على السرير فيتقلب منك أو لا يتقلب، حتى تستغرق فى النوم، برغم كل ذلك فأنت – مثلى غالبا- ليس عندك خبر أن لك جسدا، بما هو كما هو، مع أنك أنت شخصيا – مثلى أيضا- لستّ إلا جسدك. تصور؟!
لا يمكن أن تتعرف على جسدك بحق من خلال رأى عقلك فيه، أو تصوير عقلك له. مع أن الجسد له أولوية فى الوجود، وكذلك عبر تاريخ التطور. كانت الكائنات الأولية تفكر بجسدها، وتحفظ بقاءها بجسدها، وتحافظ على نوعها بجسدها، وتمارس مشاعرها بجسدها، كل ذلك قبل أن يتخلق لها دماغ (مخ) .
جسدك ليس فى حاجة إلى توصية من عقلك المحترم حتى تعترف به.
كيف السبيل لنتعرف معا على ما نسيناه حتى ألغيناه؟
بالنسبة لما نحاوله معا هنا والآن، للأسف ليس هناك سبيل إليك، إلينا، إلا من خلال عقلك الذى تقرأ به هذا الكلام. أليست القراءة هى وظيفة عقلية حتى لو كانت تمر من خلال عضو إحساس رائع، هو “العين” التى لم نعد نستعملها إلا مَعْـبرَاً لما يتجاوزها؟ ومع ذلك دعنا نحاول:
هل تعرف أن لك جسدا (ولا مؤاخذة) ؟
أولا: ماذا فعلنا بأجسادنا حتى تاريخه؟
ماذا طرأ على مفهوم الجسد عند الإنسان المعاصر؟ وبالتالى ماذا طرأ على ما هو جسد؟ عند أغلبنا ؟. لقد انتهى الأمر بنا وبأجسادنا إلى اغتراب منذر. (برجاء عدم التعميم).
لا نريد أن نطيل فى التنظير المبدئى قبل أن نعرض للنصوص الملهِمة، نقرأها سويا قراءة نقدية كما اعتدنا، لكن الأمر يحتاج إلى النظر فيما آل إليه الحال كالتالى:
(1) تم إهمال الجسد، أو تهميشة، لحساب ما يسمى العقل، فنحن نعرف أجسادنا من خلال ما شاع عنها فى كلامنا وأحكامنا، أكثر مما نعرفها من خلال ما يصلنا منها مباشرة، اللهم إلا فى حالات المرض (أو توهم المرض الجسدى:المُـراقHypochondriasis )، وبعض حالات الجنون، وأحيانا الإبداع حتى لا نظلم الجميع.
(2) تم احتقار الجسد، أو ازدرائه، لحساب ما يسمى الروح. ومع أن الروح من أمر ربى، فالأفضل ألا نفتى فيها، فإنه ما أسهل على أى واحد لا يعرف جوهر دينه أن يضعها استقطابا على أقصى الناحية الأخرى من الجسد، يحدث هذا فى التدين المنغلق المنشق، كما يحدث حتى فى بعض أنواع العلاجات تحت مسمى “الروحانية”، فيصل هذا الاستقطاب بين الروح والجسد، وكأنهما نقيضان، إلى الشخص العادى ليسود الحديث عن طهارة الروح، وعشق الروح الذى ليس له آخر، “لكن عشق الجسد فانى، عشق الجسد فانى!!”
(3) يصل الأمر إلى أن نعامل الجسد كمجرد أداة، أو وسيلة لغيره ، ومن ذلك:
- أن نقصر دوره على أن يكون وعاء ثم مطبخا لطحن الطعام وهضمه وأيـْضِـهْ، (تمثيله الغذائى)ليمدنا بالطاقة، وأحيانا نبنى من خلال ذلك بعض وحدات من الخلايا البديلة نعوّض بها ما تلف منا.
- كما قد نستعمل الجسد أداة للمتعة بما يحقق لنا ما تيسر منلذة أو يطفئ ما أثير من شبق.
- كذلك قد يستخدم الجسد معرضا للممتلكات حين نضع عليه ما نملك من إكسسوارات لزوم رموز الطبقة للإعلان على أننا نمتلك من المال ما يمكن الاستغناء عنه ووضعه على رف الجسدللإعلان والتنويه .
- ثم إنه كثيرا ما يستعمل الجسد كلوحة تتلقى عبث الوشم المؤقت، أو الدائم، كلافتة تعلن عن هوية صاحبه أو رغباته أو احتياجاته أو حتى موقفه السياسى أو المذهبى أو الدينى.
- وأيضا: راح أهل السوق والشطارة يستغلون أجسادنا كمجال ومرتع لتسويق بضائعهم، سواء كان جسدنا يحتاجهذه البضائع أم لا.
- وقد يبدأ استعمال الجسد لما ليس له منذ الطفولة، كأداة للتنافس المسعور، وذلك مثلما يحدث حين يعدّ الأهل بناتهن ليصبحن أبطالا فى ألعاب القوى، فتظل الطفلة فالفتاة فالبطلة تقوم بتدريباتها سنين عددا لتكسر الرقم القياسى، أو تفوز على منافستها بواحد على ستة عشر من الثانية (أى والله!!) ، والأكثر قسوة أننا نفرح بذلك ونصفق لها وهى طائرة فى الهواء، أو سابحة فوق الحاجز !!!
(4) مع زيادة الاهتمام بالصحة الجسمية والوقاية من الأمراض والتلوث والمخاطر ينقلب تعاملنا مع الجسد إلى اعتباره سلعة لها ظروف تأمين خاصة، حتى نكاد نوصى أن نمسكها من الناحية التى بها أسهم إلى أعلى لأنها تحتوى محتويات قابلة للكسر، ونظل نتبارى فى إطالة عمرها الافتراضى، بغض النظر عما تعنيه أو تحتوية هذه السلعة، وبغض النظر عما ستقوم به فى السنوات التى طالت بفضل حرصنا على سلامتها.
خامسا: فى العلم، والطب، والتطييب ، يتم اختزال الجسد – عادة – إلى وحداته الأولية، باعتباره خلايا ومشتبكات، ترسل رسائلها إلى أعضاء وعضلات، ليصدر عنها سلوك وحركات ….إلخ
وبعد
إن الجسد هو كيان متكامل بكل وحداته، بما فى ذلك الدماغ/المخ، ، وفى نفس الوقت فإن له تجلياته التى لها استقلالها من حيث المبدأ، لكنها تصب فى حركية التكامل مع تجليات مكونات الوجود الأخرى.
ليس من حق العقل أن يصيغ الجسد رمزا مجردا. للجسد حضوره كوعى قائم بذاته.
نحن نحتاج إلى منهج حياة آخر بسمح لجسدنا بالحضور من جديدا وعيا فاعلا متكاملا يعرف وينبض ويضيف. نحن لا ندعوك بسذاجة عقلية أن تعترف أن لك جسدا، أو أن تعى ذلك بقدر من الاحترام والاهتمام، ثم إننا لا نقصد التركيز على الجسد، أو الانقلاب إليه ، ثم إن الزعم بأن الجسد هو أحد مجالات “تجليات الوعى” لا يعدو أن يكون شكلا آخر من وضع الجسد فى موضع ثانوى.
نعم. إن استعادة دور الجسد لا تتم ونحن جلوس على المكاتب نمارس تجريده بالألفاظ، ولا هى تتحقق بتدريبات الوعى به، ولا بدراسة وحداته كل على حدة. لا مفر من إعطائه حق الحضور ممارسا مشاركا بأعلى تجليات الحوار والإبداع. الرياضة البدنية – برغم أهميتها- ليست هى المقصودة بذلك، خذ مثلا: رياضة “واحد اتنين”،” واحد اتنين”،هذه رياضة ليس لها علاقة بالجسد بالمعنى الذى نقدمه، أو خذ الرياضة المسماة كمال الأجسام أو رفع الأثقال كلاهما أبعد ما تكونان عن الجسد الوعى. (أشرنا فيما سبق إلى ألعاب القوى..)
إن الجسد يحضر متناغما أكثر من خلال الحب والعمل الجسدى/اليدوى الفاعل، يتم فى مساحة مكانية يتحرر فيها الجسد من الاحتقان والاختناق. ثم إنه بالتواصل الحسى والجنسى على مستوياته المختلفة، يمكن أن تجرى الأجساد حوارا أعمق بعيدا عن وصاية عقل القابع أعلى الهامة، حوارا يتجاوز اللذة وهو يشتملها، وهو لا يتوقف عندها ولا يلغيها.
وأخيرا فإنه بالإيمان الجسدى الكلى، مرورا بالطبيعة إلى الكون المفتوح النهاية، يمكن أن ينطلق الجسد الوعى الممتد إلى ما بعده ليتأكد به. (أنظر “خامسا”: استلهام الوعى الدينى).
وحتى اختفاء الجسد الفرد بالموت، لاينهى دور هذا الجسد، فثم فرض يقول: إن الجسد وهو يرحل، وقبل أن يرحل، يترك بصمته الحيوية فى أجساد آخرين، كما قد يتركها فى أنغام الكون، الأمر الذى قد يكون مدخلا لتفسير كثير من الظواهر الفيزيقية، وربما الميتافيزيقية “الأرواح”.
إسهامات العلم – فى حدوده الحالية – لاستعادة دور الجسد والتعرف على حقيقة ما آل إليه ليست قليلة، خصوصا الاجتهادات الأحدث لإسهامات العلم المعرفى، والعلم المعرفى العصبى، وبعض الهندسة الوراثية، وعلم النفس الثقافى، والطب النفسى التطورى، وكلها إسهامات رائعة لكنها متواضعة لاتكفى،
أما إسهامات الآداب والفنون فهى شديدة العمق رائعة الدلالة، وهاكم بعض ذلك:
ثانيا: عودة إلى أصداء محفوظ
النص: الفقرة 112: (أجلتُ العنوان قصدا)
” فوق السطح وقفا يتناجيان، هو أطول قامة وهى أجمل وجها، أما أنا فألعب بالطوق مرة، ثم أراقبهما ولا أفهم. ويغيبان فى حجرة السطح قليلا ثم يرجعان فأعود إلى استراق النظر بمزيد من الحيرة. وجاء الإدراك متعثرا من خلال الأعوام الحامية”.
القراءة:
هل لاحظت وظيفة النظر وهو يتبادل ويتكامل مع الحركة، وطفلنا محفوظ يتحسس الطريق إلى التعرف على الطبيعة البشرية بشكل مباشر؟ هل لاحظت التنقل ما بين اللعب بالطوق واستراق النظر إلى الحبيبن حتى التقط طفلنا بتلقائية عفوية تلك الفروق المميزة لهما وفيما يبنهما، دون أن يسجنه الفهم (ثم أراقبهما ولا أفهم)؟ هل يلهمك ذلك أن تراجع كيف يتعلم الواحد منا الجنس؟ هل نتعلمه بالدروس!!؟ أم بالشرح النظرى؟، أم بالنمو التلقائى؟ أم بالتقليد؟ أم بالممارسة؟ أم بالكشف؟ أم بكل هذا وغيره مما لا نعرف؟.
يعرض محفوظ هنا منظرا عاديا يتعلم الطفل منه معنى الغرام، حالة كونه طفلا يلعب بالطوق. إذا طلبت منك الآن أن تسمى هذه الفقرة بعد أن أخفيتُ اسمها عنك قصدا، فـبـمّ تسميها بالله عليك؟ ثم قبل محاولة تسميتها: هل لاحظت نهايتها التى تربط بين هذه الخبرة الحسية المعلوماتية المباشرة، وبين الإدراك التالى الذى جاء متعثرا مع الأعوام الحامية (؟؟).
العنوان الذى عنون به محفوظ هذه الفقرة لا بد أن يدهشك ويعلّمك كما أدهشنى ونبّهنى كان العنوان يقول: ” ذكاء الجسد“. تصور؟ وهل يحتاج الأمر إلى مزيد من تعليق؟
يكفى هذا لننتقل إلى فقرة أصداء أخرى عنوانها يبدو لأول وهلة أبعد ما يكون عن “ذكاء الجسد”. حين تقرأ عنوان فقرة رقم 116 فى الأصداء بعنوان “سيدتى الحقيقة“، ماذا تتوقع قبل أن تقرأ متن الفقرة؟ ولأزيد الأمر عليك صعوبة وإلغازا، لتكتمل الفزورة، سوف أقول لك كيف انتهت هذه الفقرة وهى تقول: “نِعْـمَ الرفيق الشغف والمنازل “. ثم خذ عندك البداية أيضا لعلها تسعفك (بينى وبينك أنا أصعّبها عليك أكثر)، تقول البداية: “عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة”.
إذن فنحن عندنا حقيقة، لها منازل، يمكن التعرف عليها فى عصر الفطرة، لننتهى أنه “نعم الرفيق الشغف والمنازل”. تصور ما شئت، ويا حبذا لو توقفت عن إكمال ما تقرأ، (عُـدْْ إلينا “بعد الفاصل” !!) لنقرأ معا ما بين تلك البداية وهذ النهاية تحت ذلك العنوان: هكذا:
الفقرة 116 سيدتى الحقيقة
“”عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة. عندما تقرفص المرأة أمام طشت الغسيل أقرفص قبالتها فتلعب يدى فى الماء وتسترق عيناى النظر. عندما ألهو فوق السطح فى الليالى البدرية أمد يدى فى الفضاء لأقبض على وجه القمر. عندما نزور القبر فى المواسم أركز عينى على جداره لأرى.
نعم الرفيق الشغف والمنازل.”
هل كنت تتصور أن يبدأ التعرف على الحقيقة فى عصر الفطرة، من قرفصة طفل يسترق النظر إلى حقيقة الجسد والفخذان منفرجان حول طشت الغسيل، ثم ينتقل إلى استراق الخيال وهو يمد يده يقبض على وجه القمر، ثم ها هو يهم باقتحام جدار القبر أثناء زيارات المواسم وهو يكاد يخترقه بنظراته ليتعرف على حقيقة ماوراءه، هل واكبتنى ومحفوظ يأَرجحنا لنعرف الحقيقة ونحن نترجّح بين بؤرة جسد امرأة، وحضور وجه القمر، ومحاولة استكشاف معنى آخر للموت، لتنتهى القصيدة بهذه الحركة النابضة: “نِعْمَ الرفيق الشغف والمنازل”
تقدم لنا هذه الفقرة ذكاًء آخر لا يقتصر على ذكاء الجسد، وإنما تتكامل به وسائل المعرفة بالانتقال النشط بين العارى الفج، والخيال الحى، على أرض واقع الوعى اليقظ، المرتبط برفيق لم يظهر، ومنازل لم تتحدد. هل هذه المنازل هى متدرج الوعى النامى، أم متعدد الخبرات اللاحقة، ولكن كيف يكون الرفيق هو الشغف برقته وجماله، ولماذا عَطَفَهُ محفوظ على المنازل؟ المسألة لا تحتاج إلى الرجوع إلى المعاجم، وإنما تحتاج إلى إعادة قراءة الفقرة وتركيزك على الحركة، والرؤية، والإدراك، و”الجسد الوعى”، لتتأكد بوعى جسدك بدورك أنه: “نعم الرفيق الشغف والمنازل”.
ثالثا: نص من خالدة سعيد
فى نقد أنسى الحاج : “حركية الإبداع” دار العودة، بيروت 1979
ص 65
” … تراجع أنسى الحاج ، انسحب من العالم الخارجى المضىء اللامع الثابت المستقر، إلى عتمات الجسد حيث التشوش الفظيع فجأة لكل نظام، حيث النظام المؤسس للانهيار. ضمن حدود الجلد أدرك وحدته، وأنه، حتى حلفه مع جسده باطل ومتداع، وأن جسده مفكك وخائن لبعضه البعض الآخر.
فى عالمه الداخلى ذاك، بدا شعوره المتضخم بجسده، ففى قصيدة “فقاعة الأصل” تبدو “شارلوت” ذات شخصية مستقلة لها سلوكها، واتجاه حياتها، تبدو عدوا للشاعر، حتى قد يلتبس الأمر على القارئ المتسرع ويحسبها امرأة. شارلوت، هذه الشخصية الغريبة، هى ما تنسله الإصبع فى منتهاها قبل بداية الظفر”. شارلوت هذه “تخطت القافلة كشافة تتجسس”. إذن فأجزاء جسده تستعد للسفر، للتخلى عنه، وها هى تنذره “إن العقد سينفرط، إننا متخلون عنك، إنك مبدد شر تبدد”، إذن جسده الذى حسبه حليفه الوحيد سينفرط و “ينسل نسلة نسلة حتى يبدو لحمه العارى، ثم ينهار لحمه العارى ويسفر عن عظامه، ثم تلقى عظامه فى الليل”، وما تلك النسلة إلا “علامة”….
القراءة
قبل أن أدعوك لقراءة هذا النقد معنا، أرجو أن تنظر إلى أحد أصابع يديك، وأن تركز على تلك المساحة التى ركز عليها شعر أنسى الحاج، أو هو شخصيا، وهو يتعرف عليها،المساحة التى بين نهاية الإصبع وبداية الظفر، هل ترى شيئا ؟ هل ترى نسلة صغيرة من لحم عار؟ الإجابة هى بالنفى على الأرجح (لقد رأيتها أنا شخصيا الآن). أنس الحاج شاعر قصيدة النثر، حكايته مع الشعر والجنون والسرطان تحتاج إلى تفصيل آخر، لكن الذى يهمنا هنا فى نقد خالدة سعيد هو ما التقطته من رؤية الجسد يتحلل، ثم وهو يحضر بتحلله فى وعى الشاعر، ثم تتبدى استقلاليته فى ما أسمته الناقدة “عتمات الجسد” حيث التشوش الفظيع فجأة لكل نظام. هذا التناهى فى التركيز على تفسخ الجسد وتناثره، يكاد يقابل التناثر الفصامى الذى يفكك كل شىء عن كل شىء، والذى يصيب الفكر بقدر ما يصيب الوعى، هو التفسخ الذى يقابل هنا تحلل الجسد هكذا فى رؤية أنسى الحاج شعرا، وليس جنونا وانسحابا بعد. إن أنسى الحاج يعرف جنونه بوجه خاص هو يقرنه بالحرية. هو الذى يقول: إما الاختناق أوالجنون، بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كى يسمع”، الجنون هو الوصمة التى يحملها من اختار أن يكون حرا، أن يتحرر من عبودية المفاهيم المعممة والسلوك المألوف والضياع بين الأرقام…” وأيضا كما تقول الناقدة عنه: “فى الجنون لا قوالب، لا نسب للجمهور، اللعنة حرية العذاب الداخلى .. فى السقوط حرية الفوضى، حرية التوغل فى الجسد” فتلاحظ أن التوغل فى الجسد زاده تمزقا ولم يجمعه وعياً.
ما العلاقة بين هذا التفسخ الذى حضر فى الوعى/الجسد بهذه الصورة الشعربة فالنقد، وبين اغترابنا نحن العاديون عن أجسادنا؟ إن ما يصفه أنسى الحاج وتلتقطه خالد سعيد بهذه الصورة المرعبة، إنما يذكرنا كيف أنا نعيش فى سجن صنعناه من أجسادنا المخمَّدة المغتربة، فلا نحن تحررنا من سجنها، ولا هى تحررت فأعفتنا أوهامنا المعقلنة، فيزيد الضغط والاحتقان. الجسد المغترب المهمش المستعمل من الظاهر يصبح سجنا جاثما ليس على الحركة والنمو فحسب، بل على نفسه أيضا. يمكن للإبداع أن يحتوى هذا التناثر كما ظهر لنا فى شعر أنسى الحاج، الذى استطاع أن يرصد تحلل جسده بفضل شاعريته حتى ضبط تلك النسلة بين الإصبع والظفر، وأسماها “شارلوت” وحادثها واستنطقها وغاص حتى النخاع فى تفاصيلها. نتعلم من هذا الشعر كيف تتناثر أسوار الجسد السجن فى ثورة التحرر سواء أدت إلى الشعر أو الجنون.
لم يبق أمامنا إلا أن نستشهد بقصيدة موازية لم تنشر تصف مرحلة باكرة نسبيا قبل هذا التفسخ الذى وصل إلى درجة التناثر الجسدى كما لاحظنا، مرحلة يستقل فيها الجسد كله أو بعضه وتختلط معالمه ، إعلانا عن حركية ثورة مهددة بالإجهاض فى الجنون
رابعا: قصيدة الخطوات
-1-
النجدهْ!
إياكم والنجدهْ!!
….
السوطُ، السوطُُ، السردابْْْ.
المسمارُ، الثقبُ البابْ .
الوجهُ قفاىْ.
-2-
وملامح وجهى تشويهٌ فاقعْْْ
والقلبُ المهزوُم يئـِنُّ بحشرجةٍ ثْكلى،
وَحروف الكلمات بتجويف الفمْ،
تَأْبَى أن تَنْعى اللَّفْظَ الميِّت
-3-
تقفز منى الخطواتْْ؛
ألاحِقُهَا.
ألحقـُهَا،
لا ألحقـُها.
الأرجلُ مقطوعهْ،
والسيقان بلا أعينْ،
آثار الأقدام تشير إلى طرقٍ شتَّى،
فأسير بكل منها شوطاً.
-4-
والوجْهُُ الأْملسُ،
والذَّنَبُ المقطوعْْ.
وجنينُُ الوعىِ المجهضِ،
يلفظُُ أنفاسَهْ.
والألفاظُُ الأطفالْ،
…لا جدْوَى.
غُصَّتْ صفحاتُ شروحِ المُعْجَمْ.
عندى رغبة ألا أقرأ هذا النص ناقدا لأدعه يكمل الموضوع بما هو بلا زيادة أو وصاية. كما أدعو القارئ إلى أن يرى هو بنفسه ما يتراءى له، لعلنا نأتنس .
خامسا: استلهام من نص دينى
اتفقنا- دون إعلان محدد- أن النصوص الصوفية والنبوية والإلهية ليست نصوصا للنقد، ولا حتى للتفسير، إنها مصدر إلهام متجدد، لذلك وجب التنويه فى كل مرة دون كلل.
جاء فى معنى الحديث الشريف وصفا لصهيب، بعد أن أنكره الحاضرون، ووصفوه بأنه : “إذا حضر لم يُستَـشرْ، وإن غاب لم يُسأل عنه”، إلخ ، جاء النص النبوى الشريف يرد لصهيب حقه يما معناه :
النص: “… صهيبُ مؤمن نسى، إذا ذكّر ذكر،
خلط الإيمان بلحمه ودمه،
ليس للنار فيه نصيب”
من يقرأ هذا الوصف الشريف قد ينتبه إلى آخره دون أوله، وهو قد ينتبه أكثر وهو فرح كيف أن صهيب ليس للنار فيه نصيب ، لكننى انتبهت أكثر إلى أنه “نسى”، صهيب مؤمن نسى، وأنه “إذا ذكر ذكر”، ثم إنه “خلط الإيمان بلحمه ودمه”.
الذاكرة التى تـُدرس وتوصف وكأنها كتاب به معلومات مرصودة، وغلاف محكم، ومكان على أحد أرفف المخ، ليست هى الذاكرة الحقيقية الأشمل التى تمثلها ذاكرة الجسد، ذاكرة الجسد كله شاملا المخ تكون فيها كل خلية بلا استثناء ممثلة لسائر الوجود، هذه الذاكرة تصبح أكثر فاعلية حين لا تعود ذاكرة، إذْ تصبح جزءاً لا يتجزأ من وعىٍ مشتمل. صُهيبُ هذا نسى نسياناً بمعنى التمثل، وليس بمعنى التخزين المغلق، أو التآكل أو الكبت، ومن هنا نفهم –استلهاما- كيف أن صهيبا حين نسى ازداد معرفة، بمعنى أن هذا النسيان ليس محوا أصلا، إنه استيعاب تام للمعرفة المدخلة بحيث تصبح غير قابلة للاستعادة كما هى، لكنها قادرة أن تتخلق منها الخبرة الموازية عند الطلب، هذا هو المعنى الذىاستلهمته من أن صهيب “إذا ذُكِّر ذَكَر”. هذا التذكر ليس إحضار معلومة من مخزن، لكنه إحياء فطرة كامنة تم تدعيم تشكيلها حتى تخلَّقَتْ بالإيمان المتجدد، من هنا لا يمكن أن يكون للنار فيها نصيب، فالنار لا تلتهم إلا النيازك الساقطة بعيدا عن هارمونية الكون والجسد. المسألة إذن ليست مسألة اعتقاد فكرى محدد، الأمر الذى قد يلزم لضمان جدية المسار، لكن المسألة الإيمانية الأعمق التى تتأكد من هذا النص هى النجاح فى “خلط الإيمان باللحم والدم” حتى يلتقى جمال الفطرة بجمال الكون فى رحاب الحق سبحانه وتعالى، هذاهو ما يمثل لقاء الوعى الجسدى الفردى بالوعى الكونى الممتد، وهو الذى لا يسمح بالنيازك أن تتساقط، حتى لو حاول عقل صاحبها أن يفرض وصايته على كل ذلك.
وبعد
إن الدعوة المطروحة ليست دعوة للاعتراف بالجسد، وإنما هى دعوة أكثر لإعادة التعرف عليه من جديد، أولا بالتوقف عن نفيه وتهميشه، وثانيا بتعديل ما أمكن من سلوكنا العادى لعلنا نستعيد التعود على الإنصات للغته، واحترام حواره مع جسد آخر، ليس باعتباره ذنبا أو لذة، وإنما باعتبار ذلك أقدر على التعبير الأعمق والأبقى والأكثر إبداعا، أى إيمانا.