نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد:14-2-2016
السنة التاسعة
العدد: 3089
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (34)
الطبنفسى التطورى الإيقاعْحيوى (3)
مقدمة
قدمت أمس بعَض نقط الاتفاق بين الطب النفسى التطورى (التقليدى)(1) والطبنفسى الإيقاعحيوى، وفاتنى أن أذكر أن الطب النفسى فى النوعين أقرب إلى مفهوم الطب تاريخيا وشعبيا، وأن كليهما يتعامل مع المريض بأساليب حدْسية إدراكية كلية غالبا من خلال حركية الوعى البينشخصى والجمعى، جنبا إلى جنب مع استيعابه واستعادته كثيرا من المعلومات العلمية المتاحة، وأن الفكرة المحورية عند كل منهما هى ترجيح كفة الحياة كما خلقها الله وتعديل انحرافات مسارها بما يمارس من فهم ومشاركة ومواكبة ما أمكن ذلك، كإسهام متواضع لتراكم إيجابية الصراع ضد الانقراض.
وقد أنهيت النشرة أمس بوعد بعرض الاختلافات بين هذين النوعين وهى كثيرة وجوهرية، وحين هممت بذلك وجدتنى أمام صعوبة أساسية أود عرضها أولا:
إن معلوماتى عن الطبنفسى التطورى التقليدى محدودة، وخاصة فى جانب التطبيق العملى العلاجى، وأن اعتمادى على كتاب ستيفن وبرايس ”(2)”– مع أنه مرجع أساسى-ليس كافيا، وقد خشيت أن انتظر حتى استكمل معارفى فتضيع منى فرصة تقديم الطبنفسى الايقاعحيوى بعد طول انتظار، علما بأنه تطبيقى أكثر منه تنظيرى، وهو الذى أمارسه – تقريبا- منذ أربعين عاما مستعملا كل وسائل العلاج المتاحة لى معتمدا على فروضى التى تتحقق تدريجيا باستمرار.
لكل ذلك أرجو أن يكون ما أقدمه هنا هو مجرد إشارات للفروق بين النوعين، أما تفاصيل هذه الفروق وتطبيقاتها فسوف تأتى فى الفصول القادمة بدرجة أكثر إحاطة، لذلك سوف ألحق بكل الفقرات الخاصة بالطبنفسى الإيقاعحيوى تعبير (أنظر بعد.
بعض الفروق الأسياسية:
(1) الطبنفسى التطورى يقبل الخطوط العامة للقانون الحيوى (نظرية الاستعادة: إرنست هيكل) فهو يكاد يقتصر على أن “الأنتوجينى تعيد الفيلوجينى”(3)
- أما الطبنفسى الإيقاعحيوى(4) فهو ينطلق من هذا القانون – قياسا – إلى أبعاد أصغر فأصغر، فى أزمنة ونبض أقل فأقل حتى يصل إلى المغامرة باعتبار أن “الميكروجينى” وهو أصغر نبضة استعادة قد تصل وحدات زمنها إلى أجزاء الثوانى، على أن هذا التمادى فى تطبيقات القانون الحيوى “هنا والآن”، يجعل التشبيه الذى أورده ستيفن أبعد حتى عن مجرد التصور إذ كيف تحضر كل الأحياء إلى حجرة الكشف، ثم نأمل فى ترتيب أدوارها – بالعلاج- كما قال ستيفن فى تشبيهه لمدرب فريق كرة القدم وهو يقسم الأدوار ويشحذ المهارات ليؤدى كل دوره فى موقعه لصالح الفريق كله، وعلى ذلك لابد من وضع فروض أشمل تتعلق بحركية الوعى العلاجى للقيام بهذه المهمة بعملية نقدية إبداعية مشاركة مع الأخذ فى الاعتبار. حالة كون المخ يعيد بناء نفسه وذلك بتطبيق كل الفروض النابعة من هذا المنظور. (أنظر بعد)
(2) الطبنفسى التطورى يبدأ من استلهام اساسيات برامج التطور عبر ملايين السنين أو بلايين السنين، لفهم معنى الأعراض والمرض، ووظيفتها، ومن ثم إعادة توجيه المسار.
- أما الطبنفسى الإيقاعحيوى فهو يبدأ من الممارسة الإكلينيكية “هنا والآن”، فهو يمارس التعرف على المريض ليس من لافتة تشخيصه أساسا، وإنما من خلال الإمراضية التركيبية الدالة على نشاطات مستويات المخ المتصاعدة الممثلة لتطور كل من الفيولوجينى والإنتوجينى، وذلك بعد أن أصبحت غير متآلفة فى واحدية تحقق توازن الوجود، وتدفع عجلة النمو إلى ما تعد به، وهو فى ذلك يستعين بعلامات وأعراض محددة نابعة من معنى الأعراض، وطبيعتها ووظيفتها وآثارها من خلال تحديد مستوى الوعى (المخ) الناشز المُغِير أو الساحب المحتج فى علاقة وثيقة بمواقع النمو (الانتوجينى) التى يقرأها ابتداءً من خلال إسهامات وفروض مدرسة العلاقة بالموضوع (التى لم تزعم لها دورا تطوريا) (أنظر بعد).
(3) الطبنفسى التطورى يتعامل مع أمخاخ ثلاثة : المخ الحديث Neocortex والمخ الحوفى Limbic Brain والمخ الزواحفى Reptile Brain ، وقد حددها تشريحيا وفسيولوجيا، كما اقترح لها أدوارا متميزة فى مختلف الأعراض.
- أما الطب الإيقاعحيوى وهو يتعامل مع مواقع مستويات وعى (أمخاخ) ثلاثة أيضا، لكنها غير محددة تشريحيا بقدر ما هو مستنتجة غائيا وإمراضيا، ومتوازية مع فروض مدرسة العلاقة بالموضوع وهى مستوى المخ البدائى أحادى الوجود (الشيزيدى) والمخ الكرّفرّى (البارانوى التوجسى) والمخ العلاقاتى الجدلى (الاكتئابى)، الطب الإيقاعحيوى لا يكتفى بتفسير الأعراض بنشاط هذا المستوى دون ذلك وإنما بالغوص إلى العلاقات بينها وناتج ذلك (أنظر بعد).
(4) الطبنفسى التطورى يرصد الأعراض ويصنف الأمراض انطلاقا من برامج التطور فمثلا: هو يقسم الأمراض على هذا الأساس “إلى:” أمراض التعلق والترابط Disorders of attachment & Rank (مثل الاضطرابات الوجدانية والقلق) أو أمراض التباعد Spacing disorders (مثل البارنويا والفصام)….الخ.
- أما الطب الإيقاعحيوى فهو يبدأ من الإمراضية التركيبية بما فى ذلك اضطراب الإيقاعحيوى الآن ومدى نشاط النبض المرضى (السيكوباثوجونى) وطور هذا النشاط وحدّته، وآثاره الاندمالية إن وجدت، وذلك من خلال وضع فروض مستلهَمَة من الأعراض والمواقف والسمات التى استجدت، وكذلك رصد حركية التفكيك ومدى التعتعة وسلوكيات النكوص والدفاعات النشطة الفاشلة والناجحة، وكأن تعرى المريض الذهانى بالذات قد كشف عن التاريخ التطورى الآن، ثم إنه يقوم بتخطيط كل العلاجات على هذا الأساس، مهتما “بالتوقيت” و”التحريك الموازى لتطور العلاج”، وليس فقط بتصعيد أو تنقيص الجرعة لتسكين الأعراض، فهو يبدأ من رصد نبض دورات الانتوجينى وما طرأ عليها من ربكة وتشتت وإعادة ترتيب، ويدعمها بما تيسر من برامج التطور (الفيلوجينى)، آخذا فى الاعتبار الثقافة الخاصة والتاريخ الأسرى ، كل ذلك من خلال الحضور الإكلينيكى هنا والآن، بمعنى أنه يرصد تاريخ الأنتوجينى المتاح وما طرأ على دورات الإيقاعحيوى لكل المستويات من جسامة أو انحراف أو إغارة أو تفكيك إذْ يحدد مدى نشاط كل مخ، وهو يواكب حركية الأعراض والمريض بما يقابله لديه من خلال حركية الوعى البينشخصى مستعملا كل المتاح للعلاج، ليهدئ ما ثار مستقلا ناشزا، وينشط (بالتأهيل) مستوى الوعى (المخ) الذى يرجو أن يسلمه القيادة للعودة إلى الحركية الخلاّقة للمخ ككل لمواصلة إعادة بناء نفسه بالايقاعحيوى المتناسق المستمر (أنظر بعد).
(5) الطبنفسى التطورى لا يتكلم عن دور الوعى ومستوياته وحركيته وتصعيده وامتداده إلى المطلق ولا إلى المابعد.
- أما الطبنفسى الإيقاعحيوى فهو مرتبط بثقافة حركية الوعى البينشخصى فالوعى الجمعى فالوعى الجماعى فالوعى الكونى فالوعى المطلق إلى الغيب إليه، وكل هذا من واقع ثقافة الإدراك الأعمق وعلاقة الإنسان بأصله ابتداءً وبالكون امتدادا، وهى الثقافة الإيمانية الإبداعية التواصلية النابضة المسئولة ضمنا عن بزوغ هذه النظرية أساسا.
(6) الطبنفسى التطورى – فى حدود ما اطلعت – لا يشير إلى فروض محدده لترتيب وتنظيم وتغيير استعمال العقاقير المناسبة.
- فى حين أن الطبنفسى الإيقاعحيوى يضع فروضاً لفاعلية العقاقير، ويرتبها هيراركيا، بما يقابل هيراركية مستويات الوعى (الأمخاخ) التصعيدية، بحيث يمكن التحكم انتقائيا فى تثبيط نشاط المخ الأقدم فالأقدم، حتى يعود للتناسق مع المجموع، وبالتالى هو يسهم فى استعادة تناسق نبضات المخ حتى يعيد بناء نفسه فى مواكبة وعى المعالج وإبداعه ومهاراته النقدية، وعلى ذلك فإن الطبنفسى الإيقاعحيوى يمارس التدخل بالعقاقير بعد ضبط النشاط الزائد بطريقة التعرج (زجزاج Zigzig) حتى يعمل على استثاره وتنشيط المستويات المختلفة للمخ وبالتالى زيادة الفرصة أمام المخ لاستعادة بناء نفسه.
(7) الطبنفسى التطورى لم يشر – فى حدود علمى – إلى جلسات تنظيم إيقاع المخ (5)
ويبدو أنه لا يحبذ استعمال هذا العلاج تأثرا بسطحية نقده، مع أن هذا العلاج هو الأقرب إلى فكرة إحداث نبضة “ميكروجينية” محسوبة يمكن أن تعطى فرصة للمخ – بعد إعادة التأهيل وضبط تناسب النشاط – فرصة “إعادة تشغيل” قادرة على السماح بإعادة تنظيم المخ القادر على ذلك، ما دام قد اتيحت له الفرصة، الأمر الذى يتوقف على التوقيت والإعداد لإعادة التشغيل أكثر مما يتوقف على شدة المرض أو وصف الأعراض أنظر نشرة: (“صدمة بالكهرباء .. أم ضبط للإيقاع” عدد أبريل 1982 – مجلة الإنسان والتطور) و(نشرة 30-4-2008) والرد على تساؤل عن هذا العلاج فى باب استشارات مهنية (نشرة 29-6-2008).
وبعد
أشعر أن هذا إيجاز مخل ومع ذلك اضطررت إليه حتى لا نتعامل مع النوعين على أنهما واحد، لمجرد أنهما يحملان نفسم الاسم تقريبا.
عذرا
وأرجو أن نعود إلى تفصيل كل ذلك مع عرض الأمراض فالتطبيق العلاجى بصفة عامة وفى حالات بذاتها (حالات وأحوال).
ثم دعونى أختم النشرة بهذا الشكل المتحدّى الذى سبق نشره فى سياق آخر، والذى يعتبر من أصعب الفروض قبولا، لاستحالة دعمه بالأدلة المألوفة.
[1] – هذا الوصف “التقليدى” فيه بعض التجاوز حيث أن الطب النفسى التطورى هو حديث نسبيا، وقد لا يصح وصفه بالتقليدى، لكن فى حدود بحثى وجدت أن الاستقرار على البدء من الأنتوجينيا فيما اطلعت عليه تحت اسم التطورى، بما فى ذلك “الطب النفسى الداروينى” Darwinian Psychiatry، يكاد يجمع عليه معظم التطوريين، فاعتبرت ذلك اتجاها ثابتا ربما يستحق هذا الوصف الذى أحاول أن أتجاوزه بإضافة بعد الايقاعحيوى طول الوقت وعلى كل المستويات.
[2] – Evolutionary Psychiatry, A New Beginning second edition by Anthony Stevens and John Price. Copyrighted: ROUTLEDGE Taylor & Francis Group. London and Philadelphia. 2000
[3] – بدءاً من هنا سوف استعمل كلمتى الانتوجينى والفيلوجينى بدلا من الانتوجينيا والفيلوجينيا
[4] – بدًا من هذا سوف نكرر استعمال مصطلح الطب الإيقاعحيوى بديلا عن الطب التطورى الإيقاعحيوى للاختصار.
[5] – ما كان يسمى العلاج بالصدمات الكهربائية