نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 11-3-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4209
مقتطف من كتاب:
قراءة فى النفس البشرية (1)
(من واقع ثقافتنا الشعبية)
الفصل السابع عشر:
فصل فى: الأمثال العامية والمنهج العلمي
(فى التقييم والتجريب) (2)
المثل الرئيس:
إيه عرفك إنها كدبة؟ قال كـُـبـْرها
أولا: فى التقييم
إيه عرفك إنها كدبة؟ قال كبرها
يقول ألدوس هكسلى إن العلم هو شحذ وتدقيق لما هو منطق عام (المنطق السليم).
إن قراءة الوعى الشعبى تحتاج لمنهج خاص، لا يصلح فيه الاكتفاء باتباع المنهج الكمى التجريبى المغلق، ولا الإحصائى الرقمى أحيانا، مع أن البديل عن هذا المنهج المحدود هو بديل مـُـشـْـكل ضوابطه أصعب، وإذا كان ألدوس هكسلى يدافع عن المنطق العام Common Sense ويعطيه قيمته التقييمية المنهجية، فنضيف نحن بين قوسين (المنطق السليم) (Sensible logic)، فما ذلك إلا لأن ثقافتنا تلوثت إلى درجة أصبح معها المنطق العام ليس مرادفا للمنطق السليم، المنطق العام مرتبط بشكل ما بمفهوم إحصائى ضمنا، أما المنطق السليم فهو مرتبط بمفهوم الهارمونى والتماسك الداخلى أساسا، (بما يسميه البعض الفطرة الأصلية)
المنطق السليم هو ما بدا متناسقا فى ذاته، نافعا فى استعماله، عاما فى احتمال تطبيقه.
ولكن بأى مقياس لو سمحت؟
حين لا نجد الجواب سهلا، يتصدى المنهج الكمي/التجريبي/ الإحصائى يؤكد أنه هو الأصح ولا صحيح غيره، ولا بديل له، وهذا ما نحاول تفنيده).
المثل الشعبى (كما نكرر دائما) هو جماع اتفاق ما، فى مرحلة بذاتها، وهو غير صادق فى ذاته، وغير كاذب فى ذاته، ولكنه إشارة إلى بعض ما اتفق عليه الناس فى وقت معين فى سياق معين. وهذا المثل المطروح الآن يؤكد أن المبالغة فى البعد عن المنطق السليم (الفطرة، المعقول، المقبول، المناسب، العادى!) هو الذى يفسد المصداقية، ونكتشف هذه المبالغة من ضخامة “الكذبة” ولامعقوليتها!
واتجاه الأمثال الشعبية لنقد الاعتماد المطلق على التقييم الكمّى (تحديد الكمية) هو اتجاه متكرر ودال على محاولات تدقيق الحدس الشعبى فى قيمة الكلام والوصف، فمثلا ثَمَّ مثل يقول:
كلمة رطل، وعشرة رطل
وهو مثل يستعمل عادة لتقصير الكلام ودرء النقاش المفرغ (والفصال أحيانا) فهو ينبهنا أن مثل هذه الملاحاة لا تفيد إذ لن تغير من قيمة ما هو معروض أو ما هو مشار إليه.
وثمَّ مثل آخر يؤكد هذا الاتجاه الشعبى نحو التدقيق الكمى يقول
حبة تتقل الميزان، وحبة تخففـه
إذن فالدقة مطلوبة، والمنطق السليم مطلوب، والتكمية (التعامل بالكم) مطلوب والجميع يكمل بعضه بعضا.
ثانيا: فى تحديد النتائج برصد الآثار متناهية الصغر
من أصعب الصعب تحديد مصداقية تلك الأبحاث النفسية التى تحاول أن تحدد المتغير الفاعل المسئول عما يحدث للمريض أثناء العلاج النفسى (التحسن عادة)، كذلك من الصعب تماما أن تنجح الأبحاث بوسائلها الكمية الحالية، فى تحديد ما حدث للشخصية من تغيير أثناء العلاج النفسى، قد تنجح أن ترصد اختفاء أعراض بذاتها، أما التغير فى الشخصية فثمة أسئلة أعمق وأخطر عن: ماذا هذا الذى تغير؟ ومن أى نوع؟ وإلى أى مدى؟
ولا يمكن أن نستسلم للرضا بما يمكن قياسه على حساب ما يصعب تحديده، فقد يتم اختفاء الأعراض على حساب بعض السمات النوعية الأكثر أهمية للوجود البشرى مثل تراجع القدرة الإبداعية أو خفوت الرنين الوجدانى، مع مظاهر اختفاء أعراض وجدانية أو حتى الضلالات أو الهلاوس.
وفى العلاج النفسى الجمعى، وفى التأهيل الممتد، وفى العلاج الجذرى العميق، يتكلم المعالج عن أن العلاقة العلاجية تعتمد على عاملين يكمل بعضهما بعضا .
الأول: موقف المعالج ظاهرا وباطنا، وبالتالى ما يرسله إلى المريض من “رسائل” (3) ظاهرة وباطنة، تساعد، بعد التحريك ومع العلاقة، على إعادة تشكيل بنية الشخصية أساسا، لدرجة قد يتمادى فيها فيفترض أنه كلما كان العلاج عميقا وجذريا، كان التغير غائرا حتى يكاد يكون التغير عضويا، نيورونيا أو خلويا (وجينيا).
الثانى: يعتمد على نوعية ومدى تلقى المريض لهذا الموقف.
وهكذا نرى أن العلاقة العلاجية العميقة ليست قاصرة على التطمين، أو الإيحاء، أو إتاحة الفرص للتفريغ أو ما شابه، وإنما هى تعتمد على تبادل “رسائل” ما، رسائل ترسل أساسا من المعالج ومن المجموعة فى العلاج الجمعى ومن جو العلاج العام فى المجتمع العلاجى، وهذا اليقين (الافتراضي) بأن المتغير الأساسى للحصول على التحسن هو مدى عمق وفاعلية وإيجابية هذه الرسائل، هو الذى لا يمكن قياسه بالوسائل العادية، كما لا يمكن قياس فاعليته بداهة، وقد لا تظهر آثار هذه الرسائل إلا بعد مدى طويل جدا (يصل فى بعض الأحيان إلى عشرات السنين).
هنا ينبغى أن يتجاوز الطبيب (المعالج) النفسى الجاد حسابات المنهج السببى الكمّى الظاهر المتعجل، وعليه أن يبحث عن وسائل لتقييم الجهد الذى يبذله، ليواكب ويحافظ على الأمل الذى يسعى لتحقيقه.
وبقراءة متأنية فى الأمثال العامية بدا لنا أن الحدس الشعبى قد نبه إلى مثل ذلك، مثلا نبه أن نرضى بفعل وصول الرسالة حتى لو لم تصب هدفا تحديدا ظاهرا: يقول المثل:
“الطلق إللى مايصيبشى يدوش”
فأى محاولة ليست بلا قيمة حتى لو لم تصب هدفها بتحديد سريع واضح، إلا أن هذا المثل ليس هو ما نعنى فى هذا المقام، لأن المقصود بالرسالة ليس هدفا شعوريا محددا تفصيلا، فالمطلوب هو النتائج الشاملة، والإشكال فى أبحاث التتبع والتقييم للعلاج النفسى، وللعلاج عامة هو أننا قد لا نعرف تحديدا هذا الهدف الخاص جدا فى لحظة بذاتها، فعلينا ألا نكف عن إطلاق الرسائل، حتى لو لم تصب الهدف الذى نتصور أنه الأهم، ويمكن أن تكون “دوشتها كافية”، أو دالة، وهذا فى ذاته قد يساعدنا على مواصلة المحاولة حتى نصيب الهدف.
لكن ثمَّ مثل آخر أكثر تبصيرا، يقول المثل الصعب على أهل “البندر”
اضرب الطينه فى الحيط، إن مـَاِ لزْقت عـَلـِّمـِتْ
وقد ترددت كثيرا قبل أن أستشهد بهذا المثل، فأنا لا أعلم متى تضرب الطينة فى الحيط، ولا وظيفة ذلك، هل المقصود بضرب الطينة فى الحيط تحبيذ الموقف الإيجابى فى العدوان، أو أنه يشير إلى التعبير القوى الصريح بأى وسيلة، لقد أخذته على أنه كذلك، وقد عشت دهرا، وحتى الآن، أحاول أن أفند فكرة ادعاء موقف الحياد فى موقف المعالج النفسى والطبيب النفسى، فالذى يصل للمريض سيصل سواء أخفيناه أم أظهرناه، والمريض النفسى، العقلى خاصة، يحتاج إلى مواجهة وإحاطة من معالج “له موقف” فعلا، وهذا الموقف لا بد أن يصل عادة للمريض من البداية بشكل مباشر أو غير مباشر، فيستجيب المريض له أو لا يستجيب هذا أمر آخر، خذ مثلا ‘ يقين الطبيب أن العلاج ممكن وأن الشفاء قادم لا محالة” على الرغم من الصعوبات والإزمان وأمراض المجتمع“، هذا موقف متكامل يمكن أن يصل إلى وعى أى مريض لو كان هو فعلا موقف الطبيب من مهنته ومن الحياة، وهكذا علينا أن نتوقع الإحباط ألف مرة كلما نجحت مرة واحدة، هذا على مستوى الرصد الظاهرى، لكن علينا أن تحاول طول الوقت من جديد، وهذا ما وصلنى من هذا المثل، أن علىّ أعلن موقفى وأمارسه وأخترق به دون الخوف من الإحباط، ودون انتظار نتائج عاجلة.
وهو نفس ما سبق أن شرحناه تفصيلا ونحن نعرض ما وصلنا من المثل القائل:
إعمل الطيب وارميه البحر
ثالثاً: التفكير العلمى الشعبى (4)
مثل آخر يقول:
قالو الصلاة خير من النوم ، قال جربنا ده، وجربنا ده
هذا المثل جرئ خطير، وقد يـُـفهم خطأ على أنه استهانة بالصلاة، أو تهوينا من النداء الجميل فى آذان الفجر حتى يهب الناس إلى الصلاة ، حيث ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكل هذا استعجال واختزال لما قد يعنيه المثل من عمق آخر، فالمثل لا يقال فقط لمحتواه، ولكن للفكرة الأساسية من ورائه.
فى هذا المثل دعوة شعبية جريئة وموضوعية بعدم التسليم لكل ما يقال، حتى لو قيل فى سياق دينى، فعندما ينادى المؤذن أن الصلاة خير من النوم، هو لا يقول جملة خبرية، وإنما هو يدعوك أن تلقى ربك، وأن تفتتح يومك بهذه الصلاة ، لترى بنفسك أنها خير من النوم ، فهذا ما كنا نتعلمه فى الثانوى عن الأسلوب الخـَـبـَـرى الذى يخرج من وظيفة الخبر إلى وظيفة الإنشاء ، ليؤدى وظيفة الأمر، أو السؤال أو الطلب، أما الاستسلام للكلام المثبت وكأنه حقيقة للبلاغ لا أكثر، فهذا دون الوعى البشرى اليقظ فى كل شىء حتى فى الدعوة إلى البكور، وفضل عبادة البكور.
وعامة الناس هنا لم تتورع أن تعلن من خلال هذا المثل: أن كل شئ قابل للتحقق والتجريب، وهذا هو التفكير العلمى الحقيقى، أو بتعبير أدق هو التفكير الفرضى الاستنتاجى، أن كل المقولات هى فروض تحتاج تناولا نقديا، ومن ثم تثبت أو لا تثبت. لقد ابتعدنا عن كل ذلك كل البعد، وعادت المسلمات هى الأصل، وأصبح مجرد الرد على رئيس، أو حتى الاستفسار منه عن إيضاح هو جريمة فى حقه، إن لم يكن فى حق النظام، إن لم يصل إلى تهمة الشروع فى قلب النظام، ولم يقتصر الأمر على التسليم لمقولات رئيس سياسى أو حتى إدارى، أو حتى فتوى دينية ، بل امتد ليشمل بعض الوثقانية (الدوجما) فى المناهج العلمية، حيث يذهب بعض العلماء إلى قصر المنهج العلمى على مفهوم مختزل، وليكن التجريب والمشاهدة والاستنتاج، دون غيره، وفرق بين التجريب كما يذكره المثل الشعبى القادر، وبين التجريب كما يحكمه العالم الملتزم المغلق، فالتجربة الإنسانية لا تجرى فى معمل مغلق، ويكاد لا يمكن مقارنتها بالمعنى الدقيق للمقارنة، بل ويكاد لا يمكن إعادتها من عمق بذاته، لأن الحياة تتحرك، والدنيا تتغير ولا شىء يعيد نفسه بدقة تسمح بالمقارنة كما يدعى أهل التجريب المغلق.
ثم إن هذا المثل لم يخطرنا بنتيجة التجربة ، فهو لم يقل: أنهم جربوا الصلاة وجربوا النوم فوجدوا أن النوم أفضل، بل تركها مفتوحة، والوعى الشعبى فى التقاط المعنى هو بنفس ذكاء الوعى الشعبى فى تخليق المثل، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن يلوم قائل المثل ، إلا أن يكون هو الذى استقبله إذ صنع نتيجته أنه جرب كلا من الاحتمالين ووجد النتيجة فى صالح النوم.
ثم إنه حتى لو وجد النتيجة فى صالح النوم، وثبت أن النوم أفضل (أخـْـيـَـر)، فهى نتيجة تسمح بافتراضات جديدة ، بمعنى أنها لا يمكن تعميمها، فثـَـمَّ مجرب أخر، قد جرب اختبار هذا القول ووجد عكس ذلك، أى وجد أن الصلاة فعلا أَخـْـيـَـر من النوم، بل إن المجرب الذى وجد أن النوم أفضل، يمكن أن يستفيد حين يتساءل لم تناقضت تجربته مع الشائع، ومع الدعوة الكريمة للصلاة، والدعوة الصحية للبكور، وقد يكتشف أن صلاته ليست كما ينبغى، وأن علاقته بالبكور ناقصة، وبدلا من أن يتمادى – من واقع تجربة واحدة قاصرة وخاصة- فى التشكيك فيما “قالوه” يمكن أن تكون هذه التجربة التى انتهت إلى أن النوم أفضل، هى فرضٌ جديد، يدفعه إلى مراجعة نفسه، ليعرف وظيفة النوم لديه، ووظيفة الصلاة، وطبيعة كلٍّ، وبأى مقياس يقيس ما هو خـَـيـْـرٌ وما هو أَخـْـيـَـرْ، وبالتالى يعدل من نوعية نومه ووظيفته، وأيضا من نوعية صلاته ووظيفتها، ثم يعيد التجربة، أليست هذه هى الحياة البشرية الشريفة؟
ثم نتذكر أن النداء الكريم بأن ”الصلاة خير من النوم” ليس به معنى أن النوم شر، بل هو خير فعلا، لكن هناك ما هو أخير منه فى هذا الوقت بالذات.
وبعـد
ما هو الحال عندنا الآن؟
وكيف نفكر فيما نسمع؟
أهو التسليم باللفظ الظاهر؟
هل نمارس حق النقد فعلا؟
هل نستطيع أن نعلن بعض مايعن لنا من تساؤلات؟
وهلى ننظر فى ما يقال لنا من فتاوى، وحقائق، ومعلومات بهذه الطريقة التجريبية – فى واقع الحياة – كما يوحى المثل الشعبى بكل هذا؟
إنه مثل قديم يبدو ساخرا، ولكنه – من عمق ٍ آخر- قالها بكل شجاعة، وبكل بساطة، ليعلى من قدر عقل الإنسان ودينه فى آن.
إضافة محدودة:
عثرت على مثل خفيف طريف بالغ الدلالة عميق المعنى لم يحضرنى وأنا أكتب هذا النص، مع أنه الأقرب إلى المنهج الفينومنيولوجى أساس الممارسة الإكلينيكية التى تعتمد على تقييم النتائج أولا بأول حسب سلامة الفروض التى وضعت لتوصليها إليها، والتى إن لم تتحقق فإن فروضاً أخرى تتفرع لتعدّل الخطة وتواصل التحقيق، يقول المثل:
إن طاب لك، طاب لـَكْ
وإن ما طاب لكْ! حوّل طابك
هل هناك أقوى وأجمل وأبلغ من ذلك
[1] – المقتطف: من الفصل السابع عشر: فصل فى: الأمثال العامية والمنهج العلمى” (ص: 167) كتاب (“قراءة فى النفس البشرية” من واقع ثقافتنا الشعبية) (الطبعة الأولى 2017)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – مجلة الإنسان والتطور – عدد 63 أكتوبر 1998
[3] – نستعمل كلمة رسالة هنا كثيرا وذلك بمعنى خاص فالرسالة: ليست نصيحة، وإنما قد تكون كلمة مغيرة أو موقف كيانى عميق يصل إلى وعى المريض من حضور خاص لوعى المعالج كما قد تكون تقمصا إيجابيا مفيدا مرحليا وهى تصل عبر التشارك فى الوعى بين أكثر من واحد بدءً بالمعـُالج مع كل المشاركين (خاصة فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط).
[4] – مجلة الإنسان والتطور عدد 61 ابريل 1998