نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 5-6-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4295
الأربعاء الحر
تجليات الفرح فى رحاب الله (1)
العيد “فرحة”… وفى تصورى أنه هدية ورحمة من ربنا تذكرنا أن من حقنا – بل ربما من واجبنا – أن نفرح، والدين الاسلامى بوجه خاص قد فتح ذراعى الدنيا لفرحة الإنسان، كرّمه، وكرّم فطرته السليمة وجعلها أصل الخير كله، وحقيقة الدين كله… ما لم تشوه، كما أعفى الإنسان من الشعور بالذنب تكفيرا لخطأ أجداده…. أليس من التعبد بعد ذلك أن نفرح… ولو فى العيد.
ولكن، يا تـُرى هل نعرف معنى الفرحة؟ أو على الأقل المعنى الذى أعنيه هنا بالفرحة؟
هل تجرؤ عليها دون هواجس داخلية بأنه “اللهم اجعله خير”! هل يمكن أن تفرحنا الأشياء الحلوة الصغيرة دون أن نضع شروطا مرهقة لفرحتنا… يستهلكنا تحقيقها.. حتى إذا استوفيناها فى النهاية نسينا كيف نفرح أو عجزنا – انهاكا – أن نفرح!
إن كل مظاهر العيد تشير إلى أننا نهرب من الفرحة فى أشياء أبعد ما تكون من الفطرة السليمة، فما بين معركة العك (بما يسبقها من ديون طويلة الأجل ويا حبذا بفترة سماح) إلى معركة النظافة المجنونة التى تستهلك قوى الأم حتى فجر العيد يضيع كل احساس بالفرحة الأصلية، وتفقد القدرة على التعرف على معنى العيد فى جوهره، يفاجئنا العيد ذات صباح والام فى حالة والأب فى حالة من الهم والحساب لا تسمح له بالوعى بما حوله، والأطفال فى حالة “طابور التشريفة” منتظرين عرض أزياء العيد على الأقارب تمهيدا لإصدار الحكم العائلى، أيهم “أشيك”، وأى الملابس “أغلى”… الخ لنعلمهم أول درس فى إلغاء فرحتهم لحساب مظهرهم، والغاء انطلاقهم لحساب التباهى بأذواق أهلهم وقدرتهم الشرائية
الناس تخلط بين الفرحة والضحك والتهريج والسخرية، وأنا لا أعنى بالفرحة القهقهات المتبادلة أثر سماع نكتة لاذعة (قبيحة فى العادة) ولا تلك الابتسامات المهذبة المستوردة من بلاد الشمال الباردة والتى لا تعنى إلا معنى يخطر ببالى كلما رأيتها وكأن صاحبها يقول: “دعنى فى حالى أموت وحيدا خائفا… لكن مبتسما” (!!)، إنما أعنى بالفرحة (مهما اختلفت التعاريف) ذلك النبض الفطرى المتناغم الذى يعطى للحياة معنى دون إبداء الأسباب، ويسرى فى الجسد والوجدان حتى تدب الحياة فى خلايا الأظافر الميتة من فرط البهجة، الفرحة التى يعرفها الطفل بعد الرضاعة أو حتى بعد الإخراج الامن، ويعرفها الفنان لحظة الإبداع، ويعرفها الصوفى فى جوف الوجد الساكن، التى هى الصحة النفسية فى أرقى صورها، والتى هى شديدة القرب منا لبساطتها، شديدة البعد عنا لفرط ما تشوهت – هى فرحة الطفل فينا – ، فهل نسمح له بالانطلاق ولو فى العيد؟
فى بلدنا، كنا نجرى يوم الوقفة هاتفين فى سعادة لا تخلو من سماحة “بكرة العيد ونعيـّد”، وندبح أبوك الشيخ سيد، ونقـَلـِّى عليه خبيزة، ونلاقى فى راسه بَلـْبِيزَة”، وكان بجوارنا بقال عجوز اسمه “عم الشيخ سيد” ما أن نلمحه حتى نضع ذيلنا فى أسناننا – فعلا لا مجازا – ونجرى دون اعتبار لتعرية نصفنا الأسفل تماما (تطبيقا مصريا قديما لفوائد عدم الكبت التى انتشرت حديثا)، وكنت أشفق على أبينا “عم الشيخ سيد” قبل كل عيد لأنى أحيانا كنت أظن أننا سنذبحه بحق “وحقيق”.
وظللت بعد ذلك أتساءل كيف يجتمع العيد مع هذه القسوة حتى القتل حتى عرفت معنى القتل عند الطفل وهو التخلص من السلطة إذا أعاقت انطلاق فطرته، ثم عرفت بعد ذلك – وعاصرت علاجيا – المعركة بين الطفل فى داخلنا والشيخ فى داخلنا أيضا وفهمت من خلال هذا وذاك أن العيد فرحة للطفل للانطلاق ولو بالإعدام المؤقت لكل سلطة قاهرة.. أى بذبح أبونا الشيخ سيد مؤقتا… واطمأننت على بقاء عم الشيخ سيد، ببيتنا عيدا بعد عيد،
هل يمكن أن نعطى الطفل فينا إذن حقه فى الفرحة دون اللجوء إلى هذه الخيالات المذبحية!
هل يمكن أن نتمتع بالعيد بالرجوع إلى الفطرة: دون سجن فى البيت، أو غم فى المقابر، أو هم فى الحسابات، أو حقد فى التفاخر؟
هل يمكن ألا نخاف الفرحة كل هذا الخوف حتى نجهضها قبل ظهورها؟
إن من يستطيع أن يفرح هو الذى يستطيع أن يلتزم، أما من يقمع الطفل طول الوقت تحت زعم اتهامه بالعبث والسلبية فقط، فإنه يعرض نفسه إلى هجوم خفى فى الظلام حتى يستطيع الطفل فينا أن يعبر عن حقوقه ولو بالتحطيم أو التشويه، وهذا ما يسميه بعض العلماء التلوث (أى اختلاط نشاط الطفل بنشاط الشيخ فى داخلنا) وأبشع صور التلوث هى التواكل والاستهتار واللامسئولية والتطفيش والتهريج والتفويت… وما شابه كل ذلك لأن الطفل لم يأخذ حقه المناسب فى الوقت المناسب فأخذ يعمل من وراء ستار.
الفرحة البسيطة الحلوة… لا تتعارض مع الجدية والالتزام، والعيد فرصتنا لإعادة النظر، ولو لنحظى بعيـّنة صغيرة من فطرتنا السليمة التى تمثل الطفل فينا، فقد تـَسرُنا وتقربنا إلى بعضنا البعض، وقد نستطيع أن نحافظ عليها بعد ذلك وننميها….عيدا بعد عيد… ثم يوما بعد يوم….
وكل سنة ونحن أقدر على الفرحة…. ومن ثم أقدر على العمل والمسئولية.
[1] – نشر أصل هذا المقال فى الأهرام بعنوان: “فرحة العيد… والطفل فى داخلنا” بتاريخ 4/10/1975، وقد غيرت العنوان كما أدخلت بعض التعديلات أو التصحيحات عليه احتراما لمرور الزمن