نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 28-3-2016
السنة التاسعة
العدد: 3131
الطبنفسى الإيقاعحيوى (26)
Biorhythmic Psychiatry
العلاقة بين واحدية الأمراض النفسية
والطبنفسى الإيقاعحيوى
مقدمة:
جاءنى من بعض زملائى وزميلاتى الأصغر طلب إيضاح أكثر للنموذج المبسط الذى عرضته فى نشرة أول أمس، كما أضافوا تساؤلات وعن علاقته بالطبنفسى الإيقاعحيوى،
وفيما يلى بعض محاولات الاستجابة، آمِلاً فى توضيح مناسب.
ملاحظات إضافية:
(1) إن المسألة ليست بهذا التحديد الاختزالى الذى قدمة نموذج البيت المهدد بالإنهيار أول أمس.
(2) إن النموذج الذى عرضته ليس له علاقة مباشرة بالتطور ولا بالإيقاعحيوى، مع أنه مرتبط بهما ارتباطا وثيقا فى الأساس، لكنه يعرض لفرض “واحدية الأمراض النفسية” باعتبار أن الفصام هو أصل كل تلك الأمراض وأنه إنما يظهر ويضغط كمرض مُحْتَجِّ فاشل: حين يتنشط مستواه مستقلا فارضا نفسه على بقية (الأمخاخ) منفردا أو قائدا، بما ينتج عن ذلك من التمزيق التفريقى الذى يحقق كلا من التشرذم(1)والنشاز(2) فهو إعلان سلبى برغم أن له هدفه إذْ يعرض بديلا نكوصيا من جهة، كما يعرض احتجاجا تخريبيا من جهة أخرى.
(3) إن فرض “واحدية الأمراض” لا يعنى أنه يوجد مرض نفسى واحد هو الأوْلى بالنظر والفهم والعلاج، وإنما يؤكد أن أصل الأمراض النفسية هو واحد، ويتمثل ذلك فى إعلان العجز عن مواصلة مسيرة جدل النمو، فيحل محلها هذا العجز كبديل نكوصى يترتب على نشاطه تفكيك كل ما هو سواه.
(4) هذا التهديد الأصلى النابع من المرض الأخطر والأعمق (الفصام) يحفز كل المراحل (المستويات) التطورية، الأقل خطرا والأحرص على البقاء، أن تنشط لتحول دون استكمال التخريب حتى التفسخ ومن ثَمَّ المآل السبى المكافئ للعدم، يتم ذلك الدفاع على كل المستويات التطورية النمائية الواحد تلو الآخر ولو لحسابها وليس لحساب التكامل وهذا ما نسميه “دفاع ضد التفسخ” مع أنه دفاع بأمراض أخرى، لكنها أخف.
(5) إن تحديد أى هذه المستويات هو الذى ينبرى للدفاع أولا أو تماما يتوقف على قوة المستوى الخاص بها وهى التى اكتسبتها عبر تاريخ التطور من جهة و(الفيلوجينى) وتاريخ النمو الفردى من جهة (الأنتوجينى)، فإن كانت مستوى منظومة الوعى “الكرّفرّى” (البارنوى) هى الأقوى، نشطت لتمنع التمادى فى التفسخ وظهرت البارانويا أو الهوس كدفاع مناسب مثلا.
(6) إن الحقائق الأحدث التى تؤكد على أن المخ يعيد بناء نفسه بانتظام وباستمرار لا ينقصها تبنى منظومة الإيقاعحيوى، لأن المخ لا يستطيع أن يعيد بناء نفسه إلا من خلال هذا النبض النمائى المستمر ليلا ونهارا، وبذلك تزداد مهمة الطبيب النفسى صعوبة، كما تتجسد مسئوليته، وفى نفس الوقت تنتج آفاق التفاؤل بلا حدود.
مسيرة التهديد بالتفكك، والدفاع بالأمراض المتتالية:
أما سكان المنزل (الكيان البشرى) فهم :
(أ) كل الأحياء (أنتوجينى) المنطبعة بالوراثة بالإضافة إلى:
(ب) كل الكيانات المنْطَبِعة أمخاخا، ومنظومات وعىٍ عبر تاريخ الفرد (فيلوجينى)
ثم إن الذى يحفظ تماسك المنزل هو: جدلية التكامل والتبادل إلى التخليق والإبداع المحتمل، وهذا ما يجرى ليل نهار عبر سلامة وكفاءة الإيقاعحيوى البنّاء.
فإذا عجز الإيقاعحيوى عن القيام بوظيفته الإيجابية توقف النمو وزاد الاغتراب وبدأ اللاهارمونى على أى مستوى، وهذا التخلخل إما أن يحفر التشكيل ويصحح نفسه ويواصل الإبداع والنمو والتطور
أو
يتعدى الحدود ، ويزيد الضغط التفككى،
ويبدأ التهديد بالفصام، فتزداد الحاجة لمواجهته ولو بأمراض أخف على الوجه التالى:
(1) إن تتكون منظومة (أو منظومات) من الضلالات المتماسكة التى تعتبر بمثابة دعم دفاعى، تماما مثل ما يسمى تنكيس المنزل المتشققة جدراه بوضع سقالات أو أسقف حديدية مؤقتة تمنع السقف من السقوط أو الانهيار، لكن هذه المنظومات (الحديد) برغم صلابتها هى ليست واقعية حتى لو أغرت بالإزمان أو لو لوحت باحتمال دوامها مثل ما هو الحال فى اضطراب “حالات البارانوايا المزمنة الممتدة”.
(2) وإذا لم ينجح أصحاب البيت فى تنكيسه أو لم يلحقوا بالتهديد بالانهايار بمنظومات الضلالات الحديدية فإن محتوى الداخل نتيجة لضغط حركيته الصاحية فحركية التفكيك المرضية المنذرة بالتفسخ يندفع فيخرج هذا المحتوى مهما كان بدائيا أو شاذا إلى الواقع الخارجى وكأنه بذلك يخفف الضغط الداخلى فتؤجل أو تمنع التمادى فى التفسخ الفصامى وهذا هو ما يحدث فى الهوس.
(3) أما بالنسبة للاكتئاب كدفاع ضد التفكك وعلاقة ذلك بالموقف الاكتئابى (تطورا ونموا) فإنه يعتبر ذو حضورين (كدفاع أيضا):
الأول: الاكتئاب المرضى القامع الثقيل
حين ينشط الكبت والمنع والقهر بشكل غالب فينتج عنه الاكتئاب القمعى البطىء الثقيل،
وهو نتيجة فرط الكبت، وامتداد لمثال البيت على وشك الانهيار فإن هذا الاكتئاب يمثل ما يسمى دعم الحوائط المتشققة بقيمص مسلح من الخارج.
الثانى: الاكتئاب العلاقاتى الآمِل المسئول
وهو الذى قد ينشط فى نفس هذا المستوى (الاكتئابى) فى صورة حركة يقظة أماميةعلاقاتية، فيقدم على مغامرة عمل علاقة مع “الموضوع” (الأخر)، متحملا آلام ثنائية الوجدان، وحتم احتواء التناقض، وضرورة التأجيل، وهذا هو ما يميز المرحلة النمائية المقابلة خاصة، وهى التى تميز المرحلة البشرية بوجه خاص، إلا أنه قد يحتد جدا بنفس المواصفات حتى يتعدى وظائف السواء العلاقاتى، فيصبح بذلك مرضا أيضا، برغم أنه عكس الاكتئاب الأول .
وكلا من النوعين هما دفاع ضد التهديد بالتفسخ (الفصام) أيضا.
ملحوظة هامة:
هذا بخلاف أن كثيرا من أنواع العصاب وخاصة الوسواس القهرى، وأيضا كثير من اضطرابات الشخصية، بل وما يسمى “فرط العادية” هى أيضا دفاعات ضد التفسخ والتناثر فى كثير (أو معظم) الأحيان.
وأخيرا: فعلينا أن نذكر أن هذه الدفاعات عبر المراحل لا تمر هكذا تباعا بهذا الترتيب تحديدا، لكنها تباديل وتوافيق حسب عوامل عديدة من أول الاستعداد الوراثى والظروف المحيطة وتوقيت العلاج ونوعه، فإذا فشل كل ذلك فالمصير هو التفسخ الفصامى فالتشّرْذُم والتجمد فى أعراض سلبية تعلن انتصار العدم على الحياة.
وإلى الأسبوع القادم
نواصل مع مزيد من التعرف على الطبنفسى الإيقاعحيوى
[1] – تشرذموا := تفرَّقوا بشكل فوضويّ :- تشرذمت الأُمَّة فصارت ضعيفة مستباحة .
[2] – النَّشَازُ : الشيءُ لا يكون في مستوى غيره
نَغْمَةٌ نَشَازٌ : أَيْ خَارِجَةٌ عَنِ اللَّحْنِ الْمُحَدَّدِ فِي نِظَامٍ مُوسِيقِيٍّ مُعَيَّنٍ قَوْلٌ نَشَاز ، يُثِيرُ الاشْمِئْزَاز