نشرت فى مجلة الهلال
عدد نوفمبر 1995
التكـوين لا أمشى على المدق..!
من ذا الذى يعرف كيف تكون، أو متى، أو حتى إلى أين؟
إن الواحد منا يجد نفسه “هكذا”، ثم يتذكر، وياترى، وحين حاول نجيب محفوظ: كان أمينا أعمق الأمانة وأنبلها، وبدل أن يحكى أنصت، فأنشد لنا أصداء سيرته الذاتية دون سيرته، فتيقنت أكثر من ذى قبل أن السيرة الذاتية لا يمكن كتابتها أصلا، ثمظشإنها لا يمكن كتابتها فى العالم العربى بوجه أكثرخصوصية، فماذا لو أن ماحضرنى الآن من عوامل تكوينى كان أمرا لايقال أصلا، أو أنه إذا قيل فإنه لا يـقبل، وقد يترتب على إعلانه ما لا يمكن حسبانه.
فعندى اقتراح مستـلهم من فكرة الإفراج عن الوثائق الإنجليزية بعد خمسين عاما، وهذا الاقتراح يوصى بإنشاء مؤسسة تسمى “الوجه الآخر للتاريخ”، يكتب فيها كل من نريد أن نسمع منه، وعنه، ما نرجو به عمق الرؤية وأمانة الوعى، ثم يودع هذا الذى كتب فى خزانة مؤمنة من قبل الدولة أو من قبل هيئة عالمية، لا تفتح إلا بعد مائة عام من تاريخ كتابتها، أو من تاريخ رحيله، ثم نرى!!!
ومع وضع التحفظ السابق فى الاعتبار سوف أحاول أن أحدد عوامل ومؤثرات التكوين التى مررت بها أو مرت بى، من خلال ثلاث محاور: هى الأرضية، ثم موكب الآباء، والأبناء/الآباء، ثم الممارسة والتمثل.
أما عن الأرضية فإننى أحسب أن تكوينى، على الأقل فى سنيى الأولى لم يتأثر بأحد، ولا بحدث، إلا من خلال أنه جرى فى واقع عام له ما يميزه: بحيث تأتى الأحداث فتتشكل فيه، وتشكلنى بما تسمح به هذه البنية التحتية :خذ مثلا ذلك الإيقاع البطئ الذى أتيح لى أن أواكبه صغيرا، فحين أتذكر أيامى الأولى وأقارنها بما يجرى اليوم حول أبنائى وأحفادى وبهم، أجدنى قد عشت إيقاعا خاصا هو الذى صنعنى هكذا، وأتساءل :هل كان يمكن أن أكون أنا هو أنا لو أننى لم أنتظر قطار الدلتا خمس ساعات فى محطة زفتا فى طريقى إلى بلدتناوأنا عائد من المدرسة الابتدائية؟ وهل كان يمكن أن أستوعب معنى الزمن، وأن أنصت لهمس سنابل القمح، وأن أستنشق غبار المدراة، لو لم أركب النورج لشهر أو اثنين, فى كل إجازة صيفية؟ هذا الإيقاع الذى كان يسمح لنا أن نجلس ننتظر عربة الكافورى ساعتين لنوفر قرش صاغ وهو الفرق بين سعر الكافورى وسعر التاكس، فيم كنت أفكر وأنا أنتظر هذه الساعات؟، وماذا كان يصلنى وأنا جالس فوق حجر مترب تحت جميزة ضخمة؟ هذا الإيقاع ما زال يملؤنى، أفتقده وأعود إليه داخلى، وهو الذى علمنى كيف أستطيع أن أبطئ حركة الزمن لأعيد النظر بين الحين والحين، فأكون أنا “هكذا”
ثم خذ عندك: اللغة، وحين أقول اللغة لا أعنى لغة بذاتها، وإن كنت أخص اللغة العربية بأغلب الحديث، فقد نشأت فى بيت يعرف للكلمة معناها المحكم، والدى مدرس لغة عربية، والقرآن – نقرؤه حول والدنا وهو يصححنا، وندفع غرامة الخطأ و يتخاطأ هو ليكافئنا- ومكتبته فى متناولنا، وجلسات والدى مع الشيخ أحمد عبد الله والشيخ محمد الدقن، والشيخ البرماوى وآخرين للتفسير والتذكير تصلنى دون قصد، فأتكون هكذا: أحترم الكلمة حتى تصبح كيانا حيا لها على حقوق الكائن الحى، ولى عندها ما هو جزاء ذلك ثم الدين، وأعنى به ذلك النوع من الالتزام المطلق فى إطار الحرية الحقيقية، ليصلنى من العادة والعبادة وحرية المراجعة والحوار، يصلنى من كل ذلك ما يفتح حدود وجودى إلى رحابة الطبيعة وامتداد الأكوان: أصلى قبل الشروق، ومع الزوال، وحوله، وأصوم مع الهلال، وأحاور الطبيعة فردا وفى جماعة، ووالدى يسألنى متألما عقب سقوط الطائرة بداج همرشولد إن كان هذا الخواجة سيذهب إلى النار أم إلى الجنة، وكأنى أملك مفاتيح الجنة، لكن يبدو أنه كان ينبهنى إلى رحمة ربى بهذا الإنسان العالمى النبيل، والدى هذا كان يقوم الليل ثمان ركعات دون أن يعرف أحد أنه يفعل ذلك، وكان هذا يستغرق منه عدة ساعات، وأول ما عرفت هذا كان حين ارتطمت به واقفا فى الظلام يتمتم فحسبته عفريتا، عرفت الدين من سلوكه مع الناس، ومن سماحته,ومن غلوائه أحيانا، ومن التزامه بورده الطويل، وعرفت الدين أكثر من العلاقة المباشرة بالطبيعة، ومن المشاركة مع الجماعة، وأحسب أن هذا البعد مازال يحدد دوافعى ويوجه خطاى بشكل متجدد
ثم بعد الحديث عن ثالوث الأرضية هذا :الإيقاع واللغة والدين يأتى الحديث عن الناس، وكيف تكونت من خلالهم، وأكاد أوجز علاقتى بالناس فيما يمكن أن يسمى: موكب الآباء، والأبناء (الآباء أيضا).
ويبدو أنه لا بد ابتداء أن أعلن إدراكى الواضح، وإن كان قد جاء متأخرا بعض الشيء، أن موقفى الحياتى فى العلاقات كان متمحورا طول الوقت حول حاجتى الدائمة إلى “أب”، وبالرغم من أن والدى – رحمه الله- كان “والدا جدا ” طول الوقت، وأن أثره فى لم ينقطع حتى الآن إلا أننى لا أذكر أننى اكتفيت به أبدا أو توقفت عنده، وأعتقد أن تكوينى – وحتى الآن – كان وما زال مرتبطا بهذه البنوة الدائمة المتجددة، ولا أطيل وقفتى عند أبى الذى ولدنى، رغم أنه أهم شخصية بين كل هؤلاء، وكان أهم ما فيه أنه كان به من العيوب والضعف ما حال بينى وبين تقديسه أكثر مما هو، وكان أهم ما أذكر له – مما أثر في- هو إصراره الدائم على المحاولة والتجريب والإبداع، صحيح أنه كان مدرسا للغة العربية، وكان يعشقها، وعشقناها منه وبه، لكننى كنت أراه فلاحا مبدعا أكثر من أى دورآخر، كان يردد المثل الذى يقول :” أنا ما أحبش أمشى على المدق إللى الناس ماشية عليه، أنا أحب أعمل مدق والناس تمشى عليه”، يقول ذلك وهويناقش أحد المزارعين فى كيف أنه قرر أن ينقر بذرة القطن على الشوكتين، أو أن يخطط فى القصبة الواحدة أربعة عشر خطا بدلا من أحد عشر، وظلت علاقته بالأرض وبالإبداع تحضرنى حتى خضت تجربة للعلاج الجمعى التجريبى حول سنة 1970، وظللنا – مجموعة من الأطباء النفسيين والأسوياء- نتبادل العواطف وكلمات عن الإحساس والحب، ونحن جلوس نتواجه!! فى حجرة مليئة بالفوضى والظلال، وكأننا بذلك سوف نعرف أنفسنا أحسن، (قال ماذا؟) وسوف نغير الكون ونؤثر فى التاريخ!!! فأتذكر والدى، وأرى وجه الشبه بينى وبينه وأوجه الاختلاف، وأخجل من أنه – وهو عالم اللغة- كان يغير العالم وهو يزرع، وليس وهو يتحدث ويفتى، ومن حبه للواقع والأرض كان يستطيع أن يميز – فى جوف الليل، وعلى بعد عدة كيلومترات- صوت مكنتنا دون الأخريات إذا توقفت، فيركب حمارته ليرى ماذا حدث، ويحضرنى كل ذلك وأنا فى تلك الحجرة مع هؤلاء المتكلمين جلوسا، وأخاطبه شعرا عاميا يقول: “وساعات أشوفنى أبويا صح، بس الزيادة إنى لابس بدلة وارطن باللسان، وأقول كلام: قال إيه لصالح البشر، وللتاريخ، (!!) لكنه الله يرحمه، كان يعبد اللوزة وطين الأرض والورد الطويل، مزيكته كانت مكنة الميه تغنى تحت جميزه كبيره مضللة، واسأل فى نفسى: أنهو اللى أصلح للتاريخ ؟ الكلمة والحب السعيد فى أودة ضلمة منعكشة، أو لوزة حلوة مفتحة؟” – تعلمت منه حب الأرض، وحب الواقع، وحب الكلمة الفعل الكائن الحى.
وليس معنى التركيز على دور الأب هكذا فى تكوينى أن دور الأم لم يكن له نفس الأهمية، فقد كان لى والدتان، أمى التى ولدتنى، وأمى خالتى، وكلتاهما كانتا صمام أمان، ومساحة سماح أهرب إليها حين يزداد ثقل حضور أبى، أو تغلق الطرق أو تتلاحق القذائف.
أما موكب آبائى الآخرين الذى شاركوا فى تكوينى بجوار والدى فهو موكب زاخر من كل الأعمار والأشكال، كنت أنتقيهم - وعى طبعا- لتتكامل مظلة الأبوة دون احتكار قاهر، مثلا: كان لى زوج عمة: رجل ظريف فى عمر أبى أو أكبر منه بعام، لم يكمل تعليمه، ولا يمارس عملا أصلا كان يقول لنا الفكاهات إياها، وكان يجعلنا نرى أن ثمة طريقا آخر فى الحياة غير كل هذا الجد الصارم، فجعلته يتبنانى سرا دون إذن (وإلا لرفض تحمل المسئولية) ويبدو أننى اخترته لما لمحت – أوتصورت- غيرة أبى منه، وكأنه – أبي- يتمنى أن يبحبحها حبتين، ولا يستطيع، فلم لا أتمتع أنا بأب صارم هكذا، وأب آخر غير “هكذا”؟ ففعلت وقائمة الآباء بعض الوقت هى قائمة بلاحصر: من أول عم عطية الذى كان يحضر كل عام يعقب حبوب البرسيم فى البدروم، ويحكى لى الحواديت (الخيال الحر) والأمثال (الخيال الهادف) حتى عم على السباك الذى كان جارى فى المنيل، مارا بعم شعبان الذى كان يحضر فى بيتنا بالقرية كل مساء يمسك بذراع الطلمبة “الماصة كابسة ” يملأ بها الخزان فوق البيت، ويحكى خبراته الحقيقية والمؤلـفة، وكأنه هو بطل قصصه، وخاصة أنه إبن أم خاضت تجربة السجن حتى كانوا يطلقون عليه “إبن اللومانجية”، وظلت علاقتى بهذا النوع من الآباء وثيقة حتى الآن، ومازل تأثير عم على السباك وحكمته يصحبانى حتى الآن، وقد كتبت فيما تعلمته منه أقول: علمتنى أباالحسن أن أتـقـن الرمايـة السـقـايه، حتى ولو تخبطت خـطاى رعـبا، حتى ولو تدفقت مشاعرى فى غير موضع المشاعر ” فقد كان عم على شديد الهدوء بالغ الحكمة، وحين أصابه ما يصيب مثله من معاناة وصلت حد المرض، واضطررت أن أطببه ,كان عسيرا على أن أقلب الأدوار.
ثم خذ عندك سلسلة من المدرسين مختلفى الهوية، كلهم كانوا آبائى، سليم أفندى رزق الله مدرس الإنجليزى فى مدرسة مصر الجديدة وهو لم يتزوج، لا هو ولا حنآ أفندى مدرس الرياضة، ولا أشرف أفندى مدرس الفلسفة، وكان ثلاثتهم ثلة نراهم سويا فى المدرسة وخارج المدرسة، فما الذى يجمعهم هؤلاء العزاب ياتري؟ فليسرح خيالى، ولتضاف لبنة من نوع آخر فى تكوينى.
قال لى مصطفى أفندى رياض مدرس الإنجليزى ,وكان يلبس طربوشا مائلا جميلا وله شارب أجمل، كما كان يعزف الكمان، قال لى ردا على استشارة مبكرة بشأن مستقبلى وكنت فى سنة ثالثة ثانوى (سنة أولى حاليا)، قال: “إذهب حيث تشاء، أو حيث يتصادف، فإنك سوف تضيف شيئآ جديدا حيثما ذهبت”. ولم أفهم ماذا يعنى آنذاك، ولكننى تذكرت كلماته بعد أربعين عاما، وكنت وقتها -وقت أن تذكرت- أسجل إضافة ذات دلالة فى تخصصى، وترحمت عليه، كيف رأى هذا هكذا بذلك الوضوح فى ذلك الزمان؟
ثم انتسبت إلى أب آخر باختيار مطلق,، فما كان الأمر يحتاج إلى إذن منه، عرفته فى سن الرابعة عشر حين انتقلنا إلى مصر الجديدة، الأستاذ محمود محمد شاكر، كانت شقته فى شارع السبق (هكذا كان إسم الشارع قبل أن يتغير إلى ما لا أدرى) كانت شقته مرتفعة مثل هامته وفكره،، أمامها خلاء متسع باتساع خيالنا، وكنت أعجب كيف يفتح هذا الرجل العظيم الكبير بيته لشباب وصبية فى مثل سنى، كنا – ومازلت أحيانا- نذهب له فى أى وقت،، ونجد عنده أى أحد، ولا يفصل فى لقائا بين كبير وصغير، بين جاهل وعالم، بين متطفل وطالب علم، وألاقى عنده فى هذه السن يحيى حقى، ومحمود حسن إسماعيل، وعلال الفاسى، وغيرهم كثير، وعنده ومنه تعلمت أمرين جوهريين مازلت أستزيد منهما، تعلمت ضرورة الإتقان (وهو ماصدر به ديوانه أو قصيدته :القوس العذراء) كما تعلمت منه الحرية الفكرية، فقد كانت قضيته معنا ألا نكتفى برسائل الإخوان المسلمين التى توزع علينا كالمنشورات، وأن ننهل العلم والدين من مصادرهما الأولى وظللت أنتقل من أب حقيقى، إلى أب أستاذ قريب (الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر)، إلى أب أستاذ بعيد، (الأستاذ الدكتور أنور المفتي)، إلى أب أستاذ لم أره، (الأستاذ الدكتورمحمد كامل حسين)، إلى أب أستاذ شاب (آلأستاذ الدكتور محمود سامى عبد الجواد)، إلى أب خواجة فرنسى، نصف طليانى، تبنانى -رغم أنه كان أشقى وأظرف طفل عرفته وهو يكبرنى بعشر سنوات- وأنا فى باريس سنة 1968 -إسمه: بيير برينتى، (وقد كتبت عنه كثيرا فى “حيرة طبيب نفسى، وفى رحلتى “الناس والطريق”) إلى أب شيخ صامت ملتح لحية بيضاء دائم الابتسام والسماح: هو المرحوم حماى الحاج إبراهيم داوود، حتى وصلت إلى أبى وشيخى الحالى نجيب محفوظ، مما لا مجال لتفصيله هنا فالتكوين نشط متصل.
لم أعش أبدا دون أب، لكننى لم أرضخ أبدا لأى أب، لا أنكر الفضل، ولا أهرب من حوار، ولا أخجل من تبعية، ولا أستسلم، فتكونت “هكذا”... وآبائى لم يكونوا كلهم شيوخا أو معلمين، بل إن مستوى آخر من الأبوة هو الذى يمكن أن أسميه مستوى الإخوة الآباء، ليكن، لم يكونوا إخوة ولا أصدقاء بالمعنى العاطفى المألوف، وإنما كانوا قرناء فى مثل سنى، دخلوا وعيى كأمثلة دالة، وأثروا فى بشكل مباشر وغير مباشر، وأهم ما يميزهم اختلافهم عنى بما أعتبره مزية أفتقدها بشكل أو بآخر، فأحسدهم عليها، وأقلدهم فيها، فأفشل عادة، وإذا نجحت ولو ظاهريا: أرفض نجاحى، وأتراجع عنه، ثم أستمر معهم معجبا، معتمدا، حذر ا، رائحا غاديا: فأكوننى ,وهاكم بعض من هؤلاء لتوضيح الأمر :رفعت ناشد أرمانيوس، طالب زميل فى مصر الجديدة الثانوية، عاقل جدا هادئ جدا، مسيحى جدا، متوسط الذكاء، يحسب كل شئ، فاتخذته – فى السر- أبا أتذكره حين يهجم على انفعالى ويهددنى اندفاعى، فأتراجع وكأنه يمنعنى بهدوئه ورزانته، ثم حسن قنديل (سفيرنا فى أكثر من بلد فيما بعد- رحمه الله)، كان قارئا نهما، لزم الفراش شهورا طويلة بسبب حمى روماتيزمية أو ما أشبه، فقرأ كثيرا، وأنا قارئ مقل، فأستشيره فيعرفنى على روايات نجيب محفوظ فى الأربعينات,ومن يومها، ثم خذ عندك المرحوم الأستاذ الدكتور السعيد الرازقى، كان أبا لى ولغيرى، كان أبا أكثر منى، بل أكثر من اللازم، ولم تنقلب الأدوار فأتبناه إلا فى مرضه الأخيرحتى ودعته
أما طبقة الأبناء الآباء، فهم كثر، ومازالوا حتى هذه اللحظة يمثلون أبوة خاصة خفية، وهم من ثلاثة فئآت، أولادى وبناتى من ظهرى، ثم زملائى الأصغر وطلبتى، وأخيرا وليس آخرا طبعا: مرضاى ولا مجال للإطالة فى تفصيل ما أعنييه من أن إبنى هو أبى، مع أن هذا المستوى يحتاج إلى إيضاح، وكان يمكن أن أتجاوزه باعتبار أنه حاضر أكثر منه تاريخا، لكنى أوردته تأكيدا لما زعمته من البداية وهو أن التكوين هو حاضر متجدد، وليس ماضيا محكيا، وسوف أكتفى فى هذا البعد بتقديم أمثلة لكل فئة لعلها تكفى فى هذه العجالة:
فإبنى الأكبر من ظهرى كان ومازال يمثل لى تحديا أتعلم منه، وحين تعثرت به الخطى فى مرحلة باكرة من حياته، ثم عاد وأنجز، كتبت إليه أدعوه أن يرانى أقرب، فيتبنانى أفضل، قلت فى ذلك: “يا ويحك ولدى: من خوفى، جشعى تحمل عنى - ولدى- عجزى، وأنا الأقوى، أدفعك تواصل سعيى وسلاحك أقصر، إلى أن قلت: ”سلمتك سيفك قبل العدة…، أشهدتك سرى من قهر الوحدة”، كل ذلك يشير إلى وعيى الكامل باستعمال إبنى أبا بشكل أو بآخر، وأعتقد أن هذا التراوح وتبادل الأدوار بين الأبوة والبنوة كان من أهم ما تكونت به ومن خلاله.
أما الأب الإبن الزميل فهو أ.د. محمد شعلان، فقد كان يمثل شيئا عكس ما هو أنا (ربما بقدر ما كان زوج عمتى يمثله لأبى، أو ما كان عبد الحكيم عامر يمثله لجمال عبد الناصر، أو حتى ما كان لاو تسو يمثله بالمقابلة بكونفوشيوس) وقد بدأت علاقتنا وهو طبيب امتياز فكنت الطبيب المقيم الذى أعلمه ألف باء الحرفة، وفى مهنتنا يقفز الصبى ليوازى المعلم ويصبح زميله بعد عام أو عامين، وقد كان، ثم تفرقت بنا السبل ,فكانت الخطابات بينى وبينه سلسلة من التكوين المحاور العميق، وخاصة فى الفترة التى راسلته فيها وأنا فى باريس وهو فى أمريكا، ثم صارت علاقة زمالة، وشركة، ومواجهة، واختلاف، وانفصال، واتصال، وكل هذا فى إطار من الاحترام والحركة أظن أنه كان لها دور هائل فى تكوينى، و أتصور أنه لو أتيحت الفرصة لنشر مراسلاتنا، وأغلبها ما زلت محتفظابه، فربما قالت للناس والزملاء، مثل ما قالته المراسلات بين فرويد يونج، أو حتى بين فرويد وفلايس (مع الفارق طبعا) أما مرضاى فاعتمادى عليهم لأتعلم منهم هو البعد الأبوى الوحيد فى آلعلاقة حيث لا مسئولية ولا حماية من جانبهم إلا ما ندر.، وأكتفى فى هذا باقتطاف ما وصفت به دورهم فى تكوينى يوما قائلا: بس يا خوانا دى سكة مدربكة: المريض فيها طبيب، والطبيب فيها يا حبة عينى ماشى ف بيت جحا، ييجى صاحبك ملط إلا مالحقيقة: ييجى يزقلها فى وشى وتنه ماشى، يبقى نفسى أقول دا مجنون وانتهى، بس ما اقدرتش ياناس.
وأخيرا، لا بد من التنبيه وأنا أتحدث عن التكوين أن الإنسان إنما يتكون ليس بما أحاط به ولا بمن تبناه أو حمله أو هداه، وإنما هو يتكون فى النهاية بحصيلة موقفه من كل هذا، ومدى تفاعله وتمثله لكل هؤلاء. وأحسب أننى أدركت مؤخرا بعض تفاصيل دورى فى استيعاب وهضم وتمثل وتفعيل العوامل التى أحاطت بى، فقد تبيت أننى رغم كل هذه المواكب من الآباء والأبناء، ورغم كل التفاعل مع كل البشر، و وسط كل هذه الأرضية من الإيقاع والامتداد، فقد ظللت محافظا على وحدتى، راضيا بها، متحركا منها، عائدا إليها، قلت فى ذلك ذات مرة: “عشقت وحدتى مسيرتى، رضيت بالحياة موتا نابضا مفجرا، أستنشق البشر وقلت فى موقع آخر: “من فرط وحدتى علمت نفسى القراءة، فيما وراء الأسطر المنتظمة، كذلك تبينت عاملا أخر كان له أ:كبر الأثر فى تكوينى، وهو أننى أخذت الكلام (كل الكلام) مأخذ الجد – فمن خلال علاقتى باللغة شعرت أن الكلام فعل حى، وترتب على ذلك أننى -كما وصفنى ذات مرة أستاذى الدكتور مصطفى زيور – أننى عشت فى مخاض مستمر.
العامل الثالث الذى لا بد أن أبرزه فى هذا المقام هو ما أدركته من قيمة الحركة فى تكوينى، سوآء كانت الحركة جسدية حيث ما زلت أستكشف الدنيا سيرا على الأقدام، أو وراء عجلة قيادة سيارتى، (مما سجلت بعضه فيما يمكن أن يكون من أدب الرحلات نشرمسلسلا باسم: الناس والطريق)، ثم حركة فكرية وجدانية مع كل ما يصلنى من الأصحاء والمرضى من احتمالات أخرى، مستعملا فى ذلك كل ما أمكن امتلاكه من أدوات التعبير، (من أول اللغة العلمية التقليدية حتى اللغة الأدبية بكل أشكالها شعرا ونثرا فصحى وعامية).
خلاصة القول أننى تكونت فى إيقاع هادئ، وبلغة محكمة، ووعى ممتد فى رحاب الله، معتمدا على عدد بلا حصر من البشر متفاعلا بهم، أتبادل معهم الأبوة والبنوة فى مرونة نشطة، كل ذلك وأنا محتفظ بوحدتى، مواصلا اندفاعى وتجريبى مما يزيدنى يقينا أنه لم يكتمل تكوينى بعد، وكيف يكتمل وأنا مازلت حيا أرزق؟