أين نحن الآن؟

نشرة “الإنسان والتطور”

17-8-2011

السنة الرابعة

العدد: 1447  

أين نحن الآن؟

مقدمة:

هذا حديث مع شابة صحفية مجتهدة أسئلتها بسيطة معادة كأنها لم تَقرأ لى حرف، ومع ذلك أجبتها بما أستطيع احتراما لاجتهادها برغم تواضع أسئلتها، ثم فجأة اكتشفت أنه حديث يلخص موقفى مما حدث ويحدث برغم أنه ليس فيه جديد تقريبا، إلا أننى رأيت نشره هنا بالإضافة إلى نشره فى الصحيفة التى طلبته فقد يفيد فى توضيح الموقف بإيجاز له دلالته، بعد سبعة أشهر.

(ملحوظة:  وطبعا حلاٌّ لأزمة شخصية تتعلق بوقتى)

سامحونى.

****

س 1: من وجهة النظر النفسية والاجتماعية.. ما هو الفرق بين الثورة والانتفاضة والتمرد؟

ج1- يضاف إلى هذه المصطلحات مصطلح الانقلاب، والفوضى:

البدايات تكاد تكون واحدة، ولا يظهر الفرق عادة إلا بتتبع نتائج أى منها، وبعد فترة ليست قصيرة، تماما.

يمكن فهم ذلك مقاربة ببداية الجنون والإبداع فالبداية واحدة حيث يحدث فى كل من بداية الجنون وكذا بداية الإبداع تفكيك القديم، وكسر الجمود، والاندفاعة، ثم تأتى المرحلة فالمراحل التالية لتحدد الفرق، فإذا تمادى التفكيك وكسر الجمود، نتج عنه التفسخ فالجمود، فهو الجنون، وإذا استطاع صاحب التجربة لم مفردات ما فكَّكَ ليعيد من خلاله تشكيل نفسه، أو تشكيل موضوع ابداعه، أنتج إبداعا جديداً بكل معنى الكلمة.

 نفس الحكاية بالنسبة للظواهر المعروضة فى السؤال: الثورة تكون ثوره حين يتمكن القائمون بها من إعادة تشكيل ما تفكك واستيعاب طاقة اندفاعها ليتكون مجتمع جديد أفضل، وإلا فكل البدائل التى ذكرت تصبح هى الراجحة من أول الفوضى حتى الانقلاب.

****

س 2: وأيهما ينطبق على ما حدث فى مصر؟

ج2- نحن للأسف مازلنا فى مرحلة الاندفاعة والتفكيك، وقد تعطلت المسيرة لدرجة الخطر، أنا أطلق على الثورة عموما اسم “الابداع الجماعى”، وهذا لم يتم بعد على الوجه المناسب نتيجة فرط التركيز على التعامل مع الماضى (فالثأر والانتقام ..الخ) أما إعادة التشكيل  فهى مسئولية الجميع وليست مسئولية الحكام فقط، هى مسئولية كل فرد من الشعب دون استثناء، فنحن مازلنا فى بداية الطريق، وربنا يستر.

****

س 3: إلى أى مدى ترى تأثير المظاهرات على صنع القرار فى الوقت الحالى؟ وهل هناك وقت يجب أن نكف عنها فيه؟

ج3- الآوان آن من زمن، لكن المظاهرات الآن أصبحت لغة جماعية بين فرق متنافسة، وكأنها انتخابات وإعادة انتخابات بما يسمى الديمقراطية المباشرة (دون إنابة) وهذا مقياس جيد لكنه خطر، لأن الفعل الجمعى فى حالات الانفعال الجماعى العاطفى ليس عقلا حاسبا مخططا مسئولا، وإنما هو يمثل جماعة منصهرة بالغليان لا أكثر، وأحيانا  نكتشف فى كثير منها ما هو بدائى فعلا، مما لا أحب أن اسميه “عقل القطيع”، لأننى أحذر من استعمال هذا الاسم حتى لا يؤخذ لحساب الدفاع عن النظام السابق، أو يفتح الباب للتحسر على الحالة التى كنا نعيشها، وإنما اضطررت لذكره هنا حفزا لحمل المسئولية فورا ودائما.

****

س4: أيهما نحتاج أكثر الآن: حماس الشباب أم حكمة الكبار؟

ج4- أنا لا أميل إلى هذا التقسيم، للشباب حكمته، وللكبار حماسهم،  بصراحة أنا ألتقى شبابا هم كهول بحق، يقاس الشباب فى مقابل الكهولة بالقدرة على التغيير، الشباب طاقة، والحكمة تخطيط، وكلاهما موجود عند الكبار والصغار على حد سواء، ولابد من ضبط جرعة الحماس لإمكان تفعيل التخطيط، وفى نفس الوقت لابد من حسن التوقيت لتحديد متى يكون الحماس هو الأهم، متى يكون التخطيط أولى بالاهتمام ثم يتبادلان وهكذا.

****

س5: درسنا فى علم النفس “سيكولوجية النصاب” هل هناك سيكولوجية لـ”البلطجية”؟

ج5- طبعا وعندى أن دراسة  سيكولوجية البلطجى هى أهم من سيكولوجية النصاب.

 البلطجى هو خارج عن القانون وله قانونه الخاص المضاد للمجتمع، وللقيم السائدة، وهو مجرم قاس متبلد فى كثير من الأحيان، لأن الأعمال التى يقوم بها عادة ما تضر أبرياء ليس لهم علاقة بمهمته التى يكون مأجورا عليها عادة، وهو يعتبر نفسه دولة صغيرة لها قوانيها الخاصة، وهو يغير على الآخرين بمقابل دنىء، وكل هذا يفرق بينه وبين الفتوة الذى قد يكون فى كثير من الأحيان فارسا وراعيا كما علمنا نجيب محفوظ فى “ملحمة الحرافيش” .

****

س6: هل تتعارض المطالبات بالمحاكمات العلنية لرموز النظام السابق مع مشاعر التسامح المعروفة عن الشعب المصرى؟

ج6- طبعا.

للمحاكمة العلنية فائدتها، بل وضرورتها لكن لها شروطها وحدودها أيضا، فهناك مبدأ قانونى يقول أنه “لا يكفى أن تُحق الحق أو تقيم العدل وإنما ينبغى أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك”، هناك علم اسمه “علم العقاب” وهو غير “قانون العقوبات” طبعا، هذا العلم يتكلم عن جدوى العقاب على مستويين: “الردع الخاص” والردع العام”، أما الردع الخاص فالمقصود به أن المجرم حين يلقى جزاءه بحكم عادل يحرمه من الحرية لفترة ما، أو يحرمه من الاحترام، أو يحرمه مما استولى عليه، أو يغرمه غرامة مقابل ما اقترف، فهو يرتدع فلا يعود هو شخصيا إليه، ولهذا سمى “الردع الخاص”، أما “الردع العام” فهو أن عموم الناس حين يشاهدون ذلك رأى العين، تصلهم رسالة أن المجرم يلقى جزاءه حين يخترق القانون فهم بذلك يدركون أن هذا ما ينتظرهم إن هم حذوا حذوه فلا يعرضون أنفسهم لمثل  هذا العقاب، وهو ما تعنيه الآية الكريم، ولكن فى مجال آخر وهو الحرب هذه الآية التى تقول:”فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ”.

لكن العلانية لا تبرر هذه الاحتفالية الإعلامية عبر العالم هكذا، بعرض الرئيس السابق على سرير بهذا المنظر وهو يستطيع الجلوس طبعا، هذه العلانية هكذا قبيحة اللهم إلا لابلاغ الناس، والشباب خاصة، جدية المحاكمة، وصعوبة تطبيق العدل بأسلوب مسئول غير الهتافات والتهييج، أما تكرار ذلك فهو أقرب إلى الفرجة والاستثارة على الناحيتين. (والحمد لله توقف العرض القبيح بعد الاطمئنان لوصول الرسالة)

****

س7: كيف يمكن استخدام مشاعر التسامح والتعاطف فى مرحلة البناء القادمة؟

ج7- مشاعر التسامح ليست دليلا على الضعف دائما، والتعاطف هو ان تشعر بشعور الآخر حتى لو كان مخطئا أو سيئا أو مجرما، “من كان منكم بلا خطيئه فليرمها بحجر” هذا هو ما تعلمناه من سيدنا المسيح عليه السلام، كل هذا صحيح وهو من طبائع الشعب المصرى الأصيل، لكن على شرط ألا يتدخل التعاطف فى التأثير على العقاب وألا يعطى فرصة للمجرم أن يتصور أنه مظلوم أو مجنى عليه فيعطل جدوى العقاب .

****

س8: بماذا تفسر استمرار حالات الهجرة غير الشرعية بعد الثورة؟ ومتى تتوقع أن تنتهى حالات “فقدان الأمل” التى يعيشها الشباب؟

ج8- علينا ألا نتوقع أن يتغير سلوك الناس فى شهور أو حتى سنين قليلة، الهجرة غير الشرعية كمظهر من فقدان الأمل تعلن جوع الشباب وحرمانهم وبطالتهم من جهة، كما تعلن نوعا من الحماس والمغامرة من جهة أخرى، فهل انتهى هذا أو ذاك نهاية واضحة حتى نتوقع أن نرى آثارها على أرض الواقع؟ كيف نتوقع توقف الهجرة غير الشرعية والأسباب مازالت موجودة هى هى، بل إنها تزيد مع زيادة البطالة وتدهور الوضع الاقتصادى هكذا؟ الشباب الذين كانوا مهاجرين شرعيا هجرة داخلية إلى شرم الشيخ والغردقة مثلا عادوا جوعى إلى منازلهم الآن، فمن البديهى أن يتوجهوا إلى الخارج وبطريق غير شرعى حتى لو غامروا بمخاطرة الموت.

****

س9: قرأنا كثيراً عن دراسات تؤكد ارتفاع نسبة الاكتئاب بين المصريين وفى الوقت نفسه دراسات تؤكد أنهم سعداء.. أيهما تصدق؟

ج9- هذا كلام مبالغ فيه، ومع احترامى لهذه الدراسات فإنى أود أن أنبه انه ليست كل ما يسمى دراسة هى عملية علمية  بالضرورة خصوصا الدراسات الانتشارية (= مدى انتشار مرض بذاته)، فالعينات التى تخرج منها مثل هذه النتائج هى عادة لا تمثل كل فئات الشعب تمثيلا صادقا، كما أن الحد الفاصل، بين الحزن العادى خصوصا فى ظروفنا الحاضرة وبين ما يسمى اكتئاب مرضى هو حد نسبى، كذلك فإن استعمال لفظ “سعداء” يحتاج وقفة خصوصا هذه التى أشعر فيها أن الإفراط فى الشعور بالسعادة دون فعل مناسب، ومسئولية شائكة، إنما يدل على عدم النضج وربما على التبلد الداخلى نتيجة النكوص بشكل أو بآخر.

****

س10: وماذا تتوقع أن تكون النتيجة إذا طبقت دراسة جادة حول نفس الموضوع الآن؟

ج10- أستبعد أن تجرى دراسة جادة فى ظروف مراكز الأبحاث الحالية، وأيضا فى ظروف ثقافتنا الخاصة، فالقيم التى نقيس بها هاتين الظاهرتين (الحزن/السعادة) أغلبها مستورد، أما ما نعيشه نحن فهى قيم متعلقة بثقافتنا الخاصة بشكل أو بآخر، وأنا أفضل أن نبذل الجهد العلمى فى تقييم قيم عملية تتعلق بالانتاج مثلا، أو بالاتقان، أو بالابداع، أو بقيمة الوقت، أو بالانجاز. هذا أكثر فائدة لنا وأحكم قياسا من أن نقيم دراسات نصعق بها الناس فوضى هكذا.

****

س11: قيل أننا شعب نصنع “الفرعون” .. كيف نتحاشى صنع فرعون جديد؟

ج11- هذه حقيقة ولها جانب إيجابى رغم كل شىء، وعندنا مثل عامى جميل يقول “اللى مالوش كبير يشترى له كبير” وقد فزعت من أن تنقلب محاكمة حسنى مبارك هكذا علانية وفى وسائل الاعلام بهذه الصورة المتكررة، أن تنقلب إلى فرحة ومنظرة لا تخرج منها إلا بتحطيم للمعنى الإيجابى للكبير خصوصا عند الأطفال، المطلوب هو مجرد عينة من المحاكمة ليطمئن الشباب إلى أن المسألة جادة، أما تكرار ذلك بهذه الصورة، فهى تصبح مسألة اقرب للفرجة كما ذكرت مع تحطيم قيمة “ما هو كبير”، وما هو دولة ، ولا ننسى أن الدولة تتكون داخلنا مع حضورها خارجنا، خصوصا داخل الأصغر منا، الدولة كيان داخلى يتكون من الطفولة ثم نتعامل معه بعد ذلك كيانا خارجيا يحكمنا، وهكذا. (انظر أيضا: طفلة مصرية تبحث عن رئيس)

****

س12: كثيرون أعربوا عن أنهم قد فوجئوا بإمكانات الشباب المصرى هل كنت من بين المستغربين؟ .. وآخرون أعربوا عن استغرابهم من حجم الفساد الذى كان موجوداً.. هل هى حيلة نفسية للهروب من مسئولية المواجهة؟

ج12- لم أستغرب قيام الشباب بما قاموا به، فأنا أثق فى الأطفال والشباب أكثر من ثقتى فى الكبار الذين همدوا من طول عدم استعمال قدراتهم، والتنازل عن كرامتهم، ومن التسليم، ومن التكرار، ثم إن وعى الشباب يتشكل على مدى طويل، وبطريقة ليست ظاهرة بالضرورة، فإذا ما تفجر وأخرج ما تراكم فيه، فإنه يعلن الموجود ولا يعلن أنه تحول جذرى، أو اكتشاف جديد خالص.

أما حجم الفساد فأظن أن الجميع – وأنا منهم- كنا نعرف أنه أكثر حتى من مجرد تصورنا، المصيبة عندى هى ليست فى حجم الفساد المادى، ولكن فى حجم فساد القيم السائدة فى المجتمع مثل خراب التعليم سواء كما يظهر فى رشاوى الامتحانات وأرقام التفوق الدالة على غياب التعليم وتفاهته (الثانوية العامة والـ 99% مكرر) أو فى فكرة الغش سواء كان الغش الفردى أو الجماعى (باشتراك الأسر) أو الرسمى (باشتراك المدرسة والمدرسين).

****

س13: كيف نستطيع التغلب على تضارب المشاعر الذى يمر به معظمنا بين يأس وأمل وحزن وسعادة وإحباط وتفاؤل؟

ج13- ليس المطلوب أن نتغلب على تضارب المشاعر، إن ما علينا هو أن نعرف أن هذا التضارب هو أقرب إلى الطبيعة البشرية من التعامل مع المشاعر بالأساليب الاستقطابية المسطحة، أعنى أن نقسم المشاعر: إما حزن وإما فرح، إما كره وإما حب، إما يأس وإما أمل، هذا اختزال لوجودنا وتفكير سطحى لا يعين على النضج ولا ننمو من خلاله، ولا يدعم الابداع، علينا أن نعيش كما خلقنا الله بكل هذه المشاعر معا، وأن نتحمل ما نمر به وأن ندع مشاعرنا الصادقة تتفاعل مع بعضها البعض فتنضج ونواصل ونصنع الثورة الحقيقية فالحضارة

****

س 14: هل يمكن من الناحية النفسية والعلمية توصيف شخصيات المرشحة للرئاسة؟

ج14- أولا: هم عدد أكبر من أن يوصف فكيف أعلق عليهم واحدا واحدا

ثانيا: أنا لا أعرفهم ، وليست عندى معلومات كافية عن أى منهم

ثالثا: أنا أرفض – وأوصى برفض- الحكم على شخص أو شخصية بمجرد مشاهده صورته أو قراءة حوار معه أو مشاهدته فى احتفالية من احتفاليا التوك شو

فعذرا

ما هذا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *