الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / استشارات مهنية (4) نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا!

استشارات مهنية (4) نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا!

“يوميا” الإنسان والتطور

 29-6-2008

العدد: 303

استشارات مهنية (4)

من د. أميمة رفعت (أيضا)

نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا!

مقدمة

 

(سوف نكرر فى كل مرة:  أن  اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى التدريبى، وكذلك فإننا لا نرد أو نحاور أو نشرف إلا على الجزئية المعروضة فى تساؤل المتدرب، وأية معلومات أخرى تبدو ناقصة لا تقع مناقشتها فى اختصاص هذا الباب).

مازلت الصديقة د. أميمة هى أكثر المتحمسات (والمتحمسين ممن لم نعرف بعد) لمسيرة هذا النوع من تبادل الخبرات، فنحن نشكرها

وسوف ننشر، مثل المرة الماضية، الحالة كما جاءتنا كاملة، ثم نعقب عليها جزءا جزءا،

 ودعينى أستأذنك يا أميمة أن أنتهز فرصة أمانتك فى نقل خبرتك، لأقول بعض ما عندى من خلال عرضك لحالتك، فلعل ذلك يكون أنجح توصيلا إلى من يهمه الأمر، حتى لو لم تطلبيه أنت،

لكننى أيضا سوف أحاول فى النهاية أن أرد على تساؤلاتك الختامية على قدر استطاعتى.

د. أميمة رفعت (الحالة كلها أولا):

“ش\” ذهانية مريضة بالاكتئاب،  عمرها  44 سنة ، فلاحة أمية من كفر الدوار، مطلقة، تزوجت لمدة عام واحد أو أقل قليلا ، ليس لديها أولاد .عندما كان عمرها 22 عاما تزوجت شابا مزواجا، لديه بالفعل زوجتان، طلق الأولى ليتزوج منها. \”ش\” حملت منه بعد الزواج مباشرة , وفى شهرها السابع ضبطته فى وضع جنسى مع أخرى خلف الدار . غضبت وتشاجرت معه ولكن حماتها نهرتها بشدة وأسكتتها لأن (الرجل من حقه أن يفعل ما يشاء ووظيفتها  خدمته و إنجاب أطفاله فقط) . بعد بضعة أيام قامت مشاجرة بالأيدى والأرجل بينها و بين ضرتها كانت نتيجتها إجهاض الجنين، فدخل الزوج عليها غاضبا وأوسعها ضربا لفقدها الطفل ثم طلقها فى اليوم التالى. إنهارت \” ش\” تماما و بدأت تسمع أصوات تحثها على التخلص من حياتها فسكبت على رأسها الجاز وأشعلت فى نفسها النار ، فتشوه وجهها وصدرها وذراعاها وكفاها تشوها شديدا . أثناء علاجها فى قسم الحروق كانت مكتئبة بشدة  ولازمتها الأصوات و الهلاوس فكادت ترمى نفسها من شرفة المستشفى لولا أن التمريض منعها, ومنذ ذلك اليوم وهى مترددة على مستشفى النفسية. ظل الزوج على عادته من زواج وطلاق حتى قتل منذ عامين بيد صعيدى تزوج أخته ثم خانها مع أخرى, وبذلك تكون قد طويت آخر صفحة من حياته.. ولكن لم يغلق ملفه عند \”ش\”. بدأت علاجها منذ عام و نصف تقريبا, وأدخلتها العلاج الجمعى وكانت معذبة بشدة  بحبه, وتظن أنه لو يمكن الرجوع بالزمن لكانت ( زوجة مطيعة محبة تستطيع الإحتفاظ به إلى الأبد ) فقد كانت تشعر بالذنب و لم تستطع الخروج من هذه الدائرة. خرجت \”ش\” من المستشفى بعد ستة أشهر من العلاج الجمعى ولم أشعر أنها إستفادت أى شىء, أو أنها تحسنت بأى صورة. بعد أربعة أشهر رجعت ثانية وهى فى حالة يرثى لها , لا تأكل ولا تنام ولا تتحرك ولا ترد على أى إنسان وأقرب ما تكون إلى حالة Stupor  أردت أن أضيف إلى علاجها علاج بالصدمات ( تنظيم إيقاع المخ) , ولكننى بدلا من أن أفعل ذلك وجدتنى أجلس أمامها وأتناول يديها بين يدى وأطلب منها أن تحضر أول جلسة فى مجموعة العلاج الجمعى الجديدة, لم ترد و أخذتها معى …و قبل أن توبخنى يا سيدى فقد وبخت نفسى فى الطريق بشدة ونَعتُ نفسى بالإندفاع والغباء ولكننى لم أستطع التراجع. ومع ذلك فما حدث كان مفاجأة ..فبعد حوالى ربع ساعة من الجلسة بدأت ترد وتستجيب بصوت خفيض أولا ثم تكلمت و أطالت بل وآخر خمس دقائق إشتركت فى دور مينى دراما !!لم أعطها الصدمات و بدأت فى التحسن… فى العلاج الجمعى حدث تغيرات كثيرة , فقد بدأت تميز أنها لا تحب زوجها فقط و لكنها أيضا تكرهه بشدة و بدأت تتعجب  لتبادل الشعورين عندها..و ربما يجب على هنا أن أنوه أن هذه المريضة بالذات لديها قدرة غير عادية على إستخدام الكلمة و اللفظ فى مكانهما الصحيح ، كما تستطيع سبر غور نفسها وغور زميلاتها بحساسية شديدة و تشرحه و كـأنها تقرأ ه من كتاب.  ففى إحدى  الجلسات مثلا كانت تعيد إحياء موقف حدث مع مريضة أخرى وبعد أن إنتهت قالت أن ما وصلها  أن هذا الجزء من السلوك قام به الطفل الذى بداخلها والجزء الآخر  قامت به \”ش\”الكبيرة العاقلة التى تريد أن تحتوى الموقف…!!! (إريك بيرن أم ماذا؟ ( المهم أنه فى جلسة أخرى كان حديث المريضات عموما عن أزواجهن وبكت \”ش\” بشدة وكانت هذه على ما يبدو آخر صفحة فى قصتها المؤلمة وأغلقت ملف الزوج , فتكلمت لأول مرة عن موته , وبموضوعية عن مميزاته وعيوبه, ولم تعد مشاعرها ناحيته موجعة …و بدأ الحوار يصبح محوره هى شخصيا بدلا من زوجها. فوصفت الحالة التى دخلت بها المستشفى كالآتى ( الدنيا ضاقت فى وشى ومش عاوزة أعيش لكن مش عاوزة أأذى نفسى تانى , لما الجسم يموت كل حاجة تانية بتموت, مددت على السرير وقفلت عينى وبطلت حركة خالص لغاية ما بدأت أحس إن جسمى بيموت, لكن مرات أخويا غسلت شعرى وحمتنى وقالت لى ريحتك بقت معفنة و أخذونى المستشفى)… الحقيقة أنه أقشعر بدنى , فهذه أول مرة أسمع شخصا يصف إماتته لنفسه هكذا…. إنتقلت\”ش\” بعدها إلى مرحلة أخرى , فقد بدأت تبحث لنفسها عن هدف فى الحياة وبرغم تخبطها وخلطها بين الهدف والعائق للهدف فقد كانت متحمسة. رأيتها مقبلة على الحياة منطقها سليم, واقعية إلى حد ما, محبة للجميع، سعيدة  ،مشرقة الوجه بالرغم من ندوبها , وكالطفلة  التى تريد أن تبدأ حياة جديدة،  فظننت أنه قد آن الأوان لخفض جرعات الأدوية والبحث عن ذويها لأخذها فى إجازة و كان قد مر سبعة أشهر على العلاج دون أى زيارة من أهلها . و كم كنت مخطئة .. فقد أخذت ترتد و تفقد حيويتها و أسرعت بإعادة الجرعات السابقة دون فائدة, مر أسبوع وكنت قد أجلت جلسة العلاج الجمعى لأسباب خارجة عن إرادتى , والمريضة تتدهور، وفى آخر الأسبوع الذى يليه وجدتها الممرضة فى الصباح الباكر ممدة كالجثة بلا حراك تحت السرير. للمرة الثانية أقرر علاج الصدمات, ثم لا أعطيه, ودخلت جلسة العلاج الجمعى , وكما حدث تماما فى المرة الأولى تفاعلت وتحسنت وحالتها الآن مستقرة منذ أسبوعين.. السؤال هو : ما التفسير (على مستوى السيكوباثولوجى) لإستجابة المريضة السريعة للعلاج الجمعى , وهل يمكن الإستفادة من ذلك فى منع دخولها فى نوبات إكتئاب أخرى. وهل كان يفيد علاج الصدمات بالرغم من تحسنها؟ فهل تنصحنى به الآن مثلا؟ ولماذا ترتد المريضة إلى هذه الحالة بالرغم من كل هذا التغيير الذى طرأ عليها؟ (من السخف الإعتذار كل مرة عن الإطالة ولكننى فعلا لم أستطع الإختصار أكثر من ذلك)

د. يحيى:

شكرا د. أميمة ، وهيا بنا واحدة واحدة

د. أميمة:

ش\” ذهانية مريضة بالاكتئاب،  عمرها  44 سنة ، فلاحة أمية من كفر الدوار ،

د. يحيى:

أصبحت أتحفظ يا أميمة على تعبير”مريضة بالاكتئاب” ، من كثرة استعماله فى موضعه وغير موشعه، لكننى أرحب بتعبير “ذهانية، علما بأن محاولات التصنيف والتوصيف  الأحدث للتشخيص ليست أفضل على كل حال.

ثم إنى أفيدك، وأفيد الجميع،  أننى تعلمت من الأميات ما هو إمراضية “سيكوباثولوجى” Psychopathology أكثر مما تعلمت من المتعلمات والمتعلمين، ناهيك عن المثقفين، وأعتقد أننا فى مصر ، وفى البلاد التى مثلنا، عندنا هذه الفرصة – لمن احترَمَ ونَظر – أكثر من البلاد التى محت الأمية الكتابية القرائية بالسلامة، حيث لا توجد عندنا – بفضل الجهل- شبهة أصلا لتأليف حركات وتقلبات  التراكيب النفسية الأعمق  نتيجة للقراءة عنها ، فأغلب ما نسمعه من هؤلاء المرضى الثقات، هى معايشة طليقة غير ملوثة بما نشيعه عن المرض النفسى ، أو حتى نعتقده عنه. 

 الأمى يا أميمة يقول ورزقه على الله، وعلاجه على من يحترمه ويفهمه ويواكبه بفضل الله.

ما زلت أذكر – يا أميمة- خبرة باكرة جدا، حين عاد  من أنجلترا زميل حصل على  شهادة عليا وتدريب جيد، وبدأ تجربة العلاج الجمعى مع مجموعة من  طلبة الجامعة، (ربما لضمان عدم أميتهم!!)،  ثم توقف هذا الزميل الفاضل عن تكملة التجربة،  بحجة أن هؤلاء المرضى – مع أنهم جامعيون-  يفتقرون إلى الرطانة أو الطلاقة النفسية، أو التحليلية النفسية ، أو بتعبيره not psychologically (or psychoanalytically) sophisticated  ، وقد تعجبت ساعتها، وبلعتها احتراما لجهلى،  ولجهد محاولته معا، وظل حالى كذلك حتى مارستُ شخصيا العلاج الجمعى مع ناسنا “كما هم”، وذلك طوال الثمانى والثلاثين سنة الماضية فى قصر العينى بوجه خاص، مع مجموعات عيادة خارجية، مجانا، وأغلبهم مرضى من الطبقة التى تسمى “أدنى”، وأكثرهم  ذهانيون وأميات..إلخ، فكانوا – وما زالوا- أساتذتى بحق طول الوقت، هؤلاء الأميين والأميات دافعوا عنى حين أقروا –بتفاصيل مرضهم-  رؤيتى من خلال تلقائيتهم العفوية وألفاظهم البسيطة، فرحمونى من اتهام أننى اوحي لمرضاى بتنظيرى فيرددونه،

أنا مدين لهم تماما يا أميمة،

ليس معنى هذا أننى أصفق للأمية أو للتخلف، لكن الاستطلاع العلمى شىء آخر، وعلينا ألا نخجل من فقرنا أو جهلنا، فعندنا ما يكمل ما عندهم ، حتى لو كان بالصدفة، فهم مثلا  يحاولون دراسة الحالات الذهانية الشديدة التى تتواتر فى مجتمعاتنا دون مجتمعاتهم والتى لم تتعاطَ عقاقير أصلا (بسبب الفقر غالبا) ليعرفوا المرض قبل أن تلعب فى صورته العقاقير (!!)، لكن هذه مسائل أخرى ، خلنا فى حالتك: 

د. أميمة:

هى مطلقة ، تزوجت لمدة عام واحد أو أقل قليلا، ليس لديها أولاد .عندما كان عمرها 22 عاما تزوجت شابا مزواجا، لديه بالفعل زوجتان، طلق الأولى ليتزوج منها. \”ش\” حملت منه بعد الزواج مباشرة, وفى شهرها السابع ضبطته فى وضع جنسى مع أخرى خلف الدار .غضبت وتشاجرت معه ولكن حماتها نهرتها بشدة وأسكتتها لأن “الرجل من حقه أن يفعل ما يشاء و وظيفتها خدمته و إنجاب أطفاله فقط”..

د. يحيى:

ألم تقولى يا أميمة أن عندها 44 سنة؟  إذن فقد مضى على هذا الحادث اثنتان وعشرين سنة، إن عرضك هكذا يوحى أن ما أصابها هو عقب زواجها مباشرة، أما علاجها فهو الآن، صعب متابعة هذه الحالة دون أن نعرف تفاصيل هذه الاثنتين وعشرين سنة (بصراحة: فى أول قراءة لم أنتبه إلى هذه المدة، وتصورت أن الحالة بدأت حالا!!)

ومع ذلك : أعتقد أن هذا مدخل مهم ننظر فيه سويا ونحن  نراجع بعض تشكيلات هذا القهر الساحق الذى لا  يزال يجرى فى مجتمعنا اليوم (2008)

هذه صورة عشوائية لوضع المرأة عندنا هنا والآن،  وهى طبعا لا تمثل كل النساء، كما أن بعضنا يظن أنها تراجعت قليلا أو كثيرا عن ذى قبل، وربما يكون هذا البعض على حق نسبيا، أو لعله يأمل فى تراجعها فصدقها، لكن واقع الأمر أنها صورة مازالت موجودة، وبكل هذه القسوة.

 لا مجال للتعقيب عليها بالحديث عن مدى ظلم المرأة فى مجتمعنا وقهر الرجل لها، فالصورة أوضح من أى تعليق، فقط : أريد الإشارة  إلى موقف حماة المريضة، وهى امرأة، أليس كذلك؟، ثم موقف الضرة، التى لم نعلم عنه شيئا، وهى امرأة ، ثم موقف الأخرى التى ارتضت أن تستسلم أو تشارك فى هذا الوضع الجنسى خلف الدار، وهى امرأة ، ناهيك عن موقف الزوجة الثانية التى طُلقت ليتزوج زوجها من مريضتنا ! أربعة نساء جاؤوا فى حكايتك يا أميمة :  زوجة ثالثة، وضرتها، وحماتها، والرابعة امرأة “خلف الدار”، وكلهن مقهورات مقهورات مع اختلاف التشكيل، نعم، كلهن  بما فى ذلك الحماة ، فقد تصورت أنها تنتقم من نفسها بما قالت، وليس فقط من زوجة ابنتها، هذا ما وصلنى ، بشكل ما، يا ساتر !! هل لهن خيار أصلا هكذا؟ لست أدرى.

برغم كل ذلك،  لا يصح أن نختزل سبب مرض “ش” إلى هذا السبب المباشر،  وإلا بدت المسألة  مسلسلاتية مسطحة، لأن كل مقهورة (ومقهور) يمكن أن يصيبه ما هو ألعن من المرض النفسى.

 ما علينا، دعينى  أوقف هذا الاستطراد قسرا. وأرجع إلى تفاصيل حالتك،

ثم ماذا؟

د. أميمة

بعد بضعة أيام قامت مشاجرة بالأيدى والأرجل بينها وبين ضرتها كانت نتيجتها إجهاض الجنين، فدخل الزوج عليها غاضبا وأوسعها ضربا لفقدها الطفل ثم طلقها فى اليوم التالى.

د. يحيى

لا أعرف يا أميمة موقع الإنجاب هنا، ولا سبب حرص الزوج على هذا الطفل، هل يا ترى زوجته الحالية، بعد أن طلق الأولى، كانت عاقرا، فتزوج من مريضتنا للإنجاب؟ ؟

أما  أنه ضربها فقد ضربها، بعد أن ضربتها ضرتها بالأيدى والأرجل،

أما أنه ضربها لفقدها طفلها فهذا ما توقفتُ عنده وشككت فيه، ثم إنها لم تجهض نفسها، بل ضرتها – على حد قولك- هى التى ضربتها، فأجهضتها، وكان الأوْلى من هذا الزوج الذى اقتنى مفرخة جديدة، أن يطلّق ضرتها، أو حتى أن يطلقهما جمّعا !!

بصراحة لقد  افتقدت هذه المعلومات وأعذرك لاضطرارك الاختصار، فاعذرينى للتساؤل. ثم ماذا ؟

د. أميمة: 

إنهارت “ش\” تماما و بدأت تسمع أصواتا تحثها على التخلص من حياتها فسكبت على رأسها الجاز وأشعلت فى نفسها النار، فتشوه وجهها وصدرها وذراعاها وكفـّاها تشوها شديدا. أثناء علاجها فى قسم الحروق كانت مكتئبة بشدة  ولازمتها الأصوات و الهلاوس فكادت ترمى نفسها من شرفة المستشفى لولا أن التمريض منعها,

د. يحيى

الإيقاع سريع، يا أميمة، وقد بدا لى خطـّيا أكثر مما توقعت، وغياب التوقيت الزمنى تحديدا يزيدنى ربكة،  ثم إن فشل الانتحار مع ترك هذه التشوهات خصوصا فى الوجه، هو أقسى مما لو كان قد نجح، وتكرار محاولة الانتحار فى المستشفى له دلالته كنذير حقيقى لخطر حقيقى.

ظهور الهلاوس السمعية (الأصوات) بدا لى أيضا يحتاج إلى بعض الإيضاح : هل كانت هلاوس آمِرة هى التى أمرتْها  فحرقت نفسها ، أم أنها كانت هلاوس اكتئابية عدمية مثلا ، أو ربما كانت  هلاوس الذنب لو أنها صدقت أنها –شخصيا- كانت السبب فى الإجهاض، وهذا وارد فى هذا النوع من الاكتئاب، حتى لو خالف الحقيقة تماما؟

ثم إنك أشرت لاحقا أنها  كانت تحب زوجها هذا، وهو مَن هو كما ذكرتِ،  وهذا قهر جديد، وبالتالى تكون صدمة الطلاق ليست أقل من صدمة الإجهاض، وذل القهر، كل هذا محتمل للأسف،

الأمور غير واضحة لى،

 ثم ماذا؟

د. أميمة: 

 منذ ذلك اليوم وهى تتردد على مستشفى النفسية.  وقد ظل الزوج على عادته من زواج وطلاق حتى قتل منذ عامين بيد صعيدى تزوج أخته ثم خانها مع أخرى, وبذلك تكون قد طويت آخر صفحة من حياته..، ولكن لم يغلق ملفه عند \”ش\”.

د. يحيى

تعرفين يا أميمة أننى أصدق كل حرف تقولينه، ومع ذلك شعرت أننى أمام مسلسل مثير سريع درامى صارخ مباشر للأسف، ما علينا، إذن فقد قتلوا  الزوج منذ عامين، أى بعد الطلاق بحوالى عشرين سنة،  لعله انتقام من الله ، أو غير ذلك،

الذى شدنى فى حالتنا هذه – بما يتيح لى فرصة شرح معلومة هامة – هو إشارتك التى تفيد أن نتذكر أن الوفاة الجسدية (بالقتل أو بغيره) لا تعنى اختفاء المتوفى من وعينا، فقد يظل حضوره الحقيقى قائما فاعلا “كـ….ذاتٍ” منطبعة فاعلة فى أى طبقة من طبقات وعينا، يحدث هذا حتى فى الأحوال  السوية، خصوصا بين الآباء الطغاة القساة الشكاكين وأبنائهم، خصوصا إذا حضرالإبن وفاة والده وهو يحمل تجاهه تلك المشاعر المتناقضة، ، يحدث هذا أيضا فى أية علاقة حميمة حال الموت دون أن تأخذ مسارها فى النضج من الطرفين قبل أن يختفى أحدهما

ولكن عندك، نحن فى ماذا أم ماذا؟ أى نضج وأى أطراف أصلا؟ ما هذا؟ نحن فى حرب قهر وإذلال وحب غبى  وعلاقة غير متكافئة، تقولين ” لكن لم يغلق ملف الزوج الحبيب القتيل  عند “ش”، هذا صحيح

فكيف كان ذلك؟

 د. أميمة: 

. بدأت علاجها منذ عام و نصف تقريبا, وأدخلتها العلاج الجمعى وكانت معذبة بشدة  بحبه، وتظن أنه لو يمكن الرجوع بالزمن لكانت زوجة مطيعة محبة تستطيع الاحتفاظ به إلى الأبد، فقد كانت تشعر بالذنب و لم تستطع الخروج من هذه الدائرة. ثم خرجت \”ش\” من المستشفى بعد ستة أشهر من العلاج الجمعى ولم أشعر أنها استفادت أى شىء, أو أنها تحسنت بأى صورة.

د. يحيى

أعتقد أن هذه ملاحظة شديدة الدلالة والأهمية، فما أصابها من مرض شديد هكذا قد يبدو لأول وهلة نتيجة مباشرة للظلم الذى وقع عليها، لكن ها نحن نتبين أنه أقرب إلى أن يكون – فى الظاهر على الأقل- نتيجة لخلل علاقاتى يسمى “الحب” (الذى يبدو أنه استمر عشرين عاما بعد كل ما حدث !!)، وهو هنا يبدو خليطا من الهوان، والتقمص (ربما للانتقام لاحقا)، والامّحاء، وعقاب الذات، والاعتمادية، وقبول التحدى، والاستسلام للتأثيم(الإشعار بالذنب)  تصورى؟؟، ومع ذلك قد يجتمع كل هذا معا ويسمى”حبا”، تصورى – مرة أخرى ! ؟!!!  وبالتالى كما نعلم، أو نتصور أننا نعلم، يطيع المحب محبوبه ويتفانى فى إرضائه، ولكن ليته رضى !! لقد  طلقها، ثم زودها فمات (رضى أن يموت مقتولا !!) فهو تخلى عنها نهائيا ، وبذلك  قتل –بموته- أملها فى الرجوع أصلا (ولو بعد عشرين سنة !!) ، لقد  رفضت موته فأبقته حيا فى وعيها،  ربما لتنتقم منه، وهنا قد نفهم دلالة تعبيرك : الاحتفاظ به “إلى الأبد”، أنا لست متأكدا هل هذا كان تعبيرها هى ، بنفس الألفاظ (إلى الأبد) أم أنه وصفك أنت لموقفها المتعلق بالحبيب الطارد ثم الراحل !! ؟

بالله عليك هل رأيت ذلا أكبر من ذلك، ألم تشعرى أنها تواصل ما كان يفعله هذا الطاغى التافه مضاعفا عدة مرات، ألم تلاحظى كيف تذل نفسها بحبه  هكذا حتى بعد رحيله، إياك يا أميمة أن تعملى مثلهم وتقولى إنها فعلت وتفعل ذلك “لأنها مجنونة”، فالمجنون يرينا مصيبتنا بتكبير لا نستطيع أن نغفله إلا بوصفه بالجنون،

 أحسب أننى بالغت ، ما رأيك؟ ربما.

ثم عندك يا أميمة : ستة أشهر يا أميمة فى المستشفى، والحالة ذهانية، اكتئاب ذهانى؟ ولا تذكرين لنا هل كانت تأخذ مضادات للذهان أم لا؟ مضادات للاكتئاب أم لا؟ هل أخذت جلسات تنظيم الإيقاع ( كهربية !!) ، صحيح أنك ذكرت فيما بعد إشارات  حول هذا الشأن  لكن هذا كان أكثر  بالنسبة لدخولها الثانى!!

أنا لا أعرف شيئا عن حقيقة وعمق وتفاصيل العلاج الجمعى الذى تقومين به ، لكننى – كما تعلمين أحترمه أبلغ الاحترام وأشكرك عليه – أنا لم أجد داعيا للاستغراب فى مثل هذه الحالة حين  لا يظهر عليها أى تحسن (ظاهر) بعد ستة أشهر من هذا العلاج . إن خبرتى فى العلاج الجمعى تؤكد أن التحسن الظاهر ليس من مميزات هذا العلاج بالذات،  ولا هو من علامات نجاحه فى كثير من الأحوال، فإن ما يصل – مما لا نعرفه تفصيلا- يصل برغم المريض (وأحيانا برغم حسابات الطبيب المعالج)، وقد لا تظهر نتيجة “هذا الذى وصل” إلا بعد وقت طويل،  كما سنرى فى حالتك.

 ثم ماذا؟

د. أميمة  

بعد أربعة أشهر، رجعت ثانية وهى فى حالة يرثى لها, لا تأكل ولا تنام ولا تتحرك و لا ترد على أى إنسان وأقرب ما تكون إلى حالة سُبات Stupor ،أردت أن أضيف إلى علاجها علاج بالصدمات ( تنظيم إيقاع المخ) , ولكننى بدلا من أن أفعل ذلك وجدتنى أجلس أمامها وأتناول يديها بين يدى و أطلب منها أن تحضر أول جلسة فى مجموعة العلاج الجمعى الجديدة, لم ترد وأخذتها معى …و قبل أن توبخنى يا سيدى فقد وبخت نفسى فى الطريق بشدة ونعت نفسى بالإندفاع والغباء ولكننى لم أستطع التراجع.

د. يحيى

أوبخك على ماذا بالله عليك؟ أى اندفاع وأى غباء تتحدثين عنه؟ هم ينهون عن مثل ما فعلت (أعنى التحليليين) بالنسبة للعصابيين واضطرابات الشخصية لأسباب من وجهة نظرهم لا مجال لمناقشتها الآن، أما مع مريضة ذهانية، لها تاريخ سابق معك بكل هذا العمق وهذه الإحاطة، ترجع إليك وهى فى حالة سبات أشبه بعودتها إلى الرحم، فتفعلين معها  بتلقائية حانية ما ينبغى أن تفعله أية أم تستعيد جنينها لتحميه حتى يكمل نموه، فى انتظار مخاض جديد، فهذا تصرف مسئول على أعلى مستوى من المسئولية ، وفى هذا دليل جديد على أننا نعالج المرضى “بما هو نحن”، أكثر مما نعالجهم بما “نعلم” أو نقرأ،  إن الذى يحدد صحة ما نفعل أو خطأه هو نتيجة ما نفعل حالا أو لاحقا. وها أنت تكملين بما يسمح لنا بتقييم نتيجة خطوتك تلك

د. أميمة

… ما حدث كان مفاجأة ..فبعد حوالى ربع ساعة من الجلسة بدأت ترد وتستجيب بصوت خفيض أولا ثم تكلمت و أطالت، بل وآخر خمس دقائق إشتركت فى دور مينى دراما

د. يحيى

هذا هو،

 هذا الذى حدث بعد ربع ساعة هو فى حقيقته قد حدث بعد ستة أشهر وربع ساعة، إنه جُمّاع ما تراكم خلال ستة أشهر انتهت وأنت تقررين أنها لم تستفد أى شىء منها، وهذا هو ما أشرت إليه فى الفقرة قبل السابقة من أن:  ” ….  ما يصل – مما لا نعرفه تفصيلا- يصل برغم المريض (وأحيانا برغم حسابات الطبيب المعالج)، وقد لا تظهر نتيجة “هذا الذى وصل” إلا بعد وقت طويل”،   إن مريضتنا التى رجعت إليك  فى حالة سبات ذهولى راحت  تشترك فى مينى دراما حاضرة مع مجموعة جديدة، ونحن نعرف ما تحتاجه المينى دراما من حضور وانتباه وإبداع، وهذا هو  خير دليل على أن مسيرة العلاج تمضى فى اتجاه إيجابى مهما بدا الظاهر أحيانا غير ذلك.

فماذ كان تصرفك بعد ذلك ؟

د. أميمة:

! لم أعطها الصدمات و بدأت فى التحسن.. فى العلاج الجمعى حدث تغيرات كثيرة , فقد بدأت تميز أنها لا تحب زوجها فقط و لكنها أيضا تكرهه بشدة و بدأت تتعجب  لتبادل الشعورين عندها..

د. يحيى

ما زال من حق من يتابعنا أن يتعجب، كيف لهذه المرأة أن تحب هذا الزوج طوال عشرين عاما حتى بعد قتله، لكن هذا وارد ما دامت هى قد قالت ذلك، وما دمنا لم نضع تعريفا جامعا مانعا لما هو “الحب” !!! أما أنها تكرهه فى نفس الوقت، فهذا أيضا مهم، خصوصا فى مثل هذه الحالات، بل وفى الأحوال العادية كما سنعود لمناقشة ذلك  فى “ملف الحب والكره” كل ثلاثاء،

 أما تبادل الشعورين فهو أمر أكثر قبولا وفهما عن وجود الشعورين معا، والأخير (وجود الشعورين معا) هو أكثر دلالة وأهمية علمية وإمراضية، وتعجُّب مريضتنا  لذلك هو شىء إيجابى على مسار العلاج  أيضا، وهو قد يدل على نوع جيد من البصيرة التى اكتسبتها بالعلاج.

د. أميمة

ربما يجب على هنا أن أنوه أن هذه المريضة بالذات لديها قدرة غير عادية على استخدام الكلمة و اللفظ فى مكانهما الصحيح، كما تستطيع سبر غور نفسها وغور زميلاتها بحساسية شديدة و تشرحه و كـأنها تقرأه من كتاب.  ففى إحدى  الجلسات مثلا كانت تعيد إحياء موقف حدث مع مريضة أخرى وبعد أن انتهت قالت أن ما وصلها  أن هذا الجزء من السلوك قام به الطفل الذى بداخلها والجزء الآخر  قامت به \”ش\”الكبيرة العاقلة التى تريد أن تحتوى الموقف…!!! (إريك بيرن أم ماذا؟

د. يحيى

ألم أقل لك يا أميمة كيف أننى تعلمت من مريضاتى ومرضاى، وخصوصا الأميين والأميات، أكثر مما قرأت ونظّـّرت بشكل مباشر؟ لكننى بعد حماسى المبدئى لمثل هذه الأقوال من مرضاى فى بداية خبرتى فى العلاج الجمعى فى أوائل السبعينات، وكنت متأثرا أيامها بإريك بيرن والعلاج الجشتالتى (بيرلز) معا، “تراجعت” عن حماسى هذا، أو لعلى ” تقدمت” فأخذت أقلل من التركيز على مسألة الطفل الذى فى داخلنا (والوالد .. فى وعينا إلخ) ، ورحت أعامل تعدد كياناتنا فى واحد (فى حالة الصحة وبعض المرض)  بشكل أكثر رحابة وأكثر صعوبة وتعقيدا فى نفس الوقت (يومية 10-12-2007 عن التعدد)، وقد أرجع إلى ذلك حين أعرض ما تيسر من تفاعلات العلاج الجمعى لاحقا (غالبا كل أربعاء، يعنى!) .

أما عن مريضتنا “ش”،  وقدرتها على الكشف السريع هكذا بعد نكستها ثم إفاقتها، فيمكن إرجاع أغلب ذلك للخبرة السابقة معك فى العلاج الجمعى (ستة أشهر) التى كنتِ قد اعتبرتيها بلا جدوى، طبعا بالإضافة إلى حدس الذهانى الذى نتعلم منه كل شىء.

د. أميمة

…. المهم، أنه فى جلسة أخرى كان حديث المريضات عموما عن أزواجهن

د. يحيى

فى خبرتى، نحن نحول دون التمادى فى ذلك (الحديث عن أزواجهن) ما أمكن ذلك اللهم إلا كبداية (جرّ  كلام) ذلك لأننا  نلتزم تماما بالـ “هنا والآن” كما تعلمين، ثم إن مجموعتك (مجموعاتك) هى من الإناث فقط (على ما يبدو)، وقد رفضتُ مثل ذلك من بداية خبرتى، فأنا لم أمارس العلاج الجمعى إلا مع مجموعات من الجنسين، وكان ذلك وما زال موقفى ليقينى أن المجتمع ليس نساء فقط، ولا رجالا فقط، وأن العلاج الجمعى ليس إلا عينة من المجتمع ، وأن هذا الفصل، حتى لو كان له مبرر تارخى، فهو أبعد عن الطبيعة البشرية، وكنت أعجب بصديقى وزميلى أ. د. رفعت محفوظ حين يمارس (مضطرا)  العلاج الجمعى فى المنيا مع الإناث فقط، وهأنذا ابلغك موقفى واحترامى لهذا التخصيص الذى ما زلت لا أوافق عليه بالنسبة لشخصى،

 نرجع إلى مريضتك..

د.أميمة

….. وبكت \”ش\” بشدة وكانت هذه على ما يبدو آخر صفحة فى قصتها المؤلمة وأغلقت ملف الزوج, فتكلمت لأول مرة عن موته, و بموضوعيةعن مميزاته وعيوبه, ولم تعد مشاعرها ناحيته موجعة ..

د. يحيى

لا ..لا ..لا… عندك، ليس هكذا، طبعا أصدقك كما قلت لك قبلا ولن أكرر ذلك، لكن ما هكذا تنتهى مثل هذه الحالات (ولا القصص) حتى لو انتهت هكذا، بمعنى: أنه حتى لو قالت المريضة ذلك بكل تأكيد فعلينا أن نقبله منها، ثم نعود إليه حتى رغما عنها حتى لا تكون المسألة مجرد كبت أو هرب لاشعورى يبدو وكأنه الشفاء التام من الذل الزؤام، الحديث عن موت الزوج (الذى مات مقتولا، لا ينبغى نسيان ذلك !!) قد يساعد فى تفسير بعض هذا الاقتراب من الواقع، لكن أن يصل الامر – فى مثل هذه الحالة- إلى وصف حديثها عن ميزاته وعيوبه بالموضوعية،  فهذا ما أدهشنى حتى الرفض، خصوصا أنك فى حكيك عنها لم تذكرى لنا أية مزية فى هذا الرجل يمكن أن تتحدث عنها، وقد تصورت أن هذه الميزات السرية  هى التى كانت مبررا لحبها له ، لكننى عدلت تقريبا.

ثم كيف لم تعد مشاعرها ناحيته موجعة؟

 بصراحة، أنا مشاعرى تجاهه وأنا مجرد قارئ لحالتها من خلالك ما زالت موجعة جدا، ثم لا تنسى أنه مات مقتولا، وفى هذه الطبقة الاجتماعية ذات اثقافة الخاصة – وحتى عموما – يصبح لهذه الميتة وضع خاص (قد أرجع له حين أكتب عن “العديد” ودلالاته النفسية فى التراث المصرى خاصة)،

 المهم ..؟؟  

د. أميمة

..بدأ الحوار يصبح محوره هى شخصيا بدلا من زوجها. فوصفت الحالة التى دخلت بها المستشفى كالآتى ( الدنيا ضاقت فى وشى ومش عاوزة أعيش لكن مش عاوزة أأذى نفسى تانى , لما الجسم يموت كل حاجة تانية بتموت, مددت على السرير وقفلت عينى وبطلت حركة خالص لغاية ما بدأت أحس إن جسمى بيموت, لكن مرات أخويا غسلت شعرى وحمتنى وقالت لى ريحتك بقت معفنة و أخذونى المستشفى)… الحقيقة أنه أقشعر بدنى , فهذه أول مرة أسمع شخصا يصف إماتته لنفسه هكذا….

د. يحيى

بصراحة، أنا معجب بذاكرتك يا أميمة !! !! يا ترى هل تقومين بتسجيل المقابلات والجلسات كما أفعل أنا أحيانا، أم أن هذه النصوص من الذاكرة؟ هذا المقتطف بالذات يؤكد قضية إمراضية (سيكوباثولوجية) شديدة الأهمية، وهى دور المريض فى مسألة  اتخاذ “قرار المرض”، أى “اختيار العرض” لحل لمأزق ما، أو تعبير عن موقف ما، وهى قضيتى المحورية التى كلما تكلمت فيها تصور العامة وربما أغلب الأطباء أننا نتهم مرضانا بصناعة المرض، وأننا بذلك نحرمهم من الشفقة التى يحتاجون إليها، هذه قضية تناولها شولمان Shulman  فى كتابه “مقالات فى الفصام Essays in Schizophrenia كما أننى شرحتها طويلا فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، إننى أعتبرها قضية جوهرية فى فهم الجنون من ناحية، واحترام اختيار المريض للمرض من ناحية أخرى (برغم أنه اختيار سلبى، لكنه احتجاجىّ قوى).

 إن احترام هذا الاختيار يتضمن تلقائيا احترام المريض (لا اتهامه)، ثم إنه يمهد الطريق إلى علاج المريض بمشاركته، بمعنى:  أن من اختار المرض، يمكنه أن يختار الصحة إذا ما أعاد النظر معنا ونحن نحترم احتجاجه، ولا نحترم سلبيته، نحترم رفضه ولا نحترم هربه ..إلخ

(على فكرة أشكرك على تعبيرك: ” .. فهذه أول مرة أسمع شخصا يصف إماتته لنفسه هكذا…. “)

عموما ، فإن الحكم على مدى إيجابية مثل هذه النقلة يعتمد على المتابعة

د. أميمة

…بعدها انتقلت “ش”  إلى مرحلة أخرى , فقد بدأت تبحث لنفسها عن هدف فى الحياة وبرغم تخبطها وخلطها بين الهدف والعائق للهدف فقد كانت متحمسة. رأيتها مقبلة على الحياة منطقها سليم, واقعية إلى حد ما, محبة للجميع، سعيدة، مشرقة الوجه بالرغم من ندوبها , (وبدت) كالطفلة  التى تريد أن تبدأ حياة جديدة،  فظننت أنه قد آن الأوان لخفض جرعات الأدوية والبحث عن ذويها لأخذها فى إجازة و كان قد مرت سبعة أشهر على العلاج دون أى زيارة من أهلها .

 و كم كنت مخطئة ..

د. يحيى

لا عندك، مخطئة ماذا؟

أنت تشيرين إلى العلاج الدوائى لأول مرة بهذه الصورة، ولى ملاحظة اعتراضية عابرة، فقد دأبت حين يسمّى المريض الحبوب التى يتناولها “العلاج” أن أرفض ذلك تماما، وأصر أن يعيد جملته ويسميها الدواء أو الأدوية أو الحبوب، وأفهمه بإصرار أن العلاج هو ما نفعله فى العلاج الجمعى هذا (أو التأهيل أو غيره) وأن الأدوية هى إحدى وسائلنا فى ذلك، (وليست هى العلاج) ولا أملّ من دخول هذا النقاش الذى يصل إلى درجة الشجار فى بعض الأحيان،

ثم إنى لم أفهم حكاية “الخلط بين الهدف والعائق إلى الهدف”، لكننى فرحت بالتعبير

وأيضا، ولا تؤاخذينى، توقفت عند وصفك لها هكذا: “… منطقها سليم, واقعية إلى حد ما, محبة للجميع، سعيدة، “، قلت فى نفسى  ” واحدة واحدة والنبى يا أميمة”،

 ومع ذلك : أى خطأ فى خفض جرعات العلاج (أتمنى أن يكون العلاج هو النيورولبتات أكثر من مضادات الاكتئاب، برغم التشخيص المبدئى  أنه اكتئاب ذهانى) ماالمبرر لاستمرار العلاج كما هو بعد كل هذا التحسن كما وصفتيه ؟ أين الخطأ؟

 د.أميمة

…. لقد أخذت ترتد و تفقد حيويتها،  فأسرعت بإعادة الجرعات السابقة دون فائدة, مر أسبوع وكنت قد أجلت جلسة العلاج الجمعى لأسباب خارجة عن إرادتى, والمريضة تتدهور، وفى آخر الأسبوع الذى يليه وجدتها الممرضة فى الصباح الباكر ممدة كالجثة بلا حراك تحت السرير. للمرة الثانية أقرر علاج الصدمات, ثم لا أعطيه, ودخلت جلسة العلاج الجمعى , وكما حدث تماما فى المرة الأولى تفاعلتْ وتحسنت وحالتها الآن مستقرة منذ أسبوعين

د. يحيى

ألا يدل ذلك على أن مريضتك تواصل المسيرة العلاجية بكل تقلباتها، وإيقاعاتها المعاودة، الدالة على عناد إرادة الصحة للعدول عن اختيار المرض، وفى نفس الوقت: شدة حركية المرض؟

 ما هى تساؤلاتك تحديدا يا أميمة؟

د. أميمة:

1)    ما التفسير (على مستوى السيكوباثولوجى) لاستجابة المريضة السريعة للعلاج الجمعى؟.

2)    وهل يمكن الإستفادة من ذلك فى منع دخولها فى نوبات اكتئاب أخرى.

3)    وهل كان يفيد علاج الصدمات بالرغم من تحسنها؟ وهل تنصحنى به الآن مثلا؟

4)    ولماذا ترتد المريضة إلى هذه الحالة بالرغم من كل هذا التغيير الذى طرأ عليها؟

د. يحيى

أولا:  أحترم سؤالك الأول إذْ تضمن تعبير، “على مستوى السيكوباثولوجى”، فبينى وبينك لا يوجد تفسير حقيقى جدير بالنظر والمناقشة إلا على مستوى السيكوباثولوجى (دعينا نعيدها لمن لا يتابعنا: إننا نعنى بمستوى السيكوباثولوجى: مستوى “كيف الأعراض؟” كيف تتكون الأعراض؟، و”كيف الصحة” The “how of”، “كيف تعود الصحة”، وليس فقط:  ما هى الأعراض، وما السبب؟ ولا أن الصحة هى أن الأعراض اختفت (وخلاص).

ثم إننى أرجح أنه قد وصلتك- يا أميمة- بعض الإجابة على الأقل مما سبق مناقشته، طوال عرض الحالة والتعقيب عليها جزءا جزءا،  ودعينى أضيف الآن، ولو ببعض التكرار ما يلى :

كما أن المرض “عملية” انسحابية هروبية، فالعلاج “عملية” تشكيلية إبداعية.

المسيرة العلاجية الحقيقية هى التى تترجح هكذا، وليس التى تختفى فيها الأعراض فجأة ، لتنقضّ هى أو ألعن منها فيما بعد

الخبرة التى تتم فى العلاج الجمعى (الستة أشهر الأولى خاصة، ثم كل العلاج، هى – عادة- خبرة تراكمية إيجابية (إذا كان العلاج جادا صبورا كما وصلنى)

معاودة التحسن بسرعة بعد معاودة العلاج الجمعى بالذات (وأحيانا علاج الوسط milieu therapy) فى مدة قصيرة تدل على أمرين: أن العلاج السابق كان جيدا، وأن التغير الإيجابى قد لا يظهر إلا لاحقا، وقد يحتاج لظهوره إلى ما نسميه “مُطلق” releaser ليطلق الخبرة العلاجية الإيجابية الكامنة من خلال العملية التى  أسميها “البسط” unfolding  

معاودة النكسة بهذه السرعة وبهذا القصر (زمنا) فى نفس الوقت ، يمكن أن تكون علامة إيجابية أيضا، وهى أفضل مما يسمى الهروب إلى الصحة، أو إلى ما يشبه الصحة Flight into health (or pseudo health) ،

(أنت لا تعرفين، ولا جيلك، ما كنا نمارسه فى أواخر الخمسينات – قبل ظهور الأدوية الحديثة- , وكان يسمى علاج الصدمات مع العلاج الحمّىECT & Fever Therapy ، حين كنا نعطى للمريض ثمان جلسات (كهربية) فتختفى الأعراض، فنعطيه المصل المضاد للتيفود حقنا فى الوريد بدءا بجرعات تتضاعف باستمرار (ثمان جرعات  نعطيه  بالتبادل مع ثمان جلسات أخرى، وكان المريض يصاب بهذه الحمى المصطنعة وترتفع درجة حرارته، بين كل جلسة من الجلسات الثمانية الأخرى، فتظهر الأعراض بسبب ذلك، فنعطيه الجلسة، وهكذا

 أظن أنه لا أنت ولا جيلك يمكن أن تصدقى ذلك بعد ما عملته شركات الأدوية  فى أمخاخنا، المهم: إن ما حدث لمريضتك هو أقرب إلى هذا المفهوم التاريخى الرائع الذى لم يكن يستسلم ويعلن انتهاء المعركة مع المرض  لمجرد اختفاء الأعراض الظاهرة )،

ثانيا : طبعا يمكن الاستفادة من كل ذلك، بل ينبغى الاستفادة من كل معلومة وتحسن ونكسة، ولكن الاستفادة ليست لمجرد منع دخول المريضة  فى نوبات اكتئاب أخرى، وإنما الإستفادة لا بد أن تشمل أبعادا أخرى مثل:

عدم اختزال الحالة إلى تشخيص “اكتئاب”(حتى لو أضفنا له صفة “ذهانى”)

عدم اختزال الحالة إلى مجرد تفاعل لما حدث لها من قهر ورفض وطرد وظلم (مع أن ما حدث لها يجنن بلدا بأكمله)

احترام النكسات، وليس مجرد تجنبها، والاستعداد لاستيعابها كما فعلتِ يا أميمة تماما

أن نتذكر أن ضبط خفض جرعات الأدوية، لا يتم  فقط بالنظر إلى  اختفاء الأعراض، وإنما أساسا يعاد النظر فى جرعة الأدوية مع نجاح التأهيل لاستيعاب طاقة المريض الحيوية فى “عمل له معنى” و “علاقة بالموضوع – بآخر” (برجاء الرجوع مؤقتا إلى اطروحة :  استعمال العقاقير والعلاج النفسى : خاصة للذهانيـين فى العلاج الجمعى)

ثالثا: إسمحى لى يا أميمة  أن أؤجل الرد على السؤال الخاص بعلاج تنظيم إيقاع المخ، لأنه الرد قد يستغرق مساحة تماثل  كل ما كتبت حتى الآن وأكثر،

لكن بصفة مبدئية دعينى  أقول لك:

إن توقيت إعطاء هذه المنظمات لإيقاع الدماغ  هو أهم قرار فى ترجيح فائدة هذا الذى يسمى صدمات، التى هى  بمثابة “إعادة التشغيل re-start التى نمارسها مع الكمبيوتر، وكأن إعادة التشغيل يمكن أن تصحح ما كان سببا فى لجوئنا إلى تلك المحاولة (إعادة التشغيل)، وهى  – فى حالة الكمبيوتر- يمكن أن تصيبه بالسكتة أو بربكة أكبر، حسب سبب العطل، لكنها غالبا  تستطيع أن ترتب المعلومات وتصحح الخطأ.

كذلك المخ البشرى، لا بد أن نحاول أن نضمن كيف أنه جاهز لتكون نتيجة إعادة التشغيل إيجابية، من خلال الإعداد لذلك بكل التمهيد العلاجى، والتهيئة بعقاقير معينة، وبداية تأهيل مناسب للحالة، وظهور ملامح قرار إرادى فى اتجاه إيجابى، وكل ذلك يحتاج إلى شرح طويل لن توافق على نشره شركات الدواء التى تمول المجلات (والمؤتمرات) العلمية جدا.

(مرحليا أرجو الرجوع فى الموقع إلى بداية كتابتى فى هذا الموضوع باسم “صدمة بالكهرباء أم تنظيم للإيقاع”)

مؤقتا أقول لك : لقد فعلتِ أنت ما ينبغى فى الوقت المناسب، وأرى أن تتأكدى من احتمال عودة مريضتك إلى حياة أطيب وأقدر، فيها ناس “بحق وحقيق”، يرونها، مثلما رأيتِها أنت وزميلاتها، ثم قد تحتاج تنظيماية (جلسة) أو اثنتين (لتنطلق)، ولكن هذا يحتاج لمعلومات عنها وعن المرحلة الحالية  أكثر كثيرا جدا  قبل أن أفيدك برأيى تحديدا.

رابعا: سؤالك الرابع ، أظن أننى أجبت عنه  ضمنا فى أولا وثانيا.

شكرا. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *