الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الحلقة الواحد والثلاثون الجمعة: 10/2/1995

الحلقة الواحد والثلاثون الجمعة: 10/2/1995

نشرة”الإنسان والتطور”

8-7-2010

السنة الثالثة

العدد: 1042

Photo_Mafouz

الحلقة الواحد والثلاثون

الجمعة: 10/2/1995

كانت‏ ‏الندوة‏  الشهرية التى تعقدها جمعية الطب النفسى التطورى فى المسشفى عندى قد تأجلت أسبوعا، فهى تعقد فى أول يوم جمعة من الشهر، لكن هذا هو يوم حضور الأستاذ فى منزلى، ما العمل؟ اقترحت عليه أن نمضى الليلة فى ركنى الخاص أعلى المستشفى بصفة استثنائية لأتمكن من الانتقال بين الندوة وبين مجلسه بشكل ما، وافق على الفور، ولم أكن قد أخبرته بهواجسى عن سوء فهم تردده على المستشفى، هذا ليس تراجعا، إنه استثناء عابر، رحب بشكل طمأننى إلى أننى بالغت فى مخاوفى عن حضوره المستشفى لا أكثر.

كانت الندوة عن “الحزن عند ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور”، ظللت معظم الوقت رائحا غاديا بين الندوة وبين صحبته، وهو يشجعنى أن أتركه لأرحب بضيوفى (هكذا عبر عن حضور الندوة)، وأنا خجلان من أن أتركه وليس معه إلا الدكتور فتحى هاشم ، كنت كلما عدت إليه ظللت ذاهبا‏ ‏راجعا‏ ‏بين‏ ‏الندوة‏ ‏والأستاذ، ‏معظم‏ ‏الوقت أحكى له عن بعض ما يجرى،

‏ ‏الدكتور‏ ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏(زميلنا فى المستشفى، وتلميذى، و هو شاعر رقيق) يقول‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏كلاما مهما، ‏أما الدكتور‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏فهو ينشد‏ ‏شعرا‏ ‏فى ‏رثاء‏ ‏صلاح‏،‏ ‏الحزن‏ ‏الرائع‏ ‏النابض‏ ‏يتنقل من شعر صلاح، إلى رثاء تيمور له، فيحرك‏ ‏المشاعر‏ ‏إلى ‏أعماق‏ ‏لا‏ ‏يعرفها‏ ‏الحزن‏ ‏الهابط‏ ‏أو‏ ‏الحزن‏ ‏الجامد‏ ‏أو‏ ‏الحزن‏ ‏الهامد أو الحزن اللزج أو الحزن الطفيلى كما تناولناه فى الندوة‏، كنت أحكى للأستاذ كلما صعدت إليه فى ركنى الخاص (ركنى الخاص يقع فى الدور الأعلى مباشرة) بعض ما يجرى، فيبدى تشوقه لسماع المزيد، لكنه يسارع قائلا: ‏هيا‏ ‏اذهب‏ ‏إلى ‏الندوة‏ ‏لعلك‏ ‏تلحق‏ ، فكرة‏” ‏كدا، ‏أو‏ “‏كدا‏”، ‏تحكيها لنا فيما بعد، شعرت أننى أحضر الندوة نيابة عنه، وأنه فى شوق حقيقى لأبلغه ما دار بها، ضحكت لتعليقه ” فكرة كدا أو كدا” وحاولت أن اشرح له طبيعة هذه الندوة ، وأنها ليست لخطف فكرة، أو تبادل رأى، كنت قد حدثته عن أن هذه الندوة منذ بدئها فى 1974، ونحن نأمل أن نحرك الوعى من خلالها، وأن ننشط النقد الذاتى والخبراتى، أكثر من أن نضيف معلومة أو أن تكون فرصة أن يتباهى المقدمون بموسوعية لا جدوى منها، كنت قد أخبرته أننا كثيرا ما  نسأل الحضور فى آخر الندوة أثناء المناقشة إن كانوا قد خرجوا من الندوة غير ما دخلوا ولو واحد بالمائة، علق الأستاذ على ذلك بما وصلنى أنه يعترض أن تدفعنى حماستى ورغبتى فى تحريك الناس أن أكون وصيا على الحضور مهما كانت حسن نيتى.

‏سأل الأستاذ  الدكتور ‏ ‏فتحى ‏هاشم‏ ‏عن سبب تغيبه فى الفترة السابقة ، فأجاب أنه كان عنده قولون، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إننا‏ ‏اعتدنا‏ ‏أن‏ ‏نسمع‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏فيها‏ ‏قوْلان‏، ‏أما‏ ‏أن‏ ‏يصبح المثنى ‏ ‏جمع‏ ‏مذكر‏ ‏سالم‏ “‏قوْلون‏” ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الجديد، ‏استسخفت نفسى جدا، فأنا لا أحب هذا النوع من الاستظراف وتمنيت ألا يكون الأستاذ قد سمعنى، نظرت فى وجهه فإذا هو يضحك ضحكة خفيفة لم تكتمل ثم أردف بسرعة يسألنى ” كيف‏ ‏تسير‏ ‏الندوة”، وكأنه وصله استسخافى تعليقى، حاولت أن أصحح سخفى فرددت على سؤاله قائلا “الحمد لله، تسير فى ‏ ‏منتهى ‏الغم”، وهنا قهقه عاليا وهو يذكر الأصدقاء أن الندوة عن الحزن عند صلاح عبد الصبور، فرق بين قهقهته تلك وهو يربط بين “منتهى الغم”  لوصف ندوة عن الحزن، وبين نصف الابتسامة التى عقب بها على سخفى دون أن يخجلنى، لقد حفظت هذا الرجل الذى يعلمنى بتحفظه وهدوئه، مثلما يعلمنى بقهقته وانشراحه.

بعد‏ ‏إنتهاء‏ ‏الندوة‏ ‏دعوت‏ ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏لينضم إلى ‏ ‏جلسة‏ ‏الأستاذ‏ ففعل، ورحب به الاستاذ بنفس طيبته المعهودة مع كل قادم جديد، دعوت د. تيمور ‏لقراءة‏ ‏قصيدته‏ ‏الجميلة‏ ‏فى ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور، (حاولت الحصول عليها الآن 2010 ولم اتمكن، وقد أنشرها بعد إذن د. تيمور فى النسخة الورقية) طرب الأستاذ للقصيدة، ‏ومدح مديحا عاما، ‏ولم‏ ‏يعلق تفصيلا.

أثار‏ ‏د‏. ‏تيمور‏ ‏موضوعين‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏طرحتهما‏ ‏فى ‏الندوة‏ (‏هما‏ ‏فى ‏الحقيقة‏ ‏موضوع‏ ‏واحد، ‏سبق‏ ‏الإشارة‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأوراق‏)، ‏وهو‏ ‏تضاؤل‏ ‏دور‏ ‏الشعر‏ ‏فى الحياة الثقافية بشكل عام، حتى قال البعض باحتمال اختفائه فى المستقبل القريب، وفى نفس الوقت ‏ ‏ظهور‏ ‏روح‏ ‏الشعر‏ ‏وصوره‏ ‏فى ‏الإبداعات‏ ‏الأخرى التى لا تسمى شعرا، تفضل الدكتور تيمور شارحا فكرة كان قد طرحها فى الندوة ، قال: ” ‏ ‏قد‏ ‏يكون ‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نقول‏ ‏إن‏ ‏الشعر‏ ‏سوف‏ ‏يقوم‏ ‏بدور‏ ‏الرياضيات‏ ‏للعلوم‏ ‏الأخري، ‏وربما ‏ ‏يلجأ‏ ‏سائر‏ ‏المبدعين‏ ‏إلى ‏الشعر ‏ ‏يتعلمون‏ ‏منه ‏موسيقى السرد، و‏ضبط‏ ‏الإيقاع‏، ‏وكثافة‏ ‏الصورة، ‏ ‏وحركية‏ ‏الخيال”، نقلت رأى الدكتور تيمور إلى الأستاذ مضيفا أن هذا الرأى قد يفسر ‏ ‏ظهور‏ ‏لغة‏ ‏شعرية‏ ‏فى ‏سائر‏ ‏الأعمال‏ ‏الإبداعية‏ الأخرى. عقب الدكتور نبيل القط (وهو أحد تلاميذى وزملائى، وهو المسئول عن قسم الإدمان بالمستشفى، وكان حاضرا الندوة وانضم إلينا) ‏بأن هذا يشمل ما يسمى قصيدة النثر باعتبارها نوعا من‏ ‏التزاوج‏ ‏بين‏ ‏الشعر‏ ‏والنثر، رفضتُ رأيه هذا، وأبلغت رفضى  للأستاذ، قائلا : “إن الشعر‏ ‏الذى ‏يصبح‏ ‏نثرا‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏شعرا‏ ‏ولا‏ ‏نثرا، ‏أما‏ ‏النثر‏ ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏شعرا‏ ‏فهو‏ ‏يستأذن‏ ‏الشعر‏ ‏أن‏ ‏ينبض‏ ‏بروحه‏ ‏ويخترق‏ ‏بدفعه‏ ‏ويحضر‏ ‏بتشكيله،  دون أن يدعى أنه قصيدة، أو أنه شعرا.

نقل إلينا د. تيمور رأى ‏ ‏الدكتورة‏ ‏حسنة‏ ‏عبد‏ ‏الجواد‏ التى ‏كانت‏ ‏تناقش‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏موضوع‏ ‏الحزن‏ ‏، وتواكب ظهوره مع حضور‏ “‏الآخر‏” فى الوعى “موضوعا حقيقيا”، فطلب الأستاذ توضيحا، فأضفت له أننى أرى ‏ ‏أن‏ ‏الحزن‏ ‏هو‏ ‏ظاهرة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏جدلية‏ ‏مؤلمة‏ ‏فى ‏العلاقة‏ ‏بالآخر، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏يتحرك‏ ‏الحزن‏ ‏الحى ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتوفر‏ ‏ما‏ ‏يلى: ‏الحاجة‏ ‏واضحة، ‏والمحاولة‏ ‏مستمرة، ‏والآخر‏ ‏حاضر‏ ‏واعد‏ (‏فى ‏الوعى ‏أو‏ ‏فى ‏الواقع‏) ‏وأن هذا الآخر ‏ ‏يُرى ‏بحجمه‏ ‏دون‏ ‏اختزال‏ ‏أو‏ ‏انشطار‏، وبدون كل ذلك  لا يبقى مما يسمى حزنا إلا يأس عدمى، أو انسحاب ‏ ‏انزوائي، ‏أو‏ ‏استسلام‏ ‏سكوني

أثار الدكتور أحمد عبد الله مسألة العلاقة مع الله كعامل أساسى فى العلاقة مع الآخر، وأن مظلة الله بشكل موضوعى، تعمل كرابط بين الناس، وهى التى يمكن أن تخفف هذا الألم الذى يصل إلى الوعى على أنه حزن، ذلك أن الله بالمعنى الموضوعى الآنى هو “آخر”: مشترك أعظم، فهو ليس آخر  ‏بعيدا‏ ‏عني، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ليس‏ “‏أنا”، العلاقة مع الله، والعلاقة تحت مظلته فى حضنه إنما تمر‏ ‏بمراحل‏ ‏تشمل‏ ‏القرب‏ ‏دون‏ ‏اقتراب، ‏والإبتعاد‏ ‏دون‏ ‏انفصال، ‏والمرونة‏ ‏دون‏ ‏ميوعة، ‏والتسليم‏ ‏دون‏ ‏امحاء، ‏واختفاء‏ ‏المسافة‏ ‏دون‏ ‏توحد، ‏والتميز‏ ‏التفردى ‏دون‏ ‏قطع‏ ‏الحبل‏ ‏السرى”

انتبهت إلى نفسى، وكأنى أكتب مقالا أو القى محاضرة،  استمع‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏ما ذكرت وهو ينصت محاولا ألا يفلت منه الخيط، لكنه مال برأسه مبتعدا ففهمت، ‏الأستاذ‏ عادة ‏لا‏ ‏يميل‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏  ‏الحديث‏ ‏أو‏ ‏الوصف، ‏وهو ينبهنى فى مثل هذه الأحوال إلى الصعوبة، أو يصف ما أقوله أحيانا بالفلسفة، مع أن حضوره كله من أوله إلى آخره هو فلسفة تمشى على أرجل، وحين يتناول قضية فلسفية كبرى، فهو يصيغها ‏فى ‏أبسط‏ ‏الألفاظ، ‏وأذكى ‏التعليقات‏ ‏وأطيب‏ ‏القفشات‏ ‏

مرة أخرى: أليس هذا‏ ‏هو‏ ‏السهل‏ ‏الممتنع‏؟‏

حين‏ ‏عاد الحديث إلى ‏ ‏قصيدة‏ ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏فى ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور‏ ‏قلت للأستاذ رأيا كان قد خطر لى من قبل، ولعلى ألمحت إليه، وهو أنه يبدو أن الشعر لا ينقد إلا شعرا،  ‏بل‏ ‏إن الأمر وصل بى أن أتصور أن الشعر لا يتلقاه بحقه إلا شاعر، حتى لو لم يكتب بيتا واحدا فى حياته، لا أعرف كيف وافقنى الجميع، كنت فى الندوة قد  سألت د. أحمد تيمور عن رأيه فى ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏المعطى ‏حجازى، فصمت ولم يجب، فتصورت أننى فهمت رده، وشعرت أنه سؤال  سخيف ما كان لى أن أطرحه، ولكن ‏حين‏ ‏صعدنا‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ ‏سألته‏ ‏من‏ ‏جديد، ‏فإذا‏  ‏به  ‏يقول‏، ‏كلا‏ ‏ما‏ ‏مغايرا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏تصورته، تحدث عن علاقته الطيبة الممتدة بحجازى وأنه صديقه، وأنه يحترمه، ‏لولا‏ ‏أنه‏ ‏قبل‏ ‏الإصغاء‏ ‏لهذ‏ ‏الثلة الجديدة التى كادت تبعده ‏عن أصوله، ، ‏أشرت‏ ‏إلى ‏مقال‏ ‏لحجازى ‏كتبه من ‏اسبوعين‏ ‏أو‏ ‏ثلاثة‏ ‏عن‏ ‏البياتى ‏وعبد‏ ‏الصبور، ‏وكيف‏ ‏ظلم‏ ‏عبد‏ ‏الصبور، ‏فوافقني د. تيمور، ثم انتقل الحديث إلى ‏ ‏إبراهيم‏ ‏أبو‏ ‏سنة، ‏فمدحه‏ ‏تيمور‏ ‏مدحا‏ ‏أقـره‏ ‏الأستاذ، ‏الأستاذ عادة يقر المديح، لكنه يصمت عن المشاركة بالموافقة على القدح أو الهجاء، ثم جاء ‏ذكر‏ ‏نجيب‏ ‏سرور‏ ‏ووحدته‏ ‏وحقده‏ ‏وعدوانيته‏ ‏وتجاوزه‏ ،  ‏ ‏لكن‏ ‏أحدا غيرى‏ ‏لم‏ ‏ينكر‏ ‏شاعريته‏ ‏واقتحامه، ‏وحكى ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يجلس‏ ‏ذات‏ ‏مـرة‏ ‏فى ‏التريانو‏ ‏فى ‏الاسكندرية‏ ‏ومـر‏ ‏عليه‏ ‏نجيب‏ ‏سرور‏ ‏وهو‏ ‏مهلهل‏ ‏الثياب‏ ‏أشعت‏ ‏الشعر، ‏وحوله‏ ‏صبية‏ ‏وكأنهم‏  ‏يسخرون‏ ‏منه، ‏فهم‏ ‏أن‏ ‏يناديه، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏تراجع‏ ‏خوفا‏ ‏على ‏شعوره‏ ، ‏لكنه‏ ‏لقيه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏  ‏فى ‏القاهرة‏ ‏وقد‏ ‏اعتدل‏ ‏حاله، ‏فأقدم‏ ‏سرور عليه‏ ‏مصافحا‏ ‏وقال‏ ‏له‏ ‏إنه‏ ‏رآه‏ ‏وهو‏ ‏جالس‏ ‏فى ‏التريانو‏ ‏وأنه‏ ‏تجنب‏ ‏مصافحته، ‏وتعجب‏ ‏الأستاذ وذكر أنه استبعد تماما أن يكون قد لمحه ولم يدخل للسلام عليه وهو يعلم أنه يقدره ويحببه، قلت للأستاذ إن هذا هو ما نسميه أحيانا “الانتباه السلبى”، ونعنى به ‏أن‏ ‏الإنتباه‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏قمة‏ ‏حدته‏ دون أن يبدو على صاحبه أنه منتبه اصلا، وقد تتسع دائرة الانتباه فى هذه الحالات حتى تتخطى  الـ 180 ‏درجة، وفى بعض الحالات المرضية التى نتصور أن المريض فى حالة سبات كامل قريب من الغيبوبة لا يدرى مما حوله شيئا نفاجأ بأن المريض حين يفيق من السبات‏ ‏يتذكر‏ ‏كل‏ ‏التفاصيل التى حدثت حوله برغم ظاهر غيابه عنها، سألنى الأستاذ مزيدا من الإيضاح، فذكرت ‏حادثة‏ ‏عن‏ ‏طبيب‏ ‏شاب  ‏كان‏ ‏مريضا‏ ‏فى ‏قسمنا‏ أثناء فترة شغلى طبيبا مقيما للأمراض النفسية فى قصر العينى، وأن هذا الطبيب كان متجمدا غائبا  ‏لا‏ ‏يأكل‏ ‏ولا‏ ‏يشرب، ‏فكنا ‏ ‏نغذيه‏ ‏بأنبوبة‏ ‏ندخلها‏ ‏من‏ ‏أنفه‏ ‏إلى ‏معدته، ‏وذات‏ ‏مرة‏ ‏أخطأ‏ ‏طبيب‏ ‏الامتياز‏ ‏المناوب‏ ‏المكلف‏ ‏بتغذيته‏ ‏وأدخل‏ ‏الأنبوبة فى القصبة الهوائية بدلا من المرىء، وصب فيها ‏الغذاء‏ ‏المكون ‏من‏ ‏لبن‏ ‏وبيض‏ ‏مربوب‏ ‏وأدوية‏ ‏مسحوقة، ‏فدخلت‏ ‏جميعها‏ ‏إلى ‏رئته‏ ‏فكاد‏ ‏يموت‏ ‏مختنقا، ‏وحين‏ ‏أسرعنا‏ ‏إلى ‏حجرة‏ ‏العمليات‏ ‏وقام‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏صلاح‏ ‏الملاح‏ ‏بشفط‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏من‏ ‏رئتيه‏ ‏بمنظار‏ ‏خاص‏ ‏بشكل إسعافى رائع، حتى  ‏‏بدأ‏ ‏يتنفس ويختفى الزرقان ويعود وجهه متوردا، وكنا نلتف حول المريض ونحن نمسك بأنفاسنا خوفا على حياته، وما أن بدأ نفسه ينتظم تلقائيا حتى تنفسنا الصعداء، وذكرت كيف أن الدكتور الجراح، أ.د. صلاح الملاح كان ماهرا رائعا، قام بدور كالذى قام به أ.د. سامح همام بنفس السرعة والحسم والجسارة، وشرحت للأستاذ فرحة الجراح بعمله وهو ينتشل شابا من الموت، حتى مازحنا‏ ‏وهو‏ ‏يرى ‏السائل‏ ‏المتجمع بالشفط من رئتى المريض، ‏ ‏بلونه المصفر‏‏ (‏البيض‏) ‏على ‏أبيض‏ (‏اللبن‏) ‏قال‏ الدكتور الملاح  ‏لنا‏ (‏الدكتور‏. ‏محمود‏ ‏سامى ‏ولى‏)، ‏وهو‏ ‏ينظر‏ ‏إلى ‏السوائل‏ ‏التى ‏شفطها‏ ‏من‏ ‏رئة‏ ‏المريض، ” لم يكن ينقصكم يا أولاد الـ …… ‏ ‏إلا‏ ‏بعض‏ ‏البقدونس‏ ‏لتصير‏ ‏رئته عجة مهروسة،  ، ‏وحين‏ ‏آفاق‏ ‏المريض‏ ‏وكنا‏ ‏كلنا‏ ‏نحسب‏ ‏أنه ‏ ‏فى ‏غيبوبة كاملة ‏ ‏لا‏ ‏يدرى ‏شيئا مما‏ ‏يدور‏ ‏حوله، ‏أعاد علينا نكتة الدكتور الملاح، وتعجبنا كيف التقطها، وحفظها، وأعادها بدقة متناهية، وقد كنا نظن أنه غائب عن الوعى تماما، ‏‏وانتبهنا‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏رغم‏ ‏السبات‏ ‏والمرض‏ ‏النفسى ‏والغرق‏ ‏الرئوى ‏حتى ‏الاختناق‏ ‏وقرب‏ ‏الغيبوبة، ‏كان‏ ‏المريض‏ ‏حاد‏ ‏الانتباه‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏أنه‏ ‏تذكر‏ ‏كل‏ ‏التفاصيل‏ ‏حتى ‏النكته‏ ‏التى ‏قالها‏ ‏الدكتور‏ ‏الملاح‏.‏

استمر‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏نجيب‏ ‏سرور‏ ‏وحبه‏ ‏للمعرى ‏وسألت‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏عن‏ ‏القول‏ ‏بأنه‏ ‏لا‏ ‏المعرى ‏ولا‏ ‏العقاد‏ ‏كانا‏ ‏شاعرين، ‏فقال‏ ‏إن‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏قد‏ ‏فسر‏ ‏مغالاة‏ ‏المعرى ‏بأنها‏ ‏كانت‏ ‏عملية‏ ‏طبيعية‏ ‏لعقل‏ ‏بشرى ‏قد‏ ‏امتلأ‏ ‏بالمعلومات‏ ‏والمفردات‏ ‏بشكل‏ ‏رائع‏ ‏ووفير‏ ‏ومنظم، ‏وهو‏ ‏رهين‏ ‏المحبسين، ‏فراح‏ ‏يلعب‏ ‏بثروته‏ ‏اللغوية هذه‏ ‏فى ‏نظم‏ ‏يتحدى ‏كل‏ ‏المطلوب‏ ‏والمألوف‏ ‏حتى ‏ألزم‏ ‏نفسه‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يلزم، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ ولتيمور ‏إن‏ ‏جرعة‏ ‏العقل‏ ‏والحكمة‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏العقاد‏ ‏و‏ ‏المعرى ‏هى ‏التى ‏قللت ‏ ‏من‏ ‏شاعريتهما‏ ‏فوافقا‏ ‏على ‏ذلك،

ذكر‏ ‏د. تيمور‏ ‏كيف‏ ‏أنه‏ ‏كتب‏ ‏رباعيات‏ ‏بأكلمها‏ ‏فى ‏المعري، ‏فذكرت نبذة عن دراستى المقارنة بين رباعيات سرور والمعرى والخيام، وأننى افترضت أن رباعيات الخيام هى تمثل النكوص اللَّذّى، وهو ما يقابل ما نسميه الموقف الشيزيدى، فى حين أن رباعيات سرور تقابل الموقف البارنوى، “موقف الكر والفر”، ثم تأتى رباعيات جاهين فتمثل الموقف الاكتئابى الذى يتصف بثنائية يتجلى فيه شوك العلاقة بالموضوع الحقيقى جنبا إلى جنب مع الفرحة به والإصرار عليه، سألنى الأستاذ عن هذه التسميات، وحذّر من أنها قد تصل إلى غير المختصين باعتبارها وصفا لأمراض، وليست لمواقف، ووافقته على ذلك تماما، فهذه المواقف الواحد تلو الآخر هى لغة المدرسة الإنجليزية فى التحليل النفسى (ميلانى كلاين، حتى جانترب)، وقد شاعت حتى ثبتت، لكن الاعتراض يظل فى محله.

ذكرت ‏ ‏أن‏ ‏المعرى ‏قد شغل‏ ‏جزءا‏ ‏كبيرا‏ ‏من‏ ‏رباعيات‏ ‏سرور‏ ‏وأنى لاحظت كم هى ‏غنية‏ ‏بالولاء‏ ‏للمعري، ‏وليست‏ ‏فى ‏المعري، لا فى فلسفته، ولا فى شعره، وأنها فى كثير منها قاسية مرة، تذكر الأستاذ بالمناسبة  ‏حساسية‏ ‏وعزلة‏ ‏وعزوف‏ ‏وتحفز‏ ‏بيرم‏ ‏التونسي، ‏وأنه‏ ‏يشبه‏ ‏فى ‏ذلك‏ نجيب‏ ‏سرور‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الأخير‏ ‏أكثر‏ ‏هجوما‏ ‏وسفورا‏ ‏وفحشا، ‏فوافق‏ ‏الجميع‏ ‏لكن‏ ‏تيمور‏ ‏أضاف‏ ‏لهما‏ ‏أمل‏ ‏لنقل‏ ‏وكيف‏ ‏كان‏ ‏وحشى ‏المزاج‏ ‏حتى ‏أن‏ ‏إبراهيم‏ ‏أبو‏ ‏سنة‏ – ‏على ‏دماثته‏ ‏ورقته‏ – ‏قد‏ ‏استثارته‏ ‏قحته ‏ ‏ذات مرة حتى  ‏هم‏ ‏بضربه‏ ‏ ‏.‏

كان‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏نوقش‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏مسألة‏ ‏فشل‏ ‏استقطاب‏ ‏الفرح‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الحزن، ‏وأن‏ ‏الوجدان‏ ‏الحى ‏قد‏ ‏يحتوى ‏الاثنين‏ ‏معا‏ ‏دون‏ ‏تناقض، ‏نقل‏ ‏هذه‏ ‏المقولة‏ ‏الدكتور‏ ‏احمد‏ ‏تيمور‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ ‏فهز‏ ‏رأسه‏ ‏كما‏ ‏يفعل‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏اقتربنا‏ ‏من‏ ‏لغة‏ ‏الفلسفة، ‏وكما‏ ‏أبنت‏ ‏سابقا، ‏فإن‏ ‏عزوفه‏ ‏عن‏ ‏استعمال‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يميل‏ ‏للفلسفه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يعنى ‏أنه‏ ‏يمارسها‏ ‏ولا‏ ‏يتحدث‏ ‏بها، ‏اكتشفت وأنا أتأكد من جديد من قدرته تناول أصعب القضايا الفلسفية وأعقدها  بكل هذه البساطة ، كنت أحتاج فعلا  لرؤية هذه القدرة هكذا رأى العين ‏ ‏فى ‏إنسان‏ ‏لم‏ ‏تشوهه‏ ‏الثقافة المعقلنة، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أسميته‏ ‏أحيانا‏ “‏فعل‏ ‏الفلسفة‏” ، أو “الفلسفة تمشى على أرجل”، قياسا بـ”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن”.

‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أغير الموضوع لأبتعد‏ ‏بقضية‏ ‏التناقض‏ ‏هذه‏ ‏عن‏ ‏مناقشات‏ ‏المثقفين، ‏فقلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏أننا‏ ‏حين‏ ‏كنا‏ ‏صغارا‏ ‏كانوا‏ ‏يسألوننا‏ ‏فى ‏لعبة‏ ‏لا‏ ‏أذكرها‏ تفصيلا: ‏تختار‏ ‏الجنة‏ ‏الخضرا‏؟ ‏ولا‏ ‏الجنة‏ ‏النار؟ وأننى ظللت‏ ‏أتساءل‏ ‏طوال‏ ‏نصف قرن‏ ‏أو‏ ‏يزيد‏ ‏عن ماهية ‏ ‏الجنة‏ ‏النار، ‏وكيف‏ ‏تكون‏ ‏الجنة‏ ‏نارا، ‏أو‏ ‏تكون‏ ‏النار‏ ‏فى ‏الجنة، ‏ومؤخرا ‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏جنة‏ ‏ساكنة‏ ‏سلبية هى الجنة الخضرا، ‏وأن‏ ‏هناك‏ ‏جنة‏ ‏متقدة ‏ ‏فى ‏حراك‏ ‏ملتهب‏ ‏مبدع‏  هى الجنة النار، ‏سألنى ‏الدكتور‏ ‏تيمور‏ ‏ماذا‏ ‏كنت‏ ‏أختار طفلا‏ ‏فأجبته ‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أختار‏ ‏الجنة‏ ‏النار‏‏، ولكن حين انصرف د. تيمور، اكتشفت أننى كذبت، فصححت كذبتى للأستاذ وقلت له إننى غالبا كنت أختار الجنة الخضراء وأنا طفل، لكننى حاليا ربما فضلت الجنة النار.

وضج‏ ‏الجميع‏ ‏بالضحك‏.‏

تأخر ميعاد العودة هذه الليلة، ونادرا ما يحدث ذلك،‏

‏الساعة الآن  ‏الحادية‏ ‏عشرة‏ ‏

استأذن الأستاذ والأصدقاء دون تعليق على تأخر موعد العودة، فالندوة كانت هى المسئولة

قبّلت يده وأنا أدعو له،

فسحبها كعادته وربت على رأسى

تصبح على خير يا شيخى الجليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *