الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / فى صحبة شرف نجيب محفوظ: الحلقة الثامنة والعشرون الأحد: 5/2/1995

فى صحبة شرف نجيب محفوظ: الحلقة الثامنة والعشرون الأحد: 5/2/1995

نشرة “الإنسان والتطور”

17-6-2010

السنة الثالثة

العدد: 1021
Photo_Mafouz

  الحلقة الثامنة والعشرون

الأحد: 5/2/1995

الآن‏ ‏أكتملت‏ ‏الأيام‏ ‏الستة، اليوم الأحد‏- ‏أول‏ “‏أحد‏” ‏لخروج‏ ‏الأستاذ، ‏يعيش‏ ‏الأستاذ‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏وهو ينتظر‏ ‏موعد‏ ‏الخروج‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏التالي، نادرا ما كنت أدخل عليه فأجده جالسا ينتظر، كان عادة ينتظر وهو يمشى رائحا غاديا فى الصالة، ‏عودُه‏ ‏مُشهر – إلا قليلا -‏ ‏كالسيف‏ ‏فى ‏الردهة،‏ ‏ينتظر‏ ‏ساعة‏ ‏الخروج‏ ‏بالثانية،‏ ‏لينطلق‏ ‏على ‏الفور، ذهبت اليوم لاصطحابه إلى بيتى بصفة استثنائية برغم أننى كنت اتفقت مع توفيق صالح أن يحضرا معاً، لم يكن الرأى قد استقر بعد على أن يخصص يوم الجمعة فقط لبيتى، ‏وجدته مع‏ ‏توفيق‏ ‏وهما‏ ‏ينتظرانى، ‏سألنى ‏توفيق‏ “‏لم‏ ‏أتعبت‏ ‏نفسك‏ ‏لقد‏ ‏كنا‏ ‏قادمين”، ‏قلت‏ ‏له‏ “‏إننى ‏خشيت‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏قد‏ ‏شُغلت‏ ‏لأنك‏ ‏لم‏ ‏تكلمنى ‏فى ‏التليفون‏ ‏لتؤكد‏ ‏علىّ ‏أنك‏ ‏ستصحب‏ ‏الأستاذ”، ‏قال‏ ‏”إنك‏ ‏حرفوش‏ ‏حديث، ‏نحن‏ ‏الحرافيش‏ ‏لا‏ ‏نتكلم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏تغير‏ ‏ما‏ ‏اتفقنا‏ ‏عليه”، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏اتفقنا‏ ‏عليه‏ ‏فهو‏ ‏سارٍ‏ ‏بالثانية‏ ‏الواحدة، ‏وفرحت‏ – ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏ذكره‏ – ‏من‏ ‏حكاية‏ ‏حرفوش‏ ‏جديد‏ ‏هذه، ‏كنت‏ ‏أخشى ‏ألا‏ ‏نجد‏ ‏فى بيتى، واليوم الأحد، صحبة‏ ‏كافية، ‏محمد‏ ‏معتذر‏ – ‏وحافظ‏ ‏معتذر، ‏ولم‏ ‏أجد‏ د.‏سيد‏ ‏رفاعى الذى كان قل وعد أن يغنى لنا الليلة أيضا لــ سيد درويش، ‏وزكى: ‏الله‏ ‏أعلم، ‏ثم إن اليوم هو الأحد، وأنا عندى ‏عيادة، ‏طلبت‏ ‏من‏ ‏مصطفى إبنى ‏أن‏ ‏ينتظرنى فى الدور الأسفل‏ ‏ليكون‏ ‏فى ‏استقبال‏ ‏الأستاذ‏ ‏لو‏ ‏حضر‏ ‏وحده‏ ‏مع‏ ‏توفيق‏ ‏أثناء‏ ‏ذهابى ‏إليه، ‏أتعجب‏ ‏من‏ ‏مصطفى ‏إبنى ‏هذا، ‏كيف‏ ‏لا‏ ‏يحرص‏ ‏على ‏كل‏ ‏ثانية‏ ‏تتاح‏ ‏له‏ ‏حتى ‏ينهل‏ ‏من‏ ‏حضور‏ ‏الأستاذ‏ ‏ووجوده‏ ‏ووعيه‏ ‏مثلما‏ ‏يفعل‏ ‏أخوه، ‏ومثلما‏ ‏أفعل‏ ‏أنا، ‏ومثلما‏ ‏يتمنى ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏بلا‏ ‏استثناء، ‏غريب‏ ‏هذا‏ ‏الفتي، ‏عنيد‏ ‏ومتفرد، ‏ويريد‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏السنوات‏ ‏العشر طبيبا،‏ ‏أن‏ ‏يترك‏‏ ‏مهنة‏ ‏الطب!! ‏هو‏ ‏حر، ‏أنا‏ ‏مالي‏.‏

وصلنا:‏ ‏الأستاذ‏ ‏وتوفيق‏‏ ‏وأنا‏ ‏ووجدنا‏ ‏فى ‏إنتظارنا‏ ‏يوسف‏ ‏عزب‏ ‏ود‏. ‏سعاد‏ ‏موسي، (‏دون‏ ‏موعد‏ ‏سابق‏)، ‏عرفت‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏د‏. ‏سعاد‏ ‏موسي، ‏هى ‏إبنة‏ ‏أخت‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏سامح‏ ‏همام‏ ‏الذى ‏أجرى ‏له‏ ‏العملية، ‏وسألها‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏هل‏ ‏أنت‏ ‏متخصصة‏ ‏نفسية‏ ‏أيضا؟‏ ‏فأجابت‏ ‏أنها‏ ‏متخصصة‏ ‏فيما‏ ‏تعلمته‏ ‏من‏ ‏د‏. ‏يحيي‏” ‏فضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏توفيق‏ ‏بما‏ ‏فهمت‏ ‏معه‏ كيف وصلته دلالة إجابتها، فأنا علّمت سعاد أكثر مما يسمى طب نفسى قطعا، بصراحة، فرحت بإجابتها لأطمئن أنى أعلم أبنائى وبناتى ما هو أكثر من التخصص.

كالعادة‏ ‏بدأ‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الموجة‏ ‏الإسلامية الزاحفة، ‏إن‏ ‏مجرد‏ ‏عودة هذا الموضوع‏ ‏هكذا‏ ‏تلقائيا فى كل مرة فى‏ ‏هذا‏ ‏المجتمع‏ ‏الخاص، الذى هو ليس سياسيا بالضرورة، ‏هى ذات ‏دلالة‏ ‏هامة‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أية ‏فترة‏ ‏نعيشها، ‏وأى ‏مواجهة‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتصدى ‏لها، ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏لقد‏ ‏خطر‏ ‏ببالى ‏تفسير‏ ‏إضافى ‏لمسألة‏ ‏تنامى ‏هذه‏ ‏الموجة الإسلامية، ‏وذلك‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الفراغ‏ ‏السياسي، ‏والحاجة‏ ‏إلى ‏مرجعية واضحة، وكلام من هذا، قلت له لقد ‏خطر‏ ‏ببالى ‏أن‏ ‏الشعب‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أنقسم‏ ‏إلى ‏شعبين‏ (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏طبقتين، ‏وهذا‏ ‏التعبير‏ “‏شعبين‏” ‏استعمله‏ ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏إحدى ‏لقطاته‏ ‏فى ‏أهرام‏ ‏الخميس ذات وجهة نظر‏) ‏قلت‏: ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أصبحنا‏ ‏شعبين، ‏وانفصلنا‏: ‏الأعلى ‏أعلى ‏سلطة‏ ‏أو‏ ‏ثراء، ‏والأدنى ‏أدنى ‏فقرا وتهميشا، ‏كان‏ ‏لزاما‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏الشعب‏ ‏الثانى ‏وسيلة‏ ‏يرد‏ ‏بها‏ ‏على ‏هذا‏ ‏التميز‏ ‏الفوقى ‏الذى ‏يميز‏ ‏الشعب‏ ‏الأول‏، ‏وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أنه‏ ‏بمجرد‏ ‏إنتماء‏ ‏الواحد‏ (‏أو‏ ‏الواحدة‏) ‏إلى ‏الإسلامية‏: ‏تجده‏ ‏على ‏الفور‏ ‏قد‏ ‏شعر‏ ‏أنه‏ ‏واحد من‏ ‏الأغلبية، ‏وأنه‏ ‏أكثر‏ ‏احتراما‏ ‏وأعمق‏ ‏صوابا‏ و‏أوثق‏ ‏هدى، فهو ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏فى‏ ‏موقع‏ ‏التميز بشكل ما، ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏فوق، ‏ومن أظهر‏ ‏مظاهر‏ ‏التفوق‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يدعو‏ ‏لك‏ بالهداية وهو يخاطبك مشفقا، وحين يقول لى أحدهم‏ “ربنا يهديك”، تصلنى قاسية فوقيه برغم أنها دعوات طيبة فأشعر أنه قد صعّد نفسه أعلى منى  ‏لمجرد‏ ‏اختلافى ‏عنه، أشعر أنه يدمغنى بها أو ينفنى أو يستهين بى‏.‏

اعترض‏ ‏زكى ‏سالم‏ كان قد حضر متأخرا قليلا ‏على ‏مسألة‏ ‏التمايز‏ ‏هذه، ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏كل‏ ‏صاحب‏ ‏دين‏ ‏يشعر‏ ‏بهذا‏ ‏التمايز، ‏وقالت‏ ‏د‏. ‏سعاد‏ ‏إن‏ ‏موضوع‏ ‏التمايز‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ينسينا‏ ‏حاجة‏ ‏الناس‏ ‏والشباب‏ ‏خاصة‏ ‏للإنتماء، ‏ووافقت‏ ‏أن‏ ‏أى ‏دين‏ ‏ينمى ‏الفطرة‏ ‏كما‏ ‏وصفتها‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏مميزا لمن ينتمى إليه خاصة ‏فى التفاصيل، لكنه فى النهاية ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يلتقى ‏بأى ‏دين‏ ‏آخر‏ فى غاية موحدة ما دام ‏يسير‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الإتجاه‏ برغم تميزه الذاتى، وأضفت أن ذلك يصح حتى بالنسبة ‏ ‏للأديان‏ ‏غير‏ ‏السماوية، ‏وأضفت‏ ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏عندى ‏يتلخص‏ ‏فى (1) ‏الحرية‏ (‏ان‏ ‏لا‏ ‏اله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏)، (2) ‏والمباشرة‏ “‏العلاقة‏ ‏المباشرة‏ ‏بين‏ ‏العبد‏ ‏وربه‏ ‏دون‏ ‏كهنوت‏ ‏أو‏ ‏وصاية، (3) ‏والعمل‏ ‏قل‏ ‏آمنت‏ “‏بالله‏ ‏ثم‏ ‏استقم‏” “وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى” – ‏كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏يتابع‏ ‏كل‏ ‏هذا، ‏فتدخل مضيفاً‏:” ‏إن‏ ‏الدعائم‏ ‏الأساسية‏ ‏التى ‏تصله‏ ‏من‏ ‏الإسلام‏ ‏هى ‏الحرية‏ ‏فعلا، (‏لا‏ ‏إله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏)، ‏والعدل‏: ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يفرق الاسلام‏ ‏بين‏ ‏أى ‏أحد‏ ‏وأى ‏أحد، ‏لا‏ ‏النسب، ‏ولا‏ ‏اللون‏ ‏ولا‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏الجنس‏ ‏أو‏ ‏أى ‏شىء، ثم ‏يضيف الأستاذ: أيضا أنه يتميز عنده‏ بالتنظيم ‏الاجتماعى، لأنه يركز على ‏التأكيد‏ ‏على ‏العلاقات‏ ‏الإنسانية‏ ‏المادية‏ ‏مثل‏ ‏الزكاة‏ ‏وفى نفس الوقت على العلاقات الإنسانية مثل التراحم‏ًَ، ‏قال‏ ‏يوسف عزب‏ معقبا: “‏عندى‏ ‏إضافة إلى‏ ‏فكرة‏ ‏التمايز، ‏إنهم‏ ‏لا‏ ‏يتميزون‏ ‏فقط‏ ‏بالتفضل بمنح عطايا الدعوات بالهدى استعلاءً، وإنما‏ ‏باحتكار الجنة مكافأة‏ ‏للفكر‏ ‏الميتافيزيقى الأسطورى ‏الذى ‏يحتكرونه‏ ‏بمجرد‏ ‏شعورهم‏ ‏بالإنتماء‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المنظومة‏ ‏الدينية، ‏وتساءل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏واحد‏ ‏كيف‏ ‏يرادف‏ ‏يوسف بين‏ ‏الوعود‏ ‏الدينية‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏الجزم‏ ‏بنفيها، ‏وبين‏ ‏الأسطورة؟ ‏شرح يوسف‏ ‏وجهة‏ ‏نظره‏ ‏بأنه يعنى‏ ‏بالأسطورة‏ ‏أنها‏ مقولة ‏غيبية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏إثباتها الآن، ‏وهنا‏ ‏تدخلت أنا لأوكد‏ ‏ضرورة‏ ‏التفريق‏ ‏بين‏ ‏الغيب‏‏ ‏والأسطورة، ‏فالغيب‏ ‏علم‏ ‏كامن يقينا، ‏وهو‏ ‏علم‏ ‏له‏ ‏قوانينه‏ ‏وتشكيلاته‏ ‏وتركيبه، حتى قبل أن نعرفها أو دون أن نعرفها، ‏لكن‏ ‏الوعى ‏العادى ‏فى ‏فترة‏ ‏بذاتها‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يصل‏ ‏إليه، ‏على النقيض من ذلك فإن‏ ‏الخرافة‏ ‏هى ‏حشو‏ ‏عشوائى ‏يملأ‏ ‏فجوات‏ ‏الوعى ‏بطريقة‏ ‏فجة، ‏بحيث‏ ‏يتم‏ ‏التواصل‏ ‏بالقص‏ ‏واللصق‏ ‏فى ‏جـو‏ ‏من‏ ‏الظلام‏ ‏والتخبيط، ‏أما‏ ‏الأسطورة، ‏فهى ‏نتاج‏ ‏تعامل‏ ‏الوعى الجمعى الغامض ‏مع‏ ‏شطحات‏ ‏الخرافة‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏إعمال‏ ‏الخيال‏ ‏الضام‏ ‏لأجزاء‏ ‏متباعدة، ‏قلت‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏ومثله‏ ‏وأنا‏ ‏خجلان‏ ‏من عجزى عن شرح ما أريد، ‏وحين‏ ‏اكتشفت‏ ‏ذلك‏ ‏أسرعت‏ ‏بالإيجاز والتلخيص‏ ‏قائلا‏: ‏الغيب‏ ‏علم‏ ‏يقينى ‏لم‏ ‏يُعرف‏ ‏بعد، ‏والخرافة‏ ‏جهل‏ ‏بما يشبه اليقين لفرط زيفه، أما ‏الأسطورة‏ فهى ‏تاريخ وعى جماعى سجّله‏ ‏الخيال‏ الجمعى ‏بحبكة‏ ‏نسبية، ‏ولست‏ ‏أدرى ‏إن‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏شرحت‏ ما سبق ‏بهذا‏ ‏الإيجاز‏ ‏أم‏ ‏أنى ‏زدت‏ ‏الأمر‏ ‏غموضا‏.‏

سألت الأستاذ هل وصله شىء مما قلت، قال بتواضع -مجامل غالبا- “شوية”، ورضيت بهذه “الشوية” ولم أزدْ.

يسألنى ‏زكى ‏سالم‏ ‏عن‏ ‏رأيى ‏الذى ‏ذكرته‏ ‏بالنسبة‏ ‏لرفض‏ ‏الاعتقاد‏ ‏السائد‏ ‏أن‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏نتيجة‏ ‏تغييرات‏ ‏كيميائية‏ ‏محددة، ‏وما معنى قولى أن‏ ‏هذا‏ ‏الإعتقاد‏ ‏سوف‏ ‏يثبت‏ ‏أنه‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الخرافة‏ ‏فى المستقبل القريب، ‏وأجيب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏رأيى فقط ‏ولكنه‏ ‏رأى ‏صاحب‏ ‏كتاب‏ مرجعى ‏عن‏ ‏تاريخ‏ ‏الطب‏ ‏النفسي، ‏وهو‏ ‏خواجة‏ ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏اسمه‏ ‏الآن، ويتطرق الشرح إلى أنى أعتبر أن “الجان” هم ذواتنا الداخلية، وهم المقابل لتعدد الذوات الذى قال به كارل يونج وإريك بيرن وأخرون، وأننا ‏نلاحظ‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏هذا‏ ‏عند‏ ‏المبدعين، ‏وقد‏ ‏تناولت ذلك ‏فى ‏أبحاثى ‏النقدية‏ ‏لأعمال‏ ‏الأستاذ، ‏وخاصة‏ ‏فى “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”، ‏وليالى ‏ألف‏ ‏ليله‏”، ‏وأن‏ ‏الأستاذ‏ ‏حين‏ ‏يتكلم‏ ‏فى ‏رواياته‏ ‏عن‏ ‏أنه‏ “‏حل‏ ‏وجود‏ ‏ثقيل‏” ‏أو‏ “‏ولد‏ ‏فيه‏ ‏مارد‏ ‏آخر‏” ‏إنما‏ ‏يستشعر‏ ‏بحدسه‏ ‏الإبداعى ‏هذا‏ ‏التعدد‏ ‏الذى ‏أشير‏ ‏إليه، ‏كنت أقول‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏بسرعة‏ ‏وإيجاز ‏ ‏خشية‏ ‏أن‏ ‏أدخل‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏تخصصية‏ ‏غير‏ ‏مناسبة، ‏فيعاودنى الحرج السابق، نظرت فى الوجوه من حولى فوجدت‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏متململا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الحديث، ‏وكأنه‏ ‏رافض‏ ‏للفكرة، ‏وفعلا تسأل سؤالا أكد لى أنه لم يلتقط ما أتحدث عنه،‏ ‏قال‏: ‏ولكن‏ ‏قل‏ ‏لى ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏الجندى ‏الذى ‏يعانى ‏من‏ ‏صدمة‏ ‏فى ‏الحرب، ‏حين‏ ‏يصاب‏ ‏بصمت‏ ‏أو‏ ‏اكتئاب‏ ‏أو‏ ‏رعب‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏المرض،‏ ‏أين‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏من‏ ‏هذا؟ ‏كيف‏ ‏يفسر تعدد الذوات الذى تتحدث عنه ‏هذا‏ ‏الذى ‏له‏ ‏سبب‏ ‏واضح‏ ‏هكذا؟ ‏فأرد‏ ‏وأنا‏ ‏أشعر‏ ‏أننى ‏أستدرج‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏أريد، وأن توفيق يسأل بعيدا عن القضية التى أتحدث فيها غالبا لأنه لم يفهمها، ‏وأقول‏ ‏إن‏ ‏فكرة‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏هذه، ‏ثم‏ ‏تفككها‏ ‏لا‏ ‏تفسر‏ ‏كل‏ ‏الأمراض، وفى نفس الوقت هى ليست بعيدة عن الأسوياء، وهى ‏تفسر‏ ‏أمراض‏ ‏الإنشقاق‏ ‏وبعض‏ ‏الأمراض‏ ‏العقلية‏ ‏الخطيرة، ‏لكن‏ ‏ثمة‏ ‏أمراض‏ ‏أخرى ‏تحدث‏ ‏ليس‏ ‏نتيجة‏ ‏لتفكك‏ ‏الذوات، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏تحدث‏ ‏نتيجة‏ ‏لتكدس‏ ‏الذوات‏ ‏أو‏ ‏تجمدها‏ ‏أو‏ ‏قمعها‏ معا، ‏حتى ‏لا‏ ‏يتبقى ‏مسيطرا‏ ‏إلا‏ ‏ذات‏ ‏ظاهرة‏ ‏واحدة، ‏وهذا‏ ‏المثل‏ ‏الذى ‏ضربه توفيق ‏لمسألة‏ ‏التفاعل‏ ‏للحرب‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏وصف‏ ‏فى ‏الحرب‏ ‏العالمية‏ ‏الأولى وكان يسمى “صدمة الخندق” حيث ‏ ‏كان‏ ‏الجنود‏ ‏يصابون‏ ‏بالبكم‏ ‏والذهول‏ ‏والتجمد‏ ‏إثر‏ ‏القصف‏ ‏المرعب‏ ‏المهلك‏ ‏بجوارهم، ‏فإذا‏ ‏ما‏ ‏انتهت‏ ‏الغارة‏ ‏وظلوا‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الحال‏ ‏من‏ ‏الجمود‏ ‏صاح‏ ‏بهم‏ ‏الضابط‏  ‏أن‏ “‏اصرخوا، ‏تألموا‏” ‏”لماذا‏ ‏لا‏ ‏تصرخون‏”، ‏وكانت‏ ‏هذه‏ ‏أول‏ ‏إشارة‏ (‏من ضابط‏ ‏غير‏ ‏طبيب‏) ‏تعلن‏ ‏فائدة‏ ‏ما‏ ‏سمى ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏التفريغ، ‏وأتوقف برغم أننى أشعر أن الأستاذ يتابع باهتمام، لكنه لم يطلب لا التوقف ولا مواصلة الكلام المتخصص هكذا. هز‏ ‏توفيق‏ ‏رأسه‏ ‏دون‏ ‏اقتناع‏‏ ‏على ‏ما يبدو ‏وهنا‏ ‏مال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ناحيتى، فاكتشفت أنه كان‏ ‏يتابع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏رغم‏ ‏الصعوبة‏، ‏وقال فجأة ضد توقعى‏: ‏نعم‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏نظرية‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏وتفككها، ‏سليمة‏ ‏أو‏ ‏معقولة‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏والمرض‏ ‏والإبداع، ‏وأنا‏ ‏أشهد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏وارد‏ ‏تماما، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يمنع‏ ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏التفكك‏ ‏نتيجة‏ ‏لاضطراب‏ ‏كيمياء‏.‏

ما‏ ‏أروع‏ ‏هذا‏ ‏الرجل، كيف يلتقط – برغم كل الصعوبات –  ما رفضه توفيق بهذ الشكل،‏ ‏سارعت‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏أننى ‏لا‏ ‏ألغى ‏إطلاقا‏ ‏دور‏ ‏التغيرات‏ ‏الكيميائية‏ ‏فى ‏المرض‏ ‏ولا‏ ‏دور‏ ‏التعديلات‏ ‏الكيميائية‏ ‏فى ‏العلاج، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أرجوه‏ ‏وأفعله‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ضبط‏ ‏الكيمياء‏ ‏هو‏ ‏عملية تهدف إلى‏ ‏توازن‏ ‏الطاقة‏ ‏والفاعلية لكل من ‏مستويات‏ ‏المخ المتعددة‏ ‏وبانتقاءات‏ ‏محددة،‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏عملية‏ ‏علاجية‏ ‏متكاملة، ‏وهادفة‏ ‏لإعادة‏ ‏تمحور‏ ‏الذوات‏ ‏حول‏ ‏محور‏ ‏غائى ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها، ‏وهذه‏ ‏هى ‏الصحة‏.‏

أنتبه‏ ‏من جديد‏ ‏إلى ‏أننى‏ ‏وصلت‏ ‏إلى‏ ‏تفاصيل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏تزيدا‏ ‏سخيفا‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الجلسة، ‏لغير‏ ‏المتخصص،‏ ‏فأعلن‏ ‏للأستاذ‏ ‏مباشرة ‏أنى ‏اضطررت‏ ‏للدخول‏ ‏فى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الاسهاب نتيجة لإلحاح أسئلة زكى وتدخل توفيق، ‏فيقول‏ ‏جادا، ‏ولكن‏ ‏كلامك‏ ‏فيه‏ ‏فائدة‏ ‏شخصية، ‏ويصمت‏ ‏قليلا‏ ‏ليدعنى ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏الفائدة‏ ‏التى ‏قدرت‏ ‏لها‏ ‏على ‏المستوى ‏العقلى ‏تصورات‏ ‏عديدة، ‏فيكمل‏ ‏ضاحكا، ‏”وهو‏ ‏أنك‏ ‏شغلتهم‏ ‏عن‏ ‏تناول‏ ‏مكسرات‏ ‏وحلويات‏ ‏رمضان‏ ‏التى ‏وضعت‏ ‏على ‏المائدة،‏ ‏لأن‏ ‏الجميع‏ ‏شُدَّ‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تقول‏ ‏ونسوا‏ ‏الأكل”، ‏ويقهقه، ‏ويكون‏ ‏هذا‏ ‏إيذان‏ ‏طيب‏ ‏وسماح‏ ‏ضاحك‏ ‏بأن‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏أبسط‏ ‏وأظرف، ‏ولكن‏ ‏لا‏ ‏يبدو اننا لم ننجح، فسرعان ما أعادنا، جرنا زكى بالقوة الجبرية لنجد أنفسنا ندور من جديد‏ ‏حول‏ ‏المسألة‏ ‏الاسلامية‏.‏

يعود‏ ‏زكى ‏سالم‏ إلى رأيه ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دين‏ ‏حق، ‏له‏‏ ‏هذه‏ ‏الميزات‏ ‏التى ‏ذكرتها‏ أنا أو الأستاذ ‏للاسلام، ‏ولا‏ ‏أعترض،‏ ‏وأكرر‏ ‏استشهادى بالآية ‏ “‏إن‏ ‏الدين‏ ‏عند‏ ‏الله‏ ‏الإسلام‏”، ‏وحتى ‏الأديان‏ ‏غير‏ ‏السماوية‏ ‏والتى ‏لا‏ ‏تعترف‏ ‏بالآخرة‏ ‏تكاد‏ ‏تشمل‏ ‏نفس‏ ‏الخطوط‏ ‏العريضة، ‏فينبهنى ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏البوذية‏ ‏فيها‏ ‏توحد‏ ‏بالمطلق‏ ‏وهذه‏ ‏هى ‏الآخرة‏ ‏عندهم، ‏ويدور‏ ‏نقاش‏ ‏حول‏ ‏جنة‏ ‏المسيحية‏ ‏والملكوت، ‏وأذهب‏ ‏لبعض‏ ‏شئونى الخاصة وحين أعود‏ ‏لا‏ ‏أسمع‏ ‏إلا‏ ‏بقية‏ ‏حديث‏ ‏من‏ ‏الأستاذ‏ ‏رجحت أن‏ ‏يكون‏ ‏ردا‏ ‏على ‏تساؤل‏ ‏عن‏ ‏مدى ‏صحة‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الإنطوائية، ‏أو‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏القبيل،‏ ‏وأعرف‏ ‏أن‏ ‏السائل‏ ‏هو‏ ‏يوسف،‏ و‏وجدت‏ أن ‏الأستاذ‏ ‏يجيب‏: “… ‏لا‏ ‏طبعا، ‏أنا‏ ‏بتاع‏ ‏قهاوى، ‏ثم‏ ‏إننا‏ ‏كنا‏ ‏ثلة‏ ‏كبيرة، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هناك‏ ‏بيت‏ ‏من‏ ‏بيوتنا‏ ‏يسعنا‏ ‏جميعا، ‏وكنا‏ ‏نلتقى ‏فى ‏القهوة، ‏وأنا‏ ‏أحب‏ ‏جلوس‏ ‏القهوة‏ ‏حتى ‏وحدى، ‏فهناك‏ ‏الناس‏ ‏الآخرون‏ ‏الذين‏ ‏لا‏ ‏أعرفهم‏ ‏وهم‏ ‏جالسون‏ ‏معى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر، ‏كما أننا كنا‏ ‏لا‏ ‏نسأل‏ ‏بعضنا‏ ‏البعض‏ ‏حتى ‏عن‏ ‏عناوين‏ ‏منازلنا، ‏حتى ‏أن‏ ‏أدهم‏ ‏رجب‏ ‏(أ‏. ‏د‏. ‏أدهم‏ ‏رجب‏ ‏استاذ‏ ‏الطفيليات‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏وصديق‏ ‏الاستاذ‏ ‏عبر ‏سبعين‏ ‏سنة‏) ‏كان‏ ‏فى ‏زيارتى ‏قريبا‏ ‏وجاء‏ ‏ذكر‏ ‏صديقنا‏ “‏عبد‏ ‏المنعم‏ ‏الشوفي‏”، ‏فسألته‏ ‏عن‏ ‏أحواله‏ ‏فقال‏: “‏لست‏ ‏أدرى”، ‏وسألت‏: “‏ألا‏ ‏تزوره”، ‏فقال:‏ “‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏عنوان‏ ‏بيته”، ‏واكتشفت‏ ‏أننى‏ ‏أيضا لا‏ ‏أعرف‏ ‏بيته‏ ‏حيث ‏كنا‏ نلتقى ‏فى ‏الخارج‏ دائما، فما حاجتنا إلى العناوين.

أستأذنت‏ ‏على ‏عينى، ‏لأذهب ‏ ‏للعيادة‏، فاليوم هو الأحد لا الخميس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *