الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (56) الإدراك (17) علاقة الإدراك بالوجدان (العواطف) (2 من 2)

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (56) الإدراك (17) علاقة الإدراك بالوجدان (العواطف) (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

7-3-2012

السنة الخامسة25-1-2012

 العدد: 1650

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (56)

الإدراك (17)

 

علاقة الإدراك بالوجدان (العواطف) (2 من 2)

مقدمة:

عرضنا أمس فرضا (أو اقتراحا أو مناقشة) حول كيف يمكن أن يكون الإدراك أقرب إلى الوجدان (العواطف) من قربه إلى التفكير أو الفهم، فإذا رجعنا إلى أصل كلمة الوجدان فى المعاجم (باعتبار المعاجم مجرد استهداء إلى تطورها هذا اللفظ فى هذه اللغة العبقرية)، وجدنا أن مادة “وجد”(1)  فيها من معانى المعرفة والتبيين بقدر ما فيها من معانى العاطفة والانفعال.

 ففى حين أنها تعبر عن الحزن والغضب (وجد عليه) والحب (وجد به) والكراهية ( أوجده على الأمر أكرهه) فهى تعبير عن معانى المعرفة والتبيين (وجد زيدا ذا الحفاظ)، وهى تمتد إلى ما يتعلق‏ ‏بمعنى ‏المعرفة‏ ‏والتبين‏: ‏حين لا تستعمل‏ ‏‏ ‏بلا‏ ‏حرف‏ ‏جر‏: ‏وَجَدَ‏ ‏زيدا‏ ‏ذا‏ ‏الحفاظ‏، “ووجدك‏ ‏عائلا‏ ‏فأغني”، ‏وقريب‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏معنى ‏العثور‏ ‏على، ‏أو‏ ‏الحصول‏ ‏على‏: ‏أوجده‏ ‏الشيء‏ ‏جعله‏ ‏يجده‏: ‏يظفر‏ ‏به‏.‏‏ ثم إن لنفس اللفظ ‏معنى ‏يتعلق‏ ‏بالإبداع‏ ‏والخلق‏: ‏أوجده‏ ‏الله‏: ‏أنشأه‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏سابق‏ ‏مثال‏، ‏وهو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الوجود‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏ضد‏ ‏العدم‏، ‏وجد‏: ‏خلاف‏ ‏عدم‏.‏

‏ ‏وتمتد‏ ‏المعانى ‏إلى ‏ما‏ ‏يتضمن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏عيانية‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلي‏: ‏السعة‏، ‏والكثرة‏، ‏والبسط‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏: ‏أوجده‏ ‏الله‏: ‏استغنى ‏غنى ‏لا‏ ‏فقر‏ ‏بعده‏،

وبرغم كل هذا الثراء فى تجليات اللفظ وإحاطته فقد أقره مجمع اللغة اصطلاحيا ليعنى:

أولا‏: ‏كل‏ ‏احساس‏ ‏أوّلى ‏باللذة‏ ‏أو‏ ‏الألم‏،

 ‏وثانيا‏: (ليدل‏) ‏على ‏ضرب‏ ‏من‏ ‏الحالات‏ ‏النفسية‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏تأثرها‏ ‏باللذة‏ و‏الألم‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏أخرى ‏تمتاز‏ ‏بالإدراك‏ ‏والمعرفة‏،

وهذه المقابلة التى تبدو مقابلة استقطابية ضدّية هى التى نحاول أن ننفيها الآن

فإذا‏ ‏انتبهنا‏ ‏إلى ‏المحاذير‏ ‏التى ‏قدمناها‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏راعنا‏ ‏تصور‏ ‏الآثار‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تترتب‏ ‏على ‏‏أى استعمال ضيق‏، ‏يبعد‏ ‏لفظ‏ ‏الوجدان‏ ‏بكل‏ ‏إيحاءاته‏ ‏السابقة‏ ‏وشموله‏ ‏المترامى ‏عن‏ ‏أى ‏معنى ‏سوى ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏الأخير الخامل‏، بمعنى أننا لو اقتصرنا على هذا التعريف المجمعى الأحدث لابتعدنا عن كل ‏نبض‏ ‏إنسانى ‏أعقد‏ ‏تركيبا‏ ‏وأشمل‏ ‏إحاطة‏، ‏وأعلى ‏ولافا‏، وبالتالى ‏سوف‏ ‏يثلم الوجدان‏ ‏كأداة‏ ‏معرفية‏ ‏أسبق‏ ‏عن‏، ‏وأحد‏ ‏من‏، ‏ما‏ ‏يسمى ‏تفكيرا‏ (‏تجريديا خاصة‏)، هذا الاختزال إنما يلغى‏ ‏تاريخ‏ ‏اللفظ‏ ‏وتوجهاته‏ ‏المتضفرة‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏اللفظ‏ ‏بين‏ ‏الدفع‏ ‏العاطفى ‏المختلف‏ ‏الاتجاه‏، ‏وبين‏ ‏الإبداع‏ ‏من‏ ‏العدم‏ ‏مغلّــفا‏ ‏بالقدرة‏ ‏المعرفية‏ ‏المدركة‏ ‏إدراكا‏ ‏سبقيا‏ ‏متصلا‏ ‏بالسعة‏ ‏والقوة‏ ‏والرى ‏والطمأنينة؟؟‏،

 ‏ألم يصلنا فى‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏مدى‏ ‏حركية اللفظ‏ ‏كما‏ ‏تجلت‏ ‏لنا‏ ‏مما‏ ‏سجلته‏ ‏بضعة‏ ‏معاجم؟(2) ‏‏فما‏ ‏بالك‏ ‏بتاريخه‏ ‏الحقيقى ‏حتى ‏تضمن‏ ‏كل ما تضمن،

ألا يشير‏ ‏كل ذلك‏ ‏إلى ما يمكن أن نختنق فيه لو ‏أننا‏ ‏‏رضينا‏ ‏بالاستعمال‏ “المجمعى” ‏الأحدث‏ ‏للفظ‏ ‏الوجدان‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏المختزلة؟

‏لا‏ يحتجّ‏ ‏محاور‏ ‏بأن‏ ‏الاستعمال‏ ‏الأدبى ‏والعام‏ ‏شىء‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الاستعمال‏ ‏الفلسفى ‏والعلمى ‏شىء‏ ‏آخر‏، ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏جاز‏ ‏هذا‏ ‏الفصل‏ ‏التام‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏البحتة‏، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الانسانية‏، ‏والنفسية‏ ‏خاصة‏، ‏ثم‏ ‏إننا‏ ‏بهذا‏ ‏الاختزال‏ ‏إنما‏ ‏نلصق‏ ‏لفظا‏ ‏عريقا‏ ‏كلافتة‏ ‏على ‏ظاهرة‏ ‏لم‏ ‏نتبين‏ ‏معالمها‏ ‏أصلا‏، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نستلهمه‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏فيه‏، ‏لأن‏ ‏اللفظ‏ ‏إذ‏ْْ ا‏نشأ‏ ‏وتطور‏، ‏إنما‏ ي‏نشأ‏ ‏وهو‏ ‏يلامس‏ ‏ظاهرة‏ ماً، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يحاول‏ ‏احتواءها‏، ‏فيكشف‏ ‏ويكتشف‏ ‏تعدد‏ ‏وجوهها‏، ‏وثراء‏ ‏عطائها‏، ‏فيتحرك‏ ‏فى ‏سياقات‏ ‏متعددة‏ ‏ومتنوعة‏، ‏ثم‏ ‏يلحق‏ ‏به‏ ‏حرف‏ ‏مساعد‏، ‏أو‏ ‏تسبقه‏ ‏أداة‏ ‏موضحة‏، ‏فيقترب‏ ‏ويبتعد‏، ‏ويجتهد‏ ‏لاحتواء‏ ‏مضمون‏ ‏مناسب‏ ‏لما‏ ‏يريد‏ ‏وصفه‏، ‏ثم‏ ‏يعجز‏ – ‏عادة‏ – ‏فتفيض‏ ‏عن‏ ‏حدوده‏ ‏تولدات‏ ‏الظاهرة‏ ‏الأرحب‏، ‏فيلاحقها‏ ‏باستعمال‏ ‏جديد‏، ‏أو‏ ‏يساعده‏ ‏لفظ‏ ‏جديد‏، ‏وهكذا‏.‏

ولقد‏ ‏قلنا‏ ‏سابقا‏ ‏إن‏ ‏الظاهرة‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏تسميتها‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏لغتها‏ ‏الأساسية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏التركيب‏ ‏اللغوى ‏الغائر‏ ‏هو‏ ‏أسبق‏ ‏حتما‏ ‏من‏ ‏التحديد‏ ‏اللفظى (‏المعجمى ‏بالذات‏) – ‏ونذكر‏ ‏القارىء‏ ‏هنا‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏التحديد‏ ‏اللفظى ‏المتنوع‏ ‏فى ‏السياق‏ ‏هو‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏التحديد‏ ‏العلمى ‏المصطلحى، ‏لكن‏ ‏التحديد‏ ‏العلمى ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏ ‏بالذات‏ ‏من‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ – ‏يرتد‏ ‏‏بالأثر‏ ‏المختزل‏ ‏والمشوِّه‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏أشمل‏ ‏لغة‏ ‏وأرحب‏ ‏وجودا‏.‏

هذا عن علاقة الوجدان بالمعرفة والتبيين التى هى – بشكل ما – “الإدراك”،

 فإذا انتقلنا إلى علاقة الوجدان بالكلام(3) فإن ما أثير فى الندوة كان أكثره عن حبس العاطفة فى لفظها، وأيضا عن كيف يلغى الحديث عنها، أو الكلام فيها أو الشكوى بها عن معايشتها، وأخيرا كيف يتفوق الشعر (بالفصحى و العامية) بوجه خاص فى وصف العواطف (الوجدان) عن مجرد تعريفها بتعريف جامع مانع.

وإليكم الأمثلة المتاحة، وقد عرُض أغلبها – شعرا – فى ندوة المقطم.

أولاً: صعوبة وصف إحساس حقيقى غامر

 (هذا حدث حقيقى مَرّ بالكاتب فسجله شعرا هكذا):

……..

……..

واهتز‏ ‏كيانى ‏بالفرحهْ،  ليست‏ ‏فرحهْ، ‏

بل‏ ‏شيئا‏ ‏آخر‏ ‏لا‏ ‏يوصف، ‏

إحساس‏ ‏مثل‏ ‏البسمة، ‏   أو‏ ‏مثل‏ ‏النـِّسمة‏ِِ ‏فى ‏يوم‏ ‏قائظ، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏الموج‏ ‏الهادئ ‏حين‏ ‏يداعب‏ ‏سمكة،‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏سحابة‏ ‏صيف‏ ‏تلثم‏ ‏بــَردَ‏ ‏القمة، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏سوائل‏ ‏بطن‏ ‏الأم‏ ‏تحتضن‏ ‏جنينا‏ ‏لم‏ ‏يتشكل‏ ‏

أى ‏مثل‏ ‏الحب‏..، ‏

بل‏ ‏قبل‏ ‏الحب‏ ‏وبعد‏ ‏الحب، ‏

نبضٌ ‏يتكور‏ ‏فى ‏جوفى ‏لا‏ ‏فى ‏عقلى ‏أو‏ ‏فى ‏قلبى،  ‏

وكأن‏ ‏الحبل‏ ‏السرى ‏يعود‏ ‏يوصـِّلـُنـِى ‏لحقيقة‏ ‏ذاتى .. ‏

هو‏ ‏نبض‏ ‏الكون‏ ‏

هو‏ ‏الروح‏ ‏القدسى ‏، أو‏ ‏الله‏ ‏

…….

ثانياً: نَفَى الزعم بأن الفصامى متبلد الشعور أو منعدم العواطف

 وقد تقمص الكاتب فصاميا وكيف أنه عجز عن وصف مشاعره الأعمق والأدق بألفاظ شائعة، فبدا متبلدا وبداخله ما بداخله، قال:

……….

………..

أحكى ‏فى ‏صمت‏ٍٍ ‏عن‏ ‏شئٍ ‏لا‏ ‏يُحكى ‏

عن‏ ‏إحساس‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏اسم‏ ‏

إحساس‏ ‏يفقد‏ ‏معناه، ‏إن‏ ‏سكن‏ ا‏للفظ‏ ‏لميت‏ .

شئ ‏يتكور‏ ‏فى ‏جوفى ‏

يمشى ‏بين‏ ‏ضلوعى ‏

يصّاعد‏ ‏حتى ‏حلقى ‏

فأكاد‏ ‏أحس‏ ‏به‏ ‏يقفز‏ ‏من‏ ‏شفتى ‏

وفتحت‏ ‏فمى‏:‏

‏لم‏ ‏أسمع‏ ‏الا‏ ‏نفسا‏ ‏يتردد‏ ‏

إلا‏ ‏نبض‏ ‏عروقى ‏

وبحثت‏ ‏عن‏ ‏الألف‏ ‏الممدودة‏ ‏

وعن‏ ‏الهاء‏ ‏

وصرخت‏ ‏بأعلى ‏صمتى

لم‏ ‏يسمعنى ‏السادة

وارتدت‏ ‏تلك‏ ‏الألف‏ ‏الممدودة‏ ‏مهزومة‏ ‏

تطعننى ‏فى ‏قلبى ‏

وتدحرجت‏ ‏الهاء‏ُُ ‏العمياءُ‏ ‏ككرة‏ِِ الصلبْ‏..، ‏

داخل‏ ‏أعماقى

ورسمت‏ ‏على ‏وجهى ‏بسمة‏

تمثال‏ٌٌ ‏من‏ ‏شمع‏

ورأيت‏ ‏حواجب‏ ‏بعضِهمو‏ ‏ترفع‏ ‏

فى ‏دهشة‏ ‏

وسمعت‏ ‏من‏ ‏الآخر‏ ‏مثل‏ ‏تحية‏ ‏

ظهرت‏ ‏أسنانى ‏أكثر،  ‏

وكأنى ‏أضحك‏ ‏

ومضيت‏ ‏أواصل‏ ‏سعيى ‏وحدى ‏

وأصارع‏ ‏وهمى ‏بالسيف‏ ‏الخشبى ‏

السيف‏ ‏المجداف‏ ‏الأعمي‏.. ‏

والقارب‏ ‏تحتِىََ ‏مثقوب‏ ‏

والماء‏ ‏يعلو‏ ‏فى ‏دأب‏ ‏

والقارب‏ ‏تحتى ‏يتهاوى .. ‏

فى ‏بطء‏ ‏لكن‏ ‏فى ‏إصرار‏ ‏

فى ‏بحر‏ ‏الظلمة‏ ‏

فى ‏بحر‏ ‏الظلمة‏ .

****

ثالثا: كيف احتج “صلاح جاهين” على اختزال الحزن الجليل

 (إلى اسم “مرض” “زى البرد زى الصداع”)

يا حزين ياقمقم تحت بحر الضياع

حزين أنا زيك وإيه مستطاع

الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع

 الحزن زى البرد .. زى الصداع

****

رابعا: كيف صنّف صلاح عبد الصبور أنواعا من الحزن

أنواعا لا تخطر على بال طبيب نفسى غالبا، فوصف الحزن الموقظ للحنين ثم الحزن حين يشتعل لهيبا، لكنه يتجمع فى إشراقه الغد، وأيضا وهو يبعث الفرْح الحبيب ……، ثم أخيرا كيف يمكن أن يتشوه فى مسخ غامض غريب (فهو الحزن المرضى غالبا)

………..

………..

‏حزنى ‏غريب‏ ‏الأبوين، لأنه‏ ‏تكوّن‏ ‏ابن‏ ‏لحظة‏ ‏مفاجئة، ما‏ ‏مخضته‏ ‏بطن.

أراه‏ ‏فجأة‏ ‏إذ‏ ‏يمتد‏ ‏وسط‏ ‏ضحكتي

‏ ‏لقد‏ ‏بلوت‏ ‏الحزن‏ ‏حين‏ ‏يزحم‏ ‏الهواء بالدخان، فيوقظ‏ ‏الحنين

‏ثم‏ ‏بلوت‏ ‏الحزن‏ ‏حين‏ ‏يلتوى ‏كأفعوان‏ ‏فيعصر‏ ‏الفؤاد‏ ‏ثم‏ ‏يخنقهْ

وبعد‏ ‏لحظة‏ ‏الإسار‏ ‏يعتقه

‏‏ثم‏ ‏بلوت‏ ‏الحزن‏ ‏حينما‏ ‏يفيض‏ ‏جدولا‏ ‏من‏ ‏اللهيب

‏يتجمع‏ ‏فى ‏إشراقة‏ ‏الغد

‏ ‏ثم‏ ‏يمر‏ ‏ليلنا‏ ‏الكئيب

ويشرق‏ ‏النهار‏ ‏باعثا‏ ‏من‏ ‏الممات: جذور‏ ‏فرحنا‏ ‏الحبيب‏.

‏‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الحزن‏ ‏مسخ‏ ‏غامض‏ ‏غريب

وبعد

هل يجوز يا سادتى أن يتجمع كل ذلك فى  شىء اسمه “الاكتئاب”، (زى البرد زى الصداع)؟!

(ملحوظة: العجيب الرائع أن كل ذلك ورد فى قصيدة عبد الصبور المسماه “أغنية إلى الله”، هل صدقتكم أن الإدراك الحقيقى، لتصعيدى جنبا إلى جنب الوجدان الجدلى النامى هما الطريق إلى الله، فرض هذا البحث الأساسى؟!)

****

خامساً: ومن قصائدى

 يبدو أننى حين عجزت عن وصف علاقتى بالحزن من خلال مهنتى أو من خلال خبرتى، لجأت إلى الشعر  باعتباره الأقدر على توصيف الوجدان دون خنقه(4).

(1) فجاء فى قصيدتى (الريح والأحزان)

……..

يتحفز‏ ‏حزنٌ‏ ‏أبلجْ

حزنٌ‏ ‏أرحبُ‏ ‏من‏ ‏دائرِة‏ ‏الأشياِء‏ ‏المنثورة‏ْْ

‏ الأشياء‏ ‏العاصيِة‏ ‏النافرِة‏ ‏الهيجَى

حزن‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏ثورة‏ ‏تشكيل‏ ‏الكلمات

حزن‏ ‏يصرخ‏ ‏بكما‏ ‏

يشرق‏ ‏ألما

حزن‏ ‏يستوعب‏ ‏أبناء‏ ‏الحيرة

يجمع‏ ‏أطراف‏ ‏الفكرة

يوقد‏ ‏نار‏ ‏الأحرفِ‏ ‏والأفعاْل

 

حزن‏ ‏يحنو‏، ‏يدمي‏، ‏يلهب‏، ‏يصرخ‏،‏

يُحيى ‏روحا‏ ‏ميتة‏ ‏ضجرة‏.‏

6/5/1982

 (2) وفى قصيدتى “حزنى كلمة” جاء بربط الحزن بصعوبة عمل علاقة حقيقية بـ “آخر” (أو أخرى) ثم تحمّل أعباء هذه الصعوبة، ومحاولة اختراقها ونحن نحترم الحزن الدافع إليها “بما هو”!

-1-‏

حُـزنى ‏كلمَه‏،‏

 تمحو‏ ‏صَمت‏ََ ‏الموتْ‏.‏

حزنى ‏أقَوى، ‏أظهرُ‏ ‏من‏ ‏شمس‏ ‏البهجهْ‏.

حُزنى ‏أصل‏ ‏الأشياء‏.‏

-2-‏

لا‏ ‏تقتـَربى،‏

لا‏ ‏أحملُ‏ ‏لمسات‏ِِ ‏حنانكْ‏.‏

تقع‏ ‏الكلمةُ‏ ‏فى ‏غيرالجمله‏ْ، ‏

أتراجعْ‏ْْ.‏

يَلفظنى ‏الرحم‏ ‏الغادرُ‏،‏

فأسارع‏ُُْْ ْ،‏

لا‏ ‏أعبر‏ُُ ‏حدَّ‏ ‏الخوفْ‏.‏

يغمرُنى، ‏يغمرُنى ‏حتىَّ ‏أرنبةَ‏ ‏الأنف‏ْْ،‏

لا‏ ‏أغرقُ‏،‏

لا‏ ‏أسبح‏ْْ ْ

‏‏ ‏تتباعد‏ ‏كلُّ‏ُّّ ‏الشطآنْ‏.‏

يتكاثرُ‏ ‏خدرالغُربة‏ِ ‏والإنهاكْ‏. ‏

أتمسّك‏ ‏بحبال‏ ‏الأنفاس‏ ‏المقطوعةِ‏،‏

يحتدّ‏ ‏الوعى،‏

فأخاف‏.

-4-‏

يكفينى ‏حرفٌ‏ ‏ضلَّ‏ ‏طريق‏ ‏الكلمهْ‏.‏

أجمعُ‏ ‏أطراف‏ََ ‏المعنىَ.‏

‏”لا‏ ‏تمضِى، ‏

لا‏ ‏تقتربِى‏”.‏

لأصارع‏ ‏موتى ‏وحدى ‏

‏- ‏دون‏ ‏غيابٍكْ‏-‏

 ‏يصرعُهُ‏ ‏حزنى ‏الأشهبْ‏‏

8/12/1982

****

سادسا: وللأطفال بالعامية المصرية

 ثم إنى لما فاض بى عجزى أن أخاطب الكبار الذين يحزنون حزناً موصى عليه من الأطباء فلا يسمحون لأنفسهم بتصديقى ليعايشوا عواطف “أصيلة” بعيدا عن تجارة الأدوية، أقول لما بلغ بى العجز مبلغه، ولاحت لى فرصة لمخاطبة الأطفال، كتبت عن نفس الموضوع أرجوزة أو أغنية تحوى كل ما جاء سابقا، بما فى ذلك علاقتها بالإدراك (العواطف عقل تانى) وأيضا وظيفتها فى تخليق الجدل الضام لمستويات الوعى (هيّه لمـَّانِى على  بعضِى معايَا) وكذلك لرفض الطمأنية الخامدة التى تسمى أحيانا “السعادة”، وكذلك رفض الحب الفنائى (أموت فيك وتموت فىّ) ثم كيفية ترويض العواطف دون كبتها حتى يصبح الفارس فرسا وبالعكس، ثم تداخل المستويات مع بعضها البعض فى كلٍّ يصعب تجزيئه أو تسميته وإلا تشوَّه، ثم تناسبها مع الموقف ورفض الأحضان الزائفة، ثم دور الوجدان فى توثيق العلاقة بالآخرين برغم الصعوبة، وأخيرا علاقة كل ذلك بالفطرة (ربّى كما خَلَقَتَنى) وبتوجهنا لمعرفة الله بها، وبتجليها فى جدل مستويات الإدراك،

 قلت للأطفال:

……

…. والعواطف حلوهْ خالصْ

               آنا فرحانْ، وانتَ هايصْ،

بس هيّه مشْ مجرّد يعنِى فرحهْ

 ولاّ غمّ وهمّ،  أو غيظ أو مقاوْحَهْ.

العواطف مش حكاية حبّ، أو دمْع الولايَا 

 هيّه  لمـَّانِى  على  بعضِى معايَا،

اصل باينْ إنّ يعنِى: إلعواطف عقل تانى

 مش بعيد مالأوّلانى

العواطف ما فيهاش إنك  تـِتَـنّحْ: يعنى تِتّطمن وبسْ

أو  تموتْ فى اللى احتواك مِـنْ دُونْ تحسْ

العواطف زى ما تكون مُهْر جامحْ

 وانت فارسْ، بس فالحْ

يعنِى راكبه تْلجّمهْ،

مشْ  تِكْتِمُـهْ

يعنى قصدى تـْعـلِّـمهْ

 مشْ تِـشـْكُمُـهْ

آه:  توريه انه يطلع كل مطلعْ:

واحده واحده

وامّا يرمح، برضه يرمحْ، واحده واحده

بعد حبةْ  وقت  وشوية علامْ،

مش حا تحتاج اللجامْ

تلقى نفسك، وانت فارسْ: إلفرسْ

والفرسْ تلقاه بقى ضِمنِ الحرسْ

يعنى يحرس شطحه من حُسن علامُه،

   بعد ما تكون سِـبت إيدكْ مِن لجامهْ


العواطف هيَّا حاجة كلـّهَا على بعضهَا

مش ضرورى تسمِّى يعنى كل واحدهْ باسْمهَا

هىّ حلوة بدونْ كلامْ

حتى مش محتاجة حضنْ، أو سلامْ

هىّ حلوة لما تطلع فى أوانها

 لما تتحط فْ مكانها

العواطفْ تحلـَى خالصْ لمّا تبقى الأصْلانيـّة

يعنى نبقى إحنا بيها فينا بينا: يعنى هيـَّهْ

لو تعبّر عنها ماشى، قومْ تشاركْ،

لو تعيشها حتى وحدك:

تملا روحك  “باللى هـُـوّا”، الله يباركْ.

  لما تتبادِلْها مع غيركْ، تِرَعْرَعْ

   هِىّ سـرَّكْ، لو تهدِّى أو تولـّـعْ

سوف تْلقَى الكون دا مليانْ كل حاجةْ

تبقى كاره ما يسمَّى: اللجاجة والسَّماجةْ

يبقى عقلكْ، هوّا حسّكْ، هوّا قلبكْ

تلقى كل الناس معاكْ،

تلقى كل الناس معاكْ،

زى ما ربك خلقهم،

مش على رسمةْ هواكْ

تحتملْ إللّى مخالفْ

برضه  تفرح باللى  يستحمل بلاويكْ، مهما كانت، أصله شايفْ،

ربنا يبارك ويرضى عاللى جارى، واللى كانْ،

ترضى عنّه انت كمانْ.

****

وبعد

هل سوف تحتملوننا الأسبوع القادم حين ننتقل من علم الإدراك إلى عكسه، أعنى “علم الكلام” (الإسلامى خاصة)؟

 

[1] – لفظ‏ “وجدان” ‏هو‏ ‏مصدر‏ ‏من‏ ‏فعل‏ “وجد” (‏بفتح‏ ‏الجيم‏ ‏وكسرها: وجَدَ، وجِدَ‏) ‏ويختلف‏ ‏مفهوم‏ ‏مشتقات‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏واستعمالاتها‏ ‏باختلاف‏ ‏رسمه‏، ‏وتشكيله‏، ‏وحرف‏ ‏الجر‏ ‏الملحق‏ ‏به‏، ‏ثم‏ ‏السياق‏ ‏الوارد‏ ‏فيه‏.‏

[2] – أعتمد‏ ‏فى ‏الرجوع‏ ‏إلى ‏معنى ‏اللفظ‏ ‏هنا‏ ‏وفيما‏ ‏بعد‏ ‏على ‏المعاجم‏ ‏التالية‏: ‏لسان‏ ‏العرب‏ (‏ابن‏ ‏نظير‏)، ‏القاموس‏ ‏المحيط‏ (‏الفيروزبادي‏) ‏أساس‏ ‏البلاغة‏ (‏الزمخشري‏) ‏ثم‏ ‏الوسيط‏ (‏المجمع‏ ‏اللغوي‏).‏

[3] – خاصة وأننا سوف نتناول الأسبوع القادم علاقة “علم الإدراك”، بـ “علم الكلام” (الإسلامى).

[4] –  كما نبهنا فى الندوة د. محمد يحيى الرخاوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *