الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (46) الإدراك (7) الحوار يتواصل حول الإدراك (4) ورقة مقدمة من: د. محمد يحيى الرخاوى

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (46) الإدراك (7) الحوار يتواصل حول الإدراك (4) ورقة مقدمة من: د. محمد يحيى الرخاوى

نشرة “الإنسان والتطور”

 1-2-2012

السنة الخامسة25-1-2012

 العدد:  1615

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (46)

الإدراك (7)

الحوار يتواصل حول الإدراك (4)

 ورقة مقدمة من: د. محمد يحيى الرخاوى

توقفنا أمس يا محمد عند إِشارتك إلى عدم الحاجة إلى التفرقة بين الإدراك البسيط “هذا كوب”، وبين الإدراك الأشمل أو الأعمق أو الأعقد أو ما تشاء من صفات مثل إدراك “معنى الكون” أو “وجود الله”، ليكن، ولنبدأ بإدراك معنى الكون:

 أولا: أنا لا يهمنى إدراك معنى الكون بقدر ما يهمنى إدراك معنى وجودى أنا لهذه الفترة من الزمن فى هذا الكون، أما وجود الله فهو – بعيدا عن ما تعرف وما لا تعرف- بالنسبة لى يعتبر قضية جوهرية لا يكون البشر بشرا إلا بقدر انتمائهم إليها (بما فى ذلك إنكارها)، وقد كتبت فى ذلك – كما لا بد أن تعلم – بحذر شديد (مثلا: مقال الأهرام 14/5/1999: “العولمة ونوعية الحياة أو مقال الأهرام 1/6/1999 “هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم“، أوضحت أنذاك كيف تختلف الحياة (الوجود) إذا كانت تنتمى إلى محور واحد تتشكل حوله توجهاتنا جميعا بأقل قدر من الشرك، تختلف عن الحياة (الوجود) التى تنكر أو تزيح أو تستغنى عن هذا المحور، ربما لذلك عنونت إحدى أولى النشرات بعنوان “ثقافة التوحيد” من هنا كانت بداية علاقتى بشهادة ألا إله إلا الله، وأنها من مدخل الإدراك قبل المعتقد ومعه، فالعبادات، ما أمكن ذلك، وهكذا وصلت إلى مقولة أن الله يُدرك بشحذ أدوات الإدراك، وتسليك قنوات الوعى ولا يمكن إثباته بالحجج والبرهان(1)

د. محمد يحيى:

 (8) “…قد يستطيع تعريف الإدراك بهذا الشكل [إعطاء معنى للبادى من البيئة المعرفية] أن يستوعب حتى مستوى “الشهادة” الذى سمعتكم تشيرون إليه (فى مسألة “شهادة” ألا إله إلا الله)”.

د. يحيى:

أظن أنه قد بلغتك من ردّى فى الفقرة السابقة علاقتى بشهادة ألا إله إلا الله، هذه الشهادة وصلتنى أنها تحول دون أن ينقلب الدين إلى أيديولوجيا، إن من حق من لا يستطيع أن “يشهد” هكذا باكرا (مع أن الأطفال أقدر على الشهادة من الكبار) أن “يعتقد” (دون أن يشهد) بربنا أو دينه كما يشاء، ولكن أن يعتبر أن هذا هو نهاية المطاف، أو أن يزيح الشهادة جانبا ويركز على آلية ليس من اختصاصها أن تحرك فينا قدرات الشهادة التى تنفى الشرك، فهذا أمر آخر، ولا حل له عند من يصرعليه إلا الكفر، ولو تحت اسم دين بذاته.

لن أطيل يا محمد فى موضوع علاقة ما وصلنى من الشهادة بالإدراك لأن هذا قد يبعدنا عن الموضوع الأصلى قليلا أو كثيرا، وسأنتقل إلى بقية ملاحظاتك، أعنى الملاحظات التى اخترتُها من ورقتك.

د. محمد يحيى:

 (9) “….ليس المعنى فى الشىء أو فى العالم ولكنه فينا وفى تناغمنا مع الشىء والعالم (والآخرين إن تطرقنا للتواصل والتواصلية)”.

د. يحيى:

لو أنك، أو أننى نزعت كلمة من هذه الجملة لقبلتها كما هى، بمعنى أن تصبح ليس المعنى فى الشىء أو فى العالم ولكنه فى تناغمنا مع الشىء والعالم (والآخرين إن تطرقنا للتواصل والتواصلية).  هل يا ترى وصلك ما أردت؟ أريد أن أؤكد يا محمد أن هذه المقابلة لم تعد لها لزوم عندى، الإدراك، (مثل النمو، مثل الكدح، مثل الإيمان، مثل الإبداع) هو فى هذا التناغم ليس بمعنى التوافق والتكافل، وإنما بمعنى تواصل واتساق حركية الإيقاع الحيوى حالة كونه يحتوى جدل المراحل التى تبدو أضدادا وماهى بالضرورة كذلك،

 هنا أعود لاستيضاح ما كنت تعنى بكلمة الإعطاء، “إعطاء البادى من البيئة المعرفية معنى”، بالله عليك أين التناغم فى “إعطاء البادى”، علماً بأن النغم لا يصدح ولا ينساب أو يتناسق إلا بالتناغم حين تسهم كل آلة وكل عازف بالداخل والخارج فى القيام بدوره فى العملية الإدراكية المستمرة حتى يعرف، يدرك، الطريق إليه.

د. محمد يحيى:

 (10) “….. الإجابة ترتبط بما يحققه إدراك معنى ما من تناغم (وتكيف وتعالق فى المستويات الأكثر جزئية)، وسعينا للتناغم الأقصى هو هو ما يصل بنا للسعى للمعنى الكلى، أى لشهادة وجود الله”.

د. يحيى:

هذا هو، وبالرغم من أننى لا أعرف ما ذا تقصد تحديدا “بالتعالق”، إلا أنه وصلنى معنى جمع إلىّ فرق الإدراك المتناغمة لتحقيق المراد من تناغم اللحن الكامل حول التوحيد النافى للشرك، وهو شهادة ألا إله إلا الله إحدى تجليات الإدراك، ثم يصدح اللحن الكلى قريبا جدا، بعيدا جدا، كافيا هنا، جاذبا هناك، فنسعى إليه كدحا دون كلل، وهذا السعى كاف لإدراك وجوده دون حاجة إلى إثباته بغيره (كما علمنا النفرى) والعملية ليس لها نهاية كما تعلم، المهم دوام الحركة، وتناوب النبض لتكون حياة حقيقية جديرة بما أكرمنا به.

د. محمد يحيى:

 (11) “….أما البيئة المعرفية فهى بالتأكيد تتجاوز مسألة المنبهات الحسية والعلامات، لتستوعب كل أنواع المعلومات والمعارف ……………. والمنبهات والانطباعات والأفكار والمشاعر وآراء الآخرين وما نعرفه أو نتصوره عنها وما هو تبادلى منها ……. وما هو غير ذلك”.

د. يحيى:

الله يسامحك يا محمد يا ابنى، فلماذا دوختنى وراءك، ما دمت فى النهاية قد سمحت بتجاوز كل ذلك، وخصوصا تجاوز المنبهات الحسية، و….، و….، و……، و…….الخ، “حتى ما هو تبادلى منها”؟، فلماذا بدأت (وحتى انتهيت) بما لم أفهمه، فجعلتنى أذهب إلى غير ذلك، وأحيانا عكس ذلك، كما جاء فى رسالة الماجستير التى فضلت أن أشير إليها فى هامش مستقل(2)

د. محمد يحيى:

 (12) “…..مصطلح “البادى” أيضاً – كما يعرضه سبيربر وويلسون فى نصهما الأصلى ……… يضع صيغة البدْو (Manifestness) التى تستطيع استيعاب فكرة المعرفة الضعيفة (المبهمة والتى قد تتناقض أو تتداخل أو تتراتب متضمناتها المتعددة المتداخلة) والمعرفة القوية (القوية المحددة الحاسمة)”.

د. يحيى:

جاءك كلامى يا عم؟! ها أنت ذا تلوّح لى بالخواجات الطيبين أصحابك، ما لى أنا وهذان العالمان الفحلان (غالبا) ونصهما الأصلى ..الذى يضع صيغة البدو حتى لو وضعت الكلمة الأصل بالإنجليزية بين قوسين لتسهلها على جاهل مثلى، أنا عند موقفى من أن “اللابدو” هو الأهم، أو على الأقل هو بنفس الأهمية، مع أن المفاضلة غير واردة أصلا، المهم أن ذكرهما للمعرفة الضعيفة (المبهمة) والمعرفة القوية (المحددة) قد أثلج صدرى، ذلك لأننى منذ تعاملت مع المعرفة الهشة Amorphous Cognition التى هى من أهم مراحل الإبداع عند سيلفانو أريتى، وأنا فرح بها فرحا كبيرا، وإن كنت أعجز أن أشرحها إلا لمن خبر معاناة الإبداع الحقيقى، هذه المعرفة الهشة كما تعلمت من أريتى هى معرفة لم تتشكل، لكنها معرفة نشطة قادرة على التشكيل جاهزة له بحسب ما نتولاها من استيعاب، كما أنها قابلة للمحو أو الإنكار بقدر ما يليها من تحديد إرغامى متعجل، االذى لم أفهمه بقدر ما أوردت من تلميح فى ورقتك، هو علاقة ذلك بصيغة البدو (Manifestness)  ولا مؤاخذة، دون صيغة المخفى (الذى لم يبدُ) مع كل احترامى، واعتذارى لجهلى، بكل من نوعىْ المعرفة (الضعيفة المبهّة، والقوية المحدودة)

 الأقرب إلى أطروحتى أو فروضى هو أن عملية الإدراك بكل أبعادها ومستوياتها، وليست فقط صيغة “البدو” كما حددها العالمان الفاضلان، هى القادرة على ذلك.

د. محمد يحيى:

 (13) “…. (إننا) نبنى المعانى التى نعيشها أو ندركها ولا نصل إليها ………. وبهذا الشكل يصبح إدراك العالم الحسى – فى أبسط أشكاله- ناتجاً عن وظيفة هى نفسها الوظيفة التى يمكنها أن تؤدى إلى إدراك معنى الوجود”.

د. يحيى:

ربما لو كنت قلت “نحن إذْ ندرك: نتبنى المعانى التى نعيشها”، لكانت العبارة أقرب إلىّ،

أنا مازلت مصرا على أن أركز على بيان كيف أن الحواس الخمس كما تمثل مداخل رائعة، هى أيضا تمثل حاجز صدِّ لبقية المداخل والمسارات كما أننى أحذَرُ من إعطاء دور للمُدْرِِك أكثر من مجرد مشاركته فى التوليف بين واقعىْ الخارج والداخل، أما حكاية “نبْنى المعانى” وكلام من هذا، فأنا أخشى أن تُفهم بالمعنى الإرادى، أو بالمعنى المثالى، (أن العالم ليس إلا ما نصنعه نحن منه)

ثم لماذا تصر يا محمد على توحيد الوظيفة هى هى ، اللهم إلا فى الاسم(3)، وأنا أراها تختلف على مستويات مختلفة ومتصاعدة، أو متنازلة، لماذا لا تسمح أن تختلف تجليات الوظيفة نفسها باختلاف المستويات والقنوات حتى لو جمعها الجدل فى سعى جمعى نحو الإدراك الكلى الأشمل الذى ندرك من خلاله أن الله موجود؟

ثم ها أنت عدت تركز على معنى الوجود، فأذكرك بما قلته لك سالفا من أننى لا يهمنى معنى الوجود إلا بمقدار معنى وجودى فيه، بما فى ذلك علاقة هذا الوجود بوجود ربى الذى أتعرف عليه من جماع نشاط مستويات الإدراك الجدلية المتصاعدة طول الوقت دون أمل فى وصول محدد، أو حتى رغبة فى هذا الوصول، فالحركة تكفى.

د. محمد يحيى:

 (14) “… إن هذا – فى تصورى– هو ما يجمع الإدراك كله فى إطار المفهوم نفسه، الذى يعبر عنه التعريف: “الإدراك هو إعطاء معنى للبادئ من البيئة المعرفية“.

د. يحيى:

ثانية؟!! (تاااانى؟!)

ما دمت مصرا على التعريف الذى بدأت به فدعنى أضع لك ما عندى مما أسميه “لا تعريف” بالصورة التالية:

الإدراك هو العملية التى يتعرف بها الكائن الحى (وليس الإنسان فقط، هل وصلك كيف يسبح الطير لربنا هو هو؟) على الواقع من حوله وعلى الواقع بداخله على مستويات ومنظومات من الوعى متبادلة ومتكاملة بتنشيط  جدل إيقاعى يتخلّق، مع أو بدون أدوات من خارجه (أدوات من خارجه مثل الكلام والفهم والتفكير والشعور وغيرها)، وذلك عبر كل القنوات القادرة على  تحريك هذه العملية طول الوقت”

قلت لك: إن هذا ليس تعريفا، وبالتالى فلن أدافع عنه، فما يهمنى حالا هو الرجوع إلى فروضى أو افتراضاتى العملية التى آن الأوان أن نناقشها ولو ضجر الطيبون:

(هذا بعد أن ترد على ما شئت وتوضح ما أردت مما لا بد أنه سوف يفيدنا ونحن نتقدم إلى ما يفيد).

****

أخيراً: دعنى أذكرك بالنقطة العملية جدا التى بدأت بها كل هذه القضية، وهى “من أين نبدأ؟”

 من لغتنا وثقافتنا وخبرتنا كما صيغت فى كلمة أو ممارسة أو إبداع، أم من ترجمة مصطلح ثم الانطلاق فى حدود التعريف الذى استوردناه بعد أن نكتبه من اليمين للشمال بديلا عن كتابتهم له من الشمال لليمين.

 

[1] – فى شبابى، حوالى سن العشرين، ثارت أسئلة هذه السن وما قبلها تبحث عن “ماذا كان قبل الله”؟، أو بتفصيل أكثر إذا كان الله قد خلقنا، وخلق هذا العالم، فمن خلق الله؟، واستلمنى شاب أكبر منى ببضع سنوات كان طيب التدين منظم التكفير، وأخذنا نقرأ معا فى “علم الكلام”، وأن هناك نظريتان للرد على هذا التساؤل، نظرية الدور، ونظرية التسلسل، وكلاهما، كما حاول أن يقنعنى المرحوم عبد الحكيم عيش (وهذا هو اسمه)، يوصل إلى فهم كيف يوجد وجود خالق نفسه، أو بلا خالق غيره، قلت إننى لم أفهم وأضفت فى نفسى: ولن أفهم، ولم أرجع أبدا إلى هذا العلم الذى اكتشفت مؤخرا أنه علم معقلن تماما، وكأنه هو بالذات من أحارب حججه بمثل ما اهتديت إليه هكذا.

[2] – رجعت إلى رسالة ماجستير لا أذكر كيف وصلت إلىّ، قام  بها الدكتور لطفى فطيم سنة 1972 للحصول على درجة الماجستير وتصورت أنه أعطاها لى شخصيا حين كنت أقوم بتدريس علم النفس فى كلية الآداب جامعة عين شمس، وإذا بى أكتشف أنها مهداه إلى صديقه وزميله – الذى اعتبره الأنا الأعلى فى إهدائه تكريما واحتراما- الصديق أ.د. قدرى حفنى)، إذن يبدو أننى حصلت عليها من أ.د. قدرى، وانتبهت أننى ربما ناقشته فى انشغالى الباكر بهذه القضية، فأعارنى إياها، وإذا بى أحتفظ بها دون وجه حق حتى الآن!! المهم أننى وجدت عنوانها “الإدراك الحسى”، تحديدا، ومضيت أقلب فيها، فوجدت أنها جهد فلسفى نفسى موسوعى رائع، أحاط بكثير مما نتحاور فيه الآن، بما فى ذلك نظرية المعرفة، إلى أننى لم أجد فيه ما يعيننى على ما يدعم وجهة نظرى (بالنسبة للحواس الداخلية)، بل الأرجح أننى وجدت العكس فى معظم الأحيان.

[3] – هل لاحظت يا محمد أننى أقحمت كلمة Idrak إلى الإنجليزية إقحااما حين لم أجد لما طرحناه أنت وأنا، وهو ما نعايشه فى أصوله قبل أن نختزل وجودنا إلى المسموح به؟ فعلت ذلك من قبل مع Wijdan، وبرغم رحابة صدر اللغة الإنجليزية والقائمين عليها إلا أنهم لا يضيفون الكلمات إلى لغتهم إلا من حضارة قادرة، وثقافة قوية متماسكة مثلما توجد كلمات كثيرة فى الطب النفسى بالذات دخلت كما هى بالألمانية (ملحوظة يضاف إلى اللغة الإنجليزية 450 كلمة كل عام، فأعجب للشجاعة والمرونة!!).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *