الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى كراسات التدريب نجيب محفوظ الصفحة 53 من الكراسة الأولى

قراءة فى كراسات التدريب نجيب محفوظ الصفحة 53 من الكراسة الأولى

نشرة “الإنسان والتطور”

12-1-2012

السنة الخامسة

العدد: 1595 

M_AFOUZ

ص 53

من الكراسة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

نجيب‏ ‏محفوظ

أم‏ ‏كلثوم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ

فاطمة‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ

قصر‏ ‏عليه‏ ‏تحية‏ ‏وسلام

الا ليت‏ ‏الشباب‏ ‏يعود‏ ‏يوما

سـل المفتـي المكى

النظافة‏ ‏من‏ ‏الايمان

احسن‏ ‏إلي‏ الناس ‏يحسن‏ ‏الله‏ ‏اليك

وأنت‏ ‏اليوم‏ أوعظ منك ‏حيا

نجيب‏ ‏محفوظ

 23/3/1995

القراءة:

يبدو أن المنهج سوف يستمر كما هو حيث أكتشف فى كل صفحة جديدة ما يجرجرنى إلى تداعيات لا يمكن أن تـُختزل أو تـُجمع كما تصورت قبلا وأنا أحاول أن أتجنب التكرار.

الذى سبق وروده فى هذه الصفحة اليوم هما جملتان (شطران) فقط، الأولى هى “قصر عليه  تحية وسلام”، وقد سبق أن وردت فى صفحة التدريب رقم 12 نشرة 11-2-2010، وصفحة التدريب رقم 39، نشرة 13-10-2011، مع التعليق والتداعى،  وقد قرأت هذا الشطر ص12 خطأ بعد محاولتين: مرة على انها “محمد” عليك تحية والسلام، ومرة أخرى على أنها “مصر” عليك تحية وسلام، وقد ناقشت هذا الخطأ النشرة الثانية، وفائدة التمسك به ثم تصحيحه دون مجرد التراجع حتى يتبين المنهج بصعوباته واحتمالاته

 أما الشطر الثانى التى سبق أن ورد فى صفحات سابقة فهو ” ألا ليت الشباب يعود يوما” وقد جاء فى صفحة التدريب أرقام  2، نشرة 31-12-2009، والصفحة رقم 4، نشرة 7-1-2010، والصفحة رقم 42، نشرة 3-11-2011، وتم التعليق عليه، ويمكن الرجوع إلى كل ذلك، بالتربيطات المبينة.

 وأملى أن يكون لى موقف أكثر تكاملا فى الدراسة الشاملة.

ثم ننتقل إلى الجديد فى هذه الصفحة

أولا:

بصراحة لم أستطع أن أقرأ هذه العبارة فى البداية، وحين اجتهدت قدر ما استطعت قرأت “سل” على أنها “بل” وقرّبت المكى إلى الملكى كما قرأت الفتى على أنها “المضى”، وحين ركبت الثلاث كلمات (بل المضى الملكى) وجدتها تجميعه فاسدة، وتقريب مشوه فاستبعدت فورا أن يخطر على بال شيخى أى معنى به الماضى أو الملكى بهذا التفكيك المستحيل مهما كانت المسألة مجرد تدريب يرص كلمات، استعنت بصديقى الابن أحمد السيد فإذا به يغيب قليلا ثم يعود وقد أحضر لى أن هذا وذاك ليسا إلا شطرين يقول الأول: “سل المفتى المكى” والبيت كله يقول:

“سل المفتى المكى هل فى تزاور ** وضمة مشتاق الفؤاد جناح”،

رجعت إلى أصل ما كتب الأستاذ فإذا به هو كذلك فعلا “سل المفتى المكى” ولم أكن قد مّر علىّ هذا الشطر أبدا، فعدت إلى السياق الذى ورد به هذا البيت فوجدته كما يلى:

ذكر الأصبهانى فى الأغانى (قصيدة):

…. قال سمعت الربيع بن سليمان يقول كنت عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة فقرأها ووقع فيها فمضى الرجل وتبعته إلى باب المسجد فقلت والله لا تفوتني فتيا الشافعي فأخذت الرقعة من يده فوجدت فيها:

سل المفتى المكى هل فى تزاور ** وضمة مشتاق الفؤاد جناح

فإذا قد وقع الشافعى:

فقلت معاذ الله أن يذهب التقى ** تلاصق أكباد بهن جراح

…………

وفى موقع آخر في كتاب معجم الادباء لياقوت الحموى وجدت ما يلى:

ان رجلاً فتياً جاء للشافعي وهو جالس في الحرم المكي ودس اليه ورقة فيها هذا السؤال:

سلِ المفتي المكي من آل هاشمٍ

إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنعُ؟

فكتب الشافعى تحته:

يدارى هواه ثم يكتم سرَّه

ويصبر فى كل الأمور ويخضعُ

فأخذ الشاب الرقعة وقرأ الجواب من الشافعي ثم كتب أسفل ذلك:

فكيف يداري والهوى قاتل الفتى

وفي كل يوم غصةً يتجرَّعُ

فكتب الشافعي تحته:

فان هو لم يصبر على ما أصابه

فليس له شيء سوى الموت أنفع

ولست هنا فى مجال مناقشة رأى الأمام الشافعى، الذى أكن له تقديرا خاصا منذ مررت فى كتاب البيهقى عن مناقبه حتى استعرت كلمة لكتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” من كلمته التى يقول فيها:

‏”‏مثل‏ ‏الذى ‏يطلب‏ ‏العلم‏ ‏جزافا‏ … ‏كمثل‏ ‏حاطب‏ ‏ليل‏ ‏يقطع‏ ‏حزمة‏ ‏حطب‏ ‏فيحملها‏، ‏ولعل‏ ‏فيها‏ ‏أفعى ‏تلدغه‏ ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يدرى”

ولا أنا أنوى مناقشة اعتراض الربيع راوى الخبر على فتوى الإمام الشافعى، حتى لو كانت الفتوى لشاب عرّسَ فى شهر رمضان وكان يسأل عن ما بينه وبين العروس وهما فى نهار رمضان، كل هذا لم يجذب انتباهى موضوعا للتعليق.

الذى توقفت عنده فرحا حتى الانبهار هو هذه الموسوعة الحية المتنقلة فى هذه السن التى اسمها “نجيب محفوظ” وكيف احتفظ بهذا الشعر هكذا ليطلّ فى تدريباته بكل هذه المفاجأة بهذا الشطر النادر بالنسبة لأمثالى، وهل يا ترى كان شيخى يعرف هذا الذى عثرت عليه بفضل سيدنا جوجل طبعا، أنا لم أسمعه يستشهد بالشعر إلا نادرا، بل إنه كان يعقب على ما أستشهد أنا به من أشعار أحيانا معجبا بإحاطتى وذاكرتى وحافظتى وانتقائى، وكنت أفسر له المسألة أنها ليست ذاكرة ولا حافظة وإنما هى بعض ما وصلنى من والدى الذى كان كثيرا ما يتندر معنا بحكى بيت شعر من هنا، أو موقف شعر – عادة فكهٍ– من هناك،

أما الذى أكد لى هذه الملاحظة عن موسوعية شيخنا وذاكرته الشعرية هو أنه ختم تدريب اليوم بشطر بيت آخر لم أكن أعرفه أيضا أصلاً وهو “وأنت اليوم أوعظ منك حيا”،

 جاء هذا الشطر بعد سطرين هما “النظافة من الإيمان”، ثم أحسن إلى الناس يحسن الله إليك”، ولا يوجد رابط مباشر بين الأربعة أسطر،

 هذا الرجل تتحرك طبقات وعيه وجواهر مخزون ذاكرته أثناء التدريب بمرونة نشطة طازجة تؤكد لى مدى حيوية وقدرة هذا المخ البشرى.

أقول رجعت إلى شطر هذا البيت الثانى لأكمله من نفس المصدر الكريم، فإذا به من شعر أبى العتاهية فى رثاء ابنه علىّ يقول:

بكيتك يا علي بدر عيني … فما أغنى البكاء عليك شيّا

طوتك خطوب دهرك بعد نشر … كذاك خطوبه نشرا وطيا

كفى حزنا بدفنك ثم أني … نفضت تراب قبرك عن يديا

وكانت في حياتك لي عظات … وأنت اليوم أوعظ منك حيا

فيذكرنى شيخى بموقفى ممَّا يسمى “عظة الموت” وكيف أننى لاحظت أننا على كثره ما ننتبه إلى “قصر عمرنا، وحتم موتنا”، وأن “من أراد واعظا فالموت يكفيه” …الخ، فإننا سرعان ما يتسرب كل ذلك وننسى كل هذه المصمصة، والأسى، بل وننسى الفقيد بالمرة، فتيقنت أن العمر الافتراضى لما يسمى “عظة الموت” هو قصير جدا، جاءنى من ذلك أن طقوس العزاء، وحتى كتابة قصائد الرثاء (أخبئها فى قوافى المراثى: أنظر القصيدة) هى عوامل تسهم فى سرعة تسرب “عظة الموت” وكان كل ذلك وراء كتابتى لقصيدة فى رثاء صديقى المرحوم أ.د. السعيد الرازقى (10/5/86)  الذى صاحبته إلى بوسطن فى مرض موته، وحين لقى ربه وجزعت لفقده جزعا بالغا، انتبهت إلى موقفى هذا من عظة الموت وكيف أن الغانية اللعوب المسماة “الحياة” ما تجذبنا إلى حضنها ببجاحة وثقة، سرعان ما ننسى عظة الموت بحيل متنوعة ربما من أشهرها “الحى أبقى من الميت”.

 القصيدة بعنوان:

“عظة‏ ‏الموت‏ ‏تتسرب”

وأزعم‏ ‏أنَّ‏ ‏القناعَ‏ ‏القديم‏ََ ‏تساقطَ‏ ‏حتَّى ‏استبان‏ ‏المدارُ‏، ‏يبشّرُ‏ ‏بالمسْتحيلِ‏:‏

إِذَنْ؟

‏ ‏وتسرى ‏المهاربُ‏ََ ‏تْنحَتُ‏ ‏درباَ‏ ‏خفيَّا‏ ‏بجوْف‏ ‏الأمل‏ْْ،

 ‏فأخْشىَ ‏افْتضاح‏ََ ‏الكمائنَ‏ ‏نسف‏ ‏الجسور‏، ‏وإغراقَ‏ ‏مَرْكبِِ‏ ‏عَوْدَتَنا‏ ‏صَاغرينَ‏، ‏فَأُمْسكُها‏، ‏تَتسَحّبُ‏ ‏بين‏ ‏الشُّقُُوقَ‏، ‏وحَوْلَ‏ ‏الأَصَابع‏، ‏تَمْحُو‏ ‏التَّضَاريِسَ‏ ‏بين‏ ‏ثَنَاياَ‏ ‏الكلامِ‏، ‏تُخَدّر‏ ‏موضع‏َِ ‏لدْغ‏ََ ‏الحَقَائقْ‏، ‏تَسْحَقُ‏ ‏وَعْىَ ‏الزُّهَورِ، ‏ولحَنَ‏ ‏السَّناِبلِ‏.‏

مَنْ؟

لماذا‏ ‏الدوائرُ‏ ‏رنُّ‏ ‏الطِنَّينِ‏، ‏حَفيفُ‏ ‏المذنّب‏ِِ، ‏يجرى ، ‏بنفسِ‏ ‏المسارِ‏ ‏لنفس‏ ‏المصير،‏

‏ ‏بلاَ مستِـقَرْ‏؟

‏ ‏لماذا‏ ‏نبيُع‏ ‏الْهُنَا‏ ‏الآن‏ ‏بخساً‏ ‏بما‏  ‏قد‏ ‏يلوح‏، ‏وليس‏ ‏يلوح‏ُُ، ‏فنجنْر‏ ‏دَوْما‏  ‏فُتَاتَ‏ ‏الزَّمْن‏؟

لماذا‏ ‏الوُلوُجُ‏؟ الخُروجُ‏؟‏ ‏الدُّوار؟‏ ‏لماذا‏ ‏اللِّماذا؟‏؟‏ ‏

فَمَاذَا؟

وأخْجَلُ‏ ‏أَنْ‏ ‏تستبينَ‏ ‏الأمورُ‏ ‏فُأُضْبَطُ‏ ‏فى ‏حُضْنِها

الغانية‏.‏

فأزعم‏ ‏أنّى ‏انتبهت‏ٌٌُُ، ‏استعدتُ‏، ‏استبقتُ‏، ‏استبنتُ‏،..‏

‏(‏إلى ‏آخره‏!!)‏

ويرقُصُ‏ ‏رقّاصُها‏ ‏فى ‏عنادٍ‏، ‏فتنبشُ‏ ‏لحْدَ‏ ‏الفقيدِ‏ ‏العزيزِ‏، ‏ُتُسَرّب‏ ‏منه‏ ‏خيوطَ‏ ‏الكَفَنْ‏.‏

أخبِّئها‏ ‏فى ‏قوافى ‏المراثى ‏لأُغْمِدَ‏ ‏سَيْف‏ََ ‏دنوّ‏ ‏الأجَل‏ْ.‏

فياليته‏ ‏ظلَّ‏ ‏طىَّ ‏المحالِ‏،‏

وياليتَها‏ ‏أخطأتها‏ ‏النبالُ‏،‏

‏ ‏وياليتنى ‏أستطيب‏ ‏العمى

وبعد

لاحظت أن ندرة البيت الأول “سل المفتى المكى” والثانى “وأنت اليوم أوعظ منك حيا” جاءت قبل وبعد قولين سائرين يعرفهما كل الناس، تساءلت: كيف يقفز الأستاذ هكذا من أندر الشعر إلى أبسط القول “النظافة من الإيمان”، “أحسن إلى الناس يحسن الله إليك” بكل هذه السلاسة والنعومة

اسمحوا لى ألا أعلق اليوم على هذين القولين شديدى البساطة حتى لا أخرج عن حالى الأول من انبهارى بندرة وبداهة الاستاذ، ثم إنى واثق أن هاتين العبارتين سوف تردان لاحقا فى تدريبات قادمة، فأكتفى اليوم بأن أشير إلى هذه المقابلة بين إحساننا للناس، وإحسان الله إلينا، وكيف أن جزاء احسانك إلى الناس إنما يرد إليك من إحسان الله إليك وليس من الناس لا الذين أحسنت إليهم ولا حتى غيرهم.

الله أكرم، ولنا عودة (غالبا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *