الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الوحة (18) أبواب وسراديب (3 من 4)

الوحة (18) أبواب وسراديب (3 من 4)

نشرة “الإنسان والتطور”

10-2-2010

السنة الثالثة

العدد: 894

 

الوحة (18)

أبواب وسراديب (3 من 4)

هذه الحالات ليست حالات إكلينيكية واقعية، ولا حتى مـُتخيلة بشكل روائى شعرى مطلق، ولا هى تصف أشخاصا بالذات، إنها من وحى الفروض العلمية العملية التى استلهمناها من مزيج من الحالات المرضية، والأصدقاء المشاركين، وتراكم الخبرة، وإلهامات الأسطورة الذاتية للمؤلف.

الجزء الثالث:

موناليزا

‏مازالت‏ ‏نظرة‏ “‏موناليزا‏” ‏وبسمتها‏ ‏تحير‏ ‏النقاد‏، وبالذات نظرتها الخاصة جدا، الغامضة، الواعدة، الحاوية، ولقد حاولوا تفسير هذه النظرة من أول أنها تمثل ما تبقى عند ليوناردو دافنشى من نظرة أمه، إلى أنها تمثل جوعا أو كبتا جنسيا عند الفنان نفسه.

(موناليزا (بالإيطالية: Mona Lisa) أو الجيوكاندا (بالفرنسية: La Jocondeهي لوحة رسمها الإيطالي ليوناردو دا فينشي. يعتبرها النقاد والفنانون واحدة من أفضل الأعمال على مر تاريخ الرسم.إختلف النقاد والمحللين بتفسير تلك البسمة، وتراوحت الآراء بسر البسمة بدرجات مختلفة إبتدأ منإبتسامة أم دافينشي” وانتهاءا “بعقدة جنسية مكبوته لديه“. (موسوعة ويكيبيديا 2010)

‏‏ما‏ ‏أردت‏ ‏توضيحه‏ ‏هنا‏ ‏باستعارة‏ ‏صورة الجيوكندا هكذا هو تكملة، دون تطابق، للوحة السابقة بعنوان “الحب بالراحة”، فى هذه الحالة (اللوحة السادسة عشرة) حين وصلتُ إلى ما بعد طبقة الوعى السابقة حلقة (2-4) التى حذرت فيها من الاستسلام إلى اعتبارها إيجابية على طول الخط، فوجئت بمستوى أكثر تحييرا من مجرد شكل الحكمة، أو شؤم البومة وتحذيرها، وهو المستوى من الوجود الأقرب إلى دعوة للكشف من خلاله منه إلى إبلاغ بالواقع، فما يميز لوحة الجيوكانده، هو أنها تسمح بالإسقاط بشكل متنوع متعدد، بحيث يبلغ الناظر إليها، أو الذى يتلقى نظرتها المتابعة له حيث ذهب، أن يسقط عليها مايريد، إلى أن يجد نفسه فى رحابة الإبداع يأخذ منها ما شاء لما شاء،

وصلنى أن هذه النظرة هى تعبير عن مستوى من الوعى فج راق فى نفس الوقت، يكمن داخل كل منا، وهو يحمل ما يحمل من نداء الغموض، وتداخل المشاعر، بحيث لا يمكن تسميته أو تجريده رمزا، وهو ما حاولنا تجريبه مؤخرا فى لعبة متحدية فى ندوة هذا الشهر، (فبراير 2010 ( لنثبت من خلاله أن التعبير عن المشاعر البشرية فى لفظ واحد أمر شديد الصعوبة، برغم ظاهر سهولته، وهو يؤدى عادة إلى اختزال المشاعر المكثفة والمتداخلة إلى ما لا يمكن أن يحتمله هذا اللفظ، وغالبا ما يترتب على ذلك أن تختنق المشاعر داخل الألفاظ بما قد يعيق التواصل الأشمل والأرحب.

قبل ان نعرض للفرض وبعض نتائج التجربة دعونا نقرأ معا ما جاء فى أول المتن:

هوّا‏ ‏انْـتِى‏!!!

بالبسمة‏ ‏الهاديهْ‏ ‏الناديةْ‏،‏

والعين‏ ‏اللى ‏بْتجرِى ‏وراكْ‏ ‏بِحنانْهاَ‏،‏

‏ ‏وْبتـنِـْدهـَلـَك‏ْْ ‏ماطْرحْ‏ ‏ماتْـرُوحْ‏.‏

هوّا‏ ‏انتِ‏؟‏ ‏موناليزا‏ ‏الطاهرة‏ ‏الفاجرة‏‏؟‏ ‏

الواحد‏ ‏عايز‏ ‏إِيه‏ ‏غير‏ ‏بسمة‏ ‏حُبْ‏، ‏وِحنَان‏ْْ،‏

والصدق‏ ‏الدافىِ ‏وْكُلَّ‏ ‏الطيبَهْ‏ ‏يـْـلِـفــُّـونى،‏

وكإن‏ ‏الشر‏ ‏عمرُه‏ ‏ما‏ ‏كان‏.‏

وكإن‏ ‏الدنيا‏ ‏أمان‏ ‏فى ‏أمانْ‏،‏

وكإِن‏ ‏البسمهْ‏ْْ ‏الصادقة‏ ‏تْدَوِّبْ‏ ‏أيها‏ ‏حقد‏، ‏وأيـُّـهَا‏ ‏خوف‏. ‏

هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏من‏ ‏النفس‏ ‏قد تكون أقرب إلى ‏الفطرة‏ ‏وهى تلامس فى نفس الوقت ما يسمى ‏الغريزة‏ ‏ (‏الطاهرة‏ ‏الفاجرة‏)، وبديهى أنه يصعب‏ ‏على ‏الشخص‏ ‏العادى ‏أن‏ ‏يتصور‏ ‏اجتماع‏ ‏هذين‏ ‏النقيضين (ظاهرا)، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏اجتماعهما‏ ‏-على عمق بذاته- هو أكثر‏ ‏تواترا‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏تصور‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏البديل‏ ‏عن قبول تواكبهما هو: إما الاختزال، وإما الإنكار والتجنيب. 

التجربة التى أجريناها فى ندوة المقطم هذا الشهر بدأت من واقع ما رددت به على د. أميمة رفعت فى باب “استشارات مهنية” عن حالة وصفت أنا سلوكها فى ردّى بأنه “مزيج من الطفولة والجنس والجسارة”، ثم عدنا نمد النقاش والتجريب إلى مزيد من اختبار احتمال خنق المشاعر داخل ألفاظها، ومن ثمَّ الحيلولة دون استيعابنا لتنويعات المزيج بينها كما ذكرنا حالا.

أجرينا تجربة مع بعض من تطوع من حضور الندوة، بأن طلبنا منهم أن يسموا هذا المزيج الذى ورد فى التعليق على الحالة باسم واحد، أو بعبارة قصيرة، فجاءت النتائج كما هو مبين فى الجدول الأول.

حين رحنا نقرأ النتائج لم ننجح أن نصنف أية مجموعة من الاستجابات مع بعضها

 البعض تحت اسم بذاته، فجعلناها فى خمسة مجموعات دون تسمية كما هو مبين فى الجدول الأول أيضا.

ثم تمادينا فى التجربة بطرح بعض “المزج” العشوائى (تقريبا) حتى نتأكد من هذا التحدى الذى علينا أن نضعه فى الاعتبار أثناء تسمية عواطفنا، وقد جاءت النتائج على الوجه المبين فى الجدولين الثانى والثالث.

ليس هذا موضوعنا الآن، لكننى أردت أن أوضح فيما يتعلقبفقه العلاقات البشرية: إن التعامل مع العلاقات البشرية تحت لا فتات اسماء العواطف، ليس هو بالضرورة اقرب ولا أصدق قنوات التعامل. إن ما يجرى بين الحيوانات مما حفظ بقاءهم لم يكن له أسماء غالبا، ولكن الكائنات التى نجحت ألا تنقرض (مرة أخرى: واحد فى الألف عبر تاريخ الحياة) قد نجحت أن تتواصل دون تسمية المشاعر التى تواصلت بها.

فى هذا المستوى من الوعى، أطلّ علىّ التحدى هذه اللوحة، إذْ وجدت وراء باب الحكمة (الحلقة السابقة،هذا المستوى الغامض الواعد الساحر المغرى، فوصفته كما سبق، لكننى اسرعت بنقد ما وصلنى من حيث أنه لو استقبلنا ظاهره وحده كما يبدو، استقبلناه استسلاما لغواية غموضه ووعوده، قد يكون خدعة لا تخدم عمق العلاقات البشرية، إذ قد نلتقط مما يصلنا الجانب السهل الظاهر من التشكيل، وبالذات من النظرة،

 هيا نقرأ كيف تشكل الاحتجاج والنقد “فى المتن” لهذا الاحتمال:

جرى ‏إيه‏؟‏ ‏

الواحد‏ ‏كان‏ ‏حايصدق‏، ‏وكإن‏ ‏الصورهْْ‏ ‏حقيقـَهْ؟

يا‏ ‏أخينا‏: ‏

مين‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏بعضيـنَا‏ ‏؟

عن‏ ‏أكل‏ ‏العيشْ؟‏ ‏

عن‏ ‏قتل‏ ‏الغدر؟

عن‏ ‏طفل‏ ‏عايزْ‏ ‏يِتَربَّى ‏وِسْط‏ ‏المْكَنِ‏، ‏القِرْشْ‏ ‏الدَّوْشَه‏ ‏الدَّمْ‏؟

عن‏ ‏جوع‏ ‏الناس‏‏ْ؟‏ ‏

عن‏ ‏بيع‏ ‏الشرف‏ ‏الأَمل‏ ‏اْلبُكْرَه‏: ‏امبارح‏ْْ‏؟

وأبصّ‏ ‏لْهَــا‏ ‏تانى ‏واقول‏:‏

بالذمه‏ ‏بتضحكى ‏على ‏إيه‏ْْ؟

دى ‏البسمة‏ْْ ‏الحلوة‏ْْ ‏الرايقة‏ْْ ‏المليانـَهْ‏ ‏حنانْ‏ .. ‏وخلاصْ‏،‏

‏ ‏يمكن‏ ‏تبقى ‏مصيبه‏ ‏الأيام‏ ‏دِى!

حا‏ ‏تخلِّى ‏الواحد‏ ‏يتهيأ‏ ‏لـُه‏ ‏إٍن‏ ‏الدنيا‏ ‏بخير‏، ‏وينْامْ‏، ‏

يحلم‏ ‏بالجنه‏ْْ…،‏

وِخلاصْ‏ْْ!‏

فى العلاج النفسى، وخاصة العلاج الجمعى، نتواصل مع بعضنا البعض بالألفاظ بداهة، إلا أن ثم تواصل آخر يجرى طول الوقت من خلال قنوات أخرى، لا نعرف أغلبها، ولا نعرف أنها نجحت أم فشلت إلا من خلال نتائجها كما ذكرنا مرارا من قبل.

هذا المستوى الذى ظهر لى هكذا فى هذه اللوحة يعلن بوضوح أن التواصل البشرى لا يتم، وبالتالى يصعب أن يكون بناء وحقيقيا وخليقا بما هو إنسان، إلا على مستويات متعددة، ومنها، أو لعله أهمها هذا المستوى الغامض الواعد هكذا. علينا إذن أن نحترم الألفاظ التى نتبادلها فى العلاج وغير العلاج، لكن علينا أيضا ألا نتوقف عندها، ولا نقدس مضمونها الشائع فى نفس الوقت، خذ مثلا الالفاظ التى تعبر عن الحب على ناحية، وتلك التى تعبر عن الحقد (مثلا) الناحية الأخرى، حين يقول أحدهم لآخر “أنا احبك..” فى العلاج (الجمعى خاصة) أو فى غير العلاج، فى الحياة العامة، يمكن أن نتساءل، دون أن نشكك، عن: ماذا تعنى – بالضبط- هذه الكلمة! “الحب”،

القراء والأصدقاء الذين واصلوا معنا اللعب (النفسى) فى هذه النشرة منذ نشأتها، لا بد قد تعجبوا لما أظهرته هذه الألعاب من تصالح مع عواطف نعتبرها سلبية، مثل الكراهية، وأيضا لابد أن أى صديق شاركنا قد تحفظ –معنا- على المبالغة فى تقديس ألفاظ قد لا تكون لها حق فى أية قدسية،

إن قبول التناقض، وتحمل الغموض tolerance of ambiguity هو أساس حركية الإبداع على سواء مسيرة النمو، أو على مستوى الإنشاء التشكيلى، أو على مستوى النقد. فى أطروحتى عن العلوم النفسية والنقد الأدبى & والتى ظهرت أيضا فى كتابى “تبادل الأقنعة”، أخذت على عباس العقاد الذى يعد ناقدا رائدا، عجزه عن استيعاب تناقض العواطف خاصة فى نقده الرائع لابن الرومى، فقد استقطب ذلك التناقض الذى:

…..‏ ‏ ‏تتشكل‏ ‏منه‏ ‏المسيرة‏ ‏الولافية‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏استيعابها‏ ‏إلا‏ ‏باحتمال‏ ‏رؤية‏ – ‏وممارسة‏ – و‏مواجهة‏ ‏الضدين‏ ‏للتفاعل‏ ‏الخلاق‏ ‏والتوليد‏ ‏التصاعدى‏. ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏العقاد‏ ‏لا‏ ‏يحتمل‏ ‏ذلك‏ ‏أصلا‏، ‏فاهتمام (العقاد)‏ ‏المفرط‏ ‏بتأكيد‏ ‏نمط‏ ‏محدد‏ ‏للشخصية‏ ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏موقفه‏ ‏الساكن‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏تسكينه‏ ‏لما‏ ‏يرى‏ وبالتالى : الميل‏ ‏إلى ‏الاستقطاب‏ ‏أو الاختزال‏. ‏العقاد‏ ‏يميل‏ ‏غالبا‏ ‏إلى ‏إفتراض‏ ‏رجحان‏ ‏أحد‏ ‏الضدين‏، ‏وهو يلتمس‏ ‏التأويلات‏ ‏لظهور‏ ‏الضد‏ ‏المقابل‏. ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏نراه‏ ‏يفسر‏ ‏شهادة‏ ‏ابن‏ ‏الرومى ‏على ‏نفسه‏ ‏بالحقد‏ ‏بأنه‏ ‏ادعاء‏ ‏للحقد‏ ‏وليس‏ ‏حقدا‏، ‏أو‏ ‏بأنه‏ ‏لتخويف‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الحقد‏، ‏أو‏ ‏بأنه‏ ‏كان‏ ‏يتعاطى ‏صناعة‏ ‏البرهان‏ ‏فأحب‏ ‏أن‏ ‏يمتحن‏ ‏قوته‏ ‏فى ‏المنطق‏ ‏والفلسفة‏ ‏ويستشهد‏ ‏على ‏ذلك‏ – ‏ضمن‏ ‏شواهد‏ ‏أخرى – ‏بأن ابن الرومى قد ‏ذم‏ ‏الحقد‏ ‏كما‏ ‏مدحه‏. ‏وكل‏ ‏هذه‏ ‏الاستنتاجات‏ ‏والدفاعات‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أحادية‏ ‏زاوية‏ ‏الرؤية‏ ‏نتيجة‏ ‏للعجز‏ ‏عن‏ ‏استيعاب‏ ‏الحركة‏ ‏الجدلية‏، ‏وعن‏ ‏عدم‏ ‏تحمل‏ ‏مواكبة‏ “‏قفزات‏ ‏النمو‏ ‏الكيفية‏”. ‏وقد‏ ‏يرجع‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏شخصية‏ ‏العقاد‏ ‏الصارمة‏ – ‏برغم‏ ‏موسوعيته‏ – ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏منهجه‏ ‏الفكرى ‏الذى ‏يميل‏ ‏فى ‏أحيان‏ ‏كثيرة‏ ‏إلى ‏الإفراط‏ ‏فى “‏الالتقاط‏ – ‏فالتعميم”. ‏…… ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏أين‏ ‏لابن‏ ‏الرومى ‏أن‏ ‏يقول‏: ‏

وما‏ ‏الحقد‏ ‏إلا‏ ‏توأم‏ ‏الشكر‏ ‏فى ‏الفتى ‏ وبعض‏ ‏السجايا‏ ‏ينتسبن‏ ‏إلى ‏بعض

(إبن الرومى)….‏ ‏قد‏ ‏أبلغنا‏ ‏رؤية‏ ‏متداخلة‏ ‏لا‏ ‏فكاك‏ ‏من الاعتراف بأنها إنما ‏تعلن‏ ‏لحظة‏ ‏حدس‏ ‏عميق‏، ‏اكتشف‏ ‏فيها‏ الشاعر المبدع ‏كيف‏ ‏ينتسب‏ ‏الحقد‏ ‏إلى ‏الشكر‏ ‏والعكس‏ ‏بالعكس‏. ‏وهذا‏ ‏الانتساب‏ ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏وحدة‏ ‏الأصل‏ ‏بل‏ ‏على ‏ولاف‏ ‏المسار‏. ‏(وقد) …. ‏ذهب‏ ‏العقاد‏ ‏ينفى ‏بالحجة‏ ‏تلو‏ ‏الحجة‏ ‏حقد‏ ‏ابن‏ ‏الرومى ‏أصلا‏، ‏ويذهب‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏اعترافه‏ ‏به‏ ‏أدل‏ ‏على ‏عدم‏ ‏وجوده‏. ‏والناقد‏ ‏هنا‏ ‏أوْلى ‏باللوم‏ ‏من‏ ‏الشاعر‏: ‏ذلك‏ ‏أن‏ “‏حركة‏” ‏بصيرة‏ ‏الشاعر‏ ‏المخترقة‏ ‏لطبقات‏ ‏وعيه‏ ‏ذهابا‏ ‏وإيابا‏ ‏قد‏ ‏تفرض‏ ‏عليه‏ ‏رؤية‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يُحتمل‏ ‏وقد‏ ‏يتراجع‏، ‏وقد‏ ‏يعود‏، ‏وعلى الناقد‏ ‏أن يواكب‏ “‏حركته‏” ‏هذه‏، ‏لا‏ ‏ليبرر‏ ‏تناقضاتها‏ ‏ويرجح‏ ‏أحد‏ ‏شقيها‏، ‏وإنما‏ ‏ليجمع‏ ‏مفرداتها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏جديد‏ ‏لم‏ ‏يقدر‏ ‏الشاعر‏ ‏بفيض‏ ‏صوره‏ ‏أن‏ ‏يلم‏ ‏به‏.‏ ‏العقاد‏ ‏بتفسيره‏ ‏النفسى ‏الأحادى ‏البعد‏، ‏اضطر‏ ‏إلى ‏تثبيت‏ ‏عامل‏ ‏غالب‏ ‏يقيسه‏ ‏بمقياس‏ ‏محدد‏ ‏الوحدات‏، ‏وأغفل‏ – ‏مضطرا‏ ‏فى ‏الأغلب‏ – ‏الوضع‏ ‏الدائم‏ ‏النمو‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏شعر‏ ‏وشاعر‏، ‏حيث‏ ‏تكون‏ ‏الصفة‏ ‏الأساسية‏ ‏هى ‏عنف‏ ‏الترحال‏ ‏بين‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏، ‏وسرعة‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ “‏مستوى ‏رؤية‏” ‏إلى “‏مستوى ‏رؤية‏ ‏آخر‏”، ‏إلى ‏مستوى ‏سلوك‏،

هذه اللوحة، على هذا المستوى من الشعور تعلن بوضوح أهمية استيعاب الكائن البشرى لمستويات من التواصل، ليس لها اسم من ناحية، كما أنها كثيرا ما تكون مزيجا مما لا نقبله عادة إلا استقطابا.

يختتم المتن تشكيل هذه اللوحة بالتحذير من الاستسلام إلى تأثير ظاهر السهولة التى تصلنا من عيون الجيوكانده، وذلك بتعرية مبالغ فيها لما وراء هذه الابتسامة الواعدة.

وعشان‏ ‏أبـْعـد‏ِْْ ‏تأثيرها‏:‏

قهقهت‏ ‏كما‏ ‏بْـتُـوع‏ ‏الحـتِِّــهْ‏،‏

فى ‏المُــولـدِْ‏.‏

بصِّيتْ‏ ‏لـلصـُّورَهْ‏،‏

طَلَّعتِ‏ ‏لـْسـَانـِى:‏

تكشيره‏ْ ‏امّال‏ ..! .. ‏كـدَِهـُه‏ْْ!‏

‏ ‏تبويزه‏ ‏امّال‏ ..! .. ‏ كـدَِهـُه‏!”‏

وتغيظنى ‏ولا‏ ‏تـبـوزش‏. ‏

وأنا‏ ‏أعمل‏ ‏عقلى ‏بعـقلـيـها‏ ‏من‏ ‏كـتر‏ ‏الغـيظ‏، ‏

‏ “‏بـلا‏ ‏نيلة‏ ‏بتضحكى ‏على ‏إيه‏؟‏”‏

نلاحظ فى هذا التشكيل المتعدد الطبقات أن الانتقال من مستوى إلى آخر، يتم بعد تعرية المستوى الذى بدا وكأنه غاية المراد، كما نلاحظ أن التعرية تبلغ عادة من القسوة ما يكاد ينسينا دور هذا المستوى من الوعى فى تشكيل العلاقات البشرية، وهذا خطأ بحت، فليس معنى أننا نعرى مستوى فنكشف حدود دوره دون أن نرفضه، أن ننكر موقعه ودوره، كل المطلوب هو ألا نتوقف عنده أو نخدع بظاهره، إن تعريته ليست سوى تنبيه لما بعد ذلك، لنقبل التعدد لنؤلف بين المستويات أبدا على طريق النمو.

وهكذا يلوح لنا من جديد فى نهاية هذا السرداب أيضا، وقد كنا نحسبه نهاية المطاف، باب جديد، يغرى بتواصل حركتنا إلى مستوى وعىٍ أعمق هكذا:

وأحاول‏ ‏اشوّه‏ ‏ضحكتها‏، ‏وأغطيها‏، ‏

‏ ‏يا‏ ‏خرابى !!‏

الصوره‏ ‏دى ‏رخره‏ ‏بتتحرك‏، ‏

وبيفتح‏ ‏باب‏:

وإلى الحلقة القادمة والأخيرة، بالنسبة لهذه اللوحة، نرى ما وراء هذا الباب،

وإلى أى سرداب آخر يقودنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *