الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / فقه العلاقات بين البشر(العين الحرامية) محاولات دائبة، بالانسحاب للفرجة ….!!

فقه العلاقات بين البشر(العين الحرامية) محاولات دائبة، بالانسحاب للفرجة ….!!

نشرة “الإنسان والتطور”

28-10-2009

السنة الثالثة

العدد: 789

الفصل الثانى: الحالة السادسة

 

فقه العلاقات بين البشر(العين الحرامية)

محاولات دائبة، وألم متجدد، ونهاية سلبية: بالانسحاب للفرجة ….!!

والعين‏ ‏المهزوزَةْ‏ ‏الخايفة‏ ‏الحرامِيَّة‏،‏

زى ‏الكلب‏ ‏السارق‏ ‏عضمةْ‏:‏

بتبص‏ ‏لتحت‏ْْ، ‏وساعات‏ ‏للجنبْ‏.‏

وساعات‏ ‏بتبرّق‏ ‏وتبحلقْ‏ حبّـهْ نونو، ‏

ترجع تانى، تهرب منى، وتبُصّ‏ ‏لفوق‏.‏

أجرى ‏وراهَا‏ ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏توْصلْ‏ ‏شُرّاعةِ‏ ‏البابْ‏،

‏أو تنزل تتسحب منى كده تحت‏ ‏دولاب‏ْْْْ.‏

وساعاتْ‏ ‏تِتْرَقّصْ‏ ‏وبياضها‏ ‏يغطى ‏سوادْهَا‏،‏

وكأنه‏ ‏بيخبِّى ‏بريئة‏ْ ‏واتَّهمُوهَا‏:‏

‏‏قَرِّت‏ ‏بالذنبْ‏، ‏

من‏ ‏غير‏ ‏ولا‏ ‏ذنب‏ْْ. ‏

بيقولوا‏ ‏ظبطوها‏ ‏بتتسوّل‏: ‏فضلات‏ ‏الحُبْ‏.‏

وارجع‏ ‏ابصَّلها‏ ‏تنُط‏ْْ،‏

‏وتْفُـطْ‏.‏

كمَا‏ ‏طفل‏ ‏على ‏سِلـّم‏ ‏تُـرُمَاىْ،‏

‏ ‏بيْبِيع‏ ‏كبريت‏ْ ‏أو‏ ‏باغة‏ْْ،‏

أو‏ ‏إيده‏ ‏خفيفةْ‏، ‏عالسَّاعة‏ ‏والولاّعةْ‏.‏

‏ ‏يخطف‏ ‏وينطْ‏.‏

القراءة:

 فى هذه الخبرة اتضح لى الفرق بين برنامج “الدخول والخروج”، in-and-out program وبرنامج الكر والفر، fight-flight علما بأن هذه الحالة لم تكن تمارِس أيا منهما، وإن كانت أقرب إلى موقف للدخول والخروج على مستوى تجسس الطريق “نحو الموضوع” (الآخر) للأول، دون الثانى،

فى الكر والفر دفعٌ حتى الطرد، أو انسحاب حتى الهرب، وهما يتبادلان،

وفى الدخول والخروج، إقدام إلى الآخَر والموضوع والواقع، ثم انسحاب إلى الرحم والاختفاء، وهكذا بالتبادل

 الحالة هنا تعلن شيئا آخر، هى تظهر أن الخوف من الاقتراب له تشكيلات وتجليات متنوعة من أرقّها: هذا النوع من الإقدام الحذر المتوجس، يتبادل مع الإحجام الناقص، على خلفية من الشعور بذنب ما، وفى نفس الوقت الرغبة فى أخذ “الحق فى القرب”، فى الحب، فى الاعتراف، التى تترجح مظاهرها فى تجليات خاطفة ما بين السرقة والاستجداء والخوف والتردد:

والعين‏ ‏المهزوزَةْ‏ ‏الخايفة‏ ‏الحرامِيَّة‏،‏

زى ‏الكلب‏ ‏السارق‏ ‏عضمةْ‏:‏

بتبص‏ ‏لتحت‏ْْ، ‏وساعات‏ ‏للجنبْ‏.‏

وساعات‏ ‏بتبرّق‏ ‏وتبحلقْ‏ حبّـهْ نونو، ‏

ترجع تانى، تهرب منى، وتبُصّ‏ ‏لفوق‏.‏

أجرى ‏وراهَا‏ ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏توْصلْ‏ ‏شُرّاعةِ‏ ‏البابْ‏،

‏أو تنزل تتسحب منى: كده تحت‏ ‏دولاب‏ْْْْ.‏

وساعاتْ‏ ‏تِتْرَقّصْ‏ ‏وبياضها‏ ‏يغطى ‏سوادْهَا‏،‏

وكأنه‏ ‏بيخبِّى ‏بريئة‏ْ ‏واتَّهمُوهَا‏:‏

‏‏قَرِّت‏ ‏بالذنبْ‏، ‏

مِنْ غير ولا ذنبْ

حين تُحرم من حقك فى القرب، سواء كان ذك نتيجة لهذا الموقف المترقـِّب المتردد، أو لأنهم نسوك أو تجاوزوك أو أهملوك، أو فى الواقع: نتيجة لكل ذلك معا، قد تضطر إلى أن تحصل عليه بما يبدو أنه خطفا أو سرقة، هذا الموقف الذى بدأتُ به واصفا هذه الحالة يشير إلى أن الإقدام على عمل علاقة بآخر، حتى ولو بخطفها سرقة، لا يكشف تحايلا للحصول على غير حقك، بل هو يعلن جوعا لا يعرف طريقا للإرواء غير ذلك، جوعا للحصول على حق لم يصل صاحبه.

 الواضح من هذا المقطع هو أنه بالرغم من الجوع الشديد إلى الآخر، فإن ثم شعورا حقيقيا بأن المسئول عن ذلك ليس بالضرورة هو الآخر وحده. هذا الشعور، فى هذه الحالة، كنموذج، ينبع أساسا من صعوبات صاحب هذا الموقف أكثر مما أنه نتيجة لرفضٍ يأتيه من خارجه.

الشعور بالذنب لدرجة الاعتراف بإثم لم يرتكبه الشخص أصلا، قد يكون هو العائق لاستقبال رسائل إيجابية من الآخر تعفيه من الاضطرار لسرقة العواطف أو خطفها هكذا، كما تعفيه من الاستجداء ومن غير ذلك مما سيأتى ذكره، هنا لا يوجد إثم اصلاْ يحتاج أن نشعر إزاءه بذنبٍ ما، هذا هو الغالب عند معظم البشر كمرحلة من التطور إلى البشرية الأكثر حرية ووعيا ومعيّة، إذن نحن لا نحتاج لاختلاق قصص وأساطير لتفسير هذا الشعور الأساسى بالذنب فى التكوين البشرى المعاصر، إلا إسقاطا لتفسير تكوين أساسى.

 فى أطروحتى عن الشعور بالذنب، ربطت بين الوعى بالوعى، وبين الوعى بانفصال الإنسان كائنا واعيا مستقلا نسبيا عن الوعى الكلى، عن الوعى الهيولى الهلامى الأصلى، قدمت تفسيرا لهذا الشعور الأساسى أنه: إعلان لورطة اختيار الإنسان أن يكون كائنا متفردا له وعى مستقل، لا يحتاج الأمر- إذن، كما ذكرنا حالا ونكرر- لتبريرات لاحقة، جنسية أو أوديبية أو محارمية، اللهم إلا كنوع من التفسير اللاحق لإسقاط هذا الشعور الأساسى على منظومات التحريم والتنظيم، الفرض الذى طرحته سابقا يوجز هذه القضية فى هذ الجملة:

“أنا موجود ، أنا لى كيان مستقل، أنا واع بذاتى منفصلا عنهم وعنه=

إذن أنا مذنب، (دون أن اذنب)”،

 هذا الشعور بالانفصال عن الأصل الكلى الهلامى، هو نفسه الدافع لمحاولة الوصل طول الوقت “ كل من انفصل عن أصله، يطلب أيام وصله”،

وهو أيضا الشعور الذى يكمن أيضا وراء مأزق السعى إلى المعرفة،

 المعرفة هى فى ذاتها ذنب من هذا المنطلق الأساسى، ذنب رائع أيضا، وهذا هو ما يغلب على كثير من تفسير حكاية (أسطورة، فكرة) الأكل من الشجرة المحرمة فى الجنة، (بالإضافة إلى ما يقابل ذلك من جنان الأساطير والإبداع الأدبى)، إن ما ترتب على الأكل من الشجرة المحرمة هو العقاب بإنزال الإنسان إلى ارض الواقع الممسئول، مع منحه حرية الاختيار وأدوات التواصل الأساسية (الأسماء كلها)، وهى حرية شائكة، وأدوات ملتبسة، فهو قادر على الاختيار والكشف، وفى نفس الوقت خائف من المجهول والعجز.

لا يحل هذا الموقف، أو حتى يخفف منه مجرد اقتراب صادق من آخر، فالمسألة تحتاج تجربة ومثابرة لعل رسالة مطمئنة تصل بدرجة تسمح بعلاقةٍ ما.

التشكيل هنا يكشف من جوانب متعددة عن حركية الاقتراب المغامر إلا قليلا، يقابله الانسحاب الحذر إلا قليلا،

الجوع إلى العلاقة ليس دافعا تلقائيا للتقدم نحوها، بل كثيرا ما نجد أن العكس هو الذى يحدث،

فصاحبة هذا الموقف هنا يرفض الاقتراب حتى لو جاءت المبادأة من الآخر:

وأنت كلما حاولت الاقتراب منها حاولت هى الابتعاد، ربما لتحافظ على مسافة، تعد ولا تفى ، لكنها (المسافة) لا تكفّ عن الوعد مجددا.

الحاجة إلى الاقتراب أو الحب قد تحتد حتى تبدو تسولا من بعدٍ معين، وهذا من أصعب ما يضطر إليه بشر لا يجد فرصة حقيقية للأمان والاعتراف،

قد يظهر ذلك التسول فى شكل تنازل عن كرامة،

أو قد يتم بصفقة سرية بها ظلم شديد عليه،

أو قد يتجلى فى تنقل سريع بين مصادر الحب المحتمل، دون ارتواء حقيقى.

 هذا الموقف يقدمه المتن بقسوة عارية حين يصف هذا التنازل بأنه تسول، مع إلحاق أن هذا التسول لا يحقق لصاحبه إلا فتاتا من فضلات لا تغنى، بل إنها قد تزيد الجوع حدة وسعارا.

هذا الموقف يبين كيف يمكن أن يترجح صاحبه بين خطف ما تيسر من عواطف، أو رائحة علاقة، أو إشارة اعتراف، وبين نوع من التسول الذى يصاحبه اعتذار أو استغفار عن الذنب الأساسى ، ذنب الانفصال عن الوعى الكلى سعيا إلى وعى ذاتى متفرد، وهو موقف لا يحل الإشكال من جذوره بقدر ما يعلن طبيعة هذه الوقفة فى هذه المرحلة، وصعوبة المحاولة، وللأسف، فإنه موقف إذا طال وتكرر بلا عائد، فهو ينتهى إلى نتيجة سلبية كما انتهت الحالة فى هذا المتن، ذلك لأن الذى تظهره الحالة هو أنه:

إذا تذبذبت المحاولات إلى هذه الدرجة وطالت المدّة، فإنها تجهض جميعها فى النهاية مهما استمرت وتكررت، ومهما قفزت من موقف إلى موقف فهى ليست فى النهاية إلا نوع من الخطف أوالسرقة، ، ثم استجداء وتردد، فى مقابل الوعد بما لا يكون:

 بيقولوا‏ ‏ظبطوها‏ ‏بتتسوّل‏: ‏فضلات‏ ‏الحُبْ‏.‏

وارجع‏ ‏ابصَّلها‏ ‏تنُط‏ْْ،‏

‏وتْفُـطْ‏.‏

كمَا‏ ‏طفل‏ ‏على ‏سِلـّم‏ ‏تُـرُمَاىْ،‏

‏ ‏بيْبِيع‏ ‏كبريت‏ْ ‏أو‏ ‏باغة‏ْْ،‏

أو‏ ‏إيده‏ ‏خفيفةْ‏، ‏عالسَّاعة‏ ‏والولاّعةْ‏.‏

‏ ‏يخطف‏ ‏وينطْ‏.‏

هكذا يعرى المتن عمق هذا الموقف الذى لا يحله مجرد إعلان الإقرار بالوجود، أو التلويح بالإعفاء من مسئولية “سرقة الرؤية” و”تسول القبول“، هذه الحالة تكشف استمرار إصرار صاحبة الصورة على الحفاظ على نفس الموقف الحذر المتوسط المترجِّح بلا نهاية، ها هو المتن يعلن بشكل مباشر أن هذا التررد المشل لا يوصل إلى شىء:

عايزاكمْ‏.. ‏مِش‏ ‏عايزاكمْ‏.‏

باسْتَخْونِـْكُم‏، ‏وباجِيـكُمْ‏.‏

وباخَـافْ‏ ‏مِالْقُـربْ‏.‏

‏ ‏وما‏ ‏طـِيقْـشىِ ‏البُعـد‏.‏

وباخافْ‏ ‏لو‏ ‏عِينى ‏جت‏ ‏فى ‏عْـنينْ‏ ‏مِش‏ “‏هيـّهْ”،‏

وباخاف‏ ‏أكترْ‏ ‏لوْ‏ ‏طِلعتْ‏ “‏هـِيّـه‏ْ”.‏

هذه الحالة تصف مرحلة انتقال حذرة، فهى تبدو نقلة حساسة من الموقف البارنوى إلى الموقف الاكتئابى، بالمعنى الذى أشرنا إليه سابقا موضّحين أن ما يسمى الموقف الاكتئابى (وليس الاكتئاب) هو موقف محاولة اختبار، وتقبل صعوبه العلاقة بالآخر بوعى متبادل مسئول. (لهذا اقترحنا تسميته بالموقف العلاقاتى الإنسانى) .

 الموضوع (الآخر)، فى هذه النقلة هنا، لا يمثل خطرا يهدد وجودى، أو يقتحم هويتى، بل هو (الموضوع-الآخر) يحضر بداية بإقرار الاعتراف الحذر باكتشاف أن ما هو “آخر” هو مصدر حب ووعد بالتكافل معا للاستمرار دون أن يمحو أحدنا الآخر، وفى نفس الوقت هو يحمل – بطبيعته- تهديداً بخطر الترك أو الهجر، ووجود هذين الشعورين معا معظم الوقت يترتب عليه ما يسمى بتناقض الوجدان.

 نكرر: التناقض هنا غير تناقض الوجدان المتصادم المًـشل فى الأحوال المرضية، حيث التضاد فى المرض لا ينتهى إلا بنتيجة صفرية فارغة. هذا بعكس التناقض النمائى هنا الذى إنما يعلن طبيعية جدل العواطف التى نختزلها عادة بالاستقطاب باستمرار.

هذا الجدل النابع من حيوية التناقض الإيجابى هو الذى يفرز طاقة الدفع إلى استمرار نبض الحركية نحو الآخر، محصلة ذلك إن استمرت هذه الإيجابية هى ظهور الألم البشرى الأرقى، الذى ظهرت إحدى تجلياته فى هذا المتن فى نص عبارة: “والدِّمعة يا دوب حاتبان”،

 لاحظتُ – فى خبرة العلاج الجماعى خاصة، وأيضا فى لقاءات الفحص الصامت لإطلاق التعبير عن “الحق الألم” (أو الحزن)- مما قد أعود إليه لاحقا فى عمل مستقل مع احتمال عرض صور حيه- لاحظت أن هذا الموقف الذى تترقرق فيه العين باقتراب دمعة تلمعُ ولا تهطل، هو الموقف الذى تمثله هذه العبارة تحديدا، وقد ثبت أنه – فى تقديرى بعد عشرات أو مئات الحالات –

(موقف يعبر عن الألم الإنسانى الناتج عن الإصرار على مواصلة التواصل مع آخر مختلف، وفى نفس الوقت وعى بأن هذا الآخر هو كيان مستقل منفصل يحاول نفس المحاولة، مع إدراك الصعوبة والتهديد فى آنْ.)

فى خبرة العلاج الجمعى (وأيضا فى اللقاء الإكلينيكى الصامت من حيث تجنب استعمال الكلمات المنطوقة) حين نصل (المريض وأنا) إلى مرحلة تعلن مثل هذا التواصل المؤلم، يتجلى هذا “الألم الحى” بعذوبته وصدقه فيما يعبر عنه عادة بتعبير هو ما يسمى: “اغرورقت عيناه بالدموع”،

هنا نلفت النظر إلى أننا لاحظنا مكررا أنه إذا امتدت هذه الخبرة حتى إدرار الدموع، فإن هذا البكاء يجهض المحاولة، وتنقلب العلاقة إلى مستوى آخر أقل فاعلية، بل ربما يكون سلبيا دفاعيا، الأمر الذى دعانى –غالبا- إلى اتخاذ موقف علاجى يحول دون أن ينقلب اغروراق العيون، إلى دموع منسكبة

 هذا الموقف – حين أساعد أحد المرضى أن يسمح للألم بالظهور دون الإسراع بِلصْفِهِ بسبب جاهز، وفى نفس الوقت ألا يسمح لنفسه بالتعبير عنه بالألفاظ حتى لا يجهض الخبرة – يبدو موقفا غير مألوف إذا قيس بتعبيرات علاجية سهلة مثل الفضفضة أو التنفيث، وكان بعض المرضى الآخرين، وبعض الزملاء والمشاهدين يستقبلون محاولاتى هذه باعتباراها قسوة مؤلمة، ولم يكن الحال كذلك عند أغلب المرضى من داخل التجربة، بل إن الناتج فى النهاية كان، ويكون، نوعا من الطمأنية الواعية بحقيقة صعوبات وأبعاد العلاقة بالواقع، وبالآخر، بل ويكون هو هو الدافع إلى استمرار العلاقة العلاجية إلى المرحلة التالية من محاولات تنـشيط مسيرة النمو التى هى غاية هذا النوع من العلاج.

إذن ما تحفل به هذه النقلة من تناقض الوجدان الإيجابى، بمعنى حضور اكثر من عاطفة فى نفس مستوى الوعى، بعضها يبدو عكس الآخر، إنما هو إعلان لحركية التعاطف المتبادل اختبارا، وتراجعا، وتقدما، وحذرا، (ومن ثم: جدلا)، نقرأ مرة أخرى:

 وباخَـافْ‏ ‏مِالْقُـربْ‏، ‏وما‏ ‏طـِيقْـشىِ ‏البُعـد‏. وباخافْ‏ ‏لو‏ ‏عِينى ‏جت‏ ‏فى ‏عْـنينْ‏ ‏مِش‏ “‏هيـّهْ”،‏ وباخاف‏ ‏أكترْ‏ ‏لوْ‏ ‏طِلعتْ‏ “‏هـِيّـه‏ْ”،

فى خبرتى أيضا لاحظت أن إطالة هذا الموقف هو مرهق لدرجة الخطر، لا أحد يستطيع أن يواصل كل هذا الألم الناشئ عن وعد لا يتحقق، وفى نفس الوقت لا يتراجع، وعد بعلاقة حقيقية، برؤية ما، باعتراف ما، بتواصل ما، أقول إن إطالة هذا الموقف دون أن يحقق أية درجة من الاقتراب الموضوعى الداعم الدافئ، إنما يؤدى فى كثير من الأحيان إلى الإنهاك فالتراجع عن محاولة الاستمرار فى هذا الجدل الضرورى لتنشيط دائم لعلاقة بشرية حقيقية.

العلاقة الحقيقية بين البشر هى حركة دائبة،

 فالحذر‏ ‏هنا‏ ‏يصحبه‏ ‏احتمال‏ ‏الأمان،

 ‏والإحجام‏ ‏يسير‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏محاولة‏ ‏الاقتراب،

 ‏والأمل‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏آخر‏ ‏رغم‏ ‏التهديد‏ ‏المصاحب‏ ‏لذلك‏ ‏هو‏ ‏أمل‏ ‏متجدد حقيقى ‏وفعال.

وفى ‏خبرتى – ‏مصداقا‏ ‏لهذا‏ ‏التنظير‏ – ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏ظهور‏ ‏علامات هذه المشاعر المشتملة للألم والحزن والدهشة وقدر من الطمأنينة لجدية المشاركة، هو‏ ‏أكبر‏ ‏دليل‏ ‏على نجاح العلاج والتقدم على طريق النمو، وهذا يختلف تماما عن السائد من أن هدف العلاج هو “إراحة المريض”، أو حتى هو السماح له “بالتفريغ” أو “التنقيث”.

لابد من التنويه هنا إلى أن الحرص عل “بسط” unfolding هذه المشاعر المؤلمة لا ينبغى أن يكون هدفا علاجيا فى ذاته، وإنما يلتزم المعالج بأن يضبط الجرعة والمدة المناسبة لمعايشة هذه الخبرة بما يحقق دفع عجلة النمو بالقدر البناء، ولا مانع من العودة إلى نفس الخبرة مع كل نقلة نمو لاحقة.

إذا أساء المعالج (أو أى آخر) حسبة الجرعة وطالت خبرة الألم بلا ناتج حالىّ أو واعد، تهدَّدَ الكيان النامى بالتفسخ من فرط الألم،

 هنا- مع التهديد بالتفسخ- تقفز الحاجة إلى التغطية بأية آلية (ميكانزم) قديمة أو جديدة، بالكبت مثلا (غطونى كويس) أو بالانسحاب (خلونى بعيد) تجنبا لهذا التفسخ المهدد نتيجة لفرط الألم بلا عائد، هكذا يعلنها النص:

غطونى ‏كويس‏،

 ‏خلونى ‏بعيد‏، ‏

لاتْبَعْزقْ‏.‏

‏نهاية‏ ‏هذه القصيدة (الحالة) هى سلبية لكنها واقعية بشكل منبّه ومؤلم، ذلك أنها‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الحل‏ ‏اليائس‏ ‏الذى يعلن صعوبة‏ ‏الاستمرار‏ ‏فى ‏معاناة‏ ‏هذه المشاعر بلا تقدم كاف نحو غاية العلاج (أو العلاقة).

فى العلاج الجمعى خاصة، وفى العلاج عامة، يمكن أن نقابل هذا الميكانزم الذى لا يكتشفه إلا خبير، أو ربما يتكشف نفس الميكانزم بعد بداية العلاج بفترة ليست قصيرة، وأحيانا يظهر بعد تحسن مؤقت، فتراجع منظم أو غير منظم،

هذا هو ما نسميه ميكانزم “الفـُرْجهْ”،

نعنى بـ “الفـُرْجهْ” هنا: المشاركة بالمشاهدة، والفهم بالعقل، وأحيانا الحكم على الجارى، بالتفكير بل وبالرأى، وعى،

 يتفرج مثل هذا المريض على زملائه، وأيضا على الأطباء، من مسافة آمِنة، كما أن ثم احتمال أن بعض المعالجين (خاصة فى موقف ما يسمى البحث العلمى) يتفرجون على المرضى، وهم يتعلمون منهم نظريا، إذْ يرصدون أحوالهم وتركيبهم، لينشروه بحث أو يشرحوه لدارسين: (وقد سبق أن أشرنا لمثل ذلك فى نشرة سابقة  الحالة دى صعبة ومهمة تنفع للدرس) ، يفعل الواحد منا هذا دون أن ينتبه إلى أن كل ذلك يجرى على حساب المشاركة الحقيقية، أى مواكبة المعالج للمريض أثناء مسيرة نموهما،

هذا نوع من الفرجة مهما كانت أغراضه نبيلة لتحقيق غرض آخر.

فى العلاج الخاص، يمكن أن تتم “الفـُرْجهْ” المتبادلة بعيدا عن الوعى الظاهر لكل من المريض والطبيب، طالما أن التعاقد مستمر على مستوى أن وقت الطبيب هو بضاعة قابلة للشراء، وأن حضور المريض ليشغل هذا الوقت، وهو يعرض نفسه أيضا لفرجة ما، هو أيضا ضمن الاتفاق التحتى الذى يتم بينهما، وهكذا قد تستمر العلاقة بينهم على مسافة (أنا تذكرتى بلكون) ما دامت شروط العقد التحتى سارية (بفلوسى).

أنـا‏ ‏تذكرتى ‏بلكونْ‏،

‏وراح‏ ‏اتفرّجٍ‏ ‏للصبح‏.‏

‏……‏بـِفْـلوسى‏.‏

‏إن‏ ‏اتخاذ‏ ‏موقف‏ ‏المتفرج،‏ ‏حتى على مسافة‏ ‏هكذا، ‏قد‏ ‏يكون‏ هو ‏الحماية‏ المناسبة ضد فرط جرعة التلويح بأمل لا يتحقق، أو التهديد ‏ ‏بتفاعل إنسانى غامض المعالم وذلك أثاء العلاج، خاصة العلاج الجمعى، ‏

من هنا نرى أن ميكانزم “الفـُرْجهْ” الذى قد تنتهى به خبرة التعرض للألم الرائع السالف الذكر، هو اقرب إلى ما أسميناه سابقا “الهرب إلى الصحة، أو ما يشبه الصحة”، من حيث أنه مع اختفاء هذا المأزق المؤلم بالتراجع، بماتيسر من ميكانزمات جديدة، يعتبر المريض نفسه، والطبيب أحيانا، أن العلاج قد حقق أغراضه، وهذا احتمال يمكن قبوله على مستوى معين من تعريفات “الصحة”، و”العادية”.

هنا يحضرنا سؤال يقول:

ألا يكفى اختفاء الأعراض سببا وجيها يقرر أن يتوقف العلاج ما دام قد حقق هذه الأغراض مهما كانت متواضعة أو متوسطة؟

الإجابة الجاهزة المنطقية هى : نعم، هذا أوان مناسب لوقف العلاج.

لكن واقع الحال أن العلاج قد يستمر لفترة تطول أو تقصر بعد ذلك، ويتوقف السماح بذلك على موقف المعالج وأهدافه (خاصة على مستوى العلاج الخاص) وأيضا يتوقف على موقف المريض وقدراته (خاصة فى نفس النوع: العلاج الخاص)، وهذا موقف يحتاج لشرح يطول بما لا يتناسب مع الالتزام بالمتن هنا/الآن دون استطرادات مفصلة.

هامش مهم:

خطر ببالى أن أضيف هامشا يصنف أشكال ““الفـُرْجهْ” ” التى رصدتها فى نفسى وفى المرضى وزملائى أثناء الممارسة، إلا أننى وجدت أنه قد يضاعف حجم النشرة بما لا يتناسب مع طبيعتها، فقلت أعدد بعض العناوين والعناصر حتى تتاح عودة، وفيما يلى مجرد العناوين –تقريبا- على الوجه التالى:

أنواع “الفـُرْجهْ” وبعض أهدافها:

(عامة وليس فقط فى مجال العلاج)

ملحوظة بادئة (1): لفظ “الفـُرْجهْ” هو من قاموس اللغة العامية المصرية أساسا، ولم أجد فى مادة “فرج” بالفصحى ما يفيد نفس المعنى[1]،

ملحوظة بادئة (2): (على فكرة: تتم “الفـُرْجهْ” بوعى أو بغير وعى، غالبا بغير وعى، وهى تنكشف فى العلاج الجمعى بالذات، حين ننبه المريض على اتخاذه موقف المتفرج، ينكره عادة فورا، وأحيانا تماما)،

  • “الفـُرْجهْ” للحفاظ على مسافة

خشية الاقتراب، ومن ثم تجنـُّّبا لمعاناة آلام المحاولة (عمل علاقة)

  • “الفـُرْجهْ” الانشقاقية

أثناء العلاقة (حتى فى الجنس)، حين ينفصل جزء مهم (أو ذات منشقة) عن كلية العلاقة المتمازجة أو المتبادلة، وكأن شخصا آخرا يشاهد الجارى، سواء فى نفس الشخص أو فى شريكه، وهو يرصده، وقد يتابع أداءه من على مسافٍة ما، مما تتحقق به درجة من الاغتراب المُخِل

  • “الفـُرْجهْ” للمشاهدة المعقلنة

حين ينقلب المشارك (مريضا كان أم معالجا أم غير ذلك) إلى متفرج، كأنه يحضر مسرحية أو يشاهد فيلما او مسلسلا

  • “الفـُرْجهْ” للإعفاء من المشاركة الآنية

من أهم القواعد التى تكسر موقف “ميكانزم” “الفـُرْجهْ”، فى العلاج الجمعى، هو الالتزام بمبدأ “هنا، والآن” (وأيضا : “أنا – أنت”)، ويفيد ذلك أيضا فى التخلص من موقف “الفـُرْجهْ” للتأجيل (التأجيل عادة يكون بأغراض خفية مثل:

  • حتى أستوفى شروطى السرية،
  • أو حتى أطمئن،
  • أو حتى أضمن لنفسى حق الرجعة..إلخ)
  • “الفـُرْجهْ” من موضع: الشفقة الفوقية

نفرق دائما بين الشفقة، (ونعبر عنها أحيانا فى العلاج الجمعى، وإلى درجة أقل فى العلاج الفردى بالمصمصة – مصممة الشفاه، أو الصعبانية) وبين التعاطف المشارِك،

أن “تتألم على…”، غير أن “تتألم مع..”،

فما بالك بالصعبانية والطبطبة من أعلى

(ولعل تعبير “تذكرتى بلكون” فى المتن كان يشير إلى موقف الفرجة من أعلى، ومن بعيد معا)

وبعد

(قف!! وإلا كتبت كتابا بأكمله)

[1] – بما أن المتن بالعامية، وبما أن العامية لغة كاملة، وبما أن اللفظ هنا يؤدى المراد، بلا بديل ، فقد أثبته ما هو حتى أتجنب تشويه الخبرة أو اختزال الموقف، آملا أن يفتح الله على رجال مجمع اللغة العربية فيدخلونه إلى الفصحى، دون تشويه أو ترجمة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *