الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / دراسة فى علم السيكوباثولوجى (الكتاب الثانى) : الحلقة (29) “القط/النمر بداخلنا” (1 من 3) …. الطريق إلى “الآخر” اقترابا، فتوجسا، فتراجعا

دراسة فى علم السيكوباثولوجى (الكتاب الثانى) : الحلقة (29) “القط/النمر بداخلنا” (1 من 3) …. الطريق إلى “الآخر” اقترابا، فتوجسا، فتراجعا

نشرة “الإنسان والتطور”

15-9-2009

السنة الثالثة

 العدد: 746

 image002

الباب الثانى

الحالة (3)

 الحلقة (29)

“القط/النمر بداخلنا” (1 من 3)

…. الطريق إلى “الآخر” اقترابا، فتوجسا، فتراجعا

تتداخل مراحل النمو (أثناء النمو، أو أثناء العلاج) تداخلا خفيا ومتنوعا يحتاج إلى فحص متأن طول الوقت. لا يوجد موقف “كر- فر” (بارنوى) خالص، كما لا يوجد موقف “علاقاتى بشرى” (اكتئابى) منفصل تماما، التداخل يشمل التذبذب والمراوحة طول الوقت(1)

فى التشكيل الحالى المسألة لا تقتصر على التأكيد على الخوف من الاقتراب، من الحب، من الهجر، من الترك، التشكيل هنا لا يبدأ بالصد والدفع بعيدا بل بمبادأة الاقتراب لاختبار إمكانية العلاقة دون التخلى عن التوجس والخوف، هو ليس موقف “كرَ فر” صرف، بل إنه بمثابة  محاولة نقلة، تذبذب خطوات تصف تنويعات متنوعة متبادِلة  ما بين عدة مواقف فى نفس الوقت،  طول الوقت، لكنها تنتهى – من فرط غلبة عدم الثقة والتوجس- إلى الموقف اللاعلاقاتى (الشيزيزى)“حاخطف حتة لحمة من ستى، واجرى آكلها، تحت الكرسى المش باين”.

 الصورة تبدأ بإعلان  محاولة  التراجع عن موقف “الكر والفر” (البارنوى) بالتقدم نحو الموقف العلاقاتى بشكل ما، كأنه يقدم أوراق اعتماده للآخر، ليعتبره “موضوعا بشريا” له حق الشوفان والاعتراف، وهو فى نفس الوقت يجس نبض وجود الآخر فى وعيه، وبالعكس، لعل وعسى:

والعين‏ ‏الخايَفَةْ‏ ‏اللى ‏بْتِلْمَع‏ْْ ‏فى ‏الضَّلْمَهْ

عمّالة‏ ‏تِختبرِ‏ ‏الناسْ‏:‏

بِتقرّب‏ ‏من‏ ‏بَحْر‏ ‏حَنَانْهُمْ‏،‏

زى ‏القُطّ‏ ‏ما‏ ‏بـَيـْشـَمـِْشمْ‏ ‏لَبَن‏ ‏الطفل‏ ‏بشاربُه‏ْْ.‏

فى قصيدة “جلد بالمقلوب” فى ديوان سر اللعبة، كان الخوف من الاقتراب هو الأصل، بدأت القصيدة هناك بأمر كأنه نذير أو تحذير من الاقتراب (من العلاقة البشرية) دفاعا ضد أى اقتراب:

لا تقتربوا أكثر،

 إذ أنى

 ألبس جلدى بالمقلوب

حتى يدمى من لمس الآخر

فيخاف ويرتدّ إذْ يصبغ كفّيه نزْفٌ  حى!

أما فى الخبرة الحالية فقد‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أكشف كيف أن‏ “التركيب‏ ‏البارنوى”، حين يحاول أن يخطو خطواته الأولى للتعرف على الموضوع إنما يفعل ذلك بتلقائية حذرة، وهو يتحسس طريقه للحصول على صك الوجود من خلال أن “يُشاف”، أن يُعترف به، هذه هى البداية التى تتيح له فرصة أن “يكون” فـ “يتواصل”.  قصيدة “جلد بالمقلوب” (بالفصحى/سر اللعبة) تبدأ من بؤرة الموقف البارانوى (الكر- فر) بالدفع بعيدا، فى حين أن التشكيل هنا يبدأ بإعلان تجربة الاقتراب برغم استمرار الخوف:

بِتقرّب‏ ‏من‏ ‏بَحْر‏ ‏حَنَانْهُمْ‏،‏

زى ‏القُطّ‏ ‏ما‏ ‏بـَيـْشـَمـِْشمْ‏ ‏لَبَن‏ ‏الطفل‏ ‏بشاربُه‏ْْ.‏

عمّالَـهْ‏ ‏بْتِسْأَل‏:

 ‏عـــايزينّى‏؟

‏ ‏طبْ‏ْ ‏ليه؟

عايزينَّى ‏ليه‏؟ ‏

‏ توظيف هذا العمل (الشرح/الاستلهام) فى خدمة الإمراضية النفسية (السيكوباثولوجى) والعلاج النفسى، مع مخاطرة تشويه ومسخ الشعر شعرا، يسمح لنا بالإشارة إلى كيف أن محاولة‏ ‏عمل‏ ‏علاقة‏ ‏مع‏ ‏صاحب (مرحلة)‏ ‏هذا‏ ‏التركيب‏ ‏هى مغامرة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مهارة‏ ‏علاجية‏ ‏فائقة‏، ‏علاقة‏ ‏حقيقية‏ ‏تحتوى‏ ‏أوهام‏ ‏المطاردة‏ ولا تكتفى بكبتها، ولا تتسطح بالنصائح والإقناع، فى ‏خبرتى ‏وجدت‏ ‏أنها‏ مرحلة عادة ما قد ‏تحتاج‏ ‏إلى ما هو أكبر من العلاج الفردى، (بالإضافة إلى اللازم من عقاقير) لاحظت أن العلاج الجمعى، وكذلك علاج الوسط هما أقدر على احتوائها بإعطاء المريض فرصة اختبار أكثر من “موضوع بشرى واحد”، بما يزيد من فرصة نجاحه فى محاولته مواصلة مسيرة النمو.

تبدأ هنا المحاولة انطلاقا من موقف ‏التوجس‏ ‏الحذر، بمراجعة الأمر عبر الاحتمالات الأخرى، وذلك من خلال طرح تساؤلات بديلة عن أن الموضوع (مَنْ هو “ليس أنا”) هو خطر طول الوقت، الشخص فى مسيرته النمائية فى هذه المرحلة لا يكل من التساؤل عن ما إذا كان “مرغوبا فيه” أم لا (عايزنّى!!؟). وهو بذلك يحاول أن يتجاوز يقينا سابقا كان يبرر له كره وفره طول الوقت، هذا اليقين الذى أكد له: “أن أحدا لا يريده، لا يعترف به، لم يره، لا يرغب فى الاعتراف به“، فهو بطرحه هذه الأسئلة يبدو أقرب استعدادا  لتصديق الإجابة إن جاءت بالإيجاب، وهكذا يبدو أنه بدأ يخلخل يقينه من تجربته المريرة السابقة (توهما أكثر منها حقيقة) التى ضاعفت عنده ما وصله من مشاعر: الإنكار، والإهمال، والرفض…، فهو يتساءل – يسائل نفسه أساسا – ما الذى جدّ ، فيه أو فيهم، بحيث يشجعه على المضى فى المراجعة ربما يصله أنه أصبح  “مرغوبا فيه الآن؟”

إشـِمعنى ‏الْوقْـتـِى؟

وهو يواصل التساؤل – مهما وصله من إجابات إيجابية- فهذه طبيعة المرحلة، التى لا تستبعد وصول أية رسالة ذات فاعلية نمائية إليه.

 من الطبيعى أنه يلزم للإقرار بالرغبة فى قبول “وجود” آخر، أن تعترف به، أن ترى  حقيقته الكلية ابتداء ما أمكن ذلك، الحاجة إلى “الشوفان” إلى الاعتراف ، لا تتطلب مجرد الإعلان التقريرى أو إطلاق ألفاظ الحب والرضا، ولا حتى الرعاية الظاهرية! إن الأم تريد ابنها بداهة و”تعوزه”، (إلا ما ندر)، لكن هل هى تريده وتظل تراه وهو فى طريقه أن يكون كيانا مستقلا منفصلا عنها بشكل حقيقى؟ أم أنها تراه غالبا، أو تماما، امتدادا لذاتها وكأنه ما زال قابعا فى رحمها؟ هل هى تراه “كله”، أم ترى الجزء الذى يظهر منه ويسمح لها بامتلاكه؟ حتى الطفل فى هذه السن الباكرة يريد أن يُرى كله، وأن يُعترف به كما هو، له، وليس باعتباره شيئا مضافا إلى ملكية الأسرة، إلى ملكية الأم بالذات، هذه المرحلة، هى طبيعة بيولوجية حيوية، وهى تستمر حتى نقضى.

 اختفاء هذا الموقف البارنوى من ظاهر الوعى هو أدعى لافتراض أنه اختفى بالإنكار، لا أكثر، وذلك يتفق ما أشرنا إليه من غلبة هذا الموقف (الكر- فر) على معظم سلوك الإنسان المعاصر فى مرحلة تطوره الحالية (الحالة السابقة).

بـِصحـِيحْ‏ ‏عـَايـْزِنَّـى؟

بقى ‏حـَدْ‏ ‏شايـِفـْنـِى ‏يـَا‏ ‏نـَاسْ‏؟

مِـشْ‏ ‏لازم‏ ‏الواحـِد‏ْ ‏منكم‏ ‏يعرفْ‏: ‏

هوّه‏ ‏عـَايـز‏ْْ ‏مـِينْ؟

بقى ‏حد‏ ‏شايـِفـْنـِى ‏أنا؟

أنا‏ ‏مينْ‏؟

أنا‏ ‏أطلـع‏ ‏إيه؟‏ ‏وازاى؟

طبْ‏ ‏لـِيه؟

الله‏ ‏يسامـِحْـكُم‏ْْ. ‏مـِشْ‏ ‏قصدِى .

 ‏السماح هنا ليس سماحا حقيقيا بقدر ما هو تسليم لمختلف الإجابات عن أسئلته اللحوح: (“عايزنى؟؟” – بقى حد شايقنى “أنا” – أنا أطلع مين ..)

إن الاشتراط الضمنى الذى يربط “العوزان” بـ “الشوفان” بهذا القدر من الموضوعية، والكلية، قد يبدو أنه  للتعجيز أكثر منه مطالبة حقيقية بالاعتراف، يبدو أن المناورة هنا تهدف للوصول إلى تبرير تجنب الخوض فى علاقة حقيقية، إذ  كيف ‏ ‏يطالب‏  ‏الإنسان‏ ‏- فى هذه المرحلة-  ‏الآخرين‏ ‏أن‏ ‏يروا‏ ‏داخله‏ أيضا، أن يروه كله،  ‏فى ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يبذل‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏جهده‏ لتحقيق عكس ذلك !!!

 ‏وصل‏ ‏الأمر‏ ‏بأحد‏ ‏مرضاى من الصعيد جدا ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يطلب‏ ‏من‏ ‏زوجته‏ ‏أن‏ ‏تجيب‏ ‏على أى سؤال يطرحه ‏..‏بنفس‏ ‏الإجابة‏ ‏التى ‏فى ‏ذهنه‏ بنفس الألفاظ جدا، مثلا : إذا كان فى ذهنه أنها سوف ترد بالإيجاب بـ “حاضر“، فهو ينتظر هذا اللفظ تحديدا دون أية لفظ آخر مثل “ماشى“، “موافقة“، أو “تمام”، وكانت إذا لم تأت باللفظ (أو الجملة) المحدد الذى فى ‏ذهه، يرفض وقد يعطيها ‏ ‏فرصة‏ ‏أخرى ‏وأخرى ‏حتى ‏إذا‏ ‏عجزت‏ ‏تماما‏ ‏ثار‏ ‏واعتدى ‏عليها‏ ‏عدوانا بدنيا فعلا تحت زعم أنها لا تراه، ولا تحس به، ثم يتطور الأمر إلى ما هو أخطر فأخطر حتى الاتهام بالخيانة.

‏ ‏حين‏ ‏تشتد‏ ‏الحاجة‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏، ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يرضى بأية علاقة حتى لو كانت سريعة، أو مؤقته، وهو قد يكتفى أن تكون من جانبه هو فحسب، ولو كبداية، ثم إنها حين تكون من جانبه بهذه المبادرة، فإنها قد تطمئنه إذ يظل هو المتحكم فى ‏شروطها‏، وكانه يخطفها خطفا دون إذن صاحبها، هذا الموقف يطمئنه جزئيا برغم استمرار توجسه ورفضه، وهو موقف انتظار بشكل ما، فيه درجة من البصيرة، لا تمنع استمرار المحاولة بل إنه يدل على عدم فقد الأمل فى علاقة مهما كانت واهية أو مؤقتة أو مذبذبة، لكن المحاولة مستمرة

وإليكم  بعض ما سوف نبدأ بمناقشته غدا:

أنا‏ ‏قاعـِد‏ْْ ‏راضى ‏بْخوفِى ‏المِـشْ‏ ‏راَضـِى‏.‏

أنا‏ ‏قاعد‏ ‏لامٍمْ‏ ‏أغـْراَضـِى‏.‏

أنا‏ ‏قاعد‏ ‏راصدْ‏ ‏شاددْ جامد‏،‏

قاعد‏ ‏اتْـصنـَّتْ‏، فاتح وعِيْى الجوّانى

 ‏على ‏همس‏ ‏السِّت‏ْ ‏المِـشْ‏ ‏شايفانى،‏

وأسَهّيها‏،

 ‏واتمَسّح‏ ‏فِ‏ ‏كْـعوب‏ ‏رجليها‏.‏

‏ ‏تـتـْمـَلـْمـِلْ‏،‏

أخطف‏ ‏همسة‏ْْ “‏أَيـْوَه‏ْْ”، ‏أو‏ ‏لـَمـِسـَة‏ “‏يـِمـْكـِن‏ْْ”.‏

واجرى ‏اتدفَّى ‏بْـ‏ “‏يَعْنِى‏”،

 ‏وانسى ‏الـ‏ “‏مـِشْ‏ ‏مـُمْكـِن‏”.‏

******

ونكمل غدًا:

 

 image004

 

 

[1] – انتبهت إلى أن التشكيل هنا فى هذه القصيدة، له علاقة وثيقة بتعرية هذا الموقف “الموقف الكر- فرى” (البارنوى). الذى تجلى أساسا فى بؤرة تشكيل قصيدة : “جلد بالمقلوب” فى ديوانى “سر اللعبة”، وشرحه جاء فى الكتاب الأول “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” صـ 285-307 “جلد بالمقلوب” حالات البارانويا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *