الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة المصرى اليوم / ثقافة الحرب و”مليونية التحرير”

ثقافة الحرب و”مليونية التحرير”

جريدة المصرى اليوم

الخميس 5/5/2011

ثقافة الحرب و”مليونية التحرير”

منذ أربع عشرة سنة، (١٦ أبريل ١٩٩٧) وبمناسبة عيد الأضحى (٨ ذى الحجة ١٤١٧هـ)، كتبت ما يلى (مع تحديث طفيف): «كل‏ ‏عام‏ ‏ونحن‏ ‏وأنتم‏ ‏بكرامة‏»، ‏إن‏ ‏لم‏ ‏نكن‏ ‏قد‏ ‏نسينا‏ ‏معنى ‏الكرامة‏، ‏… يأتى ‏حج‏ ‏هذا‏ ‏العام‏ ‏وبيت‏ ‏المقدس‏ ‏تظلله‏ ‏سحابة‏ ‏سوداء‏ ‏هى ‏سرب‏ ‏من‏ ‏جراد‏ ‏نتن‏، ‏يمطر بيت‏ ‏الله‏ ‏المقدس‏ ‏بحجارة‏ ‏من‏ ‏إهانات‏، ‏وبصاق‏ ‏مسموم‏، ‏جنبا إلى جنب مع ما تيسر من قنابل عنقودية، واغتيالات الأبرياء فى الشوارع والمنازل مع سبق الإصرار، فلا‏ ‏يهنأ‏ ‏لى ‏عيد‏، ‏أهرب من كل هذا – رغما عنى – بخيال شاطح أستعيره من لعبة العلاج الجمعى اسمها لعبة: «ماذا لو»، نلعبها بأن يكمل كل واحد فينا، مرضى ومعالجين ما يخطر على باله بعد «لو..» فأكملت المقال هكذا:

ماذا‏ ‏«لو» ‏توجه‏ ‏الحجيج‏، ‏كل‏ ‏الحجيج‏ (‏مليونان‏ وأكثر) ‏بعد‏ ‏انتهاء‏ ‏مراسم‏ ‏الحج‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى ‏القدس‏؟

‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يتطلب‏ ‏من‏ ‏الدول‏ ‏النفطية‏ (‏والنفط‏ ‏من‏ ‏عند‏ ‏الله‏ ‏كما‏ ‏تعلمون‏) ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يهيئوا‏ ‏ الأتوبيسات ‏ ‏اللازمة‏ (‏مع السندوتشات‏ ‏وزجاجات‏ ‏ماء‏ ‏من‏ ‏ماء‏ ‏زمزم‏)، ‏ولن‏ ‏يتكلف‏‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ إلا ثمن بضع‏ ‏طائرات‏ إف‏ «١٦»، ‏ويشد ‏الحجيج الرحال إلى ‏الحدود الشمالية، فالأردن، ويبدأ إخواننا المسيحيون الذين علموا بالمسيرة فى الانضمام إلينا، يحيطوننا، (كما حدث فى ميدان التحرير مؤخرا)، ويتواصل الزحف سيرا على الأقدام إلى‏ ‏القدس‏، ‏ممسكين‏ ‏بزجاجات‏ ‏الماء‏ ‏و«السندوتشات‏»، ‏غير‏ ‏مسلحين‏ ‏حتى ‏بالحجارة‏، ‏ويبدأ‏ ‏الاستشهاد‏: ‏ألف‏، ‏ونستمر‏،‏ عشرة‏ ‏آلاف‏، ‏ونستمر‏، ‏مائة‏ ‏ألف‏، ‏خمسمائة‏ ‏ألف‏، ‏ونستمر‏، وتنقص الدنيا مليونا من البشر قرابين لحفظ النوع ورد الكرامة الإنسانية، ولكن يبقى ما يكفى للحفاظ على استمرار الجنس البشرى، وتتحرر فلسطين رمزا وحقيقة، فنتحرر معها، فإذا لم يتم المراد هذا العام، نعيد الكرّة عاما بعد عام، وسوف نجد قائمة انتظار بالملايين طلبا للشهادة: أقصر طريق إلى الجنة.

لا‏ ‏تنزعج‏ – عزيزى القارئ- ‏فهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الخيال‏ ‏والشطح ‏ليس‏ ‏جديدا‏ ‏علىّ، وهو نادرا ما يأتينى عاريا صريحا هكذا، بل غالبا ما يغمرنى شعرا من باب الحياء أو التقية، ‏كما أنه‏ ‏يحضرنى ‏كلما‏ ‏زرت‏ ‏بيت‏ ‏الله‏ ‏الحرام‏، أو التحمت بمجاميع حاشدة من خلق الله، فأولد ‏ ‏من‏ ‏جديد‏، اقتحمنى بعض ذلك ذات مرة أثناء الطواف، فوجدت نفسى أذوب وسط الجموع، إلى وجهه تعالى «معا»، فهاج بى الشعر بعدها منشدا:

«.. ‏تزاحم‏َ ‏كومُ ‏الرجال‏ ‏النساءْ‏،

‏فخفتُ‏ ‏أذوبْ‏،

‏بصمت‏ ‏الغناءْ‏، ‏بهمس‏ ‏الفضاء‏ْ،

‏سقوطا‏ ‏لكل‏ ‏ادعاء‏،

‏وكل‏ «أنــا»،

‏إلى ‏الأرض‏ ‏تحتى ‏نظرتُ‏،

‏فما‏ ‏صرتُ‏ ‏إلا‏ ‏قدم‏،

‏تموء‏ ‏بجنبِ‏ ‏قدم‏،

‏وساءلتـه‏: ‏لماذا‏ ‏ابتليتَ‏ ‏العبادْ

‏‏بذل‏ ‏الفسادْ

‏‏بقهرالغباءْ‏،

‏بوهم‏ ‏البقاءْ‏ ‏؟؟‏…‏»

غاب عنى كل ذلك ردْحا من الزمن حتى عاودنى فى ميدان التحرير، وبالذات ليلة الخميس ١٠ فبراير، والناس الطيبون جدا، المصريون جدا، يفسحون لى كى أمر وسطهم احتراما لسنى «اتفضل يا حاج»، والهتافات تدوى فأقبل بعضها وأرفض الآخر، شعرت تلك الليلة بنفس شعور الحج، وكيف يتشكل وعينا «معا» بهذه الولادة الجماعية المبدعة من جديد، لكننى شعرت أن شيئا مهما ناقصا لم أتبينه فى البداية، ومع مرور الأيام، واختلاط الحابل بالنابل،

تذكرت قولا لنجيب محفوظ يكمل قول جيفارا «الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويسستغلها الأوغاد»، يقول نجيب محفوظ فى «ثرثرة فوق النيل»: «الثورة يصنعها الدهاة، وينفذها الشجعان، ويظفر بها الجبناء»، رحت أتابع صراع الشرفاء والشجعان فى مواجهة الأوغاد فوصلنى أنه بمثابة إعلان حرب حقيقية على مستويات مختلفة، تمنيت أن تمتد هذه الانتفاضة إلى إحياء ثقافة الحرب، وليس إلى إشعال دناءة الحروب، ثقافة الحرب قد تنطلق من حرب حقيقية ممتدة، مهما كانت نتائجها، فهى قد تبدأ بعد هزيمة مؤلمة مثيرة للتحدى، موقظة للوعى، وهذا ما تصورت أنه معنى اتفاقية السلام مع التأكيد على حذف نكتة «آخر الحروب» وأيضا بعد تجاوز ثقافة الاسترخاء والتبعية التى هى هى «ثقافة السلام» عكس «ثقافة الحرب» تماما.

تابعت الجارى حالاً فإذا به يكاد يتمخض عن توجيه طاقة العدوان الخلاق الذى بدأ به الشباب، حتى لو كان بفعل فاعل، إلى غلبة حروب بدأت صغيرة، لكنها راحت تكبر أكثر فأكثر حتى كادت تمتص كل طاقة الغضب الثائر، وتحول الدفة إلى أقذر أنواع الحروب لصالح عدو لم يظهر لا فى الهتافات ولا فى الشعارات، من هو يا ترى؟ راعنى غياب ثقافة الحرب وتداعياتها الموقظة عما خرج من ميدان التحرير هكذا.

مع مرور الأيام، وتوالى المليونيات، والتصريحات والتظاهرات: جمعة بعد جمعة، رحت أتساءل: كيف تحولت مثالية الشباب الخضراء، إلى كل هذا العدوان البدائى الذى بلغ قمته فى أحداث قنا، حتى مع قبول فكرة غباء تعيينات المحافظين.

عدت أتساءل:

لمصلحة من نطلق كل هذا العدوان على بعضنا البعض حكومة وشعبا، وهل كان هذا مدبرا من البداية؟

رحت أتذكر الهتافات والشعارات بدءا من ميدان التحرير، وحتى مسجد النور، امتداداً إلى قنا جنوبا والإسكندرية شمالا، ولم أجد بقدر كاف ما يذكرنا بالعدو الحقيقى، أو يشرح موقفه، أو ينقده، أو يعدد ما سوف يعود عليه من فوائد من حصيلة كل هذه الفوضى غير الخلاقة، والحروب المحلية غير الأخلاقية.

لماذا أغفل الجميع – أو لعلهم نسوا – حكومة وشعبا، شبابا ومن كل الأعمار، ذكر إسرائيل مع أن الصحوة جامعة، والخطر محيط؟

لماذا لم ننتبه إلى صاحب المصلحة المحتمل فى نشر كل هذه الفوضى؟

لماذا اختفى اسم إسرائيل ليبدو أن الهدف هو مجرد نشر قيمة وطقوس الدين الجديد، ودون فحص مصداقية أنبيائه، ومدى تلوثه، وهو «دين القوى المالية التحتية»، وكتابها المقدس «الديمقراطية الملتبسة»؟

لماذا تكررت التصريحات من أغلب مسؤولينا من أول رؤساء الوزارات إلى المجلس العسكرى، مرورا بوزراء الخارجية: بأننا نحترم المعاهدات الدولية الموثقة جدا؟

إذا كان لدى المسؤولين الرسميين تفسيرات وتبريرات يردون بها على هذه «اللماذات» البدئية، فلماذا لم تخرج الهتافات، مجرد الهتافات، تذكرنا بالجار الوغد، وراعيته الأنذل؟

بحثت عن ثقافة الحرب بالمعنى الإيجابى فى ميدان التحرير فلم أجدها كما تصورتها فى كل كتاباتى عنها، ثقافة الحرب هى التى تستوعب طاقة الغضب فى عدوان بناء، وهى غير وغدنة القتل، وأيضا غير صرخات الثأر، بل هى ضد كل هذا، وهى ليست إعلان الحرب، وإن كانت تعيش هذا الاحتمال باستمرار.

رحت كلما شاهدت، أو حتى قرأت عن مليونية كذا، أو مليونية كيت، تحضرنى صورة خيالى الشاطح منذ حوالى خمسة عشر عاما عن زحف الحجيج بالملايين إلى تل أبيب فالقدس، أو العكس.

ثقافة الحرب هى وعى جماعى حاد بتهديد البقاء، بما يستلزم أمرين: فرط الانتباه، ومثابرة الفعل، ويبدأ فرط الانتباه بتحديد «من هو العدو الحقيقى»، ومن يقف وراءه، وكيف يهمه تحطيمنا بدءا بالترويج لثقافة الاسترخاء، وليس انتهاء بالفوضى العشوائية المدمرة للذات. كنت أنتظر أن تحفزنا مثالية الشباب إلى العودة لقبول التحدى أكثر فأكثر فى مواجهة عدو حقيقى يذكرنا بالخطر الحقيقى.

حتى لو كان علينا أن نتخلص من الفساد عندنا أولا، فهذا لا ينبغى أن ينسينا أن العدو الأول هو العدو الأخطر.

حين أستلهم إيجابيات ما حدث، دون غباء التقاتل اللاحق، والمناورات الأخبث من قراصنة الثورات لقطف ثمار البدايات، تعود إلىّ صورة «زحف الحجيج»، التى بدأت بها المقال، فيخطر لى خيال أقل شطحا يدعو إلى «مليونية القدس» انطلاقا من «ميدان التحرير»، قد لا يكون لها علاقة مباشرة بالانتفاضة الفلسطينية الثالثة، فأنا أتصور بدايتها زحفا من ملايين التحرير أساسا وقد توجهت إلى فلسطين دون توقف، وهات يا قتل فينا تماما مثلما صوّر لى خيالى فى زحف الحجيج، وإن كانت بعدد أقل من الشهداء (بضعة عشرات آلاف فقط!!) لأننى واثق بأن الناتو لن يسعفنا بالغطاء الجوى، ولا حتى بالكفن الديمقراطى، لأننا صنف أدنى من البشر، وقد يصدر قرار من مجلس الأمن بمنح السيد معمّر نتنياهو الحق فى أن يتسلى بحصد الآلاف تلو الآلاف من الأبرياء باعتبار أن مكافأته هذه هى السبيل الأمثل لنشر الديمقراطية فى كل المنطقة.

وأرجع إلى بلدنا، فتصدمنى حروبنا الصغيرة القذرة الجارية بيننا وبين بعضنا.

أتصور أن مجرد التفكير فى مليونية القدس كان يمكن أن يوجه الحرب الصريحة الدائرة فى قنا وفى مسجد النور إلى وجهتها الأوْلى بالحرب، ربما لذلك أقترح أن نؤجل توقيت مليونية القدس هذه حتى تعود قطارات الصعيد إلى العمل، ليتسنى لأهلنا فى جنوب البلاد أن يشاركوا فيها بإذن الله!!، أم أنهم مشغولون جدا بما هم مشغولون به؟؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *