الرئيسية / نجيب محفوظ / دورية نجيب محفوظ / مقدمة عن: حركية الزمن، “وإحياء اللحظة” فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ

مقدمة عن: حركية الزمن، “وإحياء اللحظة” فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ

دورية نجيب محفوظ

 (التاريخ والزمن “قراءات فى الزمن”)

العدد الثالث – ديسمبر 2010

 المجلس الأعلى للثقافة

 مقدمة عن:

حركية الزمن، “وإحياء اللحظة”

فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ

استهلال:

هذه الورقة ليست إلا “مقدمة” تهدف إلى تقديم الخطوط العريضة من واقع فروض سابقة للكاتب، وهى تعد بدراسة أشمل لنفس الموضوع. من البديهى أننى لا أطمع أن تغطى هذه الورقة علاقة إبداع محفوظ بالزمن، وسوف أكتفى بالانتقاء الدال من عمليْه الأخيرين: أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة، مع إشارة محدودة إلى ما قبل ذلك، وبالتالى أجد أنه علىّ أن أقدم اعتذاراً باكر لما سيجده القارئ من إشارات واعدة دون أن تفى بما تعد.

محفوظ والتاريخ والزمن والمكان

التاريخ الذى انشغل به محفوظ،  فشغلنا معه، عبر  رحلته الإبداعية ليس تأريخاً لأحداثٍ  مضت، وإنما هو عملية إحياء لما تحتويه خلايانا (نحن المصريين، ومن ثَمَّ  نحن البشر) من هذا التاريخ “هنا والآن”.

والزمن الذى يتحرك فيه إبداع محفوظ، طول الوقت،  ليس هو الزمن الذى يمرّ بنا أو نمر عبره، وإنما هو تشكيل  إبداعىّ لحركية الوجود  بكل ما يعنيه جدل “وعى الحياة” مع “وعى الموت”.

لا أود، ولا ينبغى، أن أدخل فى مناقشة نظرية، أغلب النقاد (وغير النقاد) يلمون بها إلماما كافيا، للتفرقة بين “الزمن”، و”الزمان”، و”الوقت”، دعونا نستبعد ابتداء كلمة “الزمان” التى تستعمل أحيانا لتعبر عن عصرِ ما أو عن القدر، (1) “الوقت” هو قَدْر معلوم يمر بين حدثين، هو كَمٌّ يقدر بوحدات متجاورة متتالية متفق عليها، هذا هو ما يمكن أن نسميه الزمن التتالى، أو الزمن التتابعى، أما الزمن الذى  هو جوهرٌ موضوعىُُّ قائم، وحضور مكانىًّ مَرنَ،  متعدد المستويات، ووعى نشط متكاثف الطبقات  قابل للتشكيل والتخليق، فهو موضوع هذه الورقة .

محفوظ ، فى معظم، إن لم يكن فى كل أعماله، حذق تخليق الزمن وتشكيله ليصل إلى المتلقى “هنا والآن” طول الوقت، محفوظ ـ وهو فيلسوف كامل، ومتصوف كادح، يتخفى فى صورة روائى جميل سهل ممتنع– استطاع أن يكشف عن نبض التاريخ فى خلايا الإنسان إذ يتعرى له فى تجربة إبداعه، فيحييه إحياء، وقد امتلك أيضا ناصية تخليق الزمن تجديداً فى كل آن، وهو يعايش الموت وعيا، والحياة كذلك طول الوقت، عناوين كثيرة من أعماله تسربت إليها علاقته بالزمن (2) وقد التحم الزمن بالمكان عنده التحاما جوهريا طول الوقت. المكان عند محفوظ لا ينفصل عن الزمن، والزمن عند محفوظ هو مكان متعين، وقد أنار لنا د.حسين حمودة قضية “الزمكان” عند محفوظ  فى عمله المتميز “فى غياب الحديقة” (3)حين نبهنا إلى هذا الالتحام فى رحلة جادة طويلة عبر كل أعماله كشفت لنا أبعاد وأهمية ودلالات هذا المفهوم (فالمصطلح)، غير أنى شعرت أننى لست بحاجة إلى هذا اللفظ الجديد، مع الاعتراف بجدية الدراسة وفوائدها، ذلك أنه طوال رحلتى مع محفوظ  لم يبلغنى منها أبداً أن ثمة مسافة، أو حتى خط يفصل بين الزمان والمكان، محفوظ لا يخلّق الزمن إلا فى المكان، ولا هو يرتاد المكان منفصلا عن زمنه، هو يحرك المكان بزمنه، فيتحرك الزمن فى مكانه طول الوقت، ومن البداية، إلى ما شاء الله إبداعاً.

محفوظ يمد الزمن إلى مداه بلا مدى ، فيُحضّر لنا المطلق فى “الهنا والآن” مفتوحا  إلى غايته بيقين التوجه دون تحديد الوصول، المتابع لأعماله المفتوحة إلى المطلق لا يخطئ بحثه عن الحق المحيط سبحانه وتعالى، فهو لا بد أن يجد نفسه فى رحاب كرسىٍّ وسع السماوات والأرض ليس كمثله شىء، محفوظ يتقن الإمساك بدفة الإبداع يوجه بها سهم الزمن نحو المطلق، من أول زعبلاوى حتى الأحلام، مرورا بالطريق ورحلة ابن فطومة والعائش فى الحقيقة والحرافيش إلى الأصداء، وغيرها.

فى أطروحتى الباكرة فى نقدى للحرافيش بعنوان “دورات الحياة وضلال الخلود: ملحمة الموت والتخلق بدأت فروضى بهذا المقطع (4)

” فوق قمة الوجود الحيوى، وما بين طرفى “الموت المصير”، و”التخلق: إعادة الولادة”، تتجدد الحركة، وتبعث الحياة من أبيات القصيدة/الملحمة طولا وعرضا، دورة وإعادة، جدلا وتوليفا، دون انقطاع”.

الدافع/البدء: هو الموت.

والقانون/الحتم: هو الحركة.

والمسرح/المجال: هو الزمن.

والفصول/التتالى: هى دورات الحياة المفتوحة النهاية.

والعلاقات/التجاوز: هى التراكمات المتفاعلة معا، حتى التغيّر الكيفى. كذلك: الكمون/التمثيل حتى التفجر/البدء مرة أخرى.

حين عدت الآن إلى هذه الأطروحة ناقدا نقدى (5) انتبهت كيف أن تلك الدراسة الباكرة، قد  ركزت أساسا على دورات الحياة من خلال تفعيل برامج الإيقاع الحيوى شاملة الموت والبعث. أكدت هذه الدراسة ان “الوعى بالموت” هو الدافع الذى يدفعنا إلى أن تكون الحياة حياة تستأهل بحق، إلا أننى  اكتشفت الآن أن مضمون تعبير “الوعى بالموت”، كان أقرب إلى المعرفة المُعَقلنة التى تصلنا من خلالها هذه الحقيقة الماثلة: “أننا أموات من أموات”، ومن ثم يكون هذا الإدراك هو الدافع إلى أن “نعيش” إلى أجل مسمى، إلى أن يأتنيا الموت”، يترتب على ذلك أن  إنكار الموت أو محوه ولو بجنون فكرة الخلود بالسحر الأسود (جلال الأول صاحب الجلالة)، هو الموت العدمى الحقيقى، لأنه يحقق توقف الحركة والكف عن التغيير. التركيز إذن فى تلك الأطروحة الباكرة كان على أنه: ما دامت لحياة كل منا نهاية، إذنْ فلنعشْ كما ينبغى، وما قدّر يكون.

لم أكن قد تعرفت بعد على أن الموت نفسه هو “وعى آخر”.

توضيح منهجى:

منذ دعيت ضيفا إلى محفل النقاد وأنا أحدد منطلقى الشخصى أمانة وتحذيرا، هذا ما أثبته منذ أول إسهاماتى ناقدا فى مجلة فصول “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (6) كما يلى:

“إن هذه الدراسة هى من منطلق شخصى خبراتى أساسا حيث تتحدد أبعاد هذا المنطلق من ممارستى لفن اللأْم”

وهذا هو ما أسميته لاحقا “فن المواكبة العلاجية”، حتى اكتشفت مؤخرا حقيقة طبيعة هذا الفن العلاجى، وكيف أنه ممارسة نقدية تشكيلية فابتدعت له اسم: “نقد النص البشرى”.

الفرض الحالى الذى حضرنى بعد تطور موقفى من الموت، ومن الزمن فى آن، هو:

 “إن الزمن هو كيان حاضرٌ فاعل، يتخلق باستمرارا، من خلال جدل الموت والحياة “هنا والآن”،”

أطروحة اليوم لا تتناول كل أبعاد هذا الفرض وخاصة فى نصفه الأخير، وإنما هى مقدمة متواضعة لتقديم عينات دالة من إبداع محفوظ تمهيدا لتحقيق هذا الفرض برمّته فى عمل قادمٍ أكمل.

مصدران أساسيان:

إلحاقا بما أقررت حالا عن المنطلق الشخصى لقراءاتى النقدية أود الاشارة إلى مصدرين لهما تأثير خاص فيما وصلت إليه، أولاً: العلاج الجمعى للعامة من المرضى، وثانياً: العلاج المكثف لمحنة الفصام، فقد أعاننى كل من هذا وذاك على إعادة الكشف والمراجعة، وأنا أواصل معايشة وعى مرضاى ذهابا وجيئة، دخولا وخروجا، نكوصا وتطورا، تفسخا وخَلقاً، – بآليات النقد إبداعا، أكثر من تطبيق معلومات العلم حساباتٍ – نعم: رحت أقرأ المريض النفسى باعتباره “نصا  بشريا” يحتاج إلى نقد بناء لإعادة تشكيله، بمشاركته، فى نفس الوقت الذى يعتبر فيه المعالج نصا بشريا آخر: نصًّا مجادلا محاورا ناقدا مبدعا معا، ومن ثَمَّ يعمل العلاج على حفز الانطلاق/أو استعادته من خلال الخبرة المشتركة هادفا إلى أن يتحول به إلى عكس مسار التدهور المحتمل من خلال إعادة التشكيل الناقد الخلاق.

خبرتى فى العلاج النفسى الجمعى امتدت على مدى أربعة عقود تقريبا فى مجتمعنا العام (7) مع عينة طبيعية من البشر – ليست بالضرورة ممثلة – وهم يمرون بأزمة المرض، وهم يعتبرون قطاعا عشوائيا من ناسنا بثقافتهم الجارية العادية.

أما خبرتى الشخصية، والعلاجية، والتدريسية فى  “قراءة” ونقد مرضى الفصام باعتباره نواة وأساساً، معظم الأمراض النفسية (8)فقد جرت وتجرى على مدى خمسين عاما من الممارسة.

الأساس البيولوجى:

ذكرت سابقا فى أطروحتى عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (9) أن منطلقاتى النقدية والتنظيرية هى انبعاث مما أسميته: “‏الواقعية‏ ‏البيولوجية‏”: كما ركزت فى كثير من نقدى على علاقة هذه‏ ‏ ‏الواقعية‏  ‏ بإيقاع النشاط الحيوى على مسار دورات النمو .

أثناء قيامى بنقد آخر أعمال محفوظ، “أحلام فترة النقاهة”، حضرتنى بطزاجة بالغة، وتنوع رائع، علاقة إبداع محفوظ “بالهنا والآن”، (أهم قواعد العلاج الجمعى) ومن ثم بالزمن الذى تتخلق به حركية الإبداع بكل هذه الحيوية المتجددة، هذا العمل (ومن ثم نقدى له) كان بمثابة تحقيق نسبى لفروضى عن إبداع الحلم قبيل اليقظة فى وحدة زمنية متناهية الصغر.

هذا الكشف  الموازى الذى تجلى لى، وأنا أنقد أحلام فترة النقاهة برغم أنها ليست أحلاماً أصلا، وإنما هى إبداع صرف، كان سبيلى إلى اطمئنانى إلى فروضى التى كادت تتحدى إمكانية التحقيق، وقد تبين لى من هذا النقد كيف أن محفوظ قد أثبت قدرته الفائقة على التجول فى مستويات وعيه إبداعاً، بشكل أقرب ما يكون إلى تحقيق فروضى عن الإبداع والحلم والشعر والنقد فى هذه الأطروحة الباكرة، هذا النوع من الإبداع هو ما أشرت إليه تحديداً فى العنوان بتعبير “حركية الزمن وإحياء اللحظة”، وهو أقرب إلى المنطلق الذى تناول به جاستون بشلار الزمن مؤيدا روبنال ومعارضا بيرجسون (أنظر بعد).

إبداع‏ ‏الحلم‏، ‏وأحلام‏ ‏المبدع‏:‏

الفرض الذى انطلقتُ منه إلى نقد هذا العمل (أحلام النقاهة) هو الفرض الباكر الذى أشرت اليه فى دراستى عن الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع، وهو يقول (بعد تحديث محدود للتوضيح):

‏نحن‏ ‏لا‏ ‏نحلم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏شاع‏ من حكى الحلم أو من تفسيره، ‏نحن‏ ‏نؤلف‏ ‏أحلامنا‏ ‏التى ‏نتذكرها‏ ‏تأليفا‏ ‏فى ‏الثوانى (‏أو‏ ‏البضع‏ ‏ثانية‏) ‏التى ‏تسبق‏ ‏اليقظة‏ ‏مباشرة‏، نؤلفها ونحن ‏فى حالة من ‏يقظة‏ ‏غير‏ ‏كاملة‏ ‏بعد‏، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏يحدث قبل‏ ‏ذلك‏ ‏فهو ما أسميته‏ “‏الحلم‏ ‏بالقوة‏” وهو النشاط التحريكى التنظيمى ‏الذى ‏يسجل‏ ‏برسام‏ ‏المخ‏ ‏الكهربائى ‏أثناء‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏النوم‏ ‏النقيضى ‏أو‏ ‏النوم‏ ‏الحالم‏ ‏والذى ‏يعرف‏ ‏أيضا‏ ‏باسم‏ ‏نوم‏ “‏حركة‏ ‏العين‏ ‏السريعة‏”(نوم الريم) REM “(10)، وهو إيقاع نوبىّ منتظم 20 دقيقة كل 90 دقيقة طوال ساعات النوم، ‏الحلم‏ ‏الذى ‏نحكيه‏، ‏ونتصور‏ ‏أنه هو‏ ‏الحلم‏، ‏هو‏ نتاج ما ‏التقطنا‏ ‏من أبجدية‏ ‏من‏ ‏مفردات‏ ‏ما‏ ‏تحرك من معلومات‏ ‏فى هذا ‏الوعى ‏الحالم النشط‏، ‏فرُحنا‏ ‏ننسج‏ ‏منها ‏ما‏ ‏تيسر‏ من تشكيلات وتربيطات، ‏ونصوغه‏ ‏على ‏أنه‏ ‏الحلم الذى نحكيه، وبقدر قربنا من وعى النوم يكون الحلم أقرب إلى البيولوجى والإبداع، وبقدر قربنا من “وعى اليقظة، يكون الحلم أقرب إلى الخيال المعقلن المصنوع”‏.

‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏قدمته‏ ‏منذ‏ ‏حوالى ‏ربع‏ ‏قرن‏ ‏فى ‏أطروحة‏ “‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏ونبض‏ ‏الإبداع‏”.‏

‏ ‏ لم‏ ‏أكن‏ ‏أتصور‏ ‏أننى ‏سوف‏ ‏أستطيع‏ ‏تحقيق‏ ‏بعـض‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏أبدا‏. ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يخطر‏ ‏على ‏بالى ‏أن‏ ‏أعايش‏ ‏مبدعا‏ ‏بحجم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏وعمقه‏، ‏وأن تتاح لى فرصة نقد إبداع بهذا العمق، ابداع استطاع المبدع فيه أن يستدعى وعى الحلم “هنا والآن” وهو فى حالة وعى فائق ليخلق من خلاله هذا التوازى الكاشف هكذا.

فروض جديدة، أم صياغة جديدة؟

حين أطلق نجيب محفوظ على بعض أعماله اسم الحلم، أو رؤية النائم، لم يكن يشير إلى أحلام الليل، لكننى أتصور أنه قد وصل إلى حدْسه الإبداعى مثل هذا الذى هدانى إلى وضع هذا الفرض الحالى بشكل جديد فى هذه الأطروحة هكذا:

الحلم هو تنشيط الماضى فى  الحاضر فتشكيله،

وأيضا:

الحلم الإبداع هو القدرة على هذا التنشيط بوعى فائق وإرادة مسئولة”.

المبدع يعيش هذه الخبرة حين يستطيع امتلاك ناصية أكثر من مستوى من الوعى معا ليقوم بتشكيل ولافى جديد لما يريد ويقدر.

خلاصة القول:

إن محفوظ استطاع أن يقدم لنا نموذجا مركزا لآلية “إحياء اللحظة الطرافة” (11)فى إبداع هذه الاحلام خاصة، وبشكل صريح مباشر جميل عميق.

اتنبهت‏ ‏إلى ‏موقع‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى: ‏الإبداع‏ ‏الحالم‏ ‏أو‏ ‏الحلم‏ ‏الإبداع‏، ‏سواء‏ ‏وضعه‏ ‏هو‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏الرؤية‏، (رأيت فيما يرى النائم) ‏أم‏ ‏تحت‏ ‏أى ‏مسمى ‏آخر‏ (‏مثل‏ ‏ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة‏ ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏قصصه‏ ‏القصيرة‏ ‏فى ‏مجموعة‏ ‏خمارة‏ ‏القط‏ ‏الأسود‏‏) ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الثمانينات‏ ‏حين‏ ‏قمت بنقد‏‏ ‏مجموعة‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” (12) ذلك النقد ‏الذى ‏نشر ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏فى “‏قراءات‏ ‏فى ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏” (13)، ‏ثم‏ ‏عاودت‏ ‏الكتابة‏ ‏عن‏ ‏أحلام‏ ‏محفوظ‏ ‏المبدعة‏ ‏أو‏ ‏الإبداعية‏ ‏فى ‏دراستى ‏التى ‏لم‏ ‏تكتمل‏ ‏عن‏ ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية (14)، ‏ثم‏ ‏ كتبت‏ ‏ما‏ ‏تراءى ‏لى ‏عن‏ ‏طبيعة‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏،‏ نقدا لعمله الأخير‏ (‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏) (15)، ‏وهو ما نشر‏ ‏بعضه ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏مجلتى “‏إبداع‏” (16)، ومجلة “‏وجهات‏ ‏نظر‏” (17)

أسئلة‏ ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏إجابات‏:‏

حين كثرت‏ ‏التساؤلات‏ ‏حول‏ ‏أحلام‏ ‏فترة‏ ‏النقاهة‏ ‏بالذات‏، ‏اضطر‏ ‏محفوظ‏ ‏-‏ ‏ضمن‏ ‏آخرين‏-‏ ‏للرد‏ ‏على ‏أغلب‏ ‏تلك‏ ‏التساؤلات‏ ‏بما‏ ‏تيسر‏، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏ملزما‏ ‏بالرد‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏فهى‏ ‏ليست‏ ‏مسئوليته‏، ‏وفى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ قد لاتكون فى مقدوره، فالمبدع لايكون ناقد نفسه إلا مضطرا أو بإبداع لاحق. بعض‏ ‏هذه‏ ‏التساؤلات‏ ‏الساذجة‏ ‏تقول‏: ‏هل‏ ‏هى ‏أحلام‏ ‏أم‏ ‏إبداع؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏يرصد‏ ‏ما‏ ‏جرى ‏فى ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏يضيف؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏يستقى ‏مادة‏ ‏الحلم‏ ‏وشخوصه‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏فقط‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والواقع؟‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والواقع‏ ‏والذاكرة‏ ‏جميعا؟‏ ‏ما‏ ‏علاقة‏ ‏ما‏ ‏يكتب‏ ‏الآن‏ ‏بما‏ ‏يسمى”‏أحلام‏ ‏اليقظة‏”‏؟‏ ‏كنت‏ أتحفظ أحيانا على بعض ما‏ ‏يجيب‏ ‏به‏ ‏ ‏محفوظ نفسه‏. ثم كنت‏ ‏أتعجب حين‏ ‏يتصدى ‏بعض‏ ‏المفتين‏ (‏من‏ ‏العلماء‏ ‏والنقاد‏ ‏جميعا‏) ‏بفتاوى ‏وتأويلات‏ ‏ترد‏ ‏على ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏رد‏ ‏لها.

جولة مبدئية فى محاولات باكرة لقراءة محفوظ

فى الفقرات التالية سوف أحاول أن أقدم بعض ما يفيد الفرض الحالى من خلال عينات من محاولاتى الباكرة.

أولا‏: ‏ رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏ (18)(1982)

الحلم‏/ ‏الإبداع‏:

‏”…… ‏فى ‏هذه‏ ‏المجموعة‏ ‏نجد‏ ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏المميز‏ ‏الضارب‏ ‏فى ‏التاريخ‏ ‏المتطلع‏ ‏للمستقبل‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حلم‏ ‏وأكثر‏ ‏من‏ ‏موقع،

نلاحظ فيما يلى من مقتطفات من هذا النقد الباكر كيف يحضر “التاريخ” فى “الهنا والآن” زمنا متعينا فى مكان:

 “‏أهى ‏حجرتى ‏الراهنة‏: ‏أم‏ ‏أخرى ‏آوتنى ‏فيما‏ ‏سلف‏ ‏من‏ ‏الزمان؟‏” ‏حلم‏ 1 (7/‏ص‏ 142). ‏

ثم نلاحظ هذا الإيقاع‏ ‏السريع‏ ‏فى ‏سعى ‏المعرفة‏ ‏اللاهث‏، ‏وهو‏ ‏يتواءم‏ ‏مع‏ ‏طبيعة‏ ‏زمن‏ ‏الحلم‏ (الذى هو إحياء اللحظة).‏

“‏لن‏ ‏أحيد‏ ‏عن‏ ‏التطلع‏ ‏إلى ‏الأمام‏” ‏حلم‏ 1 (7/‏ص‏ 142).” ‏

“وشعرت‏ ‏طوال‏ ‏الوقت‏ ‏بأننى ‏أسعى ‏وراء‏ ‏غاية‏: ‏لكنها‏ ‏غابت‏ ‏عن‏ ‏وعيى ‏أو‏ ‏غاب‏ ‏عنها‏ ‏وعيى‏” ‏حلم‏ 11 (3/‏ص‏ 163).‏

‏ “‏هذا‏ ‏الدافع‏ ‏إلى ‏المعرفة‏ ‏ينبعث‏ ‏أساسا‏ فى “هنا” ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏ ‏له‏ ‏تاريخ”‏.

وقد وصلنى أن الماضى هنا، ليس بمعنى “فات”، وإنما بمعنى الحاضر الكامن “فى المتناول“.

جاء أيضا فى هذه الدراسة ما يلى:

‏”…‏فى ‏فيضان‏ ‏أحلام‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏” ‏نتعرف‏ ‏على ‏المغامرات‏ ‏المعرفية‏ ‏(فى حضورها النشط‏)‏ ‏ملتفة‏ ‏بأجواء‏ ‏الغموض‏ ‏دون‏ ‏الإقلال‏ ‏من‏: “‏نشاط‏ ‏السعى ‏الدؤوب‏”: “‏مثقلة‏ ‏بآلاف‏ ‏الكلمات‏ ‏المبهمة‏” (7/‏ص‏ 143) ‏حلم‏ (2) “‏عدوت‏ ‏منها‏، ‏ولكنى ‏عدوت‏ ‏فى ‏مجالها‏ ‏وحضنها‏” (7/‏ص‏ 143) ‏حلم‏ (7)…،

كل هذا الحضور المكانى الزمانى “هنا والآن”، والغموض الثرى، والنقلات النشطة، وصلتنى (الآن) باعتبارها لحظات مكثفة طازجة متجددة تؤكد قدرة محفوظ على إبداع الزمن بتخليقه لحظة فلحظة بحيوية فائقة.

ثانيا‏: ‏أحلام‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏أصداء‏ ‏السيرة  (19)

لم‏ ‏تظهر‏ ‏الأحلام‏ ‏فى ‏الأصداء‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏إلا‏ ‏قليلا‏، ‏وفيما‏ ‏يلى ‏عينة‏ ‏لقراءة‏ ‏حلمين‏.‏

فقرة:‏ 58 (‏همسة عند الفجر‏):‏

‏”‏ تسير‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏مقدمها‏ ‏أسير‏ ‏حاملا‏ ‏كأسا‏ ‏كبيرة‏ ‏مترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة.

‏ فى ‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر‏ ‏عندما‏ ‏تنسم‏ ‏بى ‏الحب‏ ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏ ‏همس‏ ‏فى ‏أذنى ‏صوت‏ ‏عند‏ ‏الفجر‏. ‏هنيئا‏ ‏لك‏ ‏فقد‏ ‏حم‏ ‏الوداع‏. ‏وأغمضت‏ ‏عينى ‏من‏ ‏التأثر‏ ‏فرأيت‏ ‏جنازتى” ‏

القراءة‏: (20)….. ‏تتكثف‏ ‏اللحظات‏ ‏فى ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏، ‏ويصاعد‏ ‏الحب‏، ‏لا‏ ‏إلى ‏ذروة‏ ‏السعادة‏ ‏بل‏ ‏إلى ‏ذروة‏ ‏أروع‏، ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏، ‏فنتعلم‏ ‏التمييز‏ ‏بين‏ ‏حب‏ ‏مخدر‏ ‏حتى ‏السعادة‏ ‏وبين‏ ‏حب‏ ‏منتش‏ ‏بالحيرة‏ ‏محوط‏ ‏بالشوق‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏‏: ‏البداية‏ ‏الباكرة‏ ‏المشقشقة‏، ‏فتولد‏ ‏الحياة‏ ‏-‏ ‏كما‏ ‏عودنا‏ ‏محفوظ‏ ‏-‏ ‏من‏ ‏الموت‏، ‏نعم‏: ‏عادت‏ ‏الأصداء‏ ‏تمزج‏ ‏الحلم‏ ‏بالجسد ‏وتجسّد‏، ‏الموت‏، ‏وتشق‏ ‏الذات‏ ‏البشريه‏ ‏ليعلن‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏نهاية‏ “‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر‏”، ‏ويشاهد‏ ‏نفسه‏ ‏بنفسه‏، ‏وهو‏ ‏يتقدم‏ ‏المشيعين‏ ‏حاملا‏ ‏دلالات‏ ‏ولادته‏ ‏الجديدة‏ “‏الكأس‏ ‏المترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة‏”، ‏ثم‏ ‏يؤكد‏ ‏ضمنا‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏إدوارد‏ ‏الخراط‏ ‏فى “‏يقين‏ ‏العطش‏” ‏من‏ ‏أن‏ ‏الارتواء‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏اليقين‏، ‏وإنما‏ يتحقق اليقين بتعميق‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق‏ ‏أبدا‏ ‏(يقين‏ ‏العطش‏ ‏إدوار‏ ‏الخراط‏) (21)

فقرة: ‏65 ‏ـ‏ (‏الأصداء‏) ‏اللحن

‏”‏فى ‏حلم‏ ‏ثان‏ ‏وجدتنى ‏فى ‏حجرة‏ ‏متوسطة‏ ‏يضيئها‏ ‏مصباح‏ ‏غازى ‏يتدلى ‏من‏ ‏سقفها‏، ‏فى ‏ركن‏ ‏منها‏ ‏جلس‏ ‏جماعة‏ ‏من‏ ‏الرجال‏ ‏والنساء‏ ‏على ‏شلت‏ ‏متقابلة‏ ‏يتسامرون‏ ‏ويضحكون‏ ‏بأصوات‏ ‏مرتفعة‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏الجدران‏ ‏باب‏ ‏ولا‏ ‏نافذة‏ ‏إلا‏ ‏فتحة‏ ‏صغيرة‏ ‏فى ‏اتساع‏ ‏عين‏ ‏منظار‏ ‏مرتفعة‏ ‏بعض‏ ‏الشيء‏، ‏فلم‏ ‏أر‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏سماء‏ ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏. ‏شعرت‏ ‏برغبة‏ ‏شديدة‏ ‏فى ‏العودة‏ ‏إلى ‏أهلى ‏ودارى. ‏ولم‏ ‏أدر‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتيسر‏ ‏لى ‏ذلك‏.، ‏وسألت‏ ‏السمار‏: ‏أكرمكم‏ ‏الله‏ ‏كيف‏ ‏أستطيع‏ ‏الخروج‏ ‏من‏ ‏هنا؟‏ ‏فلم‏ ‏يلتفت‏ ‏إلى ‏أحد‏ ‏وواصلوا‏ ‏السمر‏ ‏والضحك‏، ‏وغزت‏ ‏الوحشة‏ ‏أعماقى. ‏عند‏ ‏ذاك‏ ‏لاح‏ ‏لى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الفتحة‏ ‏وجه‏ ‏غير‏ ‏واضح‏ ‏المعالم‏ ‏وقال‏ ‏لى: ‏إليك‏ ‏هذا‏ ‏اللحن‏ ‏إحفظه‏ ‏منى ‏جيدا‏، ‏وترنم‏ ‏به‏ ‏عند‏ ‏الحاجة‏، ‏وستجد‏ ‏منه‏ ‏الشفاء‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هم‏ ‏وغم‏.”‏.

 من القراءة الباكرة‏:‏

يظهر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ “‏رحم‏ ‏الدنيا‏”، ‏وتولد‏ ‏قصيدة‏ ‏قصيرة‏ “‏سماء‏ ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏”، ‏وتتأكد‏ ‏لى ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والعودة‏، ‏فكرة‏ ‏العودة‏ ‏أصيلة‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏الإنسانى ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏تعبير‏ “‏أن‏ ‏يسترد‏ ‏الله‏ ‏أمانته‏” ‏كما‏ ‏يفهم‏ ‏الموت‏ ‏عند‏ ‏أهل‏ ‏التقوى، ‏أو‏‏ ‏أفادت‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏المنفصل‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏الالتحام‏ ‏بأصله‏ ‏كما‏ ‏يشير‏ ‏المتصوفة‏ ‏عادة‏، ‏العودة‏ ‏إلى ‏الأهل‏ ‏والدار‏ ‏وصلتنى ‏هنا‏ ‏باعتبارها‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الأصل‏” ‏الكل‏”، ‏وحين‏ ‏تستحيل‏ ‏العودة‏ ‏إراديا‏ (‏إلا‏ ‏بالانتحار‏ ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏عودة‏ ‏وإنما‏ ‏إجهاض‏) ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتكيف‏ ‏ونحن‏ “‏فى ‏الانتظار‏” ‏حتى ‏يحين‏ ‏الأوان‏.‏

وأضيف هنا: هذا‏ ‏اللحن‏ ‏الذى ‏هبط‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏الفتحة‏ ‏التى ‏تبدو‏ ‏منها‏ ‏السماء‏ ‏وهى ‏تتوارى ‏وراء‏ ‏المساء‏ حضرنى باعتباره استدعاء اللحظة الآن (الفرض الحالى) يستلهم من خلالها ما ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ “‏دينا‏” ‏له‏ ‏طقوس‏ ‏وأنغام‏ ‏ويمكن‏ ‏ـ‏ ‏وهذا‏ ‏مستبعد‏ ‏نسبيا‏ ‏ـ‏ أن‏ ‏يكون‏ ‏اغترابا‏ ‏له‏ ‏أيضا‏ ‏فعل‏ ‏التنويم‏ ‏والتسكين‏، ‏وأما‏ ‏الشفاء‏ ‏من‏ ‏الهم‏ ‏والغم‏ ‏فهو‏ ‏يتحقق‏ ‏بالتوجهين‏ ‏معا‏: ‏ولكن‏ ‏واحدا‏ ‏إلى ‏أعلى ‏وواحدا‏ ‏إلى ‏أسفل‏ (‏الاغتراب‏)، إما‏ ‏أن‏ ‏يعزف‏ اللحن‏ ‏العبادة‏ ‏التصعيدية‏ ‏فيزول‏ ‏الغم‏، ‏أو‏ ‏يخدر‏ ‏المغترب‏ ‏لحن‏ ‏الإلهاء‏ ‏العامى ‏فيغوص‏ ‏الهم‏، ‏وشتان‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏وذاك،‏ ‏لكن‏ ‏الاحتمالين‏ ‏قائمان‏، وكل ذلك من خلال تنشيط للزمن.

زمن الحلم وزمن الابداع والإيقاع الحيوى

فى الدراسة الباكرة الأولى (22) التى قدمت من خلالها هذا الفرض الذى حاولت تحقيقه من خلال نقدى لأحلام فترة النقاهة بالذات، ركزت على شرح التوازى فالمقارنة بين إبداع الحلم والشعر والجنون ثم بين النقد وقراءة المريض (هذا الذى اسميته مؤخرا: “نقد النص البشرى” كما أسلفت).

ورد فى تلك الدراسة ما يلى:

“ماهية‏ ‏الزمن‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏تقبل‏ ‏كل‏ ‏الاحتمالات‏. عندنا‏: ‏الزمن‏ “‏الدائرى‏”، ‏و‏”‏المتقطع‏”، ‏و‏”‏الثابت‏” (‏المتوقف‏)، ‏و‏”‏العكسى‏”، ‏و‏”‏المتداخل‏”، ‏وذلك‏ ‏فى ‏مقابل‏ (إدراك) ‏الزمن‏ “‏التسلسلى ‏التتابعى‏” ‏فى ‏اليقظة‏. ‏ويرجع‏ ‏هذا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الزمن‏، ‏فى ‏الحلم‏، ‏يصبح‏ ‏مكانا‏ ‏وتركيبا وعلاقات، يصبح زماناً وليس زمنا‏ فقط، ‏الشائع‏ ‏الغالب‏ ‏أن‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏حدثين‏، (الدراسة السابقة 1979) ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏يقع‏ ‏الحدثان‏ (‏فأكثر‏) ‏فى ‏اليقظة‏ (23) ‏فى ‏تتابع‏، ‏فيتحدد‏ ‏الزمن‏ ‏طوليا‏.

هذا نص ما جاء فى الأطروحه سنه 1985 (فصول)، ربما إشارة إلى ما أثبته فى كتابى الأم سنة 1979 (24)(دراسة فى علم السيكوباثولوجى) حيث وجدت هذا النص فعلاً… ولكن التأكيد فى النشر اللاحق فى الكتاب (2007) على أنه لابد أن يقع الحدثان وأكثر فى اليقظة دون إبداع، كان إضافة لا لزوم لها، وقد رجعت الآن إلى الأصل مرة أخرى، فوجدت هذا التعريف ص 75، قد نُسِخَ ص231 فى نفس المرجع (1979) بفقرة تقول:

“…زمن الخبرة وقوة التنشيط إذا جاءت هذه الخبرة مضغوطة فى وقت محدود (دقائق أو ساعات)، وكان استعادة الجزء الكامن للمخ لنشاطه فجائيا وعنيفا فلا شك أن الفرد لا يستطيع أن يستوعبها مما يعرضها للإجهاض والتشوه، أما إذا كان التنشيط أقل حدة ومفاجأة، وكانت الخبرة مفرودة على زمن أطول.. استطاع صاحبها أن يلضم رؤيته اليقينية فى عمل معرفى لفظى (أو غيره) قابل للتحقيق والتواصل والمراجعة”.

وأضيف هنا الآن: أن هذا التطور الناسخ لمفهومى للزمن فى نفس المرجع، جاء تأكيدا لفكرة إحياء الزمن بفعل التنشيط، وإن كانت المدة الزمنية التى أشرت إليها سابقا فى المقتطف قد جعلت التنشيط إبداعا إذا امتدت الخبرة على مدى أطول، وجعلت التنشيط الأقصر على مدى دقائق أو ساعات هو الأكثر تهديدا للتماسك، ومن ثم احتمال الإجهاض والتشوه، لكن النقلة الحالية التى انتقلتُها من خلال نقدى أحلام النقاهة واستيعاب حدس لحظة بشلار تجعلنا أقرب إلى فهم فعل الإبداع وبالذات فى بداية عملياته من منطلق إحياء لحظات متجددة ضامّة هى مبدعة مهما بلغت من القصر ما دامت تنتهى إلى غايتها فى التشكيل الجديد.

نرجع إلى ماهية زمن الحلم كما وردت فى أطروحة “الإيقاع الحيوى” (25)

‏أما‏ ‏فى ‏الحلم‏، ‏ومع‏ ‏التنشيط‏ ‏بالبسط‏ ‏الإيقاعى، ‏فإن‏ ‏الأحداث‏ (‏الكيانات‏/‏المعلومات‏) ‏تتحرك‏ “‏معا‏”، ‏ثم‏ ‏تنشئ ‏علاقات‏ ‏مستعرضة ومتداخلة ومتنوعة ‏ ‏بسهولة‏ ‏لا يُحترم‏ ‏فيها‏ ‏التتبع‏ ‏التسلسلى، ‏الذى ‏يؤلف‏ ‏الزمن المعروف‏ ‏فى ‏اليقظة[ (26) ‏من‏ ‏هنا‏ ‏نفهم‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏أية ‏علاقة‏، ‏وكل‏ ‏علاقة‏، ‏هى ‏احتمال‏ ‏قائم‏. ‏يتحدد‏ ‏طول‏ ‏الزمن‏ فى الحلم ‏بمدى ‏سهولة‏ ‏أو‏ ‏صعوبة‏ ‏عملية‏ ‏التوصيل‏ ‏أو‏ ‏الترابط‏ ‏بين‏ ‏معلومة‏ ‏ومعلومة، بين حدث‏ ‏وحدث‏، ‏بين تشكيل‏ ‏وتشكيل‏، ‏وهكذا‏ ‏تتباعد‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات‏ ‏وتتقارب‏ ‏وتتبادل‏ ‏وتتداخل‏، ‏بحيث‏ ‏يصبح‏ ‏من‏ ‏السهل‏ ‏أن‏ ‏تختزل‏ ‏القرون‏ ‏فى ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏، ‏وأن‏ ‏تمتد‏ ‏الثانية‏ ‏إلى ‏عقود‏ ‏من‏ ‏الزمان‏ ‏بحسب‏ ‏سرعة‏ ‏التوصيل، أو غير ذلك‏، ‏كما‏ ‏يمكن‏ ‏للمستقبل‏ ‏أن‏ ‏يبدو‏ ‏قبل‏ ‏الحاضر‏، ‏ويكاد‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏ثَمَّ‏ ‏ماضٍ‏ ‏أصلا‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏مؤسس‏ ‏على ‏أن‏ ‏الترابط‏ ‏بين‏ ‏الأحداث‏ ‏أصبح‏ ‏مكانيا‏، ‏مستعرضا‏، ‏فى ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏أساسا‏ ‏وفى ‏المخ‏ ‏بالذات‏ ‏دون‏ ‏استبعاد‏ ‏سائر‏ ‏الجسد‏….

فضلت أن أثبت هذا المقتطف الطويل دون تدخل لاحق، لأنه يثبت بشكل مباشر ما أريد توضيحه فى هذه المقدمة، وأن هذا التصوير لزمن الحلم بكل ما ورد فى المقتطف كان حاضراً بطول أحلام النقاهة وعرضها طول الوقت .

مستويات الوعى وحركية الزمن

فى دراسة أسبق (1983) اقتربت فكرة تشكيلات مستويات الوعى (دون استبعاد  – أو تقرير -احتمال ما أسميته لاحقا “وعى الموت)، هذه الدراسة الباكرة كانت عن رواية الأفيال لفتحى غانم، وكانت الدراسة بعنوان  “‏الموت‏…‏الحلم‏..‏الرؤية‏، (‏القبر‏/‏الرحم‏) (27).

جاء فيها ما يلى:

“…‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏التى ‏تواصلت‏ ‏بكل‏ ‏المقاييس‏ ‏المعروفة‏ ‏لـلحلم‏، ‏وبخاصة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ “‏التكثيف‏” ‏و‏”‏تجاوز‏ ‏الزمن‏ الراتب حتى تلاشيه” ‏و‏ “‏دائرية‏ ‏الحركة‏”، ‏كانت‏ ‏فائقة‏ ‏الحبكة‏. ‏حقيقة‏ ‏كانت‏ ‏خيوطها‏ ‏كثيرة‏ ‏ومتداخلة‏، ‏لكنها‏ ‏خيوط‏ ‏متينة‏ ‏ومتصلة‏، ‏بل‏ ‏شديدة‏ ‏الطول‏ ‏والتعقيد‏ ‏المنظم‏، ‏وهى ‏بهذا‏ ‏الوصف‏ ‏الأخير‏ ‏تبتعد‏ ‏قليلا‏ ‏بل‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏مستوى ‏الحلم‏ ‏الأعمق‏، ‏حيث‏ ‏إن‏ ‏الكاتب‏ ‏خفف‏ ‏جرعة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏حلم‏ ‏بنسج‏ ‏روايته‏ ‏فى ‏نسيج‏ ‏منمنم‏ ‏متين‏، ‏حبك‏ ‏به‏ ‏التناثر‏، ‏وسلسل‏ ‏الأحداث‏ ‏حتى ‏كادت‏ ‏معالم‏ ‏الحلم‏ ‏تختفى”‏.‏

بالمقارنة (الآن)، نجيب محفوظ فى أحلام فترة النقاهة بالذات، وإلى درجة أقل فى الأصداء، لم يضطر إلى التراجع عن حريته فى التجوال فى الزمن وتخليقه وتدويره، وربما ساعده فى ذلك نوع هذا الإبداع “الموجز المركز” حين تتجمع الوحدات فى محور ضام دون التدخل فى حرية نقلاتها، ولا الخوف من تمادى تناثرها.

واحدية اللحظة تعلن “فعل الحرية” فى الإبداع:

فى دراسة بعد ذلك عن الحرية والإبداع (28) ربطت بين الزمن والحرية واللحظة كما يلى:

“….إن‏ ‏الواحدية‏ ‏الحقيقية‏ – ‏فى ‏حالة‏ ‏الصحة‏- ‏لاتكون‏ ‏حاضرة‏ ‏حضورا‏ ‏يسمح‏ ‏بالحديث‏ ‏عن‏ ‏الاختيار‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏ركزنا‏ ‏فعل‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏فاللحظة‏ ‏هى ‏التى ‏تحدد‏ ‏الذات‏ ‏لتكون‏ ‏كيانا‏ ‏واحدا‏ ‏مفردا‏ ‏شاعرا‏ ‏فاعلا‏.‏ وقد‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏الجنون‏ ‏والحلم‏ ‏والشعر‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏، ‏اختيارا‏: ‏إذ‏ ‏تحضر‏ ‏فى ‏الوعى ‏أزمنة‏ ‏كثيرة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏ويمكن‏ ‏للمجنون‏ ‏أو‏ ‏الحالم‏ ‏أو‏ ‏الشاعر‏ ‏أن‏ ‏يتحرك‏ ‏بينها‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏يتحرك‏ ‏بعشوائية‏ ‏تامة‏ ‏فى ‏الجنون‏، ‏وبعشوائية‏ ‏مرحليه‏ ‏نسبية‏ ‏فى ‏توليف‏ ‏الحلم‏، ‏فى ‏حين‏ ‏يتحرك‏ ‏بحرية‏ ‏منشِئة‏ ‏فى ‏الإبداع‏.‏

وفى نقدى الحالى لأحلام محفوظ اكتشفت كيف أن هذه المادة المتدفقة التى أتحفنا بها محفوظ، ظلت محتفظة بتلك الواحدية الضامة، وسط كل هذا التناثر الظاهرى، وهذا إعجاز أعتقد أنه خاص بهذا الإبداع فى النثر خاصة، (وهو وارد فى الشعر الأحدث بشكل أكثر تواتراً).

المكان‏/ ‏الساحة‏/ ‏المساحة‏: ‏مجال‏ ‏الحرية

ورد أيضا فى نفس الدراسة عن الإبداع والحرية ما يلى:

“…حين‏ ‏تحدثنا‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏خيل‏ ‏إلينا‏ ‏تحقيق‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏استيعاب‏ ‏أبعاده‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كل‏ ‏من‏ “‏النسبية‏”، ‏والتعامل‏ ‏معه‏ ‏باعتباره‏ “‏مكانا‏” ‏يـُرتاد‏، ‏وكأن‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏المكان‏ ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏ألفة‏ ‏وتحكما‏، ‏وواقع‏ ‏الأمر‏ ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏المكان‏ ‏ليس‏ ‏مفهوما‏ ‏منبسطا‏ ‏محددا‏ ‏كما‏ ‏يبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهلة‏، ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏الحرية‏ ‏هى (إرادة) “‏توجه‏ ‏حركية‏ ‏الوجود‏..” ‏إلخ‏، ‏فإن‏ ‏طبيعة‏ ‏المكان‏ ‏ومساحته‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تحدد‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏أو‏ ‏الحركية‏، ساحة‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏الإبداع‏ ‏هى ‏داخل‏ ‏الذات‏، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏بأية ‏حال‏ ‏من‏ ‏الأحوال‏ ‏الانفصال‏ ‏عن‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى ‏أو‏ ‏إهماله‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الذات‏ ‏المبدعة‏ ‏تصبح‏ ‏الساحة‏ ‏الممثِّلة‏‏ ‏لكل‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏والذات‏ ‏فى آن‏، ولكى ‏تتمتع‏ ‏حركية‏ ‏الوجود‏ ‏بالقدرة‏ ‏المناسبة‏ ‏على ‏الإبداع‏ ‏يجدر‏ ‏أن‏ ‏يتوفر‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏مكان‏/‏ساحة‏/‏مساحة‏ ‏ الذات المبدعة عدد من‏ ‏المواصفات‏، ‏مثل‏ ‏أن‏ ‏يكون المكان/الساحة/المساحة:

‏1- ‏مُحكما‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ذا‏ ‏نفاذية‏ ‏كافية‏.‏

‏2- ‏مُمتدا‏ ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏محدودا‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏.‏

‏3- ‏مَرنا‏ ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏مستقل‏ ‏النبض‏ ‏منتظمه‏.‏

‏4- ‏حاويا‏ ‏لوفرة‏ ‏كافية‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏والموضوعات‏ ‏والذوات‏ ‏والأزمنة‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏غير‏ ‏مزدحم‏.‏

‏5- ‏ذَا‏ ‏مسافات متغيرة متقاربة‏ ‏بين‏ ‏مفردات‏ ‏محتواه‏‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏غير‏ ‏متلاصقة‏.‏

‏6- ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏مكانا‏ ‏معينا‏ ‏بذاته فى مستوى وعى واحد بمعنى أن يكون ‏مشروعا‏ ‏دائم‏ ‏التكوين: اتساعا وتنظيما وحركية وتبادلية‏.‏

انتهى المقتطف

التعقيب (الآن): من حيث المبدأ وفى حدود اجتهادى فإننى عايشت فى نقدى لأحلام نقاهة محفوظ بالذات، كيف أن أغلب هذه المواصفات، إن لم تكن كلها، كانت حاضرة فى أحلام النقاهة وكأنها تحقيق إبداعى عملى لهذا التنظير الباكر، مما سأعود إليه تفصيلا فى العمل الأشمل.

محفوظ بين باشلار (روبنال) وبرجسون: حول إشكالة الزمن

حين نتكلم عن أن حلم الشخص العادى هو إبداع آنىّ فى لحظة متناهية الصغر ثم نقرأ أحلام محفوظ من منطلق تجدد “اللحظة الطرافة”، فلابد أن يحضرنا “حدس اللحظة” لبشلار (29) فى مواجهة برجسون.

دعونا نعلنها من البداية أن إبداع محفوظ خاصة فى ما أسماه بالأحلام (دون استبعاد غير ذلك) ينتمى أكثر فأكثر إلى لحظات بشلار فى الوقت الذى يبتعد أكثر فأكثر عن ديمومة برجسون، ولكى يتضح بعض ذلك قبل أن نعاود قراءة بعض الأحلام من جديد، رأيت أنه قد آن الأوان لوقفة استطراد قصيرة نحدد من خلالها الخطوط العريضة لهذا التناقض الهام، لحين العودة إلى تطبيقه تفصيلا فى الدراسة الكاملة، وسوف أكتفى الآن بأن أورد قراءتى لما دار فى ندوة (30)ثقافية قمت بإدارتها وإيجازها والتعقيب عليها وذلك عن كتاب بشلار “حدس اللحظة”.  (31)

أولا: عن برجسون:

‏(1) ‏يرى ‏برجسون‏ ‏أننا‏ ‏نمتلك‏ ‏تجربة‏ ‏باطنية‏ ‏ومباشرة‏ ‏للديمومة‏، ‏بل‏ إن ‏هذه‏ ‏الديمومة‏ ‏هى ‏معطى ‏مباشر‏ ‏للشعور‏. ‏ومن‏ ‏دون‏ ‏شك‏ ‏قد‏ ‏تصاغ‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏، ‏وتوضح‏، ‏وتحرف‏، ‏فيتخذ‏ ‏منها‏ ‏الفيزيائيون‏ – ‏بحكم‏ ‏تجريداتهم‏ – ‏زمنا‏ ‏مسترسلا‏ ‏خاليا‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏لا‏ ‏نهاية‏ ‏ولا‏ ‏انفصال‏ ‏له‏، ‏وهكذا‏ ‏يسلمون‏ ‏للرياضيين‏ ‏زمنا‏ ‏مجردا‏ ‏من‏ ‏الانسانية‏ ‏تماما

‏ (2) ‏اللحظة‏ ‏فى ‏نظر‏ ‏برجسون‏” ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏قطيعة‏ ‏مصطنعة‏ ‏تساعد‏ ‏التفكير‏ ‏المبسط‏ ‏للهندسى = إذن فاللحظة ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏تقطيعا‏ ‏خاطئا‏ ‏للزمن‏. ‏

‏(3) ‏الحاضر‏ – ‏إذن‏- ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏عدما‏ ‏خالصا‏.‏

‏(4) (‏من‏ 2 ، 3) ‏يمثل‏ ‏بشلار‏ ‏الحاضر‏- ‏عند‏ ‏برجسون‏ – ‏بخط‏ ‏مستقيم‏ ‏أسود‏ ‏فيه‏ ‏نقط‏ ‏بيضاء‏ ‏تجسم‏ ‏اللحظة‏ ‏باعتبارها‏ ‏عدما‏ ‏وفراغا‏ ‏وهميا‏. ‏

‏(5) ‏العمل‏ ‏هو‏ ‏دوما‏ ‏تتابع‏ ‏مستمر‏ ‏يضع‏ ‏بين‏ ‏القرار‏ ‏والهدف‏ ‏ديمومة‏ ‏طريفة‏ ‏وحقيقية‏ ‏دائما.

ثانيا‏:‏ عند‏ ‏روبنال‏ (و: بشلار):‏

أشار‏ ‏بشلار‏ ‏إلى ‏تسلسل‏ ‏حواره‏ ‏مع مقولات‏ ‏برجسون‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:‏

‏(1) (‏إذا‏) ‏انتصرنا‏ ‏فبرهنا‏ ‏على ‏عدم‏ ‏وجود‏ ‏اللحظة‏ ‏فكيف‏ ‏نستطيع‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏بداية‏ ‏الفعل‏ ‏؟‏

‏(2) ‏إذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏مجال‏ ‏التحولات‏ ‏المفاجئة‏ ‏حيث‏ ‏يبرز‏ ‏الفعل‏ ‏الخلاق‏ ‏فجأة‏ ، ‏كيف‏ ‏لا‏ ‏نفهم‏ ‏أن‏ ‏عهدا‏ ‏جديدا‏ ‏يبدأ‏ ‏دائما‏ ‏بمطلق‏ ‏؟‏ ‏

‏(3) ‏إن‏ ‏بوسعنا‏ ‏بناء‏ ‏الديمومة‏ ‏بواسطة‏ ‏لحظات‏ ‏لا‏ ‏ديمومة‏ ‏لها‏ (‏اللحظات‏ -‏هى ‏الأصل‏‏). ‏

‏(4) ‏نحن‏ ‏نسكن‏ ‏فى ‏الحاضر‏ ‏بكامل‏ ‏شخصيتنا‏.‏

‏(5) ‏إن‏ ‏بين‏ ‏الإحساس‏ ‏بالحاضر‏ ‏والإحساس‏ ‏بالحياة‏ ‏تطابق‏ ‏مطلق‏. ‏

‏(6) ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏الماضى ‏بالحاضر‏ ‏لا‏ ‏أن‏ ‏نسعى ‏إلى ‏تفسير‏ ‏الحاضر‏ ‏بالماضى.‏

‏(7) ‏لا‏ ‏بداهة‏ ‏حقيقية‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الإرادة‏ ‏وفى ‏الشعور‏ ‏الذى ‏يمتد‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏إقرار‏ ‏فعل‏، ‏والفعل‏ ‏هو‏ – ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ – ‏قرار‏ ‏آنىّ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏خصائص‏ ‏الطرافة‏ ; ‏إن‏ ‏فلسفة‏ ‏روبنال‏ ‏هى ‏فلسفة‏ ‏الفعل‏ (والفعل‏ ‏هو‏ ‏الآنى‏).‏

‏(8) ‏إن‏ ‏فهم‏ ‏الحياة‏ ‏لا‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏تأمل‏ ‏سلبى، ‏فهى ‏لا‏ ‏تنساب‏ ‏على ‏طول‏ ‏منحدر‏ ‏فى ‏محور‏ ‏زمن‏ ‏موضوعى ‏يتلقاها‏ ‏مثل‏ ‏قنال‏، ‏إن‏ ‏فهم‏ ‏الحياة‏ ‏يقتضى ‏أن‏ ‏ندفعها‏ ‏وهو‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نحياها‏.‏

ثانيا: محاولة بشلار للتوفيق:

حاول‏ ‏بشلار‏- ‏فى ‏بداية‏ ‏الأمر‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏- ‏التوفيق‏ ‏بين‏ ‏برجسون‏ ‏وروبنال‏ ‏فجعل‏ ‏اللحظة‏ ‏بعدا‏ – ‏باعتبارها‏ ‏الذرة‏ ‏الزمنية‏- ‏وجعل‏ ‏داخلها‏ ‏ديمومة‏ ، ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏يحق‏ ‏للكائن‏ ‏أن‏ ‏تمثل‏ ‏له‏ ‏الديمومة‏ ‏ثروة‏ ‏عميقة‏ ‏ومباشرة‏، ‏وبتعبير‏ ‏آخر‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏الكائن‏ ‏هو‏ ‏الجديد‏ ‏فى ‏زمن‏ ‏متشابه‏ ‏وإنما‏ ‏اللحظة‏ ‏هى ‏التى ‏بتجددها‏ ‏تنقل‏ ‏الكائن‏ ‏إلى ‏الحرية‏.

‏كما تبينت ‏إن‏ ‏التجربة‏ ‏المباشرة‏ ‏للزمن‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏التجربة‏ ‏السريعة‏ ‏جدا‏ ‏والصعبة‏ ‏جدا‏ ‏والمركبة‏ ‏جدا‏ ‏للديمومة‏، ‏بل إن العكس هو‏ الصحيح ‏: ‏فكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏بسيط‏ ، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏قوى ‏فينا‏ ، ‏وحتى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دائم‏، ‏هو‏ ‏هبة‏ ‏اللحظة‏.‏

ثم أشار بشلار إلى‏ أن ‏ذكرى ‏الديمومة‏ ‏هى ‏من‏ ‏الذكريات‏ ‏الأقل‏ ‏دواما‏ ، ‏فنحن‏ ‏نتذكر‏ ‏أننا‏ ‏كنا‏، ‏ولا‏ ‏نتذكر‏ ‏أننا‏ ‏دمنا‏. ‏

إذن‏ ‏فاللحظة‏ ‏هى ‏الأصل،‏ ‏وهى ‏الكل،‏ ‏وهى ‏الزمن‏، لكن‏ ‏أى ‏لحظة‏ ‏وكيف‏؟‏

ثالثا: تعقيب الكاتب لتحديد ماهية “اللحظة”:

وقد انتهيت إلى وصف ما وصلنى عن تلك اللحظة المعينة التى يركز عليها بشلار، وهو ما تأكد لى من نقدى لأحلام النقاهة حيث كانت هى هى اللحظة التى تبرق بكل الحضور والتجدد فى هذا العمل بالذات.

وكنت قد انتهيت إلى وصفها بالقيادة والحضور والإنارة والتجدد، تعقيباً على ما وصلنى من حدس لحظة بشلار مما أسميته فى نقدى لأحلام نقاهة محفوظ إحياء اللحظة تلو اللحظة إلى مالا نهاية، وفيما يلى هذا الوصف الباكر الذى تأكد لى من برق حضور اللحظات فى أحلام النقاهة تحديدا:

‏1- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏المنيرة‏ ‏بالانتباه‏ ( ‏خذ‏ ‏فكرة‏ ‏هزيلة‏، ‏واحصرها‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏تجدها‏ ‏تنير‏ ‏الفكر‏).‏

‏2- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الفعل‏ (‏الآنى ‏هو‏ ‏الفعل‏، ‏ولا‏ ‏شيء‏ ‏يدوم‏ ‏سوى ‏الكسل‏).‏

‏3- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏المرهَفَة‏.‏

‏4- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏البدء‏ (حيث‏ ‏يتحول‏ ‏الانتباه‏ ‏إلى ‏قرار‏- ‏حيث‏ ‏تتلاقى ‏بداهة‏ ‏الحوادث‏ ‏وفرحة‏ ‏الفعل‏) (‏حتى ‏خلايا‏ ‏الوراثة‏ ‏لا‏ ‏تحمل‏ ‏معها‏ ‏شيئا‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏بداية‏ ‏لإنجاز‏ ‏خلوى).‏

‏5- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الطرافة‏، ‏الجدة‏ ‏آنية‏ ‏دائما‏، ‏إن‏ ‏أهم‏ ‏القوى ‏هى ‏السذاجة‏.

‏6- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الخلاّقة‏. ‏

‏7- ‏هى ‏اللحظة‏ ‏الشجاعة‏. ‏

8- ‏هى اللحظة التى يختلف تسجيل‏ ‏الأحداث‏ ‏فى ‏واقعنا‏ ‏البيولوجى ‏باختلاف‏ ‏مستوى ‏إدراكها‏، ‏ومع‏ ‏قبول‏ ‏حقيقة‏  ‏تعدد‏ ‏المستويات‏ ‏الكيانية‏ ‏للتركيب‏ ‏البشرى ( ‏والمخى ‏على ‏وجه‏ ‏الخصوص‏) ‏فإننا‏ ‏نفترض‏ ‏تسجيل‏ ‏نفس‏ ‏الحدث‏ ‏على ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مستوى، ‏وبالتالى ‏وجود‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏زمن‏ ‏واحد‏ ‏بحسب‏ ‏نشاط‏ ‏أى ‏مستوي‏. ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يتعلق‏ ‏بسرعة‏ ‏الانتقال‏ ‏بين‏ ‏الأحداث‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏. ‏

عودة إلى علاقة الزمن بالمكان انطلاقا من بشلار (إلى محفوظ)

أما عن علاقة الزمن بالمكان فقد جاء فى خلاصة ما وصلنى من بشلار (روبنال) ونقده لبرجسون، ما وجدته فى كل محفوظ تقريبا حتى أننى كدت أظن – برغم مرور هذا الزمن- أننى استلهمت من إبداع محفوظ ما وصلنى من حدس بشلار، وفيما يلى ما أثبته بهذا الصدد تعقيبا على بشلار، وهو ما تأكد لى تطبيقا فى نقدى لأحلام نقاهة محفوظ بشكل متكامل:

‏1- ‏إن‏ ‏الزمن‏ ‏الموضوعى – ‏منفصلا‏ ‏عن‏ ‏المكان‏ – ‏لا‏ ‏وجود‏ ‏له‏.‏

‏2- ‏إن‏ ‏الزمن‏ ‏المكانى، هو الزمن ‏بمعنى أنه ‏المجال‏ ‏الحيوى ‏لتسجيل‏ ‏الأحداث‏، ‏بما‏ ‏تحمل‏ ‏من‏ ‏علاقات‏ ‏محتملة‏ ‏ومتعددة‏ وبالتالى تبرز أهمية التأكيد ‏على أنه هو‏ ‏الكيان‏ ‏الحيوى (البيولوجى)‏ ككل، ‏وكذلك التأكيد على إمكانيات‏ ‏المخ‏ (‏بمقابلاته‏ ‏وامتداداته‏ فى الجسد) ‏للطبع (32)‏والتربيط‏ (33) ‏بوجه‏ ‏خاص‏. ‏

“اللحظة” والوعى والإيقاع الحيوى:

جاء أيضا فى نفس التعقيب ما أنار لى نقدى لأحلام النقاهة، فيما يتعلق بالوعى والإيقاع والتركيب الدماغى بما قد يفيد فى بيان أساس النقد الذى قرأت به محفوظ، جاء ما يلى:

‏تأتى‏ ‏لحظات‏ ‏روبنال‏ (بشلار‏) ‏بكل‏ ‏المواصفات‏ ‏الخاصة‏ ‏بها بمثابة ‏إعلان‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏الحاد‏ ‏والنشط‏ ‏بحركية‏ ‏الأحداث‏ ‏المنطبعة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تصبح‏ ‏هى ‏الإعلان‏ ‏عن‏ ‏فعل‏ ‏الإرادة‏ ‏بالنسبة‏ ‏للأحداث‏ ‏الخارجية‏ ‏أساسا‏، ‏ومن ثَمَّ‏ ‏عن‏ ‏الحرية‏ ‏التى ‏هى ‏نتاج‏ ‏الوعى ‏والإرادة‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تخليق‏ ‏الأحداث‏ ‏فى ‏تضفر‏ ‏بين‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏.

‏‏ولما‏ ‏كانت‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏اللحظات‏ ‏‏من‏ ‏الندرة‏ ‏والصعوبة‏ ‏بحيث‏ ‏يستحيل‏ ‏اعتبارها‏ ‏القاعدة‏ ‏للجميع‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏فإن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نضعها‏ ‏فى ‏موقعها‏ ‏الطولى ‏بالنسبة‏ ‏للإيقاع‏ ‏الحيوى، ‏فهى ‏تظهر‏ -هكذا‏- ‏فى ‏أوقات‏ ‏الإبداع‏، ‏والوعى ‏فى ‏أزمة‏ ‏النمو‏ ‏الذاتى، ‏وبعض‏ ‏خبرات‏ ‏القمة (34) (بما‏ ‏يشمل‏ ‏التصوف‏ ‏بداهة‏) (‏وكذلك‏ ‏بعض‏ ‏بدايات‏ ‏الجنون‏). ‏وهذا‏ ‏الموقع‏ ‏مرتبط‏ ‏بطور‏ ‏البسط (35)‏دون‏ ‏طور‏ ‏الاكتساب‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏إيقاع‏ ‏حيوى، وهو بعض ما أشرنا إليه فى دراستنا للحرافيش (36).

‏وعلى ‏ذلك‏ ‏يصبح‏ ‏الزمن‏- ‏أساسا‏- ‏قائما‏ حاضرا ‏ومتصلا‏ من خلال انبعاث لحظاته المتجددة ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏نعش‏ ‏تلك اللحظات‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الدرجة‏ ‏من‏ ‏الانتباه‏ ‏والإبداع‏ ‏والنشاط‏ ‏والعمق‏.‏ وكأن‏ ‏هذه‏ ‏اللحظات‏ ‏الروبنالية‏ ‏هى ‏قفزات‏ ‏الإبداع‏ ‏الخلاقة‏ ‏التى ‏تظهر‏ ‏مع‏ ‏نوبات‏ ‏البسط‏ ‏من‏ ‏أرضية‏ ‏جريان‏ ‏المجرى ‏النابع‏ ‏من‏ ‏محصلات‏ ‏الخبرات‏ ‏المنطبعة‏ ‏على ‏كل‏ ‏المستويات‏.

‏فإذا‏ ‏تذكرنا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏تسجيل‏ ‏نفس‏ ‏الحدث‏ (‏وراثيا‏ ‏ومكتسبا‏) ‏يتم‏ ‏على ‏مستويات‏ ‏متعددة من الوعى‏ ‏وبالتالى ‏بنوعيات‏ ‏مختلفة‏، ‏لأمكننا‏ ‏تصور‏ ‏إمكانيات‏ ‏غير‏ ‏محدودة‏ ‏للتوافيق‏ ‏والتباديل‏ ‏الجائزة‏ ‏لمعايشة‏ ‏بعد‏ ‏الزمن‏ ‏الخلاق‏ ‏كما‏ ‏ظهر‏ ‏فى ‏حدس‏ ‏لحظات‏ ‏روبنال‏.

ثم أنى أنهيت موجز رأيى بما يكاد ينطبق حرفيا على ما سوف أحاول بنيانه من حيث تخليق اللحظة فى أحلام محفوظ، إن تحديد ماهية الزمن، كما جاءت فى قراءتى للندوة والكتاب جاءت كما يلى:

‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏رحلة‏- ‏إرادية‏/ ‏واعية‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏الإبداع‏ – ‏رحلة‏ ‏بين‏ ‏مستويات وعى‏ ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏رحلة‏ ‏بين‏ ‏أحداث‏، ‏مستويات‏ ‏تُزار‏ ‏وتعاود‏ ‏حيث‏ ‏هى (‏كما‏ ‏هى ‏بمختلف‏ ‏التسميات‏)، ‏فإن‏ ‏إبطاء‏ ‏إيقاع‏ ‏هذه‏ ‏الرحلة‏ ‏بوعى ‏جسور‏، ‏يسمح‏ ‏بمعايشة‏ ‏عمق‏ ‏الخبرة‏ ‏فى ‏تفاصيلها‏ ‏المتشكــلـة‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏صفات‏ ‏الإبداع‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يتيح‏ ‏للمبدع‏ ‏أن‏ ‏يغوص‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏ ‏فأقل‏، ‏بالسرعة‏ ‏التى ‏يريدها‏، ‏فيخرج‏ ‏منها‏ – ‏إن‏ ‏خرج‏ (!) – ‏بالصحوة‏ ‏التى ‏يبلغها‏. ‏

وهل أحلام فترة النقاهة إلا إثباتاً لكل هذا معاً.

رجعة إلى الحرافيش

قبل أن أرجع إلى عينات محدودة من الأحلام فالأصداء، تتناسب مع هذه المقدمة الموجزة، رأيت أن التقط أنفاسى بتذكرة أخرى من قراءتى كيف حضر الزمن فى الحرافيش، ليس بوجه خاص فى صورة تلك اللحظات الطرافة الخلاقة البرقية، وإنما كما ذكرنا، باعتباره – أيضا – مكانا متعّينا (37) وحركة ممتدة (ليست لحظية بالضرورة)، وآمل من خلال ذلك أن يصلنا كيف أن محفوظ فى حركية إبداعه قد استطاع أن يواكب الزمن طولا وعرضا، إحياء للحظة أو ممرا من مقابر، أو جدارا يخفى وراءه المجهول استطاع محفوظ بنفس قدرة إبداعه الفائق أن يحيط بكل ذلك، ويستعمل كل تشكيل وحضور فى مقامه:

أولاً: تعيين (38)الزمن فى كيان (مكان)

حضر الزمن فى ملحمة الحرافيش، مكانا (ممَرَّا) من أول لحظة، بدأت الملحمة هكذا

“فى ظلمة الليل العاشقة، فى ‏الممر العابر‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏”.‏

وليس بين الحياة (بداية) والموت (نهاية)، هذا الممر وصلنى زمنا متعينا منذ البداية، وأن اتجاه السهم فيه هو: من الموت إلى الحياة، وهى الدلالة التى بُنِيَتُ عليها فروض الأطروحة النقدية السابقة عن الإيقاع الحيوى فى الملحمة.

كذلك‏ ‏كانت‏ فالتكية ‏بمثابة‏ ‏جدار‏ ‏الزمن‏ ‏الثابت‏، ‏ففضلا‏ ‏عن‏ ‏أنها‏ ‏تمثل‏ ‏رمز‏ ‏خلود‏ ‏غامض‏، ‏كانت‏ ‏تمثل‏ ‏تحدى ‏الهمود‏ ‏المرفوض‏ ‏فى ‏الآن‏ ‏نفسه‏.‏

وتشبيه‏ ‏عاشور‏ الأول ‏ببوابة التكية‏ ” ‏نما‏ ‏نموا‏ ‏هائلا‏ ‏مثل‏ ‏بوابة‏ ‏التكية‏ “، ‏ثم‏ ‏اختفاؤه‏ ‏الواعد‏ ‏بالرجوع‏، ‏جعلنى أقرر فى هذا النقد الباكر أنه‏، “إن‏ ‏كانت‏  ‏التكية‏ ‏هى ‏جدار‏  ‏هذا‏ ‏الزمن‏  ‏الراتب‏، ‏فعاشور‏  ‏الناجى ‏الأول‏ ‏هو‏ ‏طواره‏”، ‏إن‏ ‏صح‏ ‏التشبيه‏.

‏بل‏ ‏إن‏ ‏صراع‏ ‏شمس‏ ‏الدين‏ ‏مع‏  ‏زحف‏ ‏الزمن‏  ‏قرب‏ ‏النهاية‏، ‏فى ‏صورة‏ ‏معركته‏ ‏الإرادية‏ ‏مع‏ ‏ابنه‏ ‏وصفه محفوظ بلغة مكانية بحتة مع استحضار التاريخ” ‏كالتالى (‏ص‏132):

‏ شعر‏ ‏شمس‏ ‏الدين‏ ‏أنه‏ ‏يغالب‏ ‏السورالعتيق‏، ‏وأن‏ ‏أحجاره‏ ‏المترعة‏ ‏برحيق‏ ‏التاريخ‏ ‏تصكه‏ ‏مثل‏ ‏ضربات‏ ‏الزمن”‏.‏

ثانيا: حركية الزمن طوليا تصنع التاريخ وترصد الوجود

ثم إن محفوظ فى ملحمة الحرافيش أكد أن من لا يحيى حركية الزمن – كما قدمه طوال الملحمة- يمضى بلا تاريخ، وكأنه “ما كان” أصلا، مهما بدت سلاسة رحلته وطيبعتها.

‏(‏ص‏449):

  “‏وتمر‏ ‏أيام‏ ‏رتيبة‏ ‏ومريحة‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏جلال‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏وأسرته‏، ‏ويعرف‏ ‏الرجل‏ ‏بالطيبة‏ ‏والأمانة‏ ‏وحسن‏ ‏الخلق‏ ‏والورع‏. ‏ويتوفر‏ ‏له‏ ‏الرزق‏، ‏وعشق‏ ‏العبادة‏……‏وتدل‏ ‏البشائر‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏ستشق‏ ‏طريقها‏ ‏فى ‏يسر‏ ‏وبلا‏ ‏تاريخ‏”‏

“هنا‏ ‏نقف‏ ‏كما‏ ‏ينبغى ‏عند‏: ‏بلا‏ ‏تاريخ‏.‏ ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏الزمن‏ ‏الراتب‏ ‏المتتالى، ‏الماضى ‏فى ‏يسر‏، ‏هو‏ ‏والعدم‏ ‏سواء‏. ‏فمن‏ ‏لم‏ ‏يع‏ ‏ذلك‏ ‏فولد‏ ‏ومات‏، ‏فكأنه‏ ‏ما‏ ‏ولد‏ ‏وما‏ ‏مات” (39)،

تمضى الملحمة بعد ذلك لتؤكد علاقة الزمن بالحركة وخاصة فى دوراتها وتغيرها

‏لا‏ ‏دائم‏ ‏إلا‏ ‏الحركة‏. ‏هى ‏الألم‏ ‏والسرور‏. ‏عندما‏ ‏تخضر‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏الورقة‏، ‏عندما‏ ‏تنبت‏ ‏الزهرة‏، ‏عندما‏ ‏تنضج‏ ‏الثمرة‏، ‏تمحى ‏من‏ ‏الذاكرة‏ ‏سفعة‏ ‏البرد‏ ‏وجلجلة‏ ‏الشتاء‏.(‏ص‏247)‏

‏(‏ص‏194): “‏لو‏ ‏أن‏ ‏شيئا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدوم‏، ‏فلم‏ ‏تتعاقب‏ ‏الفصول؟”

‏(‏ص‏199): ‏”الشمس‏ ‏تشرق‏  ‏الشمس‏ ‏تغرب‏، ‏النور‏ ‏يسفر‏ ‏الظلام‏ ‏يخيم”

حركية متبادلة

‏(‏ص‏27):  ‏”كان‏ ‏يحمل‏ ‏فوق‏ ‏كاهله‏ ‏أربعين‏ ‏عاما‏، ‏وكأنها‏ ‏هى ‏التى ‏تحمله‏ ‏فى ‏رشاقة‏  ‏الخالدين”‏.‏

‏” ‏لقد‏ ‏اختفى ‏عاشور‏ ‏الناجى”‏.‏ “ولكن‏ ‏الزمن‏ ‏لن‏ ‏يتوقف‏، ‏وما‏ ‏ينبغى ‏له”‏.‏

وبعد

تجاوز محفوظ كل ذلك بعد ذلك (وقبله!) دون الإقلال من معناه وحضوره ووظيفته، ليقدم لنا تشكيلات أخرى متنوعة فى الأصداء والأحلام بالذات.

 ختام بعينات أخرى من الأحلام والأصداء:

وبعد

برغم التأكيد على النقلة التى تعد بها هذه المقدمة للكشف عن كيف أن الموت هو وعى آخر فى حركية جدلية مع وعى ما هو حياة لتخليق الزمن بإحياء اللحظة، فإننى أجد أنه من المفيد ختاما أن أبين كيف أن محفوظ – بالإضافة إلى هذا الإحياء المبدع – قد تعامل مع الزمن بتنويعاته المختلفة، وتجلياته المتغيرة حسب مقتضى الحال ونوع الإبداع وتشكيلات الخلق، ولتبيان بعض ذلك سوف أكتفى بعينة محدودة من أحلام فترة النقاهة وكذلك من الأصداء:

أولا:‏ ‏من‏ ‏أحلام‏ فترة ‏النقاهة‏. ‏

المعركة بين الأزمان: (تدخّل الزمن، واستدعاء اللحظة، وزمن الساعة)

الحلم (25)

رأيتها‏ ‏فى ‏الحجرة‏ ‏معى. ‏ولا‏ ‏أحد‏ ‏معنا‏، ‏فرقص‏ ‏قلبى ‏طربا‏ ‏وسعادة‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏. ‏وأنه‏ ‏لن‏ ‏يلبث‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏ ‏ويجئ‏ ‏أحد‏.. ‏وأردت‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏لها‏ ‏إن‏ ‏جميع‏ ‏الشروط‏ ‏التى ‏أبلغت‏ ‏بها‏ ‏على ‏العين‏ ‏والرأس‏، ‏ولكن‏ ‏تلزمنى ‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏ ‏ولكنى ‏فتنت‏ ‏بوجودها‏ ‏فلم‏ ‏أقل‏ ‏شيئا‏، ‏وناديت‏ ‏رغبتى ‏فخطوت‏ ‏نحوها‏ ‏خطوتين‏، ‏لكن‏ ‏الباب‏ ‏فتح‏ ‏ودخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏وقال‏ ‏بحدة‏ ‏إنك‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏معنى ‏الوقت‏ ‏واقتلعت‏ ‏نفسى، ‏وتبعته‏ ‏إلى ‏معهده‏ ‏القائم‏ ‏قبالة‏ ‏عمارتنا‏، ‏وهناك‏ ‏قال‏ ‏لى ‏أنت‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏العمل‏ ‏عشر‏ ‏ساعات‏ ‏يوميا‏ ‏حتى ‏تتقن‏ ‏العزف‏”. ‏ودعانى ‏للجلوس‏ ‏أمام‏ ‏البيانو‏ ‏فبدأت‏ ‏التمرين‏ ‏وقلبى ‏يحوم‏ ‏فى ‏حجرتى، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏انهمكت‏ ‏فى ‏العمل‏. ‏وعندما‏ ‏سمح‏ ‏لى ‏بالذهاب‏ ‏كان‏ ‏المساء‏ ‏يهبط‏ ‏بجلاله‏. ‏وبادرت‏ ‏أعبر‏ ‏الطريق‏ ‏على ‏عجل‏. ‏ولكن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ثمة‏ ‏أمل‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تنتظرنى ‏مدة‏ ‏غيابى. ‏وإذا‏ ‏برجل‏ ‏صينى ‏طويل‏ ‏اللحية‏ ‏بسام‏ ‏الوجه‏ ‏يعترض‏ ‏سبيلى ‏ويقول‏: ‏كنت‏ ‏فى ‏المعهد‏ ‏وأنت‏ ‏تعزف‏، ‏ولا‏ ‏شك‏ ‏عندى ‏أنه‏ ‏ينتظرك‏ ‏مستقبل‏ ‏رائع‏ ‏وانحنى ‏لى ‏وذهب‏ ‏وواصلت‏ ‏سيرى ‏وأنا‏ ‏مشفق‏ ‏مما‏ ‏ينتظرنى ‏فى ‏مسكنى ‏من‏ ‏وحشة‏.‏

القراءة:

‏ ‏الحجرة‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏المشهد‏ ‏الأول‏ ‏الذى ‏جمعه‏ ‏معها‏ ‏وحدهما‏، ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏فرحته‏، ‏أو‏ ‏يرصدها‏، ‏قفز‏ ‏إليه‏ ‏الزمن‏يشكك‏ ‏فى ‏الاستمرار‏. ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏قبل‏ ‏ومع‏ ‏الفرحة‏، ‏لاح‏ ‏له‏ ‏التهديد‏ ‏بالفراق‏ “…‏كنت‏ ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏، ‏وأنه‏ ‏لن‏ ‏يلبث‏ ‏أن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏”. الزمن‏ ‏الملاحِقُ‏ ‏هنا‏ “‏لن‏ ‏يلبث‏” ‏أن‏ ‏يكسر‏ ‏خصوصية‏ ‏المكان‏ ‏بفتح‏ ‏الباب‏، ‏فيختفى ‏وتختفى ‏معه‏ ‏رقصة‏ ‏القلب‏ ‏وسعادة‏ ‏اللقاء. ‏بدا‏ ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏كأنه‏ ‏انتهاك‏، ‏فإلغاء‏ ‏لهذه‏ ‏الحميمية‏ ‏الواعدة‏. ‏لم‏ ‏يترك‏ ‏له‏ ‏شعوره‏ ‏بالزمن‏ ‏المهدد‏ ‏بالنهاية‏ ‏فرصة‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبوله‏ ‏لكل‏ ‏شروطها‏.‏

هنا‏ ‏يقفز‏ ‏زمن‏ ‏آخر‏ ‏زمن‏ ‏الحسابات‏ ‏الخطى ‏التتبعى ‏حين‏ ‏يقترن‏ ‏قبوله‏ ‏شروطها‏ ‏بضرورة‏ ‏الانتظار‏ “‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏”. ‏الزمن‏ ‏الأول‏ ‏كان‏ ‏ذاتيا‏ ‏محيطا‏ “.. ‏أعلم‏ ‏أن‏ ‏سعادتى ‏قصيرة‏” ‏أما‏ ‏هذا‏ ‏الزمن‏ ‏المحسوب‏ ‏فهو‏ ‏زمن‏ ‏الساعة‏ ‏ذات‏ ‏العقارب‏ ‏الدوَّارة‏  ‏والأرقام‏ ‏المتدرجة‏ (‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏). ‏من‏ ‏فرط‏ ‏حرصه‏ ‏وفتنته‏ ‏بوجودها‏ ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏موافقته‏ ‏المرتبطة‏ ‏بفترة‏ ‏السماح‏ ‏المحسوبة‏. ‏استبدلها‏ ‏بأن‏ “‏نادَى ‏رغبته‏”. ‏كيف‏ ‏ينادى ‏الواحد‏ ‏رغبته؟‏ ‏يقولها‏ ‏محفوظ‏ ‏هكذا‏ ‏ببساطة‏ ‏وكأنها‏ (‏الرغبة‏) ‏كانت‏ ‏تنتظر‏ – ‏فى ‏حجرة‏ ‏مجاورة‏ – ‏نتيجة‏ ‏حسم‏ ‏المعركة‏ ‏بين‏ ‏الأزمان‏. ‏زمن‏ ‏التوجس‏ ‏بسرعة‏ ‏اختفاء‏ ‏السعادة‏، ‏ثم‏ ‏زمن‏ ‏الانتظار‏ “‏فترة‏ ” ‏حتى ‏يحقق‏ ‏طلباتها‏. ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏نداءه‏ ‏رغبته‏ ‏كان‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏طلب‏ ‏النجدة‏ ‏ليكف‏ ‏عن‏ ‏الحسابات‏. وهى طلب فى نفس الوقت لتنشيط مستوى آخر من الوعى، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تستجيب‏ ‏الرغبة‏ ‏لندائه‏ ‏يدخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يحمل‏ ‏معه‏ ‏معنى ‏ثالثا‏ (وعياً ثالثا) ‏لما‏ ‏هو‏ “‏زمن‏”. ‏يؤنبه‏ ‏الأستاذ‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏ضياع‏ ‏الوقت‏ “‏أنت‏ ‏لا‏ ‏تفهم‏ ‏معنى ‏الوقت‏” ‏وكما‏ ‏نادى ‏الراوى ‏رغبته‏ ‏وكأنه‏ ‏ينادى ‏الحاجب‏، “‏اقتلع‏ ‏نفسه‏” ‏وكأنه‏ ‏ينقلها‏ ‏نقلا‏ ‏من‏ ‏مكانها‏، ‏وتبع‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ “‏قبالة‏ ‏عمارتنا‏”. ‏أىُّ ‏وقت‏ ‏يعنيه‏ ‏الأستاذ‏ ‏بسؤاله‏؟‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏استجابت‏ ‏فيه‏ ‏الرغبة‏ ‏إلى ‏دعوته‏ ‏حتى ‏عجز‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏قبول‏ ‏شروط‏ ‏الحبيبة؟‏ ‏أم‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يحتاجه‏ ‏لإعداد‏ ‏نفسه‏ ‏للوفاء‏ ‏بطلبات‏ ‏المحبوبة‏، ‏والذى ‏أسماه‏ “‏فترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏” ‏حتى ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏طلباتها؟‏ ‏أم‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏تمنى ‏أن‏ ‏يطول‏ ‏بصحبتها‏ ‏وهما‏ ‏وحدهما‏ ‏وقلبه‏ ‏ممتلئ‏ ‏فرحا‏ ‏وسعادة‏‏؟

نلاحظ‏ ‏هنا‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نستطرد‏، ‏قدرة‏ ‏محفوظ‏ ‏على ‏التجول‏ ‏بين‏ ‏حالات‏ ‏ذاته‏ (مستويات وعيه) (‏ذواته‏ أزمنته)، ‏فاختياره‏ ‏لتعبيرىْ “‏ناديت‏ ‏رغبتي‏” ‏و‏ “‏اقتلعت‏ ‏نفسي‏” ‏يشير‏ ‏إلى ‏ذات‏ ‏محورية (40) ‏مستعيرين‏ ‏أبجدية‏ ‏ساندور‏ ‏رادو (41) ‏وهى ‏الذات‏ ‏التى ‏تتمحور‏ ‏حولها‏ ‏الكيانات‏ (‏الذوات‏) ‏الأخرى ‏الداخلية‏. ‏الرغبة‏ ‏هنا‏ ‏تبدو‏ ‏مشخصنة‏ ‏فى “‏ذات‏” ‏وليست‏ ‏مجرد‏ ‏عاطفة‏.‏

تشكيل المكان: زمنًا

الحلم‏ (27)

فى ‏سفينة‏ ‏عابرة‏ ‏للمحيط‏ ‏أجناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏ولغات‏ ‏شتى. ‏وكنا‏ ‏نتوقع‏ ‏هبوب‏ ‏ريح‏ ‏وهبت‏ ‏الريح‏ ‏واختفى ‏الأفق‏ ‏خلف‏ ‏الأمواج‏ ‏الغاضبة، ‏إنى ‏ذعرت‏ ‏ولكن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعنى ‏بأحد‏. ‏وقال‏ ‏لى ‏خاطر‏ ‏إننى ‏وحيد‏ ‏فى ‏أعماق‏ ‏المحيط‏. ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏نجاة‏ ‏من‏ ‏الهول‏ ‏المحيط‏ ‏إلا‏ ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏الأمر‏ ‏كابوسا‏ ‏وينقشع‏ ‏بيقظة‏ ‏دافئة‏ ‏بالسرور‏. ‏والريح‏ ‏تشتد‏ ‏والسفينة‏ ‏كرة‏ ‏تتقاذفها‏ ‏الأمواج‏. ‏وظهر‏ ‏أمامى ‏فجأة‏ ‏حمزه‏ ‏أفندى ‏مدرس‏ ‏الحساب‏ ‏بخيرزانته‏ ‏وحدجنى ‏بنظرة‏ ‏متسائلة‏ ‏عن‏ ‏الواجب‏. ‏كان‏ ‏الإهمال‏ ‏الواحد‏ ‏بعشرة‏ ‏خيرزانات‏ ‏تكوى ‏الأصابع‏ ‏كيا‏. ‏وازددت‏ ‏كرها‏ ‏من‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏. (‏وقال‏ ‏لى ‏الرجل‏ ‏سوف‏ ‏تكتب‏) ‏وهممت‏ ‏بدق‏ ‏عنقه‏ ‏ولكنى ‏خفت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أى ‏خطأ‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏هلاكى ‏فسكت‏ ‏على ‏الذل‏ ‏وتجرعته‏ ‏رغم‏ ‏جفاف‏ ‏ريقى. ‏ورأيت‏ ‏حبيبتى ‏فهرعت‏ ‏نحوها‏ ‏أشق‏ ‏طريقا‏ ‏بين‏ ‏عشرات‏ ‏المذهولين‏. ‏ولكنها‏ ‏لم‏ ‏تعرفنى ‏وتولت‏ ‏عنى ‏وهى ‏تلعن‏ ‏ساخطة‏ ‏وجرت‏ ‏نحو‏ ‏حافة‏ ‏السفينة‏ ‏ورمت‏ ‏بنفسها‏ ‏فى ‏العاصفة‏ ‏واعتقدت‏ ‏أنها‏ ‏تبين‏ ‏لى ‏طريق‏ ‏الخلاص‏ ‏فجريت‏ ‏متعثرا‏ ‏نحو‏ ‏حافة‏ ‏السفينة‏ ‏ولكن‏ ‏مدرس‏ ‏الحساب‏ ‏القديم‏ ‏اعترض‏ ‏سبيلى ‏ملوحا‏ ‏بعصاه‏.‏

القراءة:

المكان‏ ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏متحرك‏، ‏لكنه‏ ‏مكان‏ ‏محدد‏ ‏يسمح‏ ‏بالتجمع‏ ‏والتجمهر‏ ‏والانتقال‏، ‏فقط‏ ‏هو‏ ‏محوط‏ ‏بالمحيط‏، ‏فلا‏ ‏مجال‏ ‏للهرب‏ ‏إلى ‏المنزل‏ ‏مع‏ ‏الرضا‏ ‏بالوحشة‏ ‏مثلا‏، ‏ولا‏ ‏مهرب‏ ‏إلى ‏الهواء‏ ‏الطلق‏ ‏قبل‏ ‏انهيار‏ ‏البيت‏ ‏الصغير‏ (‏نهاية‏ ‏الحلمين‏ 26.25). ‏وكما‏ ‏بدأ‏ ‏حلم‏ “25” ‏بتوقع‏ ‏قصر‏ ‏عمر‏ ‏السعادة‏، ‏يبدأ‏ ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏بتوقع‏ ‏العاصفة‏، “وكنا‏ ‏نتوقع‏ ‏هبوب‏ ‏الريح‏، ‏وهبت‏ ‏الريح‏” (‏لاحظ‏ ‏اختفاء‏ ‏أى ‏برهة‏ ‏زمنية‏ ‏بين‏ ‏التوقع‏ ‏والواقع‏).‏

ومع‏ ‏أن‏ ‏السفينة‏ ‏بها‏ ‏أجناس‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏لون‏ ‏ولغات‏ ‏شتى، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الراوى ‏يشعر‏ ‏بالوحدة‏ ” ‏وقال‏ ‏لى ‏خاطر‏ ‏أننى ‏وحيد‏”، ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏نقله‏ ‏فجأة‏ ‏من‏ ‏السفينة‏ ‏إلى ‏أعماق‏ ‏المحيط‏. ‏فتمنى ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يعيشه‏ ‏كابوسا‏. ‏بدت‏ ‏هذه‏ ‏الأمنية‏ ‏ ‏وكأنها‏ ‏جذب‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الرحم‏ ‏الحانى ‏هربا‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏الغرق‏ ‏فى ‏المحيط‏ ‏الهادر‏، ‏إنها‏ ‏أمنية‏ ‏نكوصية‏ ‏واضحة‏. ‏لو‏ ‏أحسنا‏ ‏قراءة‏ ‏تعبير‏ “‏يقظة‏ ‏دافئة‏ ‏بالسرور‏” ‏هذا‏ ‏تعبير‏ ‏نادر‏. ‏اليقظة‏ ‏عادة‏ ‏تكون‏ ‏نقلة‏ ‏من‏ ‏الدفء‏ ‏إلى ‏النشاط‏، ‏من‏ ‏سكينة‏ ‏النوم‏ ‏إلى ‏دفع‏ ‏الحركة‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الدفء‏ ‏الذى ‏يصف‏ ‏اليقظة‏ ‏بأنها‏ “‏دافئة‏ ‏بالسرور‏” ‏لم‏ ‏يُحضر‏ ‏إلىّ ‏إلا‏ ‏خدر‏ ‏الإحاطة‏ ‏بالسائل‏ ‏الأمنيتونى ‏داخل‏ ‏الرحم‏ ‏والجنين ما‏زال‏ “‏يبلبط‏” ‏فى ‏الداخل‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏العواصف‏ ‏والأنواء‏. ‏لم‏ ‏يدم‏ ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏الهروبى طويلا‏ ‏وحل‏ ‏محله‏ ‏واقع‏ ‏أظهر‏ (‏كما‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏الأول‏ 25) ‏المعلم‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏آخر‏ “‏مدرس‏ ‏حساب‏ ‏قديم‏”. ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لا‏ ‏يسأل‏ ‏أو‏ ‏يتساءل‏ ‏عن‏: “‏معنى ‏الوقت‏” ‏مثل‏ ‏أستاذ‏ ‏البيانو‏ (‏حلم‏ 25)، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يدعو‏ ‏فى ‏حزم‏ ‏إلى ‏تدريب‏ ‏على ‏مهارة‏ (‏البيانو‏). ‏هو‏ ‏مدرس‏ ‏جاف‏ ‏لا‏ ‏يتكلم‏ ‏إلا‏ ‏بلغة‏ ‏الواجب‏، ‏والإهمال‏، ‏وليس‏ ‏عنده‏ ‏إلا‏ ‏العقاب‏. ‏المواجهة‏ ‏هنا‏ ‏مع‏ ‏الخيرزانة‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏، ‏فكانت‏ ‏استجابة‏ ‏الراوى ‏هى ‏الرغبة‏ ‏فى ‏قتله‏. ‏وحين‏ ‏تبين‏ ‏عجزه‏، ‏استشعر‏ ‏الذل‏ ‏وابتلعه‏ ‏وهو‏ ‏خائف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يضبطوه‏ ‏متلبسا‏ ‏بالشروع‏ ‏فى ‏القتل‏، ‏ثم‏ ‏كان‏ ‏رد‏ ‏فعل‏ ‏القتل‏ ‏إلى ‏ذاته‏، ‏فهو‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الهلاك‏. ‏

مازلنا‏ ‏فى ‏السفينة‏، ‏ومازالت‏ ‏العاصفة‏ ‏تحيط‏ ‏بها‏، ‏وظهور‏ ‏معلم‏ ‏الحساب‏ (‏الأب‏ ‏القاهر‏ ‏الجاف‏) ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏بديلا‏ ‏إيجابيا‏ ‏ليحتوى ‏الفن‏ ‏الرغبة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏واقعا‏ ‏أصلا‏، ‏كان‏ ‏مجرد‏ ‏تجسيد‏ ‏لذكرى (‏وازددت‏ ‏كرها‏ ‏من‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏)‏

‏ ‏الحبيبة‏ ‏التى ‏ظهرت‏ ‏ ‏لم‏ ‏تحضر أصلا‏. ‏هو‏ ‏الذى ‏جسَّدها‏ ‏فى وعيه‏ ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏يشق‏ ‏طريقه‏ ‏إليها‏ (‏بعد‏ ‏أن‏ ‏فشل‏ ‏فى ‏الهرب‏ ‏إلى ‏الرحم‏) ‏وهى ‏لا‏ ‏تعرفه‏، ‏فتولت‏ ‏وهى ‏تلعن‏ ‏ساخطة‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏تلعن‏ ‏مَنْ‏)، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏اختفت‏ (‏هل‏ ‏زال‏ ‏الخيال؟‏) ‏بأن‏ ‏رمت‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏العاصفة‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏فى ‏المحيط‏)، ‏فكاد‏ ‏يتبعها‏ ‏وهو‏ ‏يتصور‏ ‏أنها‏ ‏بفعلتها‏ ‏تلك‏ ‏إنما‏ ‏تشير‏ ‏إليه‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الحل‏: ‏إفناء‏ ‏الذات‏.‏

الذى ‏حال‏ ‏دون‏ ‏إتمام‏ ‏استجابته‏ ‏لهذه‏ ‏الدعوة‏ ‏هو‏ ‏مدرس‏ ‏الحساب‏، ‏والصورة‏ ‏التى ‏يقدمها‏ ‏محفوظ‏ هنا ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المدرس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏إنقاذه‏ ‏بمعنى ‏دعوته‏ ‏إلى ‏بديل‏ ‏محيط‏ ‏راق‏ ‏مثابر‏ (‏مثل‏ ‏معلم‏ ‏البيانو ‏فى ‏حلم‏ 25) ‏وإنما‏ ‏الإنقاذ‏ ‏هنا‏ ‏كان‏ ‏أيضا‏ ‏بالتهديد‏ ‏بالعقاب‏ (‏اعترض‏ ‏سبيلى ‏ملوحا‏ ‏بعصاه‏). ‏وكأن‏ ‏الدافع‏ ‏لاستمرار‏ ‏الحياة‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏العقاب‏ ‏الذى ‏ينتظر‏ ‏المنتحر‏ (‏كما‏ ‏يقول‏ ‏النص‏ ‏الدينى‏) ‏وليس‏ ‏قبول‏ ‏تحدى ‏الحياة‏ ‏بخوض‏ ‏تجربتها‏. ‏

ينتهى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏ماذا‏ ‏حدث‏ ‏للراوى ‏ولا‏ ‏للمدرس‏ ‏ولا‏ ‏للباقين‏ ‏لينطلق‏ ‏خيال‏ ‏المتلقى ‏كيفما‏ ‏شاء‏.

ثانياً: من أصداء السيرة الذاتية

من البداية، ومن واقع اسم العمل خطر لى أن اختيار لفظ أصداء  فى العنوان يضعنا على بداية طريق حركية تشكيل المكان زمنا، والموت وعيا. فاعتقدت‏ ‏أن‏ ‏الأصداء‏ ‏إنما‏ ‏سميت‏ ‏كذلك‏، ‏أو‏ ‏هى ‏كذلك‏، ‏لأنها‏ ‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏ترجيع‏ ‏صدى ‏وأصداء‏ ‏صوت‏ ‏الذكريات‏ ‏الحية‏ ‏بين‏ ‏طبقات‏ ‏الوعى (/‏الواقع ‏الداخلى)، ‏وتضاريس‏ ‏الوعي‏(/‏الواقع‏) ‏الخارجى ‏متجاوزة‏ ‏سجن‏ ‏الزمن‏ ‏التتابعى ………..”

ثم إنى اخترت ست فقرات كعينة محدودة،

نبدأ بأول فقرتين تليهما فقرتان من أقوال عمنا الشيخ عبد ربه التائه، ثم ننتقى أربع فقرات من وسط العمل هنا وهناك، وذلك لنعرف كيف تردد الزمن (والموت) معا هنا وهناك، نبدأ بأول فقرتين:

فقرة: 1

‏دعاء

دعوت‏ ‏للثورة‏،. ‏وأنا‏ ‏دون‏ ‏السابعة‏ ‏ذهبت‏ ‏ذات‏ ‏صباح‏ ‏إلى ‏مدرستى ‏الأولية‏ ‏محروسا‏ ‏بالخادمة‏، ‏سرت‏ ‏كمن‏ ‏يساق‏ ‏إلى ‏سجن‏، ‏بيدى ‏كراسة‏ ‏وفى ‏عينى ‏كآبة‏ ‏وفى ‏قلبى ‏حنين‏ ‏للفوضى، ‏والهواء‏ ‏البارد‏ ‏يلسع‏ ‏ساقى ‏شبه‏ ‏العاريتين‏ ‏تحت‏ ‏بنطلونى ‏القصير‏.. ‏وجدنا‏ ‏المدرسة‏ ‏مغلقة‏ ‏والفراش‏ ‏يقول‏ ‏بصوت‏ ‏جهير‏: ‏بسبب‏ ‏المظاهرات‏ ‏لا‏ ‏دراسة‏ ‏اليوم‏ ‏أيضا‏،‏ غمرتنى ‏موجة‏ ‏من‏ ‏الفرح‏ ‏طارت‏ ‏بى ‏إلى ‏شاطيء‏ ‏السعادة‏ ‏ومن‏ ‏صميم‏ ‏قلبى ‏دعوت‏ ‏الله‏ ‏أن‏ ‏تدوم‏ ‏الثورة‏ ‏إلى ‏الأبد‏!‏……

القراءة:

هذه‏ ‏البداية‏ ‏ ‏تغرى ‏القارىء‏ ‏أننا‏ ‏أمام‏ “‏سيرة‏ ‏ذاتية‏” حقيقية، ‏لكننا‏ ‏نلاحظ‏ ‏منذ الوهلة الأولى‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏حنين‏ ‏الطفل‏ ‏للفوضى ‏وبين‏ ‏مظاهرات‏ ‏الثورة‏ ‏فى ‏الخارج، ‏ ‏فنلمس‏ ‏ذلك‏ ‏الخيط‏ ‏السحرى ‏بين‏،‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏والذى ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأصداء‏، ‏إذ‏ ‏تتردد،‏ ‏لا‏ ‏تفصل‏ ‏أصلا‏ ‏بين‏ ‏واقع‏ ‏الذات‏ ‏والواقع‏ ‏الملموس‏ ‏خارجها‏، ‏بل‏ ‏والواقع‏ ‏المتجدد‏ ‏والمتولد‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حوارهما‏.‏

هذا ما كان من قراءتى لأول فقرة

ثم فوجئت مباشرة أن الموت يحضر ماثلا فى الفقرة الثانية، ونحن ما زلنا فى مرحلة الطفولة الباكرة

فقرة: ‏2

‏رثاء

كانت‏ ‏أول‏ ‏زيارة‏ ‏للموت‏ ‏عندنا‏ ‏لدى ‏وفاة‏ ‏جدتى، ‏كان‏ ‏الموت‏ ‏مازال‏ ‏جديدا‏، ‏لا‏ ‏عهد‏ ‏لى ‏به‏ ‏إلا‏ ‏عابرا‏ ‏فى ‏الطريق‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏بالمأثور‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏أنه‏ ‏حتم‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏منه‏، ‏أما‏ ‏عن‏ ‏شعورى ‏الحقيقى ‏فكان‏ ‏يراه‏ ‏بعيدا‏ ‏بعد‏ ‏السماء‏ ‏عن‏ ‏الأرض‏، ‏هكذا‏ ‏انتزعنى ‏النحيب‏ ‏من‏ ‏طمأنينتى ‏فأدركت‏ ‏أنه‏ ‏تسلل‏ ‏فى ‏غفلة‏ ‏منا‏ ‏إلى ‏تلك‏ ‏الحجرة‏ ‏التى ‏حكت‏ ‏لى ‏أجمل‏ ‏الحكايات‏. ‏ورأيتنى ‏صغيرا‏ ‏كما‏ ‏رأيته‏ ‏عملاقا‏، ‏وترددت‏ ‏أنفاسه‏ ‏فى ‏جميع‏ ‏الحجرات‏ ‏فكل‏ ‏شخص‏ ‏نذكره‏ ‏وكل‏ ‏شخص‏ ‏تحدث‏ ‏عنه‏ ‏بما‏ ‏قسم‏. ‏وضقت‏ ‏بالمطاردة‏ ‏فلذت‏ ‏بحجرتى ‏لأنعم‏ ‏بدقيقة‏ ‏من‏ ‏الوحدة‏ ‏والهدوء‏، ‏وإذا‏ ‏بالباب‏ ‏يفتح‏ ‏وتدخل‏ ‏الجميلة‏ ‏ذات‏ ‏الضفيرة‏ ‏الطويلة‏ ‏السوداء‏، ‏وهمست‏ ‏بحنان‏ : ‏لا‏ ‏تبق‏ ‏وحدك‏.‏

واندلعت‏ ‏فى ‏باطنى ‏ثورة‏ ‏مباغتة‏ ‏متسمة‏ ‏بالعنف‏ ‏متعطشة‏ ‏للجنون‏ ‏وقبضت‏ ‏على ‏يدها‏ ‏وجذبتها‏ ‏إلى ‏صدرى ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يموج‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏حزن‏ ‏وخوف‏.‏

فيأتى فى قراءتى لهذه الفقرة (الثانية) ما يلى: 

فجأة،‏ ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏موت‏ ‏الجدة‏”، ‏فننتبه‏ – ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏البداية‏ – ‏إلى ‏دلالات هذه ‏النقلات‏‏ ‏الخاصة‏، ‏من‏ ‏طفل‏ ‏طائر‏ ‏إلى ‏شاطيء‏ ‏السعادة‏، ‏إلى ‏جدة‏ ‏تموت‏، ‏والموت‏ ‏طوال‏ ‏الأصداء‏ ‏كان‏ ‏حاضرا‏ ‏بحيوية‏ ‏بادية‏، ‏حيث‏ ‏تتفجر‏ ‏منه‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الأحيان‏،، ‏كما‏ ‏علمنا‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏الحرافيش‏ ‏أساسا‏. (لكن) محفوظ ‏يعامل‏ ‏الموت‏ ‏هنا‏ ‏باعتباره‏ ‏كائنا‏ ‏حيا‏ “‏لا‏ ‏عهد‏ ‏له‏ ‏به‏ ‏إلا‏ ‏عابرا‏ ‏فى ‏الطريق‏”، ‏ثم‏ ‏يحكى ‏عن‏ ‏الموت‏ ‏إذ‏ ‏تسلل‏، ‏ثم‏ ‏وهو‏ ‏يصير‏”‏عملاقا‏ ‏له‏ ‏أنفاس‏ ‏تتردد‏ ‏فى ‏كل‏ ‏الحجرات‏”، ‏وفجأة‏ ‏ينقلب‏ ‏الموت‏ ‏شبحا‏ ‏يطارد‏ ‏الطفل‏ ‏شخصيا‏، ‏فيجرى ‏أمامه‏ ‏ليلتقى ‏بالحياة‏، “‏الجميلة‏ – ‏ذات‏ ‏الضفيرة‏”.، ‏هذه‏ ‏الوصلة‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏ ‏هى ‏لعبة‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏المفضلة‏.

ثم:

…..

“…..تنتهى ‏الفقرة‏ ‏بالالتحام‏ ‏بالجميلة‏ (‏طفل‏ ‏وطفلة‏) ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏لذة‏ ‏النجاة‏ ‏بسبب‏ ‏الهرب‏ ‏من‏ ‏الشعور‏ ‏بالفقد‏ ‏بالموت‏، ‏نفاجأ‏ ‏بأنه‏ ‏جذب‏ ‏الجميلة‏ ‏إليه‏ ‏ولم‏ ‏يرتم‏ ‏فى ‏حضنها‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏الموت‏ ‏المطارد‏، ‏ومع‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏جذبها‏ ‏وهو‏ ‏فى ‏ثورته‏ ‏المتسمة‏ ‏بالعنف‏ ‏المتعطشه‏ ‏للجنون‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الجذب‏ ‏كان‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يموج‏ ‏به‏ ‏صدره‏ ‏من‏ “‏حزن‏ ‏وخوف‏”.‏

وهكذا انتبهت الآن أن المسألة ليست مجرد أن نعرف أننا “أموات من أموات” كما جاء فى نقدى لملحمة الحرافيش بل هى أعمق من ذلك، إن هذا الربط بين الموت كوعى وكيان حاضر، وهو ما أطلقت عليه حالا تعبير “وعى الموت”، وبين “وعى” الحياة بزخم الجنس والحزن والخوف، بما يمثل حركية نشطة، أقول: إن هذا الجدل المحتمل هو الذى يتشكل منه الوجود زمنا لحظيا متجددا أبدا.(انظر حدس اللحظة أول المقال)

ثم ننتقل إلى قرب آخر الأصداء مع الشيخ عبد ربه:

فقرة ‏204

 “‏الزمن”‏

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏:‏

‏- ‏يحق‏ ‏للزمن‏ ‏أن‏ ‏يتصور‏ ‏أنه‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏أى ‏قوة‏ ‏مدمرة‏، ‏ولكنه‏ ‏يحقق‏ ‏أهدافه‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يسمع‏ ‏له‏ ‏صوت‏.‏

أضيف الآن: كتبت نقدى الأول وأنا أتصور أن التدمير هو تخريب وإبادة فحسب، لكننى حين راجعت نفسى الآن اكتشفت أن المقارنة يمكن أن نقرأها على أن الزمن أقوى بشكل آخر، من حيث أن قوة الزمن المدمرة قد تكون موجهة لمن يعترض طريق إنجازه لصالح التطور، أليس الزمن هو الذى حقق تطور الأحياء حتى ظهر هذا الكيان الرائع المسمى الإنسان، حققها بقوة استمراره تحت جناح الزمن بكل هذه القوة.

****

وقرب النهاية أيضا على لسان عبد ربه أيضا جاء ما يلى:

فقرة: ‏209

 ‏خفقة‏ ‏قلب

قال‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏:‏

ما‏ ‏بين‏ ‏كشف‏ ‏النقاب‏ ‏عن‏ ‏وجه‏ ‏العروس‏ ‏وإسداله‏ ‏على ‏جثتها‏ ‏إلا‏ ‏لحظة‏ ‏مثل‏ ‏خفقة‏ ‏قلب‏.‏

جاء فى قراءتى الأولى: لولا‏ ‏أننى ‏كررت‏ ‏فرحتى ‏بالاهتمام‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏نبضة‏، ‏وهمسة‏، ‏ولمسة‏، ‏ونظرة‏، ‏ولحظة‏، ‏لقلت‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏لم‏ ‏تضف‏ ‏جديدا‏ ‏إلا‏ ‏التذكرة‏ ‏بروعة‏ ‏إيقاع‏ ‏الزمن‏ ‏حين‏ ‏يتكثف‏، ‏وبالموت‏ ‏فى ‏انقضاضة‏ ‏جديدة‏، ‏اختزلت‏ ‏العمر‏ ‏كله‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الخفقة، دون أن تفزعنا حتى باسدال النقاب على جثة العروس‏.‏

وأضيف الآن: اختصار العمر كله إلى هذه اللحظة التى هى مثل خفقه القلب، لا يؤكد ما نحاول تقديمه هنا من إحياء اللحظة فى الأحلام أساسا وفى الأصداء أحيانا هو أساس حركية الإبداع، ومع ذلك فإن هذا التكثيف قرب نهاية الأصداء يضيف إلينا ما تريد الاشارة إليه من تحكم محفوظ فى رؤيته لوحدات الزمن كما يشاء له إبداعه.

****

ثم ننتقل إلى منتصف الأصداء لنواجه الموت شخصيا (فى علاقته بالزمن أيضا) بصورة أخرى:

فقرة: 42

‏رجل‏ ‏الساعة‏:‏

دائما‏ ‏هو‏ ‏قريب‏ ‏مني‏، ‏لا‏ ‏يبرح‏ ‏بصرى ‏أو‏ ‏خيالي‏، ‏بريق‏ ‏على ‏نظراته‏ ‏الهادئة‏ ‏القوية‏، ‏من‏ ‏وجه‏ ‏محايد‏ ‏فلا‏ ‏يشاركنى ‏حزنا‏ ‏أو‏ ‏فرحا‏، ‏ومن‏ ‏حين‏ ‏لآخر‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏ساعته‏ ‏موحيا‏ ‏إلى ‏بأن‏ ‏أفعل‏ ‏مثله‏، ‏أضيق‏ ‏به‏ ‏أحيانا‏،‏ ولكن‏ ‏إن‏ ‏غاب‏ ‏ساعة‏ ‏ابتلانى ‏الضياع‏، ‏جميع‏ ‏مالاقيت‏ ‏فى ‏حياتى ‏من‏ ‏تعب‏ ‏أو‏ ‏راحة‏ ‏من‏ ‏صنعه‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏جعلنى ‏أتوق‏ ‏إلى ‏حياة‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏بها‏ ‏ساعة‏ ‏تدق‏.‏

أضيف الآن: (لأول وهلة) تجسد هذه الفقرة الزمن فى صورة إدراكه التى وردت فى قراءتى للحرافيش، هو زمن الساعة (برجلها الثقيل الجميل) هى تدق فتزعج بقدر ما تنبه، وإدراك هذا الزمن بهذه الحدة هو دافع للحياة انتباها فهى الراحة بأننا نحيا، وفى نفس الوقت فهذه التذكرة اللحوح هى متعبة لأنها تقوم بتصدير النهاية قبل أوانها بما يّصد النفس!

أما أمنية إنكاره “أن أتوق إلى حياة لا يوجد بها ساعة تدق”، فهى هنا مجرد أمنية، عابرة لأنه يقر بفضل الوعى بمرور الزمن هكذا، من حيث أنه إعلان لحركية الحياة، “إن غاب ساعة ابتلانى بالضياع”، إلا أنه يستدرك بسرعة ليقول لنا إن هذه الامنية (إنكار حقيقة مرور الزمن) إذا تعملقت واستبعـَدت كل ما عداها فهى الموت العدمى نفسه، هى الخلود العدم “الجلالى” (جلال صاحب الجلالة الحرافيش).

باختصار: هذه الفقرة ترينا كيف أن محفوظ  يتعامل مع الزمن بتناسب إبداعى مرن سواء كان زمن الساحة الموضوعى، أو حتى زمن الساعةالتتابعى الملاحِق  الموقظ.. المنذر معا.

فقرة: ‏13

 ‏رسالة

وردة‏ ‏جافة‏ ‏مبعثرة‏ بين ‏الأوراق‏ ‏عثرت‏ ‏عليها‏ ‏وراء‏ ‏صف‏ ‏من‏ ‏الكتب‏ ‏وأنا‏ ‏أعيد‏ ‏ترتيب‏ ‏مكتبتى، ‏ابتسمت‏، ‏انحسرت‏ ‏غيابات‏ ‏الماضى ‏السحيق‏ ‏عن‏ ‏نور‏ ‏عابر‏، ‏وأفلت‏ ‏من‏ ‏قبضة‏ ‏الزمن‏ ‏حنين‏ ‏عاش‏ ‏دقائق‏ ‏خمس‏. ‏وند‏ ‏عن‏ ‏الأوراق‏ ‏الجافة‏ ‏عبير‏ ‏كالهمس‏.‏

‏ ‏وتذكرت‏ ‏قول‏ ‏الصديق‏ ‏الحكيم‏” ‏وقسوة‏ ‏الذاكرة‏ ‏تتجلى ‏فى ‏التذكر‏ ‏كما‏ ‏تتجلى ‏فى ‏النسيان‏.

أضيف الآن: تحضرنى الآن قراءة أخرى غير التى سجلتها فى نقدى الباكر،

فى هذه الفقرة من بضعة أسطر تحضر تشكيلات ثلاثة للزمن

 الزمن الأول: هو القابض على الذكريات الوصى على التذكر، لكنه هنا يبدو أعجز من أن يحتكر ما هو زمن خلف جدار كجدار التكية فى ملحمة الحرافيش،

الزمن الثانى: هو  الذى أطل من وراء هذه القبضة كنور عابر ليسمح بالزمن الثالث أن ينفلت إلينا

الزمن الثالث: هو ذلك الحنين الهامس الذى عاش خمس دقائق ليست دقائق الساعة على كل حال.

هذه القراءة تختلف عن القراءة الأولى حين عاملت أحداث هذه الفقرة من منطلق أنها ذكريات، منتبهاً اكثر إلى ما جاء فى آخرها إشارة إلى حركية التذكر والنسيان التى هى فى النهاية ليست إلا تنشيط محتوى الدماغ (والجسد) “هنا والآن” ليتجدد الزمن فى صورة كل من النسيان والتذكر معاً، إذن فالزمن حاضر هنا حتى لو لم ندركه أو نرصده أى أنه حاضر سواء كان ذكرى ماثلة أو نسيان كافٍ.

فقرة: 43

 ‏الساحرة‏ ‏

مرت‏ ‏بى ‏فى ‏خلوتى ‏كالوردة‏ ‏اليانعة‏ ‏فوق‏ ‏الغصن‏ ‏النضير‏، ‏وانهمرت‏ ‏ذكريات‏ ‏تلك‏ ‏الأيام‏ ‏الباهرة‏، ‏وذهلت‏ ‏لسرعة‏ ‏الزمن‏، ‏وكنت‏ ‏شكوت‏ ‏إلى ‏صديقى ‏الحكيم‏ ‏بعض‏ ‏مالقيت‏ ‏فعقب‏ ‏على ‏شكواى ‏قائلا‏.: ‏هل‏ ‏تنكر‏ ‏حظك‏ ‏من‏ ‏دفء‏ ‏الدنيا‏ ‏ونشوتها؟‏ ‏

فعددت‏ ‏الحسنات‏ ‏إقرارا‏ ‏منى ‏بفضل‏ ‏الوهاب‏ ‏

فقال‏: ‏جميع‏ ‏تلك‏ ‏الحظوظ‏ ‏ثمرة‏ ‏لإعراضها

وبعد‏ ‏صمت‏ ‏قصير‏ ‏سألني‏: ‏ألا‏ ‏تذكر‏ ‏أثرا‏ ‏من‏ ‏إقبالها؟‏ ‏

فقلت‏: ‏نظرة‏ ‏رضا‏ ‏عابرة‏ ‏تحت‏ ‏النخلة‏!‏

‏ -‏هل‏ ‏تذكر‏ ‏مذاقها؟

‏ -‏أطيب‏ ‏من‏ ‏جميع‏ ‏الحظوظ‏ ‏مجتمعة‏.. ‏

فقال‏ ‏بهدوء‏ : ‏لذلك‏ ‏أقول‏ ‏لك‏ ‏إنها‏ ‏سر‏ ‏الحياة‏ ‏ونورها‏.‏

كتبت فى القراءة الأولى:

‏يظهر‏ ‏لنا‏ ‏هنا‏ ‏ملمح‏ ‏آخر‏ ‏يؤكد‏  ‏وقوف‏ ‏محفوظ‏ ‏عند‏ “‏اللحظات‏ ‏الدالة‏”، ‏و‏”‏البوارق‏ ‏المخترقة‏”، ‏و‏”‏الإشارات‏ ‏والنظرات‏ ‏العابرة‏” ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏تدم‏ ‏إلا‏ ‏ثوان‏ ‏معدودة‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏بضع‏ ‏ثانية‏، ‏ونتذكر‏ ‏باشلار‏ ‏فى “‏حدس‏ ‏اللحظة‏”، ‏كما‏ ‏تذكـرنا‏ ‏علاقة‏ ‏محفوظ‏ ‏بالمكان‏ (‏بكل‏ ‏الأمكنة‏) ‏أيضا‏ ‏بــ‏ “‏باشلار‏” ‏فى “‏شاعرية‏ ‏المكان‏”، ‏فهنا‏ ‏يحضر‏ ‏الاثنان‏ ‏معا‏،

‏حدس‏ ‏اللحظة‏ ‏وشاعرية‏ ‏المكان‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏التأكيد‏ ‏على “‏اللحظة‏” ‏أكبر‏، ‏حتى ‏لتصبح‏ “‏سر‏ ‏الحياة‏ ‏ونورها‏” ‏والراوى هنا‏ ‏يذكرها‏ ‏باعتبارها‏ “‏أطيب‏ ‏من‏ ‏جميع‏ ‏الحظوظ‏”، ‏ولا‏ ‏نربط‏ ‏ذلك‏ ‏كثيرا‏ ‏بخبرة‏ عمر‏ ‏الحمزاوى (‏الشحاذ‏) ‏فى ‏صحراء‏ ‏الهرم‏، ‏فلم‏ ‏تكن‏ ‏لحظة‏ ‏بهذا‏ ‏المعني‏، ‏ولم‏ ‏تترك‏ ‏أثرا‏ ‏باقيا‏، ‏بل‏ ‏أثارت‏-‏بعد‏ ‏اختفائها‏- ‏بحثا‏ ‏بغير‏ ‏جدوي‏.‏

ثم‏ ‏تأتى ‏الذاكرة‏، ‏فتمد‏ ‏يدها‏ ‏الطويلة‏ ‏القادرة‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏اللحظة‏، ‏فتكثفها‏ ‏وتضاعفها‏ ‏وتجسدها‏ ‏وترققها‏ ‏وتمـر‏ ‏بكل‏ ‏ذلك‏ ‏عليها‏ ‏كالوردة‏ ‏اليانعة‏، ‏لكن‏ ‏الذكريات‏ ‏التى ‏تتابعت‏ ‏نتيجة‏ ‏لحركتها‏ ‏الرقيقة‏، ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏مثلها‏ ‏رقيقة‏ ‏بل‏ ‏جاءت‏ ‏متسارعة‏ ‏منهمرة‏ “‏انهمرت‏ ‏ذكريات‏”، ‏و‏”‏ذهلت‏ ‏لسرعة‏ ‏الزمن‏”، ‏ولم‏ ‏يستطع‏ – ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حواره‏ ‏الأمين‏ ‏مع‏ ‏صديقه‏ ‏الحكيم‏ (‏الداخلي‏: ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏بعد‏ ‏خارجه‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏) ‏أن‏ ‏يقيـم‏ ‏فضلها‏ ‏ويميزها‏ ‏عن‏ ‏الذكريات‏ ‏المنهمرة‏ ‏والمتسارعة‏،….

وأضيف الآن: أننى اطمأننت لظهور جاستون بشلار هكذا فى قراءتى الأولى، وهو ما حضرنى أكثر كثيرا. تدعيما لفروض الأطروحة الحالية، كما أننا نلاحظ هنا كذلك إشارة إلى أن حركية الحياة هكذا، تعطى حتى لإدبارها فضل أى فضل “جميع تلك الحظوظ بفضل إعراضها”، أما إقبالها “لحظة رضا تحت النخلة”،  فى تكثيف رائع  يجعل تلك اللحظة (مثل اللحظات التى نعنيها فى هذه الأطروحة) “أطيب من جميع الحظوظ مجتمعة” حتى تصير “سر الحياة ونورها”

هل ثم شك فى أن محفوظ قادر على إحياء الزمن لحظة بلحظة – كما علمنا بشلار- طول الوقت.

فقرة: 104

 ‏ملخص التاريخ

أحببت‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏أحببت‏ ‏وأنا‏ ‏طفل‏، ‏ولهوت‏ ‏بزمنى ‏حتى ‏لاح‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏الأفق‏، ‏وفى ‏مطلع‏ ‏الشباب‏ ‏عرفت‏ ‏الحب‏ ‏الخالد‏ ‏الذى ‏يخلفه‏ ‏الحبيب‏ ‏الفانى، ‏وغرقت‏ ‏فى ‏خضم‏ ‏الحياة‏، ‏ورحل‏ ‏الحبيب‏، ‏واحترقت‏ ‏الذكريات‏ ‏تحت‏ ‏شمس‏ ‏الظهيرة‏، ‏وأرشدنى ‏مرشد‏ ‏فى ‏أعماقى ‏إلى ‏الطريق‏ ‏الذهبى ‏المفروش‏ ‏بالمعاناة‏ ‏والمفضى ‏إلى ‏الأهداف‏ ‏المراوغة‏، ‏فطورا‏ ‏يلوح‏ ‏السيد‏ ‏الكامل‏ ‏وطورا‏ ‏يتراءى ‏الحبيب‏ ‏الراحل‏. ‏وتبين‏ ‏لى ‏أن‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏الموت‏ ‏عتابا‏ ‏ولكننى ‏مقضى ‏على ‏بالأمل‏.‏

القراءة الأولى:

الطفل‏ ‏يلهو‏ ‏بالزمن‏ ‏وهو‏ ‏يحب‏ ‏جدته‏ ‏أو‏ ‏جارته‏ (‏فقرة‏ 2، 36)، ‏فيلوح‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏الأفق‏، ‏ثم‏ ‏يحب‏ ‏الشاب‏ ‏فيخطف‏ ‏الموت‏ ‏حبيبته‏، ‏ويحاول‏ ‏أن‏ ‏يهرب‏ ‏فى ‏النسيان‏ ‏مرة‏، ‏وعلى ‏الطريق‏ ‏الذهبى ‏إلى ‏التكامل‏ ‏سعيا‏ ‏إلى ‏وجهه‏ ‏مرة‏ ‏أخرى، ‏لكن‏ ‏صورة‏ ‏الحبيب‏ ‏تتراءى ‏وتنتهى ‏الفقرة‏ ‏بقصيدة‏ ‏فى ‏سطر‏ ‏واحد‏ ‏تقول‏ “‏بينى ‏وبين‏ ‏الموت‏ ‏عتابا‏ ‏ولكننى ‏مقضى ‏على ‏بالامل‏” ‏ومحفوظ‏ ‏يحاور‏ ‏الموت‏ ‏معظم‏ ‏الوقت‏، ‏ولا‏ ‏نزال‏ ‏نذكر‏ ‏أنه‏ ‏منذ‏ ‏الفقرة‏ ‏الثانية‏ ‏فى ‏الأصداء‏ ‏وهو‏ ‏يتمثل‏ ‏الموت‏ ‏شخصا‏ ‏مجسدا‏، ‏حتى ‏يجرى ‏هذا‏ ‏العتاب‏ ‏الرقيق‏ ‏بينهما‏، ‏ونظرا‏ ‏لأنه‏ (‏الموت‏) ‏يعامَـل‏ ‏كصديق‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏فإنه‏ -مهما‏ ‏فعل‏- ‏لم‏ ‏يقطع‏ ‏صلة‏ ‏محفوظ‏ ‏بالحياة‏، ‏ولا‏ ‏حال‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الاستمرار‏ “فهو‏ ‏مقضى ‏عليه‏ ‏بالامل‏” ‏

وأضيف الآن:

هذا، ومثله، هو ما أكد لى النقلة الضرورية فى التعامل مع الموت ليس باعتباره نذيرا يلهب ظهورنا لنقبل على الحياة بما تستحق بأسرع مايمكن، ولكن باعتباره “وعيا متكاملا” مع وعى الحياة، وهكذا نعايش مرة أخرى تلك الرقة البالغة فى علاقتنا بالموت وعتابه:

“بينى وبين الموت عتابا ولكننى مقضى علىّ “بالأمل” (وليس بالأجل).

****

فقرة: ‏133

 ‏قول‏:‏

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏ذات‏ ‏ليلة‏ ‏فى ‏سهرة‏ ‏الكهف

ما‏ ‏أجمل‏ ‏قصص‏ ‏الحب‏، ‏عفا‏ ‏الله‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏الذى ‏يحييها‏ ‏ويميتها‏.‏

القراءة الأولى:

الجملة‏ ‏الأولى ‏مقبولة‏ ‏بفتور‏ “‏ما‏ ‏أجمل‏ ‏قصص‏ ‏الحب”، ‏فتور‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يذكر‏ “‏أيام” ‏الحب‏ ‏أو‏ “‏عهد” ‏الحب (بل قصص الحب)‏،

وأضيف الآن:

‏أما‏ ‏الجملة‏ ‏الثانية‏ “‏عفا‏ ‏الله‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏الذى ‏يحييها‏ ‏ويميتها”، ‏فهى ‏تحتاج‏ الآن ‏إلى ‏وقفة‏ ‏لأن‏ ‏الموقف‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏بتذكر‏ ‏قصص‏ ‏الحب‏ (‏وليس‏ ‏أيامه‏ ‏أو‏ ‏عهده‏) ‏يجعل‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏خالقها‏ ‏وقابضها‏، ‏جمال‏ ‏قصص‏ ‏الحب‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏جمالا‏ ‏حقا‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏بعد‏ ‏الزمن‏ ‏الدوار‏ ‏الذى ‏يرتفع‏ ‏بها‏ ‏وينخفض‏، ‏فلا‏ ‏جمال‏ ‏لدوام‏، ‏ولا‏ ‏جمال‏ ‏لسكون‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الخلود‏ ‏ذاته‏.‏

****

خاتمة:

هذه مجرد مقدمة أرجو أن تعد بدراسة أشمل – كما أملنا من البداية – للإحاطة ببقية ما لوّح به الفرض، وخاصة علاقة وعى الموت (وليس مجرد إدراك حقيقة الموت) بوعى الحياة بتخليق الزمن وتشكيله (وليس بمرور الزمن وحتم النهاية)

هذا إن كان فى العمر بقية،

وفى الوقت فسحة.

[1] – تحالف الناس والزمان، فحيث كان الزمان كانوا.

[2] – على سبيل المثال لا الحصر: “بداية ونهاية” ثم: “حكاية بلا بداية ولا نهاية”، وكأنه خاف ان ننسى أنه تجاوز بنا ما اعتدناه من أن لكل بداية نهاية، وأن كل نهاية كان لها بداية، ثم خذ عندك: “الباقى من الزمن ساعة”، وأيضا “حديث الصباح والمساء”، ثم إن تواتر عناوين رواياته المسماة بأسماء الاماكن: خان الخليلى – القاهرة 30 (أو الجديدة) – “زقاق المدق” بين القصرين – قصر الشوق- السكرية – ميرامار – قشتمر.. إلخ، كلها لا تشير إلى الأماكن منفصلة عن زمنها.

[3] –  حسين حمودة  “في غياب الحديقة (روايات نجيب محفوظ) سنة النشر 2007

[4] – يحيى الرخاوى: مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990، ثم تم تحديثها فى الكتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب.

[5] – وهو ما آمل أن تقوم به هذه الدورية طول الوقت: نقد النقد

[6] – يحيى الرخاوى، مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها  فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، الفصل الأول، المجلس الأعلى للثقافة، 2007

[7] – قسم الطب النفسى كلية الطب قصر العينى، المرضى من عامة الشعب، والعلاج علانية، وبالمجان فى حلقات مفتوحة مع متدربين ومشاهدين مشاركين فى النقاش تحت مسئوليتى وبموافقة الجميع وإذنهم ، كل مجموعة من 8 إلى 12 مشاركا غير المتدربين (ثلاثة)، ولمدة عام كامل، وهكذا.

[8] – أى مع استبعاد الأمراض النفسية والعقلية المسماة “العضوية” مثل الأمراض الناتجة عن نقص خلقى أو ضمور أو أورام …مثل (العته، والحمى والتسمم).. الخ.

[9] – أنظر هامش (6)

[10] – “الريم” الريم هو اللفظ الذى نحته المرحوم أ.د. احمد مستجير من الحروف الانجليزية REM اختصاراً لـ Raped Eye Movement.وقد فضلت استعماله عن لفظ آخر سبق أن اقترحته وهو “نعس” نحتاً من: “من نوم حركة العين السريعة” حيث أننى وجدت لفظ مستجير أسهل وأوضح برغم عدم إقرارى المبدأ الذى استند إليه.

[11] – هذا هو العنوان الذى كنت قد اخترته لهذه الأطروحة قبل العنوان الحالى.

[12] – يحيى الرخاوى “رأيت فيما يرى النائم” ص (103 – 136)  مجلة الإنسان والتطور، عدد أكتوبر، 1983، ثم فى كتاب قراءات فى نجيب محفوظ، الهيئة العامة للكتاب.

[13] – يحيى الرخاوى، “قراءات فى نجيب محفوظ”، الهيئة المصرية للكتاب، 1991

[14]- ‏يحيى ‏الرخاوى “‏قراءة‏ ‏فى ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذاتية‏”  ‏الإنسان‏ ‏والتطور‏ ‏أعداد‏ (‏عدد‏ 61 – ‏إبريل‏ 1998 ‏وعدد‏65-66 ‏إبريل‏ 1999 ‏وعدد‏ ‏إبريل‏ 1994 ‏وعدد‏ 60 ‏يناير‏ 1998 ‏وعدد‏ 59 ‏آكتوبر‏ 1997 ‏وعدد‏ 62 ‏يوليو‏ 1998)، وهى التى صدر الجزء الأول منها فى كتاب “اصداء الأصداء” المجلس الأعلى للثقافة 2006.

[15] – يحيى الرخاوى، “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية: أحلام فترة النقاهة، تحت النشر

[16] – يحيى الرخاوى، مجلة إبداع عدد يناير – مارس، 2002

[17] – يحيى الرخاوى، مجلة وجهات نظر، عدد يناير، 2003

[18] – انظر الهامش رقم 12

[19] – يحيى الرخاوى، مجلة الهلال، عدد مارس 2005.

[20] – يحيى الرخاوى، “أصداء الأصداء”، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ، المجلس الأعلى للثقافة، 2006، ص87

[21] – يحيى الرخاوى، استحالة‏ ‏الممكن‏، ‏وإمكانية‏ ‏المستحيل، الحنين‏ ‏إلى ‏الرحم‏: ‏وجدل‏ ‏الآخر‏ (‏الموضوع‏)!!‏ فى: ‏يقين‏ ‏العطش‏: ‏إدوار‏ ‏الخراط،  دراسة لم تنشر، وإن ألقى موجزها فى جمعية النقد الأدبى منذ سنوات.

[22] – أنظر هامش (6)

[23] – تم إضافة (العادية، دون إبداع) فى إعادة نشر هذه الأطروحة فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، وذلك حين اكتشفت الفرق بين اليقظة العادية واليقظة أثناء الإبداع.

[24] – يحيى الرخاوى، “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”  سنة 1979

[25] – أنظر هامش (6).

[26]- يحيى الرخاوى، يمكن مراجعة الموضوع بشكل أشمل فى مقال: مفهوم الزمن استلهاما من الممارسة الإكلينيكية والنقد الأدبى لـ يحيى الرخاوى “إشكالية الزمن: فى الحياة والمرض النفسى، والعلاج الجمعى” ص (12 – 22). عدد ابريل – سبتمبر 1998 – مجلة الإنسان والتطور.

[27] – يحيى ‏الرخاوى، قراءة‏ ‏فى ‏أفيال‏ ‏فتحى ‏غانم “‏الموت‏، ‏الحلم‏، ‏الرؤيا‏ (‏القبر‏/‏الرحم) من ‏(‏ص‏108-136)- عدد‏ ‏يوليو‏ 1983 – مجلة الإنسان‏ ‏والتطور.‏

[28] – يحيى الرخاوى، مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، ونشرت فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” المجلس الأعلى للثقافة، 2007.

[29] – جاستون بشلار ” حدسُ اللَّحظة ” ترجمة: رضا عزوز، عبدالعزيز زمزم، الدار التونسية 1986

[30] – ندوة “إشكالة الزمن فى الحياة والمرض النفسى والعلاج الجمعى” قدمت فى شهر مارس  1988.

[31] – يحيى الرخاوى، مجلة الإنسان والتطور، عدد إبريل 1994 ، ص 120-124

[32] – Imprinting

[33] – Association

[34] – Peak Experience

[35] – Unfolding

[36] – أنظر للهامش رقم (4)

[37] – Concretized

[38] – Concretization

[39] – هذا ما جاء بالدراسة الأولى حين كنت أتحدث عن “الوعى بالموت”، وليس عن “وعى الموت”. (حَبَك الوليد دثاره كفنا، وبلا رثاء وسّدوه لحده.. مهدَا، كتبوا عليه بلا دموع: “ما عاش من لم يولد”: يحيى اسوان 23-1-1981)

[40] – Axon Self

[41] – Sandor Rado (1891-1982) Adaptation Psychodyna

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *