الرئيسية / نجيب محفوظ / دورية نجيب محفوظ / مصر فى “وعى محفوظ” عبر قرنين، تتجلى فى: “حديث الصباح والمساء”‏

مصر فى “وعى محفوظ” عبر قرنين، تتجلى فى: “حديث الصباح والمساء”‏

دورية نجيب محفوظ

العدد الرابع – ديسمبر 2011

نجيب محفوظ والسينما

 مركز نجيب محفوظ

والمجلس الأعلى للثقافة

مصر فى “وعى محفوظ” عبر قرنين، تتجلى فى:

“حديث الصباح والمساء”

استهلال

هذه دراسة نقدية متعددة الأجزاء (لا أعرف كم حتى الآن)، وهذا المقال هو الجزء الأول منها: مجرد مقدمة، وقد كتبتُ معظمها منذ أحد عشر عاما وقدمتُها فى احدى الندوات الثقافية لجمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى بتاريخ 3 مارس سنة 2000، إلا أننى ترددت فى نشرها لشعورى بحاجتها إلى مزيد من البحث والمراجعة، وحين عدت إليها الآن، وقمت بتحديثها وجدت أنها سوف تحتل مساحة تفوق المتاح لمقال واحد فى هذه الدورية الغراء، فقررت أن أنشر ما تيسر منها منتظرا السماح بإكمالها إن جاز ذلك.

‏ مقدمة

سألت‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏ذات لقاء وسط أصدقائه ومحبيه: ‏أى ‏أعماله‏ ‏لم‏ ‏ينل‏ ‏حقه‏ ‏من‏ ‏النقد‏ ‏أو‏ ‏البحث أو منهما معا، فأجاب على الفور “حديث الصباح والمساء”، ولم أكن قد قرأته بعد، لا أعرف السبب، فخطرت لى فكرة تقديمه فى الندوة الثقافية الشهرية لجمعيتنا، وأعلنتها له مترددا، وتعجبت أنه قال: “يا ليت”، وهو يعرف تواضع هذه الندوة وخصوصية المشاركين فيها، برغم إصراره على تشجيعى لمواصلتها، ولومى لوما شديدا إن اعتذرت عنها أو فكرت فى إيقافها، حفزنى ترحيبه، ربما تمهيدا لمناقشته، كما فرحت أننى سأغطى بذلك بعض ما تنقصنى قراءته من أعماله، وتم ذلك فعلا فى التاريخ السالف الذكر، وكنت أحد المقدِّمين بالاشتراك مع الصديق الأستاذ يوسف عزب المحامى (1)

رجعت الآن إلى ما قدمت آنذاك، وبرغم أنه بلغ عشرات الصفحات، إلا أننى رأيت أنه ليس أكثر من عناصر دالة لمحتوى كتاب كامل يمكن أن يكشف لنا وجه مصر حاضراً الآن عبر قرنين من الزمان، من خلال إبداع هذا الوعى المصرى الفريد، وتحديدا من خلال عمل واحد بهذه الكثافة، عمل يتحدى بمنهج بديع برغم صعوبته البالغة.

بعد تقديم الندوة وكتابة مسودة هذه الأطروحة، عدت أسأله بإلحاح ثقيل إن كان قد كتب هذا العمل العبقرى بنفس الترتيب الذى نشر به أم أنه كتبه مسلسلاً متتابعا بالطول، ثم أعاد ترتيبه بهذه الصورة الأبجدية: ألف باء: أحمد محمد إبراهيم، أحمد عطا المراكيبى،… حتى وردة حمادة القناوى، ليختمه بـ .. يزيد المصرى؟ أجابنى بلا تردد أنه كتبه كما نشر، زاد سخفى فأعدت عليه السؤال، فسامَحَنِى وجهه وهو يجيب نفس الإجابة.

الجغرافيا التاريخية والإبداع

سجلت فى أكثر من مناسبة وموقع علاقتى الضعيفة جدا بما هو “تاريخ”، وشكوكى في مصداقية ما يصلنا تحت رايته من أول السير الذاتية حتى ما يسمى “علم التاريخ”، بغض النظر عن الوثائق الرسمية، مما أسميته أحيانا “الكذب الموثق”، كل ذلك مع كل احترامى لجهود علمائه، وللمؤرخين عامة، وتقديرى لجهودهم، وقد سبق أن عددت المصادر الأخرى الأهم التى يمكن أن نستلهم منها التاريخ، بما فى ذلك تاريخنا، وكان من أهمها الإبداع الأدبى خاصة، بل وأشرت تحديدا إلى أهمية مسودات الإبداع بنفس القدر وربما بقدر أكبر، ومع أننى أنتمى إلى الفكر التطورى بكل حماس ويقين، إلا أننى أستقى معارفى من واقع “الآن”، أكثر من أى زمن آخر، القاعدة الأساسية: “هنا والآن”، هى أساس ما أمارسه أثناء العلاج عامة، والعلاج الجمعى خاصة، وهى قاعدة تضعنى مع مريضى ومرضاى واقعا “حاليا” فى “بؤرة حدْس اللحظة” بتعبير جاستون باشلار.

هدتنى هذه الممارسة من منطلق فكرى البيولوجى التطورى، إلى منهج إكلينيكى لقراءة التاريخ والحياة، حيث رحت أعتبر دَنَا DNA مرضاى، مثله مثل دناى: الكتاب الأساسى الأوْلَى بالقراءة إذا كنت أريد أن أعايش مرضاى ونفسى حاضرا يحتوى تاريخنا معا، وتطور بى الأمر إلى أن أعتبر مريضى، وبالذات من يسمونه المجنون (الذهانى)، “نصّا بشريا” بكل معنى الكلمة، نصّاً يحتاج لقراءة آنية ناقدة، حالة كونه يتفاعل “هنا والآن”، مع نص بشرى آخر، قابل للقراءة أيضا، هو الطبيب أو المعالج، بحيث تتاح الفرصة أن يتعاونا لإعادة تشكيلهما من خلال علاقة مهنية مبدعة، حتى أننى أسميت هذا العلاج “نقد النص البشرى”، وقد ساعدنى ذلك أن أواصل عزوفى عن الاهتمام بأولوية التشخيص، بمعنى وضع لافتة، جامعة مانعة على نص بشرى بهذا التعقيد والروعة والتحدى، وصرت أعتبر آلية التشخيص بمثابة عملية غير علمية، وأحيانا غير أخلاقية، فضلا عن أنها غير مفيدة إلا لأغراض تنظيمية إحصائية (مغتربة غالبا).

حين هممت بالقراءة الأولى للرواية فوجئت بإبداع يَمْثُلُ أمامى مستعرضا بكل عنفوانه، وهو يفرد ذراعيه ممسكا بالهمزة من ناحية، حتى الياء الناحية الأخرى، وهو يتحدى، فرحت أقرأه كما اعتدت، أن أقرأ محفوظ، ولكن بتركيز خاص، وجهد جهيد، فأنا أقرأه عادة، مثلما أقرأ الشعر الحقيقى: على أكثر من مستوى من مستويات الوعى معا، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيا، فحضرنى وعى آخر، وعى ناقدٌ أساسا، هو الذى يجمع تناثر مرضاى ليصيغ منه توليفا جديدا فتشكيلا جديدا، فأعاننى، فأنا أقرأ مريضى بالعرض والعمق، وهو أسلوب أقرب إلى ما يسمى “التحليل التركيبى” Structural Analysis وهو غير التحليل النفسى الفرويدى خاصة، وقد اكتشفت أننى منذ اتبعت هذا الأسلوب، راحت رؤيتى تتضح أكثر فأكثر حتى تبلورت فى يقين يقول: إن العلاج الحقيقى لا يكون كذلك إلا بإعادة تشكيل النص البشرى، نقداً، بل إنه لا يكون كذلك إلا بإعادة تشكيل النصين البشريين المتفاعلين معا: المريض والمعالج، بالضبط كما لا يكون النقد نقدا إلا بإعادة تشكيل النص الأدبى من وجهة نظر وعى إبداعى آخر هو وعى الناقد. الفرق بين نقد النص البشرى علاجا، ونقد النص الأدبى تشكيلا، هو أن النص البشرى الماثل هو إبداع مجهض، وفى نفس الوقت هو‏ يشارك فى عملية نقده شخصيا، بل ويمتد إلى الاشتراك فى نقد النص البشرى المشارك، أعنى المعالج، إذن: فأنا أقرأ النص البشرى أساسا باعتباره كيانا حيا حاضرا “هنا والآن”، كيانا دائم التغيّر قابلا للتشكل والتجدد، أكثر منه سردا طوليا مسلسلا يحتاج حلاً، أو يقدم تبريرا أو يعدد أسبابا، أو يفك عقدا، من هنا رحت أتعامل مع  الإنسان “الآن” بما هو “حالاً”، خاصة المبدع أو المجنون، فوجدت أن ذلك هو أكثر موضوعية كمصدر‏ ‏لقراءة‏ ‏التاريخ‏ ‏من خلال‏ ‏واقع‏ ‏البيولوجيا‏ ‏الماثلة ‏فيما ‏هو‏ “دنا” DNA، بمعنى أن هذا ‏الذى ‏يتجلى ‏فى ‏كل من الجنون والإبداع خاصة هو ‏الوسيلة‏ ‏الأمثل‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏معلومات‏ ‏عنا نحن البشر، معلومات‏ ‏توازن‏ ‏أو‏ ‏تصحح‏ ‏أو‏ ‏تنسخ‏ ‏ذلك‏ ‏الوهم‏ ‏الآخر‏ ‏الشائع‏ ‏تحت‏ ‏مسمى “علم‏ ‏التاريخ” ‏أو‏ ‏رواية‏ ‏المؤرخين‏، ‏دون إهمال أى من ذلك، حيث أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يصلنا‏ ‏موثقا‏‏، ‏أو‏ ‏منمقا‏، ‏أو‏ ‏محكيا‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏الأمور‏ ‏الاحتمالية‏ المساهمة فى الكشف عن بعض جوانب الحقيقة التى هى عادة مقولة بالتشكيك!‏

عن اسم الرواية

لم أصل بسهولة إلى دلالة جاهزة تعيننى على فهم مغزى اختيار اسم هذه الرواية، ولعل من أصعب المهمات على الكاتب عامة هو أن يختار اسما لرواية ما يتكون من كلمة أو اثنتين أو بضع كلمات، بعد أن يكون قد امتلأ بمئات الشخوص، والأحداث والاحتمالات، وتزداد الصعوبة حين تكون الرواية بكل هذا الترامى المستعرض، وقد تصورت، لأدعم فرضى الأساسى، أن هذا الاسم إنما ينبهنا إلى‏ ‏التاريخ‏ ‏الأصدق‏ ‏حتى نعاود معايشته بلا توقف: “صباحَ مساء”، كل صباح وكل مساء بالطول والعرض، فهو ليس‏ ‏حديث‏ ‏الأمس‏ ‏الموثق‏، وهو ‏ليس صباحا بذاته، ولكنه كل صباح وكل مساء، وأى صباح وأى مساء، مما يحضرنا فى “الآن” “حالا”، ومما يحضر فينا بمثل هذا الإبداع المستعرض، وهو يحتوى قرنين من الزمان كعينة ماثلة.

حين‏ ‏خطر‏ ‏ببالى ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏حدْس‏ ‏الكاتب هكذا‏ ‏- ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏قصده‏ ‏واعيا-‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏دفعه‏ ‏للإقدام‏ ‏على ‏هذه‏ ‏المغامرة‏، ‏بأن‏ ‏يتجنب‏ ‏الرواية‏ ‏الطولية‏ ‏الخطية‏، ‏فيقوم‏ ‏بأبْجَدَةِ‏ ‏الشخوص‏ ‏ليحضروا‏ “معا” ‏بكل‏ ‏تحد‏ ‏فى ‏وعى ‏القارئ‏، الذى عليه أن يفتح أذرع كل مستويات وعيه ليتلقى هذا العمل المحيط، بما هو!

قبول التحدى، ودليل مرفوض

يا ترى ما الذى دفع محفوظ، وهو فى قمة نضجه الإبداعى، وبعد الحرافيش وأولاد حارتنا، والثلاثية، أن يجذبنا جذبا إلى هذا الامتداد بالعرض لنتعرف علينا من خلال هذا التكثيف الزمانى فى “الآن” هكذا، بهذه الآلية الإبداعية غير المسبوقة؟ هل ياترى كان فى ذهنه كيف سيتلقى قارئه هذا العمل وهو يقدمه له متحديا بهذه الصورة؟ حضرنى هذان التساؤلان مع تداعياتهما وأنا أقبل التحدّى:

كـتب‏ ‏محفوظ هذا‏ ‏العمل‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏تمام‏ ‏نضجه الإنسانى والإبداعى (‏نشرت‏ ‏الطبعة‏ ‏الأولى ‏سنة‏ 1987) وقد‏ ‏حصل‏‏ ‏على ‏نوبل‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بسنتين‏، ‏ولم‏ ‏ينشر‏ ‏بعده‏ ‏رواية‏ ‏طويلة‏ ‏إلا‏ ‏قشتمر (على حد علمى)‏، وقد أدهشنى ظهور‏ ‏عمل‏ ‏فى هذا‏ ‏التوقيت‏ ‏من‏ ‏مبدع‏ ‏بهذا‏ ‏الحجم‏ ‏بهذا المنهج الفذ الجديد، مما‏ ‏يحتاج‏ إلى ‏وقفة‏ ‏وتفسير.

‏بعد‏ ‏صدمة‏ ‏محاولات‏ ‏القراءة‏ ‏الأولى، ومواجهة درجات مختلفة من المقاومة، لم ‏أجرؤ‏ ‏‏أن‏ ‏أنحى ‏على الكاتب‏ ‏باللائمة‏، ‏الكاتب‏ ‏حر‏، ‏يفعل‏ ‏ما‏ ‏بدا‏ ‏له‏، ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نسعى ‏إليه‏، ‏ونتشاجر‏ ‏معه‏، ‏ونعترض‏، ‏ونختلف‏، ‏ولكن‏ ‏أبدا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏حقنا‏ ‏أن‏ ‏نفترض فيه ما نريد، أو نشترط عليه أن يكتب فى حدود ما نستوعب، علينا نحن، قراءًا ونقادا، أن نبذل جهدا جادا يتناسب ما بذل هو، وأن نحترم كل ما طرح من حيث المبدأ لعلنا نصل، بأية درجة من الحوار، إلى الوُلاف الجديد لنحقق هدف الإبداع، ولكن كيف بالنسبة لهذا العمل بالذات؟

 قبل الندوة المشار إليها خطر لى أن أضع بين يدى المشاركين ممن أعرف دليلا لقراءة العمل، حرصا منى على متابعتهم الجادة، ومشاركتهم المأمولة، وحين جاء أوان النشر الآن عدت إلى هذا الدليل فوجدته حلاًّ سخيفا خشيت أن يمثل وصاية على تلقائية القارئ بشكل أو بآخر، وكان أهم ما فيه هو التوصية بقراءة النص كما هو، ثم التوصية بإعادة قراءته – لمن شاء – مسلسلا طوليا بتتابع تاريخى‏ ‏قمت بترتيبه طوليا على الحاسوب، ثم العودة ثانية إلى قراءة النص كما كتب، وقد يتكرر ذلك، وقد وجدته حلا ماسخا رفضت أن أضمنه التحديث الحالى، كما رفضت حتى أن أضعه فى الهامش ‏ ‏بدءا‏ ‏بـ ‏”‏يزيد‏ ‏المصرى (‏ص‏ 216). ثم “‏فرجة‏ ‏الصياد‏” (ص‏175) ‏… حتى آخر الأحفاد.

‏سيرة‏ ‏ذاتية‏ “جماعية”!!‏

هذا‏ ‏هو‏ ‏العمل‏ ‏الثانى ‏الذى ‏أقوم‏ ‏بقراءته‏ ‏-‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏نقدية‏ ‏-‏ ‏حالة كونى‏ ‏أعرف‏ ‏كاتبه‏ ‏شخصيا‏، ‏أعرفه‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏حميمة‏ ‏وخاصة‏ ‏تماما‏، ‏أعرفه‏ ‏ونحن‏ ‏نجتاز‏ معا ‏فترة‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏وأهم‏ ‏فترات‏ ‏حياته‏/‏حياتنا‏، ‏أعرفه‏ ‏عن‏ ‏قرب‏ ‏عميق‏ ‏وجميل‏، ‏وأنا‏ ‏عادة‏ ‏لا‏ ‏أرحب‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏ ‏الاقتراب‏ ‏أصلا‏، ‏خصوصا‏ ‏الاقتراب من‏ ‏كاتب‏ ‏أحبه‏، ‏وأفضل‏ ‏أن‏ ‏أعيش‏ ‏أعماله‏ ‏بالصورة‏ ‏التى ‏أرسمها‏ ‏له‏، بحيث تعاد صياغته لى جديدا من خلال كل عمل‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏، ‏فأستطيع‏ ‏أن‏ ‏أحاور‏ ‏تلك الصورة ‏التى ‏نسجها‏ ‏خيالى ‏خالصة من حضوره الشخصى‏، ‏كنت‏ ‏-‏ ‏وما‏ ‏زلت‏ ‏-‏ ‏أخشى ‏من‏ ‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏مبدع‏ ‏بذاته‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏تتداخل‏ ‏صورته‏ ‏شخصا‏ ‏لحما‏ ‏ودما‏، ‏مع‏ ‏صورته‏ ‏التى ‏نسجها‏ ‏له‏ ‏خيالى، خشية أن‏ ‏يعشى ‏بصرى ‏من‏ ‏بهر‏ ‏حضوره‏ ‏فيفسد‏ ‏تحقيق‏ ‏معايشة‏ ‏نصه‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏، وأيضا خوفا من أن أكتشف فيه – شخصيا – ما لا أحب أن أراه، ‏حدث‏ ‏هذا‏ ‏منى فى خبرة مع ‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏، ‏ومع‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏، ‏ومع‏ ‏غيرهما‏. ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أتكلم‏ ‏هنا‏ ‏عن‏ ‏منظارى ‏المهنى، ‏فأنا‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أخلعه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أستطيع‏ ‏حين‏ ‏أقترب‏ ‏ممن‏ ‏أحب‏، ‏نصًّا‏ ‏كان‏ ‏أو‏ ‏شخصا‏، ‏لكننى ‏أتكلم‏ ‏عن‏ ‏مجرد‏ ‏الاقتراب الواقعى‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏المبدع‏ ‏حتى لا ‏تصل‏ ‏لى ‏معلومات‏ ‏وتفاصيل‏ ‏قد‏ ‏تفسد‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه تصورى أو خيالى.

‏ بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏بالذات:‏ ‏‏كان‏ ‏لزاما‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أستبعد‏ ‏صورة‏ ‏الكاتب‏ ‏شخصا‏، ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏لأن‏ ‏العمل‏ ‏بدا‏ ‏لى ‏بمثابة‏ ‏إبداع‏ “‏واقع‏ ‏موضوعى”، ‏أوقع‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏التاريخى، وأشمل من الواقع الحالى، ‏فكيف‏ ‏أستثنى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الواقع‏ ‏كاتبه‏، ‏بل‏ ‏كيف‏ ‏أستثنى ‏منه‏ ‏نفسى متلقيا أو ناقدا، ‏ولا‏ ‏يكفى ‏لفض‏ ‏هذا‏ ‏الإشكال‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏بالذات‏ ‏أن‏ ‏أكرر‏ ‏– ‏لنفسى ‏أولا –‏ ‏أن‏ ‏شخص‏ ‏المبدع‏ ‏لحما‏ ‏ودما‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏بالضرورة‏ ‏ذاته‏ ‏المبدعة‏، ‏لكنه‏ ‏أيضا‏ ‏ليس‏ ‏شخصا‏ ‏آخر‏،‏ ‏فكيف‏ ‏أواصل‏ ‏قراءة‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ ‏وأنا‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏القرب‏ من مبدعه ‏هكذا‏؟

عرفت‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏الإنسان‏ عن قرب ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏خمس‏ ‏سنوات‏، (كتبت أصل هذه الأطروحة سنة 2000) ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏رسمت‏ ‏له‏ ‏صورة‏ ‏فى ‏مقدمة‏ ‏كتابى “قراءة فى نجيب محفوظ ‏” (2) لم‏ ‏تختلف‏ ‏كثيرا‏ ‏عما‏ ‏لقيته‏ ‏بها‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏فإنى ‏أقرأه‏ ‏مبدعا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏عمل‏ ‏على ‏حده‏ ‏باعتباره‏ ‏شخصا‏ ‏آخر‏ ‏جديدا‏ ‏على ‏تماما‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏ساعدنى ‏فى ‏تخطى بعض ‏‏الصعوبة‏ ‏الحالية‏.‏

حين رحت أقرأ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏الحالى – برغم كل هذا التحفظ – وجدته شخصيا حاضرا فيه بجرعة أكبر من أعمال كثيرة، بما فى ذلك ‏أصداء‏ ‏سيرته‏ ‏الذاتية‏ ‏التى (كنت) ‏أقوم‏ ‏بتكملة‏ ‏دراستها‏ نقدا ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏(سنة 2000)‏، ‏ثم إنه خطر ببالى أن هذه هى سيرتنا نحن الذاتية، حيث افترضت أن المبدع المنتمى لناسه وزمانه يمكن أن يستوعب هذا وذاك (الناس والزمان) حتى يصبح “هو” نفسه ممثلا لما هو “نحن”، وكأنه يكتب سيرتنا الذاتية ‏بالأصالة‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏والنيابة‏ ‏عن‏ ‏ناسه دون أن يظهر بشخصه ولا بظله ولا برمزه أصلا، لكنه يظل يمثلنا، أو على الأقل يمثل طبقة بذاتها منا، وقد وصلنى هنا أنها الطبقة الوسطى ‏بأكملها‏ ‏عبر‏ ‏قرنين‏ ‏من‏ ‏الزمان‏، إلا أنه أحضرها لنا لتحل مستعرَضَةً بكل هذا الاتساع فى وعينا “الآن” لعلنا نرى ما هو نحن: هكذا!

حتى يتحقق هذا الفرض، علينا أن نتصور ان‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هو‏ ‏هو من نعرفه فردا‏، على الأقل وهو يبدع هذا العمل، فما وصلنى هو أنه قد استطاع أن يحتوى ‏ناس‏ ‏تاريخه‏، ‏تاريخنا‏، ‏فامتد‏ هذا وذاك فى وعيه الإبداعى ‏ليصبحا‏ ‏جغرافية‏ ‏أمكنته‏، ‏أمكنتنا‏، ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏يرسمنا‏ ‏بالأصالة‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏والنيابة‏ ‏عنا‏، “حالا” “الآن” ‏بمعنى ‏أنه ‏احتوى، ‏واحتوى، ‏واحتوى، ‏وتمثل‏ ‏وتمثل‏ ‏حتى ‏هضم‏ ‏واستوعب،‏ ‏فأصبح‏ ‏ناس‏ ‏زمانه‏ ‏ووعى ‏ناسه‏، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏كونه‏ ‏شخصا‏ ‏ولد‏ ‏وكبر‏ ‏ودرس‏، ‏وتخرج‏، ‏وتوظف‏، ‏وأبدع‏، ‏ونال‏ ‏التقدير‏ ‏والجوائز‏ ‏وتزوج‏ ‏وأنجب‏، ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أقصد‏ ‏بهذا‏ ‏تمجيدا‏ ‏أو‏ ‏مديحا‏، ‏بل‏ ‏إننى ‏أعنى ‏تحديدا‏: ‏إن‏ ‏محفوظ‏ ‏بما‏ ‏عاشه‏ ‏طول‏ ‏الوقت ‏وسط‏ ‏الناس‏ ‏ملتحما‏ ‏بنبضهم‏، ‏مسامحا‏ ‏لهم‏، ‏متحملا‏ ‏اختلافهم‏، ‏متعلما‏ ‏منهم‏، ‏مستلهما‏ ‏إياهم‏، ‏قد‏ ‏سمح‏ ‏بذلك‏ ‏لوعيه‏ ‏أن‏ ‏يمتلئ‏ ‏بهم‏، ‏حتى ‏كادوا‏، ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل كمثال‏‏، ‏أن‏ ‏يحلوا‏ ‏محله‏، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يلغوه‏، بل على العكس امتلأ بما “هو” “هم”، ‏فاستطاع أن‏ ‏يفرزهم‏ ‏من‏ ‏بؤرة‏ ‏وجوده‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏ليرسم‏ ‏لنا‏ ‏هكذا‏ ‏فى ‏لوحات‏ ‏جغرافية تاريخية آنية معا (3)، ‏تقول‏ ‏الكثير‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تحتاج‏ ‏منا‏ ‏إلى ‏جدية‏ ‏التلقى، ‏واحترام‏ ‏الجهد‏. بألفاظ أخرى: ‏امتلأ‏ ‏محفوظ‏ ‏بالناس‏، ‏ففاضوا‏ ‏منه‏، ‏وفاض‏ ‏بهم‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الدفق‏ ‏الدال‏ ‏حتى ‏حضروا “معا” فى هذه البانوراما‏ ‏‏‏متعدد‏ة ‏الحضور‏ ‏والتجليات معا.

أعترف أننى منذ البداية وبعد عدة قراءات فوجئت‏ ‏بهذا‏ ‏الزخم‏ ‏الدافق‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏والأحداث‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الحيز‏ ‏المحدود‏ ‏من‏ ‏الصفحات‏ ‏حتى ‏قلت‏ ‏له‏ ‏قبيل‏ ‏الندوة‏،” ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أعرف‏ ‏أنك‏ “عفى” ‏هكذا‏، ‏فضحك‏ ‏ضحكته‏ ‏الواسعة‏ ‏المحتوية‏، ‏وهو‏ ‏يقول‏” ‏لا‏ ‏يا‏ ‏شيخ‏”؟!!‏

‏ ‏هذه‏ ‏المفاجأة‏ ‏المتجددة ‏فاجأتنى ‏أكثر وأنا‏ ‏أتبين‏ ‏حجم‏ ‏قدرته‏ ‏المغيرة‏ ‏على ‏وعى ‏القارئ والناقد معا،‏ ‏وهى ‏من‏ ‏نفس‏ ‏نوع‏ ‏المفاجأة‏ ‏التى ‏فاجأتنى ‏بها‏ ‏عدوانيته‏ ‏الرائعة‏ ‏المبدعة‏ ‏فى “ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة‏”، ‏التى ‏ساحت‏ ‏فيها‏ ‏دماء‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏فرط‏” ‏القتل‏: ‏بين‏ ‏مقامىْ ‏العبادة‏ ‏والدم” ‏وهو‏ ‏العنوان‏ ‏الذى ‏اخترته‏ ‏لقراءتى ‏لذلك‏ ‏العمل‏ (4)، ‏وحين‏ ‏فوجئت هنا‏ ‏هكذا من جديد‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أشفق‏ ‏عليه‏ ‏وعلى ‏من‏ ‏حوله‏ ‏وأنا‏ ‏أتصور‏ ‏زخم‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏وعيه‏، ‏مع‏ ‏احتفاظه‏ ‏بمرونة‏ ‏تواجده‏، ‏ومسامية‏ ‏تلقيه‏، ‏وسماح‏ ‏حريته‏.‏

الخلاصة‏: ‏إننى ‏قرأت‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏وأنا‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏البشر‏ ‏ليسوا‏ ‏إلا‏ ‏هو‏، ‏الذى ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏هو‏.‏

‏‏خيوط‏ ‏الذاكرة‏ ‏ونسيج‏ ‏الإبداع

لا‏ ‏أملك‏ ‏قبل‏ ‏الدخول فى هذه المقدمة‏ ‏إلى بعض تفاصيل ‏النص‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏ملاحظة‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هامشا‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏المتن‏، ‏إلا‏ ‏أننى ‏وجدتها‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏قراءتى ‏للعمل‏، ‏وهى ‏تتعلق‏ ‏بمسألة‏ ‏الذاكرة‏ ‏والسن‏:

‏ الشائع‏ (‏والثابت‏ ‏علميا‏ أيضا) ‏أن‏ ‏الذاكرة‏ ‏تتدهور‏ ‏مع‏ ‏التقدم‏ ‏فى ‏السن‏. ‏وثمة‏ ‏بحوث‏‏، ‏وقياسات‏،‏ ومعلومات كثيرة‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏ذلك‏، ‏بل‏ ‏تثبته‏، ‏وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏قد‏ ‏كتب‏ ‏والكاتب‏ ‏عمره‏ ‏حوالى سبع وسبعون ‏سنة‏، ‏وبالقياسات العادية فى هذه السن يحتاج الكاتب لكى ‏يكتب عملا روائيا‏ ‏خطيا‏ ‏مسلسلا‏ ‏طوليا‏ ‏كالعادة‏ ‏إلى ‏ذاكرة‏ ‏تفوق‏ ‏المستوى ‏العادى ‏لشخص‏ ‏فى ‏مقتبل‏ ‏العمر‏، فما بالك ‏إذا‏ ‏كُتِبَ‏ ‏العمل‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏التكثيف‏، ‏والتوفيق‏، ‏والحبكة‏، ‏والتداخل‏، ‏والتبادل‏، والتدقيق؟ ‏لابد وأنه‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏حضور ذاكرة خاصة قادرة‏ ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏ ‏مما يحتاجه الحكى الإبداعى الطولى‏، ‏فإذا‏ ‏أضيفت احتمالات‏ ‏تأثير‏ ‏مرض‏ ‏السكر‏ ‏وبعض‏ ‏ارتفاع‏ ‏متقطع‏ ‏فى ‏ضغط‏ ‏الدم‏، ‏فإن‏ ‏الأمر‏ ‏يصبح‏ ‏دعوة‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏-‏ ‏علميا‏‏-‏ ‏فى طبيعة‏ ‏الذاكرة‏ ونشاطها عند المبدعين خاصة، للتعرف على ما‏ ‏يحافظ‏ ‏عليها هكذا‏ بمرور السن، ‏إن هذا‏ ‏العمل‏، ‏بهذه‏ ‏الصورة‏، ‏فى ‏هذه‏ ‏السن مع‏ ‏هذه‏ ‏الظروف‏ ‏الصحية‏، ‏يقول:‏ ‏إننا‏ ‏نعرف‏ – عامة وعلميا – ‏القليل‏ ‏عن ماهية ما نسميه‏ “‏الذاكرة”، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تتوجه‏ ‏الذاكرة‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏له‏ ‏دلالته‏ ‏وغايته المحورية الضامّة عند المبدع خاصة، يظل هذا‏ ‏الشخص‏ ‏محتفظا‏ ‏بما‏ ‏يجعل ‏هذه‏ ‏الوظيفة تقوم بدورها‏ ‏بكفاءة‏ ‏لا‏ ‏تختل‏ ‏لا‏ ‏بالسن‏ ‏ولا‏ ‏بالمرض‏، ‏وقد‏ ‏تأكدت‏ ‏من ‏ذلك‏ ‏وأنا‏ ‏أعاشر الكاتب‏ ‏وأقارن‏ ‏ذاكرته‏ ‏بذاكرتى مثلا، ‏وبذاكرة‏ ‏بقية‏ ‏الحرافيش‏ ‏الأكبر‏ ‏منى ‏سنا‏، ‏وبذاكرة‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏المريدين‏ ‏المحيطين‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏مختلف‏ ‏الأعمار‏، ‏ووجدت‏ أن ‏كاتب‏ ‏هذا‏ ‏النص‏، ‏وهو‏ ‏يقترب من التسعين‏ ‏بسلامة‏ ‏الله‏، ‏هو‏ ‏أقدرنا حفاظا على ذاكرة تفوقنا‏ ‏‏جميعا‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏ظروفه الصحية، ‏وتوقفه‏ ‏الاضطرارى ‏عن‏ ‏القراءة‏ ‏والمتابعة‏، ‏بل‏ ‏حتى ‏عن‏ ‏الاستماع‏ ‏للمذياع‏ ‏أو مشاهدة‏ ‏التلفاز‏ ‏مما‏ ‏كان‏ ‏خليقا ‏أن‏ ‏يخل‏ ‏أكثر‏ ‏بحدة‏ ‏الذاكرة‏، ‏نتيجة‏ ‏لفتور‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏الاستعمال‏.‏

أعلنت مرار، وكتبت، أننى أتعلم معارفى النفسية من الإبداع أكثر مما أتعلمها من المراجع والدوريات النفسية والطبنفسية (5)  وفيما يلى بعض ما تعلمته من إضافات وإبداع ما هو ذاكره وما هو “وعى” من هذا العمل بوجه خاص.

إن‏ ‏رؤيتى ‏لمخزون‏ ‏هذه‏ ‏الذاكرة‏ ‏بهذه‏ ‏المتانة‏ ‏والتنوع‏ ‏والثراء‏ ‏معا‏، ‏ثم‏ ‏بالطريقة‏ ‏التى ‏عُرِض‏ ‏بها‏ ‏النص‏، ‏ثم‏ ‏بمحاولاتى ‏لإعادة‏ ‏بنائه نقدا،‏ ‏‏جعلنى أعود لسؤال ‏الكاتب‏ ‏مباشرة‏ ‏عن‏ مراحل كتابته مرة أخرى، أسأله بنفس السخف دون أدنى احتمال لعدم التصديق: ‏هل‏ ‏كتب‏ ‏النص‏ ‏طوليا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏حتى ‏انتهى ‏به‏ ‏إلى ‏ابن‏ ‏أدهم‏ ‏حازم‏ ‏سرور‏ (‏الذى ‏لم‏ ‏يذكره‏ ‏بالاسم‏)، ‏فأكد‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏كتبه‏ ‏أبجديا‏ ‏هكذا‏ ‏من‏ ‏البداية‏، ‏فألححت‏ ‏عليه‏ ‏وكنت قد رسمت شجرات‏ ‏العائلات‏ ‏المتوازية‏ ‏ورحت أشرح له ما فعلت، وأننى أخطات عدة مرات وصححت عدة مرات قبل أن أنجح نجاحا لست متأكدا من كامل إتقانه، فعلّق بأن ‏الشجرة‏ ‏كانت‏ “فى ‏رأسه ‏فقط”، ‏إلا أننى تماديت وأنا‏ ‏أبدى رأيى، ربما بسخف أقل، أنه لابد‏ ‏أن‏ ‏الحبكة‏ ‏والمراجعة‏ ‏والإحكام قد ‏تمت‏ ‏بعد‏ ‏المسودات‏ ‏الأولى، ‏فأجاب‏ ‏بالإيجاب‏، وقد تصادف أن المرحوم “محسن زايد” كان حاضرا هذا الحوار، وكان فى نفس الوقت يكتب سيناريو هذا العمل ليُعْرض فيما بعد فى مسلسل جذب الناس جميعا، بنفس الاسم، وعرضت على محسن أن أعطيه شجرات العائلات التى رسمتها لعلها تعينه فى إبداعه للسيناريو، فشكرنى وأخبرنى أنه استأجر شاليها فى منتجع نخيل سقارة (بالم ترى) لإنجاز هذا العمل، وأنه رسم العائلات على الحائط – باذن المسئولين مؤقتا – وأنه كان يجلس فى مواجهة أشجار العائلات وفروعها أثناء كتابته السيناريو، ففرحت، وتيقنت أنه سيكون عملا رائعا كما كان فعلا.  (6)

انتماء الكاتب للغته وناسه دون غيرهما

لم‏ ‏ينفعنى ‏هذا الترتيب الأبجدى المتحدى‏ فى ‏فهم‏ ‏آليات‏ هذا ‏التفكيك‏ ‏فالتركيب الإبداعى‏ ‏فحسب‏، ‏وإنما ‏أكد‏ ‏لى ‏انتماء‏ ‏هذا‏ ‏الكاتب‏ ‏إلى ‏لغته‏، ‏ووطنه‏، ‏وعالمه‏، ‏فى المقام الأول حتى ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يضع‏ ‏فى ‏اعتباره‏ ‏أى ‏احتمال‏ ‏للترجمة‏، ‏وقد أبديت له تحفظى هذا، وأنه‏ ‏لو‏ ‏ترجم‏ ‏هذ‏ا ‏العمل وهو مرتب‏ ‏بهذه‏ ‏الأبجدية‏ ‏العربية‏ ‏فقد‏ ‏يفقد‏ ‏دلالاته‏ ‏الظاهرية‏ ‏حتى لو وضعت‏ ‏الحروف‏ ‏العربية‏ ‏بشكلها‏، ‏ورمزها‏ ‏بجوار‏ ‏اللغة‏ ‏الترجمية‏، وقد علق هو على ذلك بأن هذا لم يشغله أبدا فى أية مرحلة من المراحل منذ كتابته هذه الرواية حتى النشر.

حضرتنى ‏صورة‏ ‏بعد‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏لكيفية‏ ‏كتابة‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ ‏استلهمتها‏ ‏من‏ ‏منظر‏ ‏سيدة‏ ‏تمسك‏ ‏بالإبر‏ ‏الكبيرة‏ ‏لشغل‏ ‏خيوط‏ ‏السترات‏ ‏الصوف‏ ‏المنسوجة‏ ‏يدويا‏ (‏البلوفرات) ‏المتعددة‏ ‏ألوان‏ ‏خيوطها‏، ‏وهى ‏تمسك‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏إبرتين‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، (‏أربعة‏ ‏أحيانا‏) ‏ثم‏ ‏تمارس‏ ‏نسيجها‏ ‏بهذا‏ ‏الخيط‏ ‏مرة‏، ‏وذاك‏ ‏الخيط‏ ‏مرة‏ ‏حتى ‏ترسم‏ ‏ما‏ ‏شاءت‏ ‏من‏ ‏أشكال‏ ‏بمختلف‏ ‏انواع‏ ‏وألوان‏ ‏الخيوط‏، ‏فتصورت‏ ‏محفوظ‏ ‏وهو‏ ‏يمسك‏ ‏بستين‏ ‏خيطا‏ معا (‏عدد‏ ‏الشخوص‏ ‏الرئيسيين‏ ‏تقريبا‏)، ‏يستجلبهم‏ ‏من‏ ‏الذاكرة والوعى الخلاق‏، ‏ثم‏ ‏يروح‏ ‏ينسج‏ ‏هذا‏ ‏النسيج بهذا الشكل‏ ‏ ‏ ‏المعجز‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏أتمه‏ ‏لم‏ ‏تجد‏ ‏فيه‏ “غرزة” ‏واحدة‏ “‏ساقطة‏” ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعيبه‏.‏

إن‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏ـ‏ ‏هكذا‏ ‏ـ‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏خيوط‏ ‏ذاكرة‏ ‏شديدة‏ ‏المتانة‏ ‏شديدة‏ ‏التنوع‏، ‏وإلى ‏نساج‏ ‏ماهر‏ ‏رائق‏، ‏يتمتع‏ ‏بمهارات‏ ‏لا‏ ‏مثيل‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏اليقظة‏، ‏والتربيط‏، ‏والتوقيت‏، ‏والاستعادة‏، ‏والتدقيق‏، ‏تسمح ‏له‏ ‏بامتلاك‏ ‏كل‏ ‏الخيوط‏ ‏معا‏، ‏فلا‏ ‏يفلت‏ ‏منه‏ ‏خيط واحد‏، ‏ولا‏ ‏يتداخل‏ ‏لون‏ ‏خيط‏ ‏فى ‏لون‏ ‏آخر‏. ‏

الفروض:

انتهيت من معايشة هذا النص إلى فرض أساسى يربط بين الذاكرة والوعى والإبداع هكذا: إن‏ ‏الذاكرة‏ البشرية ‏ليست‏ ‏مخزنا‏ ‏سلبيا‏، ‏ولا‏ ‏أرشيفا‏ ‏مبرمجا‏، ‏بل‏ ‏هى ‏ثروة‏ ‏الوعى ‏الحى ‏النابض‏، وهى ‏تحضر‏ ‏-‏ ‏لا‏ ‏تُستدعى فقط، ‏وتتشكل‏ باستمرار – ‏لا‏ ‏تستعاد‏ فقط، ‏فهى تتجدد‏ ‏حاضرا‏ – ‏لا‏ ‏توثَّق‏ ‏ماضيا‏ فقط (7)

ثم إن ‏هذا البعد المستعرض بكل زخم حيويته أكد لى فروضا أخرى أعيشها فى ممارستى نقدى للنص البشرى (العلاج) والنص الأدبى (النقد) ومنها:

 إن الحياة برمتها لا “تمر” بقدر ما هى “‏تتجدد”‏، بمعنى أن ‏أحداث الحياة بكل ما تحوى قد تتوارى‏: ‏لا‏ ‏لتختفى ‏لكن‏ ‏لتعود‏، ‏فتتشكل‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏بلغة‏ ‏أخرى ‏فى ‏ظروف‏ ‏أخرى. وهكذا يتجدد ‏ ‏نبض‏ ‏الماضى ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏حاضرا‏ ‏فى ‏خلايانا،‏ و‏يبدو أن محفوظا قد أدرك ذلك بحدسه الإبداعى فقدمه لنا بمستوياته المختلفة، فى أعمال متعددة: ففى الثلاثية، توالت الأحداث شديدة الحبكة على مستوى “الظاهر السلوكى” أكثر وأوضح، أما فى ملحمة الحرافيش فقد دارت الأحداث تعلن “دورية الإيقاع الحيوى” حيث كشفت عن دورات الموت وإعادة الولادة بإلحاح حتى تعرى وهم (ضلال) الخلود (8) فى الدنيا باعتباره هو الموت العدمى الحقيقى، أما فى هذا العمل فقد حضرت الشخوص والأحداث معا فى وعى ممتد مستعرض وصلنى بشكل متعدد المستويات كنوع من ‏تدوير‏ ‏الزمن ليتكثف فيقول أغلب “ما هو” “هنا والآن”:

فى نفس الوقت وصلنى أن هذا العمل تجاوز دورات البطولة والبلطجة والفتونة والانهيار والصعود – التى ميزت ملحمة الحرافيش بوجه خاص – إلى‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏روعة‏ ‏وقيمة‏ “ما‏ ‏هو‏ ‏عادى” ‏جدا‏، بمعنى أنه حاول أن يكشف كيف ‏أن‏ ‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأحداث‏، ‏وكل هؤلاء‏ ‏الشخوص‏ الحاضرة صباح مساء هى ‏أمر‏ ‏عادى‏ ‏يتكرر‏ ‏بتصميم واضح، وهو يتجدد مهما بلغ تكراره، حتى يحضر نابضا فينا الآن، كما أظهر إبداع محفوظ المُعْجِز فى هذا العمل.

خطر لى أن تقديس من هو “عادى” سلباً (حضرة المحترم) وإيجابا (الثلاثية) هو من أهم ما يميز إبداع محفوظ وهو يقدم لنا هذا الشخص العادى باعتباره كونا متكاملا بذاته، وربما نجد فى ذلك تفسيرا لما شغل الناس عن عظمة حضور هذا المبدع – شخصاً – بكل هذه العادية الروتينية، وهوهو الذى يفرز كل هذا الإبداع الخالقى شبه الآلهى.

مرة أخرى: عن‏ منهج‏ ‏القراءة

مثل‏ ‏كل‏ ‏الناس‏، ‏وكل‏ ‏الروايات‏، ‏بدأت‏ ‏قراءة الرواية‏ ‏من‏ ‏صفحة‏ ‏خمسة‏، ‏بعد‏ ‏العنوان‏ ‏والصفحات‏ ‏الخالية‏:

 ‏حرف‏ ‏الألف‏، ‏أحمد‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏، ‏إسم‏ ‏فاتر‏ ‏لا‏ ‏يقول‏ ‏شيئا‏ ‏فى ذاته‏، ‏وسوف‏ ‏نعرف فيما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ ‏هو‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ ‏الشاذلى ‏زوج‏ ‏مطرية‏ ‏بنت‏ ‏عمرو‏، ‏ابن‏ ‏عزيز‏، ‏ابن‏ ‏دواد‏، ‏ابن‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏الذى ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏إلا ‏فى ‏آخر‏ ‏صفحة‏ ‏فى ‏الرواية‏، ‏وحتى ‏اسم‏ ‏الوالد‏ “محمد‏ ‏ابراهيم‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏ ‏كاملا‏ ‏محمد‏ ‏ابراهيم‏ ‏الشاذلى، ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏أيضا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏شخوص‏ ‏الرواية‏ ‏الذين‏ ‏خُصِّصَتْ‏ ‏لهم‏ ‏فقرة‏ ‏مستقلة‏، ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏زوج‏ ‏مطرية‏ ‏التى ‏هى ‏من‏ ‏إحدى ‏شجرات‏ ‏الرواية‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ الطفل ‏أحمد‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏بدأت‏ ‏به‏ ‏الرواية‏، ‏مات‏ ‏بعد‏ ‏بضع‏ ‏صفحات‏، ‏فما‏ ‏معنى‏ ‏أن‏ ‏تبدأ‏ ‏به‏ ‏الرواية‏ ‏هكذا؟ فبلغنى التحدّى منذ البداية!!

نقد النص:

يبدأ‏ ‏النص‏ ‏بطفل‏(‏أحمد‏) ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏متوسطة‏ ‏الحال‏،”يستعيره” ‏أهل‏ ‏أمه‏ ‏ليؤنس وحدة ‏خاله‏ “‏قاسم‏” ‏الطفل‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏سنة‏ ‏تقريبا‏، و‏يمرض‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ (أحمد)، فجأة، ويموت بسرعة، ‏فيحزن‏ ‏عليه‏ ‏خاله‏، ‏ولا‏ ‏يفهم الطفل‏ الخال ‏معنى ‏أو‏ ‏مبرر‏ ‏هذا‏ ‏الفقد‏ ‏القهرى ‏الأقرب‏ ‏إلى ‏الخطف‏ ‏أو‏ ‏الخيانة،‏ ‏يحزن‏ ‏جدا‏ ‏حتى ‏قيل (ص11) ‏”…‏إن‏ ‏حزنه‏ ‏عليه‏ ‏فاق‏ ‏حزن‏ ‏أمه‏ ‏نفسها‏، …‏ولم‏ ‏يسلُ‏ ‏عن‏ ‏حزنه‏ ‏حتى ‏تحطم‏ ‏واقعه‏ ‏وخلق‏ ‏خلقا‏ ‏جديدا‏ ‏لم‏ ‏يجر‏ ‏لأحد‏ ‏على ‏بال..”‏.

هكذا، ومنذ‏ ‏اللحظة‏ ‏الأولى، ‏نواجه‏: ‏الموت‏، ‏والسؤال‏ ‏بلا‏ ‏جواب‏، ‏كما نواجه زخم الحزن‏، ‏والإشارة‏ ‏إلى ‏المفاجآت‏ ‏القادمة‏ ‏لدرجة‏ ‏التخلق‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏فنتذكر أن هذا‏ ‏التخلق‏ ‏المفاجئ‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏آليات إبداع‏ ‏محفوظ‏ ‏المفضلة‏ ‏والتى ‏تبدت‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏الحرافيش‏ ‏وكذلك ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة (9)، يحدث‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏فى ‏بضع‏ ‏صفحات‏ ‏أولى ‏ونحن‏ ‏لا‏ ‏نعلم‏ ‏شيئا‏ ‏عن‏ ‏أى ‏شىء‏.‏

فإذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏النهاية‏، ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏آخر‏ ‏شخص‏ ‏قدمه‏ ‏محفوظ‏ ‏هو‏ الجد‏ ‏الأكبر‏ ‏لأهم‏ ‏سلسلة‏ ‏من‏ ‏سلاسل‏ ‏أشجار‏ ‏الأسر‏ ‏فى ‏الرواية‏، ‏وهو‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى، ‏ولا‏ ‏أقف‏ ‏طويلا‏ ‏أمام‏ ‏الاسم‏ ‏فقد‏ ‏تخلص‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏من‏ ‏فكرة‏ ‏الأسماء‏ ‏الرموز‏ ‏من‏ ‏قديم‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فاسم‏ ‏المصرى ‏هنا قد‏ ‏يحتاج إلى وقفة خاصة، فلفظ المصرى هو اسم أسرة يزيد بالميلاد، وليس بالإشارة إلى منبع هجرته إلى مصر (القاهرة)، فهو سكندرى المنبع، وقد تصورت أن لقب المصرى هكذا قد يدعم الفرض الأساسى لهذه الدراسة، القائل: إن هذه الرواية هى السيرة الذاتية لمصر الطبقة الوسطى عبر هذين القرنين كما خطر لى، لكننى تراجعت، فمحفوظ أعمق كثيرا من كل ذلك.

‏لم‏ ‏تفاجئنا‏ ‏النهاية‏ ‏كما‏ ‏فاجأتنا‏ ‏البداية‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏حين‏ ‏نكتشف‏، ‏أو‏ ‏نتمنى – ونحن مخطئين- ‏أن‏ ‏آخر‏ ‏صفحة‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏أول‏ ‏صفحة‏، ‏حتى ‏كدت‏ ‏أصيح‏ ‏بعم‏ ‏يزيد‏: ‏هو‏ ‏انت‏ ‏هنا؟‏!!، ‏أين‏ ‏كنت‏ ‏طول‏ ‏الرواية‏‏؟

فى ‏هذه‏ ‏النهاية‏ ‏تحدد‏ ‏تاريخ‏ ‏بداية‏ زمن ‏الرواية حيث بدأت ‏قبل‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏بأيام‏، (ص‏160)‏: “… وشهد‏ ‏الرجال‏ ‏نابليون‏ ‏بونابرت‏ ‏على ‏جواده‏ ‏وهو‏ ‏يسير‏ ‏على ‏رأس‏ ‏جنوده‏ ‏أمام‏ ‏المشهد‏ ‏الحسيني… “.، ‏وقد‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحديد‏ (‏أيام‏) ‏يضع‏ ‏أرجلنا‏ ‏على ‏واقع‏ ‏روائى ‏حى، ‏فيبعدنا‏ ‏عن أى‏ ‏تقريب‏ ‏تاريخى ‏محتمل‏، ‏فحتى ‏الوثائق‏ ‏التاريخية‏ ‏لا‏ ‏تحدد‏ ‏الأحداث‏ ‏بالأيام‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بحركة‏ ‏الناس‏، ‏هذا التحديد يدعم الفرض الذى اسميته “الواقع الإبداعى”، الذى هو‏ ‏وعى ‏واقع‏ ‏روائى ‏لعله‏ ‏- ‏كما‏ ‏أشرت‏ ‏-‏ ‏أصدق‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الوثائق‏ ‏والأبحاث الأكاديمية‏ فى كشف عمق وقائع التاريخ.

 ‏من خلال ‏هذه‏ ‏النهاية‏ ‏البداية‏، ينبهنا ‏ ‏الكاتب بطريقة أو بأخرى‏ ‏‏إلى ‏المصير الطبيعى‏ ‏الذى يزيدنا يقظة، ويملؤنا حبا وحياة، فلا نستطيع أن ننسى أننا نسير إلى ‏قبر‏ٍٍ ‏فاتحٍٍ‏ ‏فاه‏، ‏يستقبل‏ ‏الراحلين‏ ‏منا ومن ذريتنا – مثل ذرية يزيد المصرى -‏ الواحد تلو الآخر: (ص 217) “…..‏وشيد‏ ‏الحوش‏ ‏الذى ‏دفن‏ ‏فيه‏، ‏وما‏ ‏زال‏ ‏يستقبل‏ ‏الراحلين‏ ‏من‏ ‏ذريته‏ ‏المنتشرة‏ ‏فى ‏أنحاء‏ ‏القاهرة…”‏. لم‏ ‏تصلنى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏النهاية‏ ‏أية‏ ‏نغمة‏ ‏يأس‏ ‏أو‏ ‏زهد‏ ‏أو‏ ‏حزن‏، ‏بل‏ ‏أكدت‏ ‏لى ‏أن‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏بدأته‏ ‏فى ‏الحرافيش‏، ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يشغل محفوظ وهو يعيد محاولة أن يوصله إلينا من حيث “أن ‏الوعى ‏بالموت‏‏، ‏هو‏ ‏حفز‏ ‏الحياة‏ ‏الأعمق‏ ‏والأرحب”‏. (10)

الطبقة الوسطى

يبدأ‏ ‏التسلسل‏ ‏تاريخا‏ ‏من‏ ‏ثلاثة‏ ‏أصدقاء‏ (‏معارف‏، ‏جيران‏) ‏يكونون‏ ‏أسرهم‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏، ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏عطارين‏ ‏بالإسكندرية‏ ‏قدم‏ ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عصف‏ ‏الوباء‏ ‏بأسرته‏ ‏فكَّرها كرا، ‏وعطا‏ ‏المراكيبى ‏صبى ‏جلعاد‏ ‏المغاورى ‏فى ‏تصليح‏ ‏وعمل‏ ‏المراكيب، ‏والشيخ‏ ‏القليوبى، ‏ويتزوج‏ ‏الثلاثة‏، ‏ويتزاورون‏ ‏ويتناسبون‏، ‏وتتسلسل‏ ‏ذريتهم‏ ‏تتقارب‏ ‏وتتباعد‏ ‏حتى ‏المهندس‏ ‏أدهم‏ ‏حازم‏ ‏سرور‏ ‏عزيز‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى. ‏

الأسر الثلاثة‏ ‏تمثل – ابتداءً -‏ ‏الطبقة‏ ‏الأدنى ‏من‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏حتى ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏وإن‏ ‏‏بدأ‏ ‏صبيا‏ ‏عند‏ ‏جلعاد‏ ‏المغاورى (‏حميه‏ ‏فيما‏ ‏بعد)، إلا أنه ما ‏إن‏ ‏شب‏ ‏حتى ‏تزوج‏ ‏من‏ ‏ابنة‏ ‏معلمه‏ ‏فدخل‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏ثم‏ ‏تصعد‏ (‏ماليا‏) ‏بزواجه‏ ‏أخرى وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏تحريك‏ ‏بعض‏ ‏الفروع‏، ‏وبعض‏ ‏الأسر‏، ‏وبعض‏ ‏الأفراد‏ ‏إلى ‏أعلى، ‏حتى ‏نال‏ ‏ثلاثة‏ ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏داود‏ ‏يزيد‏ ‏رتبة‏ ‏الباشوية‏ (عبد العظيم باشا داود، لطفى باشا عبد العظيم،……)  ‏فقد‏ ‏ظلت‏ ‏احتمالات‏ ‏التواصل‏ ‏والتزاوج‏ ‏والتزاور‏ فيما بينهم ‏قائمة‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏معظم الوقت.

‏وكما‏ ‏حدد‏ ‏محفوظ‏ ‏حضور‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏قبل‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏بأيام‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏دلالة ذلك حالا‏ ‏فإنه‏ ‏بلغ‏ ‏من‏ ‏حرصه‏ ‏على ‏تجسيد‏ ‏الحدث‏ ‏واقعا‏ ‏أن‏ ‏ذكر‏ ‏كيف‏ ‏مرت‏ ‏عليهم‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏مثلما‏ ‏يمر‏ ‏بائع‏ ‏دوم‏ ‏أو‏ ‏فجل، فيحضر الزمن واقعا ماثلا. (ص152) “…وجاءت‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏وذهبت‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يبلغ‏ ‏الشقيقان‏ ‏الوعى ‏فمر‏ ‏بهما‏ ‏نابليون‏ ‏كما‏ ‏يمر‏ ‏بياع‏ ‏الفجل‏ ‏أو‏ ‏بياع‏ ‏الدوم…”‏.

رفض الالتزام بنمطية بدايات متشابهة

لا‏ ‏ينفصل‏ ‏الشكل، ‏خاصة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏المتحدى، عن المضمون، ‏فنلاحظ‏ مثلا ‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏لم‏ ‏يلتزم‏ ‏بنمط‏ ‏معين‏، ‏فى ‏سرده‏، ‏لا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمحتوى ‏الفقرات‏، ‏ولا‏ ‏لبداياتها‏، ‏ولا‏ ‏للإيقاع‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏التزم به‏ ‏-‏ ‏شكلا‏ ‏-‏‏ ‏هو‏ ‏الترتيب‏ ‏الأبجدى، ‏والعزوف‏ ‏قصدا‏ (‏فى ‏الأغلب)‏، ‏عن ‏الإلحاح‏ ‏فى ‏الربط‏، ‏إما‏ ‏ثقة‏ ‏فى ‏القارئ‏، ‏وإما‏ ‏تحديا‏ ‏له‏ ‏بمعنى ‏استثارته‏ ‏وتحريكه‏ ‏ليقوم‏ ‏باللازم‏.‏

لا‏ ‏توجد‏ ‏نمطية‏ ‏محددة‏ ‏التزم‏ ‏بها‏ ‏الكاتب‏ ‏وهو‏ ‏يقدم‏ ‏شخوصه‏، ‏فمرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بالتعريف: هو‏ ‏فلان‏ فقط ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بالتعريف‏ ‏المفصل‏، هو‏ ‏فلان‏ ‏ابن‏ ‏فلانة‏، ‏أو‏ ‏ابن‏ ‏فلان‏، ‏وأحيانا‏ ‏يذكر‏ ‏الترتيب، وأخرى يشير إلى صفة بارزة وقد بدا لى هذا التنوع مقصودا، ومن أمثلة ذلك:

  • مرة بالاسم كاملا والترتيب (زينة سرور عزيز: ص‏103): ‏هى ‏صغرى ‏بنات‏ ‏سرور
  • ومرة بموقعه الأول ونسبته لأمه‏ ‏بدون‏ ‏هو‏ ‏أو‏ ‏هى: (خليل‏ ‏صبرى ‏المقلد‏: ص 76): بكرى ‏زينة‏ ‏صغرى ‏بنات‏ ‏سرور
  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏تاريخيا‏ ‏سردا‏ ‏عاديا مع ذكر الأم والأب معا‏: (عبده محمود عطا المراكيبى: ص 148): الثالث فى ذرية محمود بك ونازلى هانم أو (عزيز يزيد المصرى: ص 152): بكرى يزيد المصرى وفرجة الصياد
  • ومرة‏ ‏بأداة‏ ‏التعريف مع إشارة لعموم الأسرة: (عبد العظيم داود يزيد: ص 145):‏ “.. الإبن‏ ‏الوحيد‏ ‏الذى ‏بقى ‏من‏ ‏ذرية‏ ‏داود‏ ‏باشا…”.
  • ومرة‏ ‏بالصفة‏ ‏المميزة‏ ‏أو‏ ‏فرحة‏ ‏والديه‏ ‏به‏: ‏‏(عامر عمرو عزيز: ص ‏139): “. أول‏ ‏هدية‏ ‏من‏ ‏عالم‏ ‏الغيب‏ ‏تغمر‏ ‏قلب‏ ‏عمرو‏ ‏وراضية‏ ‏بالفرحة‏ ‏والرضا‏”…
  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بفعل‏ ‏يحكى ‏حدثا ‏(يزيد المصرى: ص 216): “وصل‏ ‏إلى ‏القاهرة‏ ‏قبل‏ ‏وصول‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية…”
  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بحكاية‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏سمة‏ ‏الشخص‏ ‏وما‏ ‏شاع‏ ‏عنه: (صدرية عمرو عزيز: ص 129):” ‏قيل‏ ‏عنها‏ ‏بحق‏ ‏نحلة‏ ‏آل‏ ‏عمرو…”.
  • ومرة‏ ‏يبدأ‏ ‏بوصف‏ ‏الشكل‏: (حكيم حسين قابيل: ص 68): “.. ‏الناظر‏ ‏فى ‏عينيه‏ ‏الواسعتين‏ ‏العسليتين…“.

الإيقاع الدافق والزحمة الجميلة

تميز هذا العمل بصفة عامة بإيقاع دافق وزحمة ناتجة، فنرى كيف يتسارع هذا الإيقاع‏ ‏فى تلاحق‏ حتى فى سلسلة مواكب ‏الأموات‏ حتى نكاد نرى ازدحام القبر الذى افتتحه الجد يزيد المصرى: (ص‏ 83): “…‏ورحل‏ ‏الشقيقان‏ ‏فى ‏عامين‏ ‏متعاقبين‏، ‏فى ‏أوائل‏ ‏عهد‏ ‏الاحتلال‏، ‏ودفنا‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏فى ‏القبر‏ ‏الذى ‏افتتحه‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى، ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏حلت‏ ‏بجناحه‏ ‏الحريمى: ‏فرجة‏ ‏الصياد‏، ‏ونعمة‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى ‏وسنية‏ ‏الوراق‏ ‏والجارية‏ ‏آدم‏ ‏فى ‏قبرها‏ ‏الخاص…”.‏

نفس الإيقاع المتسارع يميز أغلب ‏مسيرات‏ ‏الأحداث

“‏عفت‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود” (ص‏157): “ولدت‏ ‏ونشأت‏ ‏بفيلا‏ ‏الأسرة‏…”. “… وبها ختم عبد العظيم باشا داود، وفريدة حسام ذريتهما المكونة من لطفى وغسان وحليم وفهيمة وعفت…”

ثم: (ص 159): “…‏وقامت‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏وتعاقبت‏ ‏الهزائم‏ ‏ثم‏ ‏هل‏ ‏النصر‏ ‏والسلام…” (هكذا‏ ‏من‏ 1952 ‏حتى ‏بعد‏ ‏كامب‏ ‏ديفيد‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏من‏ ‏سطر‏)‏

وأيضا: نلقى نفس الدفق حين يحكى ‏رواية‏ ‏كاملة‏ ‏فى ‏بضعة‏ ‏أسطر: (ص 46): “…وكان‏ ‏ابناه ‏سرور‏ ‏ومحمد‏ ‏قد‏ ‏صارا‏ ‏ضابطين‏ ‏طيارين‏، ‏وانقرضت‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏بقضاء‏ ‏لا‏ ‏راد‏ ‏له…‏”

وكذلك: فى ‏تعاقب‏ ‏الصفات‏ ‏من‏ ‏سبب‏ ‏واحد‏: (ص 72): (‏حليم‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود) ‏”…وبتدليل‏ ‏أمه‏ ‏له‏: ‏أتقن‏ ‏السباحة‏ ‏والكرة‏ ‏والقمار‏ ‏والخمر‏ ‏والعشق‏ ‏والمزاح‏ ‏وامتاز‏ ‏أيضا‏ ‏بصوت‏ ‏عذب…‏ “.

وقد رجحتُ أن تسارع الإيقاع هكذا هو مسئول جزئيا عن سرعة حضور شخوص كُثْرِ فى زحام دال فى كثير من الأحيان مثل ذكر الأولاد معا، وهو الأمر الذى‏ ‏تكرر‏ ‏‏حتى ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏استشهاد‏ات كثيرة، فنكتفى بهذه العينة:

(ص 90): “…ولدت‏ (‏راضية‏) ‏فى ‏بيت‏ ‏الزلط‏، ‏وتبعتها‏ ‏شهيرة‏ ‏وصديقة‏ ‏وبليغ‏!!…” (ص92): “…وأنجبت‏ راضية ‏مع‏ ‏الأيام‏ ‏صدرية‏ ‏وعامر‏ ‏ومطرية‏ ‏وسميرة‏ ‏وحبيبة‏ ‏وحامد‏ ‏وختمت‏ ‏بقاسم…‏ “.

وأحيانا تشتد الزحمة حتى نكاد نتوه وسط تدافع الحضور حتى فى التزاور مثل: “…وأقبل‏ ‏رجال‏ ‏الأسرة‏ ‏ونساؤها‏ ‏للتعارف‏ ‏والتوادد‏، ‏سرور‏ ‏شقيق‏ ‏زوجها‏، ‏وعزيز‏ ‏حموها‏، ‏والدكتور‏ ‏داود‏، وحرمه سنية هانم الوراق وابنهماعبد العظيم، ومحمود عطا المراكيبى، ‏ونازلى ‏هانم‏، ‏وأحمد‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏وفوزية‏ ‏هانم‏…”

ويتكرر‏ ‏تسارع‏ ‏هذا‏ ‏الإيقاع‏ ‏حتى ‏فى ‏النقلات‏ ‏بين‏ ‏الأماكن‏ والأفعال، ‏(ص 163): “…فى ‏خان‏ ‏جعفر‏ ‏ولد‏، ‏وفيما‏ ‏بين‏ ‏بيت‏ ‏القاضى ‏وبين‏ ‏القصرين‏ ‏وحارة‏ ‏الوطاويط‏ ‏وابن‏ ‏خلدون‏ ‏والعباسية‏ ‏الشرقية‏ ‏وبين‏ ‏الجناين‏ ‏وميدان‏ ‏خيرت‏: ‏لعب‏ ‏وطاف‏ ‏وساح‏ ‏وصادق‏ ‏وأحب‏…”

كذلك‏ ‏حين‏ ‏يجمع ‏تطور‏ الزمن واختلاف الأماكن وتنوع الأحداث “معا” ‏الأماكن‏: (ص105):  “…‏ وجاء‏ ‏الزمن‏ ‏بالراديو‏ ‏والتليفزيون‏ ‏وراحت‏ ‏القاهرة‏ ‏تتضخم‏ ‏وتنهمر‏ ‏عليها‏ ‏الأحداث‏ ‏والحروب‏ ‏والعلل‏…”

وأخيرا: قد‏ ‏يجمع‏ ‏التسارع‏ ‏بين‏ ‏نشاط‏ ‏شخصى ‏وتأريخ‏ ‏زمنى ‏هكذا‏: (ص 144): ‏”…يوخزه‏ ‏الحنين‏ ‏فيمضى ‏مع‏ ‏أحد‏ ‏أبنائه‏ ‏فى ‏سيارته‏ ‏إلى ‏الحى ‏العتيق‏، ‏فيزور‏ ‏البيت‏ ‏القديم‏ ‏حيث‏ ‏يقيم‏ ‏قاسم‏، ‏ويصلى ‏فى ‏الحسين‏، ‏ويجلس‏ ‏ساعة‏ ‏فى ‏الفيشاوي‏، ‏ويتناول‏ ‏غداءه‏ ‏عند‏ ‏الدهان‏، ‏ثم‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏بين‏ ‏الجناين‏ ‏منتشيا‏ ‏مغرد‏ ‏الروح‏. ‏وعاش‏ ‏حتى ‏قارب‏ ‏التسعين‏، ‏فطرب‏ ‏لأمجاد‏ ‏يوليو‏، ‏وانكوى ‏بخمسة‏ ‏يونية‏، ‏وأفاق‏ ‏فى 15 ‏مايو‏، ‏وطرب‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏فى 6 ‏أكتوبر‏ ‏المجلجلة‏، ‏وانقبض‏ ‏فى 6 ‏أكتوبر‏ ‏الدامية…”

وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التدفق‏ ‏كان‏ ‏مزعجا‏ (‏لى ‏ولغيرى ‏فى ‏الأغلب‏) ‏فى ‏القراءة‏ ‏الأولى ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏بدا‏ ‏طبيعيا‏ ‏فى القراءة ‏الثانية‏ ‏والثالثة‏، ‏ثم‏ ‏بدا‏ ‏ضروريا‏ ‏وجميلا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ربما لأنه يؤكد هذا التجميع الواقعى ونحن نخوض معا “الآن” وقائع قرنين من الزمان.‏

جمال السرد، والشعر أحيانا

‏القارئ‏ ‏لا‏ ‏يجد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏شعرا حاضرا‏، ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏الحرافش‏ ‏مثلا‏، ‏كذلك‏ ‏لا‏ ‏يسترسل‏ ‏الكاتب‏ ‏فى ‏إطناب‏ ‏مستطرد‏ ‏مثل‏ ‏الثلاثية‏. ‏السرد هنا‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏دفق‏ ‏الإيقاع‏ ‏فى ‏زخم‏ ‏متلاحق كما بيّنا‏، ‏وبين‏ ‏انسياب‏ ‏رائق‏ ‏سهل‏ ‏ممتنع‏، ‏فتكتمل الصورة الجمالية، وإن‏ ‏صح‏ ‏تشبيه‏ ‏أنه‏ ‏عمل‏ ‏منسوج‏ ‏بإبر‏(‏تريكو‏) ‏كثيرة‏ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏منها‏ ‏خيطا‏ ‏مختلفا‏ ‏ليتكامل‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏فى ‏نسيج‏ ‏ضام‏، ‏فيمكن‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏نضيف‏ ‏أنه‏ ‏تزين‏ ‏أيضا‏ ‏بنقوش‏ ‏دقيقة‏، ‏لعلها‏ ‏صنعت‏ ‏بإبر‏ ‏أدق‏، ‏ربما‏ ‏تشبه‏ ‏إبر‏ “‏الكوريشيه‏”، ‏وإلى درجة أقل‏ ‏شغل‏ “‏الكانافاة‏”.

لكن الشعر يحضر، ربما رغما عن الكاتب،‏ ‏وهو‏ ‏يجسد‏ ‏طبع‏ ‏إنسان‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏معمار قائم، وليس العكس كما اعتدنا، فنقرأ وهو ‏يصف‏ ‏أحمد‏ ‏عطا‏ ‏المراكبى: ‏(ص11): “…‏وتشع‏ ‏من‏ ‏عينيه‏ ‏البنيتين‏ ‏نظرة‏ ‏وانية‏ ‏متوددة‏ ‏تتحلى ‏بالطيبة‏ ‏والسلام‏، ‏كأنه‏ ‏مسجد‏ ‏ضخم‏ ‏يجمع‏ ‏بين‏ ‏الجلال‏ ‏والأمان‏!!!…”

بسلاسة‏ ‏أبسط‏، ليست، شاعرية بالضرورة، يوصل لنا الأقل جمالا فى صورة أرق حضورا فى عادية محببة حين يصف‏ ‏رشوانة‏ ‏عزيز‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏قائلا:‏(ص 96): “…‏تبين‏ ‏أن‏ ‏الولدين‏ ‏أجمل‏ ‏من‏ ‏البنت‏، ‏ولكنها‏ ‏كانت‏ ‏مقبولة‏ ‏ذات‏ ‏جسم‏ ‏ممتاز…”‏. كلام‏ ‏سلس‏ ‏بسيط‏ ‏تقوله‏ ‏أية ‏زائرة‏ ‏لأختها‏ ‏عند‏ ‏عودتها‏ ‏من‏ ‏زيارة‏ ‏أسرة‏ ‏عزيز‏ ‏وراضية‏ ‏والدى ‏رشوانة‏.‏

ثم يقفز منه الشعر وهو‏ ‏يلخص‏ ‏الحياة‏ ‏التى ‏تبدت‏ ‏لعقل حمادة القناوى بعد أن شجعته جدته راضية ألا ييأس من رحمة الله: (ص 164): “…وتبدت‏ ‏له‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏رغائب‏ ‏مستحيلة‏. ‏دائما‏ ‏حبيبة‏ ‏ومستحيلة…‏”، فيصلنى العادى شعرا شعرا.

‏تجسيد “الطبقة‏ ‏المتوسطة‏” فى ‏وعى ‏الآن؟

وضعت فى الفرض الأساسى أن هذه الرواية قد أحضرت لنا مصر عبر قرنين فى “هنا والآن”، وبالذات ممثلة فى الطبقة الوسطى التى اسميها بدءًا من هنا: “المتوسطة” وليست الوسطى (لست أدرى لماذا) أتعامل هنا مع هذه الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏باعتبارها وعيا جماعيا، ‏يفرز‏ ‏ناسه‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هم‏ ‏صانعوه‏ ‏عبر‏ ‏تاريخ‏ ‏طويل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏شىء‏، ‏ولا‏ ‏يوجد‏ ‏توصيف‏ ‏عام‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏طبقة‏ ‏متوسطة‏، ‏بحيث‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏كل‏ ‏الأماكن‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏فالطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏غير‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏السويد‏ ‏غيرها‏ ‏فى ‏ولاية‏ ‏متشجان‏ ‏أو‏ ‏بنجلاديش‏ ‏أو‏ ‏كوريا‏ ‏الشمالية‏، ناهيك عن اختلافها فى الوطن الواحد، فهى فى مصر القديمة غيرها فى كوم يعقوب (قنا) غيرها فى بركة السبع منوفية، ‏وهى ‏أيضا‏ ‏تختلف‏ ‏معالمها فى نفس البلد‏ ‏حسب‏ ‏بعد‏ ‏الزمن‏، ‏فالطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏القرن‏ ‏السابع‏ ‏عشر‏ ‏غيرها‏ ‏فى ‏القرن‏ ‏الواحد‏ ‏والعشرين‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏مثلا‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏محفوظ‏ ‏قد‏ ‏غامر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏فجمع كل ذلك من خلال‏ ‏حركيتها‏ جميعا ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يقرب‏ ‏من‏ ‏قرنين‏ ‏من‏ ‏الزمان‏، فتجسدت لنا – كما أشرت مرارا – فى “هنا والآن”، فهو لم يهمل فعل الزمن والأزمنة، بل جمعها معاً على اختلاف الأمكنة، وجعلها تصب فى “هنا والآن” فى صحن (ميدان) واحد.

محفوظ‏ ‏بإبداعه الفائق هنا حدد‏ ‏أماكن‏ ‏روايته‏ ‏بالقاهرة‏، ‏أو‏ ‏بشكل‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ ‏بالقاهرة‏ ‏الحسين‏ (‏فيما‏ ‏عدا‏ ‏استثناءات‏ ‏مرحلية‏ ‏وعابرة‏)‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏امتداد‏ ‏الرواية‏ ‏على ‏مدى ‏ما‏ ‏يقرب ‏من‏ ‏قرنين‏ قد جسد صعوبة أخرى‏ هى احتمال تغيير الثقافات الفرعية بمرور الزمن، ‏لهذا‏ ‏سوف‏ ‏أكتفى ‏برصد‏ ‏بعض معالم‏ أبعاد هذه الطبقة‏، الأكثر ثباتا نسبيا ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏تحديدا‏، أنتقيها ‏من‏ ‏المحاور‏ ‏التى ‏تتمحور‏ ‏حولها‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏مصر‏، أساسا ‏فى ‏هذه‏ ‏الحقبة‏ ‏من‏ ‏زمن‏ ‏الرواية‏ دون استبعاد امتدادها حتى الآن، وذلك فى حدود ما‏ ‏ظهرت‏ ‏لى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ بوجه خاص، وفيما يلى ما وصلنى مما يمكن أن يميز هذه الطبقة فى حدود ما ذكرنا:

أولا‏: ‏نوع‏ ‏معين‏ ‏من‏ ‏التدين‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏صعوبة‏ ‏الإلحاد‏ ‏والثقة‏ ‏بالغفران‏ ‏مع‏ ‏الالتزام‏ ‏السلس‏.‏

ثانيا‏: ‏منظومة‏ ‏خلقية‏ ‏ظاهرة‏ ‏من‏ ‏التزمت‏ ‏والكبت‏، ‏تسمح‏ ‏باختراقات‏ ‏خفية‏ ‏محدودة‏، ‏غالبا‏ ‏ومؤقتة‏: ‏من‏ ‏التسيب‏ ‏والتجريب‏.‏

ثالثا‏: ‏مؤسسة‏ ‏زواجية‏ ‏راسخة‏ ‏البنيان‏، ‏مع‏ ‏تجليات‏ ‏داخلها‏ ‏تجعلها‏ ‏متعددة‏ ‏الأشكال‏ ‏والألوان.

رابعا‏: ‏تطلعاتٌ‏ ‏استحواذية‏، ‏وتكاثرٌ‏ ‏مضطرد‏ ‏التصعيد‏، ‏مع‏ ‏نقلات‏ ‏زائفة أو حقيقية‏ ‏إلى ‏طبقة‏ ‏أعلى.

خامسا‏: ‏موقف‏ ‏سياسى “متفرجٌ” أغلبه ‏معظم‏ ‏الوقت‏، ‏يساهم‏ ‏أحيانا‏ ‏فى ‏تحريك‏ ‏الأحداث‏ ‏‏إذا‏ ‏سُمح‏ ‏له‏ ‏أصلا‏، لكنه لا يصنع الأحداث أو يبادر بالنقلات ‏مع‏ ‏استثناءات‏ ‏فاعلة‏ ‏محدودة‏ ‏قصيرة‏ ‏العمر‏.‏

سادسا‏: ‏درجة‏ ‏مناسبة‏ ‏من‏ ‏القدرية‏، ‏تحت‏ ‏ظلال‏ ‏مختلفة‏ ‏العتمة‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏بالنهاية‏ مثلا: “‏يقين حتم‏ ‏الموت‏”.

‏ثَمَّ تساؤل حضرنى بإلحاح يقول: هل صحيح ‏أن‏ ‏مصر‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏فترات‏ ‏تاريخها‏ ‏إلا‏ ‏طبقة‏ ‏متوسطة‏ ‏تتسع‏ ‏جدا‏ ‏أوتتسع‏ ‏فقط‏، ‏تحتوى ‏عادة‏ ‏الطبقة‏ ‏الأدنى ‏بحركية‏ ‏هادئة‏ ‏وقد‏ ‏تتحاور‏ ‏مع‏ ‏الطبقة‏ ‏الأعلى ‏أو‏ ‏يرتقى ‏بعض‏ ‏أفرادها‏ ‏إليها‏ ‏دون‏ ‏انفصال‏ ‏عنها؟‏

لعل‏ ‏ظهور‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التوقيت‏ ‏بالذات‏ 1987 ‏كان‏ ‏نتيجة‏ ‏رصد‏ محفوظ‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏ناسه‏ ‏أبدا‏، ‏لما‏ ‏يتهدد‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏من‏ ‏تلاش نتيجة‏ ‏للتمادى ‏فى ‏إثراء‏ ‏الأغنى، ‏وإفقار‏ ‏الأفقر‏، ‏ثم‏ ‏هذا‏ ‏الزحف‏ ‏المضطرد‏ ‏على ‏قيمها‏ ‏بوسائل‏ ‏ولغة‏ ‏الإعلام‏ ‏المستوردة‏، ‏فانطلقت‏ ‏منه‏ ‏هذه‏ ‏الصرخة الإبداعية‏، ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏بقصد‏ ‏كامل‏، ‏تقول‏:‏ إحذروا‏، ‏إن‏ ‏انتهت‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏انتهت‏ ‏مصر‏.‏

هذا‏، ‏وقد‏ ‏اعتدنا‏ ‏أن‏ ‏نذكر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏برجوازى ‏لنلحق‏ ‏به‏ ‏صفات‏ ‏سلبية‏، ‏مثل‏: ‏البرجوازى ‏المغترب‏، ‏أو‏ ‏البرجوازى ‏المتطلع‏، ‏أو‏ ‏البرجوازى ‏الصغير‏ (‏استتفاهاً‏)، ‏لكننا‏ ‏لم‏ ‏نعتد‏ ‏أن‏ ‏نسمع‏ ‏مثلا‏: ‏عن‏ ‏البرجوازى ‏النبيل‏، ‏أو‏ ‏البرجوازى ‏المبدع‏، ‏مع أن هذين‏ ‏النوعين‏ ‏الأخيرين‏ ‏هما‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نخرج‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏هذا‏ ‏النص‏، ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏شخصيا‏ ‏هو‏ ‏خير‏ ‏مثل‏ ‏على ‏ما‏ ‏أسميتـه‏ “البرجوازى ‏النبيل”، ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

تقدم‏ ‏لنا‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏حركية‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ أساسا‏، ‏وفى ‏القاهرة‏ ‏دون‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏المدن‏، ‏من المعروف أن‏ ‏محفوظ‏ ‏قد ركّز‏‏ ‏مواقع‏ ‏حركة‏ ‏إبداعه‏، ‏بجغرافيا‏ ‏القاهرة‏، ‏وبالذات‏ ‏وسط‏ ‏القاهرة‏ ‏وحول‏ ‏الحسين‏، لكن هذا التركيز كان ضامّا لغيره بسلاسة معجزة، فهو يحدد هنا ميدان بيت القاضى، بصفتين دالتين: الأولى: “…يشرق بنور الشمس…”، والثانية: “…يتلقى من الحارات هديرا لا ينقطع…“، وقد شعرت أن تعبير “يتلقى من الحارات هديرا”ً يدعم تصورى أنه اختار تحديد المكان هكذا ليس ليستبعد غيره وإنما باعتباره الممثل لأغلب ما هو ثقافات فرعية لهذه الطبقة التى هى فى نهاية النهاية “مصر” ثم إنه راح ‏‏يغوص‏ ‏ما‏ ‏شاء‏ ‏له‏ ‏الغوص‏ ‏فى ‏طبقات وعى‏ ‏هذه‏ ‏الشريحة‏ ‏المحددة‏، ‏من واقع إيحاءات ‏هذه‏ ‏البقعة‏ ‏الضامّة هكذا  (11)

‏ ‏حضرت‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏بكل‏ ‏تشكيلاتها‏ ‏وطموحاتها‏ ‏وأخلاقها‏ ‏ووظائفها‏ ‏وتدينها‏ ‏ومؤسساتها‏ ‏الزواجية‏ ‏والمهنية‏، ‏حتى‏ ‏كادت‏ ‏تتوازن‏، ‏فى ‏المراحل‏ ‏المتأخرة. ‏نسب‏ ‏الوظائف‏ ‏والمهن‏ ‏التى ‏تعرف‏ ‏بها‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏وتتميز‏، ‏قارن‏ ‏مثلا‏ ‏عدد‏ ‏الأطباء‏ ‏وعدد‏ ‏القانونيين‏ ‏والضباط‏ ‏والتجار‏ ‏وهو‏ ‏يكاد‏ ‏يقترب‏ ‏بعضه‏ ‏من‏ ‏بعض‏، ‏ولم‏ ‏أجد‏ ‏مبررا‏ ‏لأن‏ ‏أقوم‏ ‏بعدٍّ‏ ‏مقارن‏ ‏فهو‏ ‏لن‏ ‏يفيد‏ ‏كثيرا‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏شخصيا‏ ‏تعجبت‏ ‏من‏ ‏كثرة‏ ‏الأطباء‏، ‏حتى ‏أنه‏ ‏توجد‏ ‏طبيبات‏ ‏فى ‏الجيل‏ ‏الثالث‏ ‏مباشرة‏ ‏مثل‏ ‏دكتورة‏ ‏نادرة‏ ‏محمود‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الكاتب‏ ‏لم‏ ‏يتردد‏ ‏فى ‏تزويج‏ ‏د‏‏كتور‏ ‏فاروق‏ ‏حسين‏ ‏قابيل‏ ‏من‏ ‏د‏كتورة عقيلة‏ ‏ثابت‏ (ص 173) ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏حين‏ ‏خصصها‏ ‏أسماها بالاسم الشعبى “مولدة”، ‏ثم‏ ‏تمادى ‏فأدخل‏ ‏ابنتاهما‏ ‏الطب‏ ‏بالمرة‏. ‏وقد‏ ‏تكررت‏ ‏حكاية الأطباء‏ ‏بالجملة‏ ‏هذه‏ ‏فى ‏أولاد‏ ‏حسن‏ ‏محمود‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏ضابطا‏ ‏فى ‏سلاح‏ ‏المهندسين‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أولاده‏ ‏الثلاثة‏، ‏محمود‏، ‏وشريف‏ ‏وعمر‏، قد ‏تخرجوا‏ ‏أطباء (ص 65)، وقد وصلنى من ذلك كيف أظهر محفوظ أن النقلات فى هذه الطبقة غالبا ما تتم بالطموح والتفوق والذكاء. ‏

عموما لم‏ ‏تكن‏ ‏المسألة‏ ‏بالنسبة لأغلب المحاور التى تصف هذه الطبقة تصويرا‏ خارجيا ‏لواقع‏ مثل ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏سبر هذا‏ ‏الواقع‏ ‏إلى ‏أعماق ما وراءه من حركية وشبكات علاقات ومراحل تطور، ‏وأيضا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يعد‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏قادم‏ ‏أو‏ ‏محتمل‏، وأكتفى فى هذه المقدمة بعرض موجز من ملامح المنظومة الدينية والأخلاقية.

أولا: عن الدين والتدين

المحور‏ ‏الأول‏ ‏الذى ‏تدور‏ ‏حوله‏ ‏الطبقة‏ ‏المتوسطة‏ هنا يغلب عليه ‏نوع‏ ‏معين‏ ‏من‏ ‏التدين‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏صعوبة‏ ‏الإلحاد‏ ‏والثقة‏ ‏بالغفران‏ ‏مع درجات متفاوته من‏ ‏الالتزام‏ ‏السلس‏، ‏وقد‏ ‏تجلى ‏ذلك‏ ‏فى ‏توجهات‏ ‏عامة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ (‏يمثلها‏ ‏فرد‏ ‏أو‏ ‏أفراد‏‏)، ‏ثم‏ ‏مواقف‏ ‏ومعتقدات‏ ‏وسلوك‏ ‏فردى ‏شديد‏ ‏التنوع‏ ‏حسب‏ ‏ظهوره‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏بذاته‏ ‏أو‏ ‏عند‏ ‏فرد‏ ‏بذاته‏.‏‏ ‏إن‏ ‏أغلب‏ ‏الشخوص‏ ‏كانوا‏ ‏يمارسون‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏العبادات‏ (‏الطقوس‏) ‏بغير‏ ‏انتظام‏ ‏فى ‏الأغلب‏، ‏نلاحظ مثلا: أن‏ ‏أحدا‏ ‏منهم‏ ‏لم‏ ‏ينكرها‏، ‏وأن‏ ‏الإيمان‏ ‏كان‏ ‏تلقائيا‏ ‏وكأنه‏ ‏من‏ ‏المسلمات‏ ‏دون‏ ‏تفكير‏ ‏أصلا‏، ‏وأن‏ ‏عكسه‏ ‏كان‏ ‏مرهقا‏ ‏حتى ‏يكاد‏ ‏يبدو‏ ‏مهددا‏ ‏أو‏ ‏مستحيلا‏، ‏وأن‏ ‏التدين‏ ‏لم‏ ‏يحل‏ ‏دون‏ ‏الممارسة‏ ‏التجريبية‏ ‏أو‏ ‏الانحرافية‏ ‏كلما‏ ‏أتيحت‏ ‏الفرصة‏، ‏وأنه‏ ‏سواء‏ ‏أعلن‏ ‏ذلك‏ ‏أو‏ ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏فإن‏ ‏القارئ‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يرصده‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.

‏وقد ‏ظل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “سيدنا‏ ‏الحسين” ‏يمثل‏ ‏الخلفية‏ ‏التدينة‏ ‏المصرية‏ ‏لهذه‏ ‏الطبقة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏مع‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ تقريبا، ‏حتى ‏الذين‏ ‏تركوا‏ ‏سيدنا‏ ‏الحسين‏، ‏كان‏ ‏أغلبهم‏ ‏يحن‏ ‏إليه‏، ‏ويدور‏ ‏ويلف‏ ‏ويعود‏ ‏إليه‏، ‏زائرا‏ ‏أو‏ ‏مبتهلا‏، ‏أو‏ ‏ضيفا‏، ‏أو‏ ‏أى ‏شىء لا يحتاج إلى تمييز‏، ‏وسيدنا‏ ‏الحسين‏، ‏هنا‏، ‏وفى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏أعمال‏ ‏محفوظ‏ ‏ليس‏ ‏دينا‏ ‏بديلا‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏رمز‏ ‏خاص‏، ‏لكنه‏ ‏يمثل‏ “أرضية” ‏نوع‏ ‏التدين‏ ‏المصرى لهذه ‏الطبقة‏ ‏الوسطى بوجه خاص، ‏وهو‏ ‏نوع‏ جامع ‏غير‏ ‏مانع‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏غالب ظاهر مسيطر‏، ‏لكنه‏ ‏يقبع‏ ‏فى ‏الخلفية‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏، يظهر‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ (‏تاريخيا‏) ‏فى ‏حلم‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏حين‏ ‏زاره‏ ‏سيدى ‏نجم‏ ‏الدين‏ ‏فى ‏المنام‏.‏

 ‏بعد‏ ‏آخر‏ أعمق ‏لهذا‏ ‏التدين المصرى الراسخ‏ ‏هو حضور‏ “القرآن” ‏وحامليه فى مساحة رحبة من الوعى وكذا الأزهر‏ ‏والمنتسبين‏ ‏له‏، ‏ولا‏ ‏أقصد‏ ‏حفظة‏ ‏القرآن‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏يقومون‏ ‏بتلاوته‏ ‏أ‏و تفسيره‏، ‏وأيضا‏ ‏لا‏ ‏أقصد‏ ‏بالأزهر‏ ‏مبنى أو معهدا، ‏وإنما‏ أعنى ‏حضور هذا ثم ذاك‏ ‏فى ‏الوعى، ‏الشعبى، ‏وربما يمثل‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏الشيخ‏ ‏القليوبى ‏الكبير‏، ‏وابنه‏ ‏معاوية‏ ‏القليوبى.‏

‏‏البعد‏ ‏الثالث‏ لتدين هذه الطبقة ‏هو‏ ‏ما‏ ‏تمثله‏ ‏راضية‏ ‏معاوية القليوبى، وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏: ‏قاسم‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏ ‏المصرى، (‏الشيخ‏ ‏قاسم‏) ‏وهو‏ ‏بُعد‏ ‏السحر‏، ‏والبركة‏، ‏والجان‏، ‏والبخور‏، ‏والغيب‏، ‏ولا‏ ‏أعنى ‏ما‏ ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏معتقدات ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يرتبط‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏سلوك‏ ‏وما‏ ‏يساعد‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏علاقات‏ ‏وتوجهات‏ ‏فاعلة‏ ‏ومنتشرة‏. ‏وقد‏ ‏نجد‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏متصل‏ ‏مثل‏ ‏حال‏ ‏راضية‏ ‏القليوبى، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏نجده‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏مفرد‏ ‏مثل‏ ‏زغرودة‏ ‏جليلة‏ مرسى ‏الطرابيشى ‏يوم‏ ‏قدوم‏ ‏نيشان‏ ‏عرس‏ ‏ابنتها‏ ‏راضية‏(ص42)، ‏الذى ‏تصادف‏ ‏مع‏ ‏موت‏ ‏والدها‏ ‏الشيخ‏ ‏معاوية‏، ‏حين‏ ‏قررت‏ ‏بكل‏ ‏شجاعة‏ ‏أن‏ ‏تفك‏ ‏النحس‏ ‏بما‏ ‏يليق‏، ‏فانطقت‏ ‏منها‏ ‏زعرودة‏ ‏تؤدى ‏الغرض‏، ‏وهى ‏تعتذر‏ ‏للمرحوم‏ ‏المسجى ‏بلحافه‏ ‏الأخضر‏ ‏لم‏ ‏يدفن‏ ‏بعد، ولا تقصر فى واجبها نحوه فتهرول إلى حجرة الجثمان “…وراحت تصوت من أعماق قلبها…” حتى يحق وصلها بأنها (ص 42) “…جمعت بين التقوى والحب والجنون…”.

وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏ينتمى ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏ ‏إلى ‏المعتقد‏ ‏الشعبى ‏والتقاليد‏ ‏الخاصة‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ينتمى أكثر ‏إلى ‏ما‏ ‏يسمى ‏بـ‏ “‏الدين‏ ‏الشعبى” ‏وهو الذى ‏يميز‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص، ويسمح لها بما يسمى فى غيرها تناقضا.

‏‏البعد‏ ‏الرابع‏ ‏هو‏ ‏التدين‏ ‏الأحدث‏، ‏الذى ‏تمثله‏ ‏المحاولة‏ ‏المعاصرة‏ السطحية ‏لتحديث‏ ‏الدين‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏أقل‏ ‏هذه‏ ‏الأبعاد‏ ظهورا فى هذا العمل لأنه أقل ‏ارتباطا‏ ‏بالوعى ‏الغائر‏، ‏إذ‏ ‏ينتمى ‏أكثر‏ ‏للاقتناع‏ ‏الظاهر‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏والتوظيف‏ ‏السياسى ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى، ‏وهو‏ ‏ما‏ قد ‏يمثله‏ ‏تحديدا‏ ‏الإخوان‏ ‏المسلمين‏ (‏ويمثل‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏فى ‏الجانب‏ ‏الرجولى ‏والسياسى: ‏سليم‏ ‏حسين‏ ‏قابيل‏، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏صالح‏ ‏حامد‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏(‏الذى ‏أحب‏ ‏حركة‏ ‏الإخوان‏ ‏ولم‏ ‏يدخلها‏) (ص 128)، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏الأول‏ ‏قد‏ ‏تلقى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التدين‏ ‏ابتداء‏ ‏من‏ ‏أخته‏ ‏هنومة‏، ‏فقد‏ ‏تلقى ‏الأخير‏ ‏صورة‏ ‏معدلة‏، ‏أرستقراطية‏ ‏بعض‏ ‏الشىء‏، ‏من‏ ‏أمه‏ ‏شكيرة‏ ‏محمود‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى، ‏ولا‏ ‏أتمادى ‏فأنبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من التدين ‏هو‏ ‏الأقرب‏ ‏إلى قيم و‏أخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى الأحدث ‏المتطلعة‏ ‏أرستقراطيا‏ ‏أو‏ ‏سياسيا‏ ‏منه‏ ‏إلى ‏تدينها‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فله‏ ‏آثاره‏ ‏السلوكية‏ ‏اليومية‏ ‏المتميزة‏، ‏وربما‏ ‏هذا‏ هو ‏ما‏ ‏تجسد‏ ‏حين‏ ‏اختلط‏ ‏شكل‏ ‏الالتزام‏ ‏الزواجى ‏بالهداية‏ ‏التقليدية‏، ‏وكيف‏ ‏أثر‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ تدين‏ ‏سليم‏ ‏قابيل‏ ‏على ‏زوجته‏ ‏هدية‏ ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ (‏بنت‏ ‏أمانة‏ ‏ابنة‏ ‏مطرية‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏) (ص 112). ‏

وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏-‏ ‏برضا‏ ‏موافق‏ ‏-‏ ‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏لم‏ ‏يدرج‏ ‏مظاهر‏ ‏التطرف‏ ‏الدينى ‏كأحد‏ ‏التنويعات‏ ‏الدينية‏ ‏لهذه‏ ‏الطبقة‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إشارة‏ ‏عابرة‏ ‏لموقف‏ ‏سليم‏ ‏وقلقه‏ ‏من‏ “…التيارات‏ ‏الدينية‏ ‏الجديدة‏ ‏التى ‏انبثقت‏ ‏من‏ ‏الإخوان‏، ‏ثم‏ ‏شقت‏ ‏لنفسها‏ ‏مجارى ‏جديدة‏ ‏محفوفه‏ ‏بالتطرف‏ ‏والغموض…” (ص111، 112)، ‏مع‏ ‏أن محفوظ‏ ‏وقت‏ ‏كتابة‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏كان‏ ‏مهددا‏ ‏بالاسم‏ ‏مع‏ ‏آخرين‏، ‏حيث كان متهما‏ ‏بالهرطقة‏ ‏وغير‏ ‏ذلك‏، ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يُستدرج‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏حُكْم فوقىّ‏ يشوبه هذا التيار تعميما‏، ‏بل‏ ‏جنّبه‏، ‏دون‏ ‏إغفاله‏ ‏بهدوء‏ ‏واع‏.

وبالنسبة‏ ‏للمسارات‏ ‏والمسالك الدينية‏ ‏الفردية‏، ‏فقد‏ ‏تنوعت‏ ‏فى ‏طول‏ ‏الرواية‏ ‏وعرضها‏، ‏لذلك‏ ‏بما لا يسمح إلا بعرض مجرد ‏أمثلة‏‏:

‏(1) ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏تردد‏ ‏الموقف‏ ‏الدينى ‏مقترنا‏ ‏بالمؤسسة‏ ‏الزواجية‏، ‏بدءا‏ ‏بالتعبير‏ ‏البسيط‏ ‏الشائع (ص 176): يزيد المصرى:  “…أريد‏ ‏أن‏ ‏أكمل‏ ‏نصف‏ ‏دينى…” ‏حتى ‏أن‏ ‏من‏ ‏يرحب‏ ‏به‏ ‏هو‏ ‏المتدين‏ ‏فعلا‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يؤجله‏ ‏أو‏ ‏يلغيه‏ ‏يبدو‏ ‏مخالفا‏، ‏ولو‏ ‏فى ‏أعماقه‏، ‏نرى ‏ذلك‏ ‏مثلا‏ ‏فى ‏استجابة‏ ‏عمر‏ ‏عزيز‏ ‏لعرض‏ ‏أبيه‏ ‏الزواج: (ص166): “…وما‏ ‏كاد‏ ‏أبوه‏ يزكى ‏له‏ ‏فكرة‏ ‏الزواج‏ ‏حتى ‏رحب‏ ‏بها‏ ‏ترحيب‏ ‏شاب‏ ‏قوى ‏تقى…”

 ‏وذلك‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏عزوف‏ ‏قدرى ‏عامر‏ ‏عمرو‏ ‏عن‏ ‏الزواج‏ (‏خصوصا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏رفض‏ ‏من‏ ‏جيران‏ ‏له‏ ‏لشكهم‏ ‏فى ‏إسلامه‏ ‏بسبب‏ ‏يساريته‏) (ص 186)، ‏وتجسدت‏ ‏علاقة‏ ‏المؤسسة‏ ‏الزواجية‏ بالدين ‏فى ‏وصف‏ ‏موقف‏ ‏قدرى (ص 186): “…‏وغضب‏ ‏قدرى ‏على ‏فكرة‏ ‏الزواج‏ ‏كغضبه‏ ‏على ‏البرجوازية‏ ‏بعامة…”.

(2) ‏كان‏ ‏تدين‏ ‏الاثنين‏ ‏الكبار‏ ‏هو‏ ‏التدين‏ ‏الذى ‏أعتقد‏ ‏أنه‏ ‏يميز‏ ‏تدين‏ أغلب ‏الشعب‏ ‏المصرى (‏تعمدت درجة أكبر من‏ ‏التعميم ‏هذه‏ ‏المرة‏)، ‏والذى ‏يتلخص‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏الكاتب. (ص79): ‏”… ‏ولكن‏ ‏دين‏ ‏يزيد‏ ‏كصديقه‏ ‏الثانى ‏عطا‏ ‏المراكيبى ‏الذى ‏كان‏ ‏يقيم‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏البيت‏ ‏كان‏ ‏قانعا‏ ‏بأداء‏ ‏الفرائض‏ ‏المتاحة‏ ‏كالصلاة‏ ‏والصوم‏ ‏لا‏ ‏يتجاوزهما‏ ‏إلى ‏أحلام‏ ‏دينية‏ ‏أعمق‏،…”

(3) ‏تناسب‏ ‏هذا‏ ‏التدين‏ (‏حتى ‏فى ‏صورته‏ ‏البسيطة‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏المنتظمة‏) ‏تناسبا‏ ‏عكسيا‏ ‏مع‏ ‏علوالمكانة‏ ‏وزيادة‏ ‏الثراء‏ ‏فى ‏عدد‏ ‏من‏ ‏المواقع‏، ‏فمثلا‏ ‏نرى ‏وصف تدين ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏باشا‏ ‏داود‏، ‏إبن‏ ‏داود‏ ‏باشا‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى (ص 90): “…الدين‏ ‏لم‏ ‏يلعب‏ ‏فى ‏حياته‏ ‏عشر‏ ‏معشار‏ ‏دوره‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏صديق‏ ‏روحه‏ ‏عمرو…”‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏كان‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يصبغ‏ ‏كل‏ ‏أسرة‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏مال‏ ‏أحدهم‏ ‏للدين‏ ‏لظرف‏ ‏أو‏ ‏لآخر‏، ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏نشأ‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏تجنيبه‏ ‏دون‏ ‏إنكاره‏، ‏نرى ‏ذلك‏،‏مثلا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏حليم‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود‏ (ص 75): “…ولما‏ ‏وقعت‏ ‏كارثة‏ 5 ‏يونيه‏ ‏قرر‏ ‏أن‏ ‏يحج‏ ‏لبيت‏ ‏الله‏ ‏الحرام‏ ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الدين‏ ‏إلا‏ ‏الاسم‏ ‏كغالبية‏ ‏اسرته‏ ‏ولكنه‏ ‏حج‏ ‏ورجع‏ ‏إلى ‏حياته‏ ‏لم‏ ‏يغير‏ ‏منه شيئا… “.

ويتأكد‏ ‏هذا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لعفت‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ (‏أخت‏ ‏حليم‏ ‏الذى ‏ذكرنا‏ ‏موقفه‏ ‏حالا‏)، ‏فعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏زواجها‏ ‏من‏ ‏عامر‏ ‏عمرو‏ (‏على ‏تدين‏ ‏والده‏ ‏كما‏ ‏أشرنا‏ ‏حالا‏‏) (ص142): “…فلم‏ ‏يجرؤ‏ ‏الشاب‏ ‏على ‏تذكيرها‏ ‏بأن‏ ‏الصوم‏ ‏واجب‏ ‏فى ‏رمضان‏، ‏وصام‏ ‏وحده‏ ‏معتمدا‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏فى ‏إعدا‏د ‏سحوره….‏”، ‏ومع‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يُعلم‏ ‏عن‏ ‏عفت‏ ‏أنها‏ ‏أنكرت‏ ‏الدين‏، ‏ولم‏ ‏يجرؤ‏ ‏أحد‏ ‏من‏ ‏متدينى ‏أهل‏ ‏زوجها (ص 157): “…‏ومع‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تنطق‏ ‏بكلمة‏ ‏تخدش‏ ‏إيمانها‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏عاشت‏ ‏حياتها‏ ‏وهى ‏تجهل‏ ‏دينها‏ ‏وتراثها‏ ‏جهلا‏ ‏تاما…‏”.‏

‏(4) ‏يتأكد‏‏ ‏الموقف‏ ‏الذى ‏يفصل‏ ‏يقين‏ ‏الإيمان‏ ‏عن‏ ‏ضرورة‏ ‏الالتزام‏ ‏بتعاليم‏ ‏الدين‏ ‏من‏ ‏مسار‏ ‏تدين‏ ‏سرور‏ ‏عزيز‏، ‏وهو‏ ‏شقيق‏ ‏عمرو‏ ‏الذى ‏ذكرنا‏ نوع ‏تدينه‏ ‏فى ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏ (ص106): “…‏ونشأ‏ ‏طبعا‏ ‏مؤمنا‏، ‏ولكن‏ ‏بلا‏ ‏قيود‏ ‏بخلاف‏ ‏أسرته‏ ‏جميعا‏، ‏فلم‏ ‏يؤد‏ ‏الصلاة‏ ‏ولا‏ ‏الصيام‏ ‏حتى ‏بلغ‏ ‏الخمسين‏ ‏من‏ ‏عمره‏…”.وكل‏ ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏التأكيد‏ ‏عليه‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏تعبير: “نشأ‏ ‏طبعا‏ ‏مؤمنا”‏

‏(5) ‏ السماح بالشك فى حدود حتى ‏من‏ ‏سمح‏ ‏لنفسه‏ ‏بالشك‏، ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يتمادى ‏حتى ‏يقين‏ ‏الإلحاد، فى ‏أحد‏ ‏إيقاعاته‏ ‏المتدفقة‏ ‏يلخص‏ ‏الكاتب‏ ‏موقف‏ ‏عقل‏ ‏حمادة‏ ‏القناوى ‏(‏ابن‏ ‏صدرية‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏) ‏وهو‏ ‏يصف‏ ‏التطور‏ ‏الروحى فى مقابل المأزق الشخصى ‏الذى ‏قد‏ ‏يستغرق‏ ‏عمر‏ ‏الإنسانية‏ ‏لا‏ ‏عمر‏ ‏فرد‏ ‏واحد‏ ‏يركزه‏ الكاتب ‏فى ‏سطر‏ ‏وبعض‏ ‏سطر‏ ‏هكذا‏ ‏(ص163): “… ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يؤمن‏، ‏ورفض‏ ‏أن‏ ‏يكفر‏، ‏ولاذ‏ ‏بالفرائض‏، ‏وتفشى ‏الشك‏ ‏فى ‏خلاياه‏ ‏فلم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏ينتمى…”

وفى ‏المقابل‏ ‏نرى ‏حيرة‏ ‏شاذلى ‏محمد‏ ‏إبراهيم‏ (‏ابن‏ ‏خالته‏ ‏مطرية‏ ‏عمرو‏ ‏عزيز‏) ‏فنجدها‏ ‏حيرة‏ ‏معقلنة‏ ‏جاءته‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏القراءة‏ ‏والتقلب‏ ‏الثقافى (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏) (ص117):  “…كان‏ ‏ظمؤه‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏علاقته‏ ‏بالكون‏ ‏جنونا‏ ‏مضنيا…‏”، ‏وهو‏ ‏الذى ‏تجرأ‏ ‏على ‏مقابلة‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏والعقاد‏ ‏والمازنى ‏وهيكل‏ ‏وسلامة‏ ‏موسى ‏والشيخ‏ ‏مصطفى ‏عبد‏ ‏الرازق‏، وقد‏ ‏حدد‏ ‏الكاتب‏ ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مصدر‏ ‏هذه‏ ‏الحيرة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ (ص150): “… ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الدين‏ ‏موضع‏ ‏رفضه‏ ‏لكنه‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يعتمد‏ ‏على ‏عقله‏ ‏حتى ‏آخر‏ ‏المدى…”. ‏

وحتى ‏هذه‏ ‏الحيرة‏ ‏التى ‏لمست‏ ‏الدين‏ ‏ضمنا‏ ‏فقسها‏ ‏سليم‏ ‏ابن‏ ‏خالته‏ ‏سميره‏ ‏وهو‏ ‏يصفها‏ ‏بدقة‏ ‏صادقة‏ ‏قائلا (ص 151):  “…حيرتك‏ ‏مستوردة…”.

ثانيا: عن المنظومة‏ ‏الأخلاقية‏ ‏

من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏يصعب‏ ‏عادة‏ ‏تحديد‏ ‏ماهية‏ ‏الأخلاق‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏فصلناها‏ ‏عن‏ ‏الدين‏ ‏أوالتدين‏، ‏أما‏ ‏بالنسبة‏ ‏لموقفنا‏ ‏هنا‏ ‏فالأمر‏ ‏يبدو‏ -نسبيا- ‏أقل‏ ‏صعوبة‏‏، ‏ذلك‏ ‏أننا‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏أخلاق‏ ‏طبقة‏ ‏بذاتها‏، ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏، ‏فى ‏موقع‏ ‏جغرافى ‏معين‏، ‏وإن تجمعت فى إبداع مكثف‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏مبنى ‏على ‏فرض‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏إنما‏ ‏هى ‏تأريخ جغرافىّ‏، ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏لمعالم‏ ‏وحركية‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة عبر‏ ‏ذلك‏ ‏الزمن‏ ‏المحدد‏.‏

من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏نجد‏ ‏أن هذا‏ ‏النص‏ قد ‏تناول‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏بإحاطة‏ ‏ليست‏ ‏أقل‏ ‏من‏ ‏إحاطته‏ ‏بالجانب‏ ‏التدينى، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏لم‏ ‏يستعمل‏ ‏كلمة‏ “أخلاق‏” ‏فى ‏وصف‏ ‏المواقف‏ ‏المختلفة‏ ‏مثلما‏ ‏استعمل‏ ‏كلمة‏ ‏الدين‏ ‏والتدين‏‏، ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏نرصد‏ ‏صفات‏ ‏غالبة‏ ‏ننتقى ‏منها‏ ‏ما‏ ‏يصلح‏ ‏للعودة تفصيلا فيما بعد‏.‏ ‏

أولا‏: ‏بدا‏ ‏فى ‏طول‏ ‏الرواية‏ ‏وعرضها‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بأخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى، ‏وهو‏ من ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يصف‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏، (‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الأخلاق‏ ‏البرجوازية‏) ‏ليس‏ ‏نمطا‏ ‏واحدا‏ ‏متفقا‏ ‏عليه‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏يمكن‏ ‏العثور‏ ‏على ‏ريح‏ ‏عامة‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏الريح‏ ‏الشائعة‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ ‏وزيفها‏، ‏وادعائها‏، ‏وكذبها‏، ‏ونفاقها‏، ‏على ‏كل‏ ‏حال‏.‏

ثانيا‏: ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏التناقضات‏ ‏المتواترة‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تتعارض‏ ‏مباشرة‏ ‏فى ‏موضوع‏ ‏الأخلاق‏ ‏فإنها‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏تشقق‏ ‏العلاقات‏ ‏أو‏ ‏التنافر‏ ‏حتى ‏الفرقة‏ (‏إلا‏ ‏قليلا‏)، ‏وإنما‏ ‏بدت‏ ‏-‏ ‏فى ‏الأغلب‏ ‏-‏ ‏وكأنها‏ ‏تذوب‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏فى ‏بعد‏ ‏أخلاقى ‏أكبر‏، ‏ليس‏ ‏ظاهرا‏ ‏على ‏السطح‏ ‏على ‏أية‏ ‏حال‏، ‏حتى ‏أننى ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أسميه‏ “التماسك‏ ‏للبقاء”.‏

ثالثا‏: ‏ارتبطت‏ ‏تنويعات‏ ‏المنظومة‏ ‏الأخلاقية‏ – ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال- ‏بظروف‏ ‏التنشئة‏ ‏الأسرية‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏مدى ‏الوفرة‏ ‏المادية‏ ‏بما‏ ‏قد‏ ‏يصاحب‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏تدليل‏، ‏وأيضا‏ ‏نوع‏ ‏ومدى ‏التمسك‏ ‏بالدين‏.‏

رابعا‏: فى هذا العمل أيضا ‏مارس‏ ‏محفوظ‏، ‏فى ‏أماكن‏ ‏متفرقة،‏ ‏قدراته الإبداعية ‏لإعلان‏ ‏النقلات‏ ‏الكينونية‏ ‏النوعية‏ ‏المصاحبة‏ ‏-‏ ‏عادة‏ ‏-‏ ‏للنقلات‏ ‏الأخلاقية‏، ‏دون‏ ‏تفسير‏ ‏غالبا‏، ‏وكأنه‏ ‏يعود‏ ‏ليؤكد‏ ‏طفرات‏ ‏التطور‏ ‏الطبيعية‏ وما يصاحبها من نقلات – أو مضاعفات – سلوكية ‏سواء‏ ‏عرفنا‏ ‏لها‏ ‏سببا‏ ‏أم‏ ‏لا‏.

خامسا‏: ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ غلبة ‏التجانس‏ ‏تقريبيا، بحيث لا يستبعد ‏التناقض‏، ‏كانت‏ ‏هناك‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالفروق‏ ‏المرتبطة‏ ‏بالثقافة‏ ‏الفرعية والفروق الفردية‏ ‏بشكل‏ ‏واضح‏ ‏الدلالة‏.‏

وفيما يلى أمثلة لبعض هذه الفروق الفرعية والفردية الدالة على تولد ثقافات متنوعة مع حركة التطور الاجتماعى مع مراعاة التأكيد على صعوبة التعميم وأخطائه.

 (1) ‏حين‏ ‏فسرت‏ ‏فرجة‏ ‏الصياد‏ “شخرة” ‏يزيد‏ ‏المصرى ‏القادم‏ ‏من‏ ‏الإسكندرية‏ ‏على ‏أنها‏ ‏خرجت‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏قلة‏ ‏الأدب‏، ‏لكن‏ ‏عطا‏ ‏المراكيبى ‏شرح‏ ‏الموقف‏ (ص176): ‏بـ‏ “… إنه‏ ‏إسكندرى،..‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏عادات‏ ‏البلد‏، ‏والشخر‏ ‏عندهم‏ ‏كالتنفس‏ ‏عندنا…‏”.

(2) كان‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏أخلاق‏ ‏عفت‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ ‏داود‏ ‏وأخلاق‏ ‏أهل‏ ‏زوجها‏ ‏صارخا‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏تحدث‏ ‏مضاعفات‏ ‏جسيمة‏، ‏ربما‏ ‏لاستسلام‏ ‏عامر‏، ‏فهل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعتبر‏ ‏أخلاق‏ ‏عفت‏ ‏من‏ ‏أخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏المعنية‏ ‏بالإشارة‏ ‏هنا‏؟‏ ‏الجواب‏ ‏عندى ‏أن‏: ‏نعم‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏هذه‏ ‏الصراحة‏ ‏فى ‏المواجهة‏ ‏من‏ ‏الفريقين‏ ‏تنفى ولو جزئيا ‏عن‏ ‏أخلاق‏ ‏الطبقة‏ ‏الوسطى ‏غلبة‏ ‏النفاق‏ ‏والجبن‏ ‏والوصولية‏ ‏الخبيثة والتعصب‏ كما شاع.

(3) ظهر‏ ‏فى ‏البيت‏ ‏الواحد‏ ‏تناقضات‏ ‏بادية‏ ‏فى ‏الأخلاق‏ ‏والطباع‏، ‏وأظهر‏ ‏مثال‏ لذلك‏ ‏شاكر‏ ‏عامر‏، ‏وفايد‏ ‏عامر‏، ‏وأيضا‏ ‏سليم‏ ‏قابيل‏ ‏وحكيم‏ ‏قابيل.‏ ‏

(4) لم‏ ‏يدمغ‏ ‏النص‏ ‏الاختراقات‏ ‏التى ‏تسمى ‏عادة‏ ‏غير‏ ‏أخلاقية‏ ‏بما‏ ‏يحقرها‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏مصاحبة‏ ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏المغامرة‏ ‏أو‏ ‏الحرية‏ ‏أو‏ ‏الثورة‏ فمنذ‏ ‏أول‏ ‏فقرة‏، ‏دافع‏ ‏عن‏ ‏زواج‏ ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏اللطيف‏ ‏الذى ‏اقترح‏ ‏طبيب‏ ‏العيون‏ ‏الجار‏ ‏استدعاءه‏ ‏لعيادة‏ ‏الطفل‏ ‏أحمد‏، ‏حين‏ ‏اعترض‏ ‏عليه‏ ‏عمرو‏ ‏أفندى ‏عزيز‏ ‏قائلا‏:‏ “‏ولكنه‏ ‏متزوج‏ ‏من‏ ‏بمبة‏ ‏كشر”، فيرد‏ ‏طبيب العيون‏ ‏الجار‏ ‏قائلا‏ (ص 8): ‏“…بمبة‏ ‏كشر‏ ‏لم‏ ‏تُنسه‏ ‏الطب‏ ‏يا‏ ‏عمرو‏ ‏افندى…”.

(5) ثم نرى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بليغ‏ ‏معاوية‏ ‏القليوبى (ص 34): “…‏وقد‏ ‏راح‏ ‏يسكر‏ ‏ويقصف‏ ‏لكنه‏ ‏ينجح‏ ‏ويتاجر‏ ‏ويتزوج‏ ‏ويخرج‏ ‏ابنه‏ ‏ويربيه‏ ‏ويتعهده‏ ‏ويباركه‏ ‏حتى ‏يراه‏ ‏من‏ ‏كبار‏ ‏القضاة‏، ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يكف‏ ‏عن‏ ‏الشرب‏ ‏أبدا‏ ‏حتى ‏تليف‏ ‏كبده…”‏.

(6) أما‏ ‏سرور‏ ‏عزيز‏ ‏المصرى ‏فعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏بدايته‏ ‏اللذية‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏خلافاته‏ ‏مع‏ ‏زوجته‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏خيالاته‏ ‏وأحلامه‏ ‏وتهديده‏ ‏إياها‏ ‏بالزواج‏ ‏ثانية‏ ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يخن‏ ‏زوجته‏ ‏إلا‏ ‏مرتين:‏ ‏واحدة‏ ‏فى ‏بيت‏ ‏من‏ ‏بيوت‏ ‏البغاء‏، ‏والأخرى ‏علاقة‏ ‏عابرة‏ ‏لم‏ ‏تدم‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أسبوع‏.‏

(7) إلا‏ ‏أن‏ ‏ابنه‏ ‏لبيب‏ ‏سرور‏ قد ‏حقق‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يتطلع إليه‏ ‏أبوه‏، ‏فبعد‏ ‏نبوغه‏ ‏المبكر‏ ‏جدا‏، ‏وبعد‏ ‏توليه‏ ‏المراكز‏ ‏المرموقة‏ ‏فى ‏سلك‏ ‏القضاء‏، (ص 189): “…‏إذا‏ ‏به‏ ‏يولع‏ ‏بالخمر‏ ‏والنساء‏، ‏فيمارس‏ ‏العربدة‏ ‏والفسق…‏”، ‏لكنه‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏يتزوج‏ ‏من‏ ‏مطربة‏ ‏من‏ ‏الدرجة‏ ‏الرابعة‏، ‏معرفة‏ ‏قديمة‏، ‏ويحج‏ ‏معها‏.‏

(8) أما شاكر‏ ‏عامر‏ ‏عمرو‏ ‏فيتزوج‏ ‏الراقصة‏ ‏الهنجارية‏ ‏التى ‏تعرف‏ ‏عليها‏ ‏فى ‏ملاهى ‏الهرم‏، ‏وهاجر‏ ‏معها‏ ‏وعاد‏ ‏ثم‏ ‏رجع‏ ‏بها‏ .‏

(9) ‏العلاقة‏ ‏المخترقة‏ ‏التى ‏انتهت‏ ‏بمأساة‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏حسنى ‏محمد‏ ‏سلامة‏ ‏فقد‏ ‏انتهى ‏حبه‏ ‏لعجيبة‏ ‏الراقصة‏ ‏بقتلها‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تزوجها‏ ‏ثم‏ ‏ضبطها‏ ‏مع‏ ‏رشاد‏ ‏الجميل‏ ‏ممثل‏ ‏الأدوار‏ ‏الثانوية‏.‏

وبعد

فقد‏ ‏أوردت‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الاختراقات‏ ‏لأظهر‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏اختراق‏ ‏الأخلاق فى‏ ‏هذه‏ ‏الطبقة‏ لم يكن جاهزا نشطا خطرا ‏إلا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏واحدة‏، وهو عادة ‏ليس‏ ‏اختراقا‏ ‏دائما‏ ‏أونقيضيا‏ ‏على ‏طول‏ ‏الخط‏، ‏بل هو‏ ‏كما‏ ‏قدمت حالا‏ ‏اختراق مؤقت‏، ‏يحمل‏ ‏عوامل‏ ‏إنهائه‏ ‏أو‏ ‏الانتهاء‏ ‏منه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

على ‏أننا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نرصد‏ ‏عدة‏ ‏مستويات‏ وتنويعات ‏من‏ ‏الأخلاق‏، ‏وإن‏ ‏ارتبطت‏ ‏بالبعد‏ ‏السياسى ‏والبعد‏ ‏الثرائى (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏) ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت، مما قد نعود إليه لاحقا حين نستكمل الدراسة، فأكتفى حاليا ببضع عناوين مثل:

‏1- ‏الأخلاق‏ ‏الشعبية‏ الوفدية‏، ‏وتمثلها‏ – أساسا – ‏أغلب‏ ‏عائلة‏ ‏عمرو.

‏2- ‏الأخلاق‏ ‏المصرية‏ ‏اللاوفدية‏، (‏الأرستقراطية‏) ‏وتمثلها – أساسا-‏ ‏عائلة‏ ‏داود‏ ‏فعبد‏ ‏العظيم‏ ‏باشا.

‏3- ‏الأخلاق‏ ‏اليوليوية‏ ‏ويمثلها‏ ‏بعض‏ ‏عائلة‏ ‏عطا‏، ‏ومعظم‏ ‏الضباط‏، ‏وخصوصا‏ ‏ضباط‏ ‏الثورة‏ ‏من‏ ‏عائلة‏ ‏عطا.

‏4- ‏الأخلاق‏ ‏الانفتاحية‏ ‏العملية‏ (معظم الشخوص).

‏5- ‏الأخلاق‏ ‏المنعزلة‏ الخصوصية -‏ ‏الأنامالية‏ – ‏ويمثلها‏ ‏‏المتفرجون‏ ‏والمنسحبون.

‏6- ‏الأخلاق‏ ‏المثالية، ويمثلها‏ ‏اليساريون‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وربما المثقف‏ ‏الواحد الذى ظهر من جهة أخرى.

‏7- ‏الأخلاق‏ ‏السهلة‏ (و‏الاستسهالية‏) ‏العملية‏، ‏والمغامرة‏ ‏ويمثلها‏ ‏المغامرون‏ ‏والعشاق.

‏8- ‏الأخلاق‏ ‏الدينية‏ ‏الشعبية‏ ‏وتمثلها‏ ‏راضية معاوية القليوبى‏، ‏وقاسم‏ عمرو عزيز.

‏9- ‏الأخلاق‏ ‏الدينية‏ ‏الرسمية‏ ‏ويمثلها‏ ‏الإخوان‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وملامح‏ ‏من‏ ‏الأزهريين‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى.

وبعد

انتهى الجزء الأول وقد يليه ما ينبغى، حسب العمر وشطارة من ينقضّ على وقتى من أعمال لا تريد أن تكتمل.

[1] – (وهو أحد محبى الأستاذ وأصدقائه القدامى). وقد نشر دراسته التى قدمها فى الندوة بعنوان : “قراءة فى حديث الصباح والمساء” مجلة الإنسان والتطور، عدد 69 – 74 (ابريل/ يوليو 2000- 2001).

[2] – يحيى الرخاوى “قراءات فى نجيب محفوظ”  الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992

[3] – مصطلح “الجغرافيا التاريخية”، حضرنى وأنا أكتب دون الرجوع إلى أصله الأكاديمى، أو حتى الشائع عنه، وحين بحثت عنه وجدت له معان وتعريفات كثيرة، أغلبها لا يحتوى ما أريد تماما، ومع ذلك أصررت على استعمالى الخاص له، ولم أحاول إثبات هذه التعريفات حتى لا استدرج إلى مستوى أكاديمى أتجنبه عادة.

[4] – يحيى الرخاوى “القتل بين مقامى العبادة والدم فى ليالى ألف ليلة”  نشرت‏ ‏فى “الإنسان‏ ‏والتطور”‏عدد يوليو”1984، ثم نشرت فى كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب 1992.

[5] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” دراسة في سيكولوجية النقد، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2006.

[6] – كما بلغنى من كل مشاهديه، فأنا لم أشاهده، ربما قصدا حتى لا يتداخل مع تشكيلى الناقد له.

[7] – مما ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏بعض‏ ‏الاتجاهات‏ ‏الأحدث‏ ‏لطبيعة‏ ‏الذاكرة‏ ‏وتصنيفاتها فيما يمكن أن نتعرف عليه من نموذج الهولوجرام للتصوير والتسجيل.

[8] – يحيى الرخاوى “دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق” فى الحَرافيش” “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.

[9] – يحيى الرخاوى “قراءات فى نجيب محفوظ”  الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.

[10] – يحيى الرخاوى “نقد ملحمة الحرافيش” “قراءات فى نجيب محفوظ”  الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.

[11] – وكم‏ ‏آسف‏ ‏حين‏ ‏أشاهد‏ ‏أحيانا‏ ‏من‏ ‏يستغل‏ ‏سماحه‏ ‏المطلق‏ ‏فى ‏تحويل‏ ‏نصوصه‏ ‏إلى ‏مسلسلات‏ ‏أو‏ ‏أفلام‏، ‏فيأخذ‏ ‏اسمه‏ ‏ثم‏ ‏يضيف‏ ‏وينقص‏ ‏وينقل‏ ‏ويحذف‏ ‏حتى ‏يدخل‏ ‏به‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏موقعه‏، ‏جغرافيا‏ ‏وطبقيا‏، ‏بشكل‏ ‏مشوه‏ ‏ومخل‏ ‏بلا‏ ‏مبرر. كما حدث فى مسلسل “حكاية بلا بداية ولا نهاية” كما بلغنى (لم أشاهده).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *