الرئيسية / نجيب محفوظ / دورية نجيب محفوظ / “حديث الصباح والمساء”‏ يكشف: جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين

“حديث الصباح والمساء”‏ يكشف: جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين

دورية نجيب محفوظ

العدد الخامس – ديسمبر 2012

 مركز نجيب محفوظ

والمجلس الأعلى للثقافة

 (نجيب محفوظ والثورة)

“حديث الصباح والمساء” يكشف:

جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين

‏ استهلال:

نجيب محفوظ هو الثائر دائما، يحضرنى بالأصالة عن نفسه، والنيابة عن ناسه فى إيقاع حيوى ثورى متجدد لم ينقطع حتى بعد زعم رحيله، وأنا لا أعنى بذلك ما قد يندرج تحت ما يسمى “أدب المقاومة”، وإنما أعنى أساسا معنى: الثورة الإبداع، والإبداع الثورة.

‏ مقدمة:

 “أدب المقاومة” هو ما يقصد به ذلك النوع من الأدب الذى يُشهر فى مواجهة القهر والظلم والسلطة الغاشمة، وقد أخد عدة أسماء على مدار التاريخ فكان يسمى مثلا أدب الجهاد أو أدب النضال…الخ، وقد تناول النقاد بعض ذلك أو أغلبه عند محفوظ بشكل مهم ومناسب بدءًا من كفاح طيبة وحتى قشتمر (1)، هذا النوع من الأدب إنما يقوم بدور إيجابى لا غنى عنه، وخاصة فى المراحل التى يحتاج فيها الناس، وعلى رأسهم المناضلون والمعارضون والمنفذون فى الخطوط الأمامية، أن يكشف لهم ما هو خافٍ عنهم، وأن يتعرفوا على من معهم ومن ضدهم، هذا النوع من الأدب يقوم بالحفاظ على طاقة الدفع وزخم الحماس اللازمين للاستمرار فالاقتحام: فهى الثورة.

وقد قيل فى محفوظ وأدبه فى هذا المجال ما قيل سواء ممن اعتبروه إنسانا مسالما أكثر مما يتوقعون أو يرجون، أو ممن استخرجوا من أدبه بشكل مباشر أو غير مباشر ما يحث على العمل والأمل مما يخدم ويدعم مقاومة القهر، أو تفعيل حركة التثوير المعلن، أو حتى الانتماء إلى فكر بذاته أو طبقة بذاتها (2)وكان الترحيب والتقريظ عادة يركزان على هذا الدور فى أدبه، وعلى  فضل إيجابياته فى القيام بالدور النضالى، وعلى القدرة على الاستشراف والتنئبو بالثورة القادمة وكذلك التعاطف مع المقهورين وشد أزرهم وإحياء الأمل فيهم، وكل ذلك ومثله ليس موضوع هذه الدراسة، وإنما موضوعها هو ما أعنيه “بالأدب الثورة” الذى يمثله أغلب أدب محفوظ، فقد وصلنى دائما أن أدبه يتميز بحيوية دافقة ممتدة بأصالة عميقة، عبر ذراعَىْ “الإيقاع الحيوى” أصل الحياة، ومن ثَمَّ كنت – ومازلت- أرى كيف أن موقفه مما هو ثورة أعمق وأشمل كثيرا مما يسمى أدب المقاومة، وكذلك من الأدب “المواكب” لما يعرف بالثورة، ويسمى أحيانا “أدب الثورة”، أدب محفوظ كله أو أغلبه يستحق هذا المصطلح غير المألوف “الأدب الثورة”، وهذا لا يستبعد تصنيف كون بعض أدبه مع أدب المقاومة أو أدب الثورة، كأبدع ما يكون.

الإبداع الحقيقى ليس إلا ثورة كاملة، فهو عملية متكاملة تشمل ما هو إقدام فتفكيك يصل أحيانا إلى حد التحطيم الذى تلحقه اللملمة فإعادة التشكيل فالتخليق، وأهم مثال يوضح ذلك هو عملية إبداع الشعر الحقيقى فى تعامله مع اللغة، وهذا ينطبق على أى نوع من الإبداع الاختراق الخلاق، وفى حوار لم أعثر على مصدره حتى الآن أذكر أن أدونيس رد على توفيق الحكيم حين قارن دور “رجل القلم” بدور “رجل العمل”، وفضل الثانى على الأول فى فاعليته للتغيير، فرد أدونيس عليه أن الشعر الشعر – مثلا – هو “فعل فى ذاته”، وليس رسما لفعل آخر منفصل عنه، وأذكر أن أدونيس ميز بين “شعر الثورة”، وهو الشعر الذى يسبق ويحفز ويحضر ويواكب ِأية ثوره جماعية أو مقاومة شعبية، و”الشعر الثورة” الذى هو فى حد ذاته ثورة مغيّرة بالضرورة، ولعل هذا هو ما يضع شعر التحريض، مع الاعتراف بدوره “المفيد” فى الإثارة والتهييج والتجميع والدفع، فى موقع متواضع بمقياس زخم الإبداع وعمقه.

على هذا الأساس استقبلت أغلب أعمال نجيب محفوظ بفاعليتها المغيّرة التى تعيد تشكيل الواقع وهى ترسم واقعا إبداعيا أكثر تعرية وأقدر اختراقا، وهو ما اسميته “الواقع الإبداعى” الأكثر واقعية من كل مستويات ما هو واقع آخر.

محفوظ فى ثورات ابداعه يتناول بتوازن دقيق طورى الثورة فى تلاحق فعال، وتناسب مبدع، وهو يحقق ذلك بأن يعتنى بذراع الإعداد والتلقيح والتراكم والحمل نفس عنايته بالاستعداد بذراع المخاض لولادة ناجحة حين تحين ساعة البعث فيخرج المولود جديدا إلى النور بعد حمْل ناجح: فهى الثورة المعلنة.

 تأكد لى هذا الفرض بالذات فى هذه الرواية العبقرية “حديث الصباح والمساء”، وهى تتناول طور التفاعل والامتلاء والإعداد من دورات الإيقاع الحيوى التى تمثل الثورة المتكاملة بعض تجلياته.

“حديث الصباح والمساء”

يمثل هذا العمل إحدى هذه الثورات الإبداعية التى لابد أن تفيقنا لتدفعنا إلى بداية جديدة بالغة التحدى، وقد وصلتنى الرواية قصيدة حديثة تكشف أغوار نفوس عينة ممثلة للشعب المصرى بطول أكثر من قرنين، احتواها وعى محفوظ الخلاق وهو يتقمص تاريخها كله تقريبا، دون التركيز على الذراع الظاهر لانتفاضات محددة مما يسمى عادة “الثورة”، بل لعل العكس كان صحيحا، فقد كان العمل كله معايشة لحركية وعى هؤلاء الناس الممتد بين هذه الثورات التى مرت بهم، وتفجرت منهم الواحدة تلو الأخرى، وجدلهم معها.

وبعـد

فى الجزء الأول الذى ظهر فى العدد الماضى من هذه المجلة الغراء أشرت إلى أنه دراسة نقدية متعددة الأجزاء، كما اعترفت بعجزى عن تحديد عدد الأجزاء التى سوف تحتاجها، وقد أوضحت فى هذا الجزء الأول كيف تعاملت مع هذا النص البديع باعتباره تفعيلا أمينا لتاريخ مصر كما سُجل فى وعى هذا المبدع الفذ، معتبرا أنه رصدٌ لتاريخ جماعة المصريين، بمصداقية أكثر من مزاعم التاريخ المكتوب بما فى ذلك “علم التاريخ”، كما تحدثت عن الجغرافيا التاريخية والإبداع، ثم عن تحديات الذاكرة التخليقية حين تضطر المتلقى أن يتلقى أمانة النص بنفس الاتساع الذى ترامى فيه فاحتواه أثناء حمل فولادة هذا العمل الذى وصلنى باعتباره “سيرة ذاتية جماعية” حالة كون المبدع منتميا لناسه وزمانه حتى أصبح هو نفسه ممثلا للوعى الجمعى فى فترة بذاتها، بحيث يمكن أن يقال أنه لم يكن إلا ماهو “نحن” وهو يكتب هذه الرواية التى يتناسب نجاحها فى تصويرنا مع قدرته على الإمساك بأطراف هذه السيرة الجماعية ما أمكن ذلك، ينسجها من جديد بإبر إبداعه الفائقة، وقد حقق ذلك بشكل فائق الروعة.

وصلتنى رواية حديث الصباح والمساء أساسا على انها تاريخ حركية الطبقة الوسطى المصرية عبر قرنين من الزمان، وقد حضرتْ مستعرضة فى “هنا والآن” حين فردها نجيب محفوظ بهذا الترتيب الأبجدى ليتجول إبداعه فى ملعب الزمن حاضرا ذهابا وجيئة كما شاء كيف شاء، حتى استطاع أن “يرسم” – أكثر منه “يحكى”- ناسه مستعرضين على مساحة لوحة زمنية مترامية الأبعاد، فظهرت هذه الرواية المعجزة وكأنها “مصر قد حضرت فى وعيه بكل هذا الاتساع والتحدى” لنشاهد “اللوحة ممتدة متداخلة بكل هذا الجمال”.

عرضت فى ذلك الجزء الأول بعض الفروض التى حضرتنى من العمل مثل: طبيعة الذاكرة الإنسانية، وروعة وزخك وعمق ما هو “عادى” بمعنى غير ما وصلنا حتى من الثلاثية أو من  “حضرة المحترم”، ثم أشرت إلى ملامح الخطوط العريضة المشيرة إلى تشكيلات التدين فى هذا الشعب فى هذه الحقبة، ثم إلى تراكيب تعقيدات وأفراح واختراقات المؤسسة الزواجية وكذلك تشكيلات التباديل والتوافيق فى القيم والأخلاق التى سادت عبر هذين القرنين، حتى أنهيت هذا الجزء بأنه: “انتهى الجزء الأول وقد يليه ما ينبغى حسب العمر والفرص” ثم جاء هذا العدد الخاص  فحدد لى الجزء الثانى من هذه الدراسة، ليكن عن “الثورة”.

الثورة فى حديث الصباح والمساء

قلت حالا إن أغلب إبداع محفوظ هو ثورة فى ذاته بذاته، وقد تجلت كل مواصفات الثورة فى نقلات محددة فى تاريخ إبداعه، وهذا غير تقسيم مراحل إبداعه إلى مراحل متعاقبة: تاريخية واجتماعية وواقعية ونفسية وفلسفية، وهو ما أتحفظ عليه (3). محفوظ يفاجئنا بين الحين والحين بشكل جديد غير مألوف عن سابق إبداعه، وغير مألوف أيضا من غيره، وهو كذلك غير مألوف لنا ونحن نتلقاه، ولا أحسب أنه يفعل ذلك قاصدا بقدر ما يكون قد آن الآوان، وتراكم المحتوى، وتقلبت الحركة، واكتمل الحْمل، حتى حان وقت وضع المولود الجديد، حين تملى ظروف الواقع ما يتطلب ظهوره، ليساهم فى التغيير فتتجلى النقلة، فهى الثورة.

حدث هذا – مثلا – حين فاجأنا بأصداء السيرة الذاتية، كما حدث فى أحلام فترة النقاهة، فكانتا عينتان مميزتان لتغيير الشكل الذى ترتب عليه ما وصَلَنا من ثوريه المضمون القادر على الاقتحام المباغت المدهش المغيِّر، لكننى لم أكن منتبها إلى عمق ثورية هذا العمل الحالى – حديث الصباح والمساء- بشكل كاف.

هذا الحديث الجارى صباح مساء هو ثورة إبداعية بالمقاييس التى بيّناها حالا، وأرى أنه ثورة أكثف زخما وأبلغ تحديا من كل ثورات إبداعه، ربما فيما عدا أحلام فترة النقاهة التى وصلتنى، سلسلة من انتفاضات برق خاطف تجمعت بطبيعتها فى تشكيل بديع متكامل، هو الثورة أيضا بكل مواصفاتها السالفة الذكر (4).

ثورات الجماهير إبداع جماعى:

ثورات الجماهير عبر التاريخ هى إبداع جماعى بالمعنى الذى بيّناه فى علاقة نبض الوجود بالإيقاع الحيوى، فهى تمر بكل مراحل الإبداع بدءًا بالاستيعاب النشط، ومن ثَمَّ تراكم رسائل “الحركة”، و”النقد”، و”الرفض”، و”الحفز”، و”التقليب”، و”التعتعة”، و”الإعداد” على كل مستويات الوعى، ثم تأتى مرحلة “الاقتحام” لتفكيك القديم الراسخ، ثم مراحل احتمالات التهديد بالتفكيك العشوائى، ثم مرحلة إحاطة التناثر بالتأليف والتوليف وإعادة التشكيل فالتغبير، ثم يُعلن التغيير النوعى الكلى عادة، فى عمل جديد متاح، ونحن لا نسمى الإبداع إبداعا إلا بعد نجاحه فى الوصول إلى المرحلة الأخيرة وهى المرحلة التى يتم فيها تجميع كل هذا فى الناتج البديع فى متناول المتلقى والتاريخ، بمعنى أننا لا نتعرف على ناتج الإبداع، وقد لا نحسب للمبدع، إلا ما يظهر منه فى مرحلة البسط الختامية مع درجات مختلفة من التركيز على غير ذلك، كذلك نتعامل مع مشاريع ثورات الناس وناتجها المتكامل أو المجهض، بنفس اللغة ونفس المقاييس.

 نجيب محفوظ، فى هذا العمل جعلنا نعيش مراحل الإعداد والجدل ما بين ثورة وثورة وكيف يتشكل وعى الأفراد فالوعى الجمعى فى مراحل الاستيعاب والإدراك والتلقى والنقد والحوار طول الوقت، حتى يخرج علينا فى الثورة التالية. مهما طال الزمن.

الحمل بالثورة، والملء للبسط

الذى يحدث فى طور الإعداد والجدل للامتلاء هو تفاعل ممتد من أغلب الناس (أو كل الناس) لنتائج ثورة تمت فعلا، وهذا التفاعل يشمل حوارا وتفعيلا وجدلا وقبولا ورفضا ومحاولات هدم وإعادة نظر بشكل لا يشترط ظهوره فى سلوك بعينه أو وعى ظاهر، يحدث ذلك دون استثناء فى الشعوب الحية التى تقوم بنقد ثوراتها، فتصحيحها والإضافة إليها، فيتم الحفاظ على إنجازات الثورة التى قامت، وفى نفس الوقت يبدأ الحمل، بالثورة القادمة. المبدع المتابع لحركية التاريخ للتعرف على أبعاد تطور وعى قومه قادر على أن يرصد كل ذلك ليكشف عن ما تيسر له من حركية تميز طورىْ الثورة ما أمكن ذلك، فهو لا يكتفى بالتركيز حصريا على طور البسط الذى نسميه  عادة –  دون ما يسبقه – “ثورة”، ولكنه يساهم فى أن يقدم ناسه لناسه بما هم، وكيف تحرك وعيهم أثناء ما يجرى من إعداد لدفع النبضة التالية (الثورة القادمة، وهكذا)، تماما مثل القلب إن لم تدرس العوامل التى تؤدى إلى ملء القلب بالدم، لتوفر القدر اللازم من الدم العائد من كل الجسم إلى القلب بدرجة كافية فلا فائدة من انقباض عضلة القلب لأنها لن تدفع أمامها إلا الفراغ.

فى حديث الصباح والمساء نجيب محفوظ قدم لنا هذا الجانب الآخر من الثورة: جانب الإعداد والملء بما فيه من جدل ونقد ورفض وتأييد وإقدام وإحجام وتنويعات من التفاعلات المتداخلة المكثفة بلا حصر، وهو لم يتوقف عند ثورة بذاتها يصفها أو يمدحها أو يذم خائنيها أو يبكى على فشلها، كما أنه لم يركز على حركة مقاومة بذاتها لها دورها ودلالتها، وإنما هو قدم عينة ممثلة لتفاعلات شعب بأكمله، بأغلب التباديل والتوافيق المحتملة، تركيزا على الطبقة الوسطى، بما فى ذلك من انتقل فيها أمام أعيننا إلى أعلى بالصدفة أو بالشطارة، وإلى درجة أقل تواترا: إلى أدنى، وكأنه ينبهنا إلى أهمية ودلالة ما بين الثورات: لنحسن الإعداد والاستعداد.

سوف أحاول أن أعرض ما تيسر من هذه التفاعلات التى قدمها محفوظ فى هذا العمل بالطول والعرض عن الثورات المصرية التى حدثت عبر قرنين من الزمان، مع التذكرة بأن العمل لم يحتو بطلا واحدا تدور حوله الأحداث، ولا هو توقف عند ثورة بذاتها، بل إن ذكر الثورات جاء فى الخلفية دون واجهة الأحداث، مقارنة بحضور الأفراد الشديد الثراء، مهما ضاقت مساحة سيرهم، وكأنى افترض أن هذا العمل يكشف لنا تفاعل الأفراد على اختلافاتهم الفردية مع الثورة التى يتصادف أن يعايشوها، ومدى تنوع ذلك وكذلك فائدة الوعى بحركيته الجدلية.

يعرض هذا العمل عينة ممثلة من أفراد هذه الطبقة الوسطى أساسا، بكل نبض وعيها للثورات المختلفة فى هذا الزمن الممتد، وذلك بأن يقدم الاختلافات الدالة من أقصى الفرجة والتهمييش، إلى غاية الحماس والتقديس مرورا بالتحفظ، والحقد، والانتهازية، والانسحاب، والحسرة، وذلك بالنسبة لمعظم ما ورد من ثورات، مع تحيز متوقع لثورة 1919، ونقد موضوعى-غالبا- تجاه ثورة يوليو 1952، هذا علما بأن موقف محفوظ من هاتين الثورتين بوجه خاص قد نوقش باستفاضة بصفة عامة فى أعمال (5)وحوارات (6) سابقة.

ثورات وثورات:

أولاً: ثورتا القاهرة الأولى والثانية،

أول ما جاء التلميح إلى ما هو ثورة كان فى سيرة آخر شخصية أبجدية “يزيد المصرى” مع أنه هو هو رأس أضخم عائلات الرواية:

ابتداء ملأنى العجب من هذه المقابلة بين وصول يزيد المصرى إلى القاهرة ووصول الحملة الفرنسية، ثم تحديد التوقيت بأن “هذا” كان قبل “ذاك” بأيام، “وصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة الفرنسية بأيام” (ص216). فوصلنى مباشرة ما رجحته من أن هذه الرواية، إنما تقدم لنا من هو إنسان مصرى فرد (عادى) أساسا، على قدم المساواة، وربما أهم، من الخلفية الماثلة فى مسرح الأحداث مهما بلغت ضخامتها وسمعتها، سواء كانت حملة أو غزو، أو ثورة مقاومة عامة وتحرير شامل، رحت أراجع هذه المقابلة بين وصول الحملة الفرنسية إلى القاهرة مع وصول يزيد المصرى “إلى القاهرة أيضا”، فتأكدت من الرسالة التى وصلتنى بما لا يحتاج إلى مراجعة، ثم تأكد لى هذا الفرض أكثر حين رحت أتأمل خلفية مشهد آخر وهو يصف ابنىْ يزيد: عزيز، وداود، وكيف أن الحملة الفرنسية كانت أيضا تمثل نفس الخلفية “‏وجاءت‏ ‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ ‏وذهبت‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يبلغ‏ ‏الشقيقان‏ ‏الوعي‏ ‏فمر‏ ‏بهما‏ ‏نابليون‏ ‏بونابرت‏ ‏كما‏ ‏يمر‏ ‏بياع‏ ‏الفجل‏ ‏أو‏ ‏بياع‏ ‏الدوم” (ص 152)، هذا ليس تهوينا لحضور أو تأثير الحملة الفرنسية، ولا هو مرتبط أساسا بحداثة سن الطفلين، ولكنها علامة أخرى تعطى ضمنا إشارة إلى أهمية مركزية لطفلين لم يبلغا الوعى وهما يلعبان على خلفية هذا الحدث الضخم (الحملة الفرنسية) ثم يتأكد لى هذا الفرض من جديد ونحن نرصد مجلس والديهما وصديقيه، فقد أحضرهم محفوظ جلوسا على “مقهى الشربينى بالدرب الأحمر” حيث يجتمع الأصدقاء الثلاثة، “الشيخ القليوبى، ويزيد المصرى، وعطا المراكيبى” ليرسم لنا فى الخلفية (الأرضية)، نابليون وهو يسير على رأس جنوده أمام المشهد الحسينى، ‏‏وشهد‏ ‏الرجال‏ ‏نابليون‏ ‏بونابرت‏ ‏على ‏جواده‏ ‏وهو‏ ‏يسير‏ ‏على ‏رأس‏ ‏جنوده‏ ‏أمام‏ ‏المشهد‏ ‏الحسينى‏” (ص 160) ليس معنى ذلك أنه يشير إلى موقف لامبالاة بالحدث العام، لأنه يقر أن الثلاثة عاصروا الحملة كلها بما فى ذلك ثورتى القاهرة، ثم يلحق ذلك مباشرة بأن يزيد شخصيا “كاد يهلك” فى الثورة الثانية، وهذا دليل كاف على أنهم لم يكونوا بعيدين عن الأحداث، ولكن هذا لم يلزم الكاتب بتحديد دور أى منهم بالتفصيل ولا حتى دور يزيد الذى كاد يهلك، يا ترى مشاركا ثائرا، أم مواطنا مُجتاحاً.

يتأكد ترجيح التركيز على تفاعلات الفرد/الأفراد فى طول الرواية وعرضها كشكل أساسى، على خلفية الثورات الواحدة تلو الأخرى حين يأتى وصف مواز لموقف أحد الأحفاد يذكرنا بمرور الثورة الفرنسية أو مرور نابليون على الجالسين على مقهى الشربينى وذلك حين نقرأ: كيف مرت ثورة 1919 على حليم عبد العظيم داود “كأنها فيلم مثير يشاهده فى إحدى دور العرض” (ص 74) لأنه قرر أن يعيش حياته لاهيا متفرجا، والتاريخ – بما فى ذلك ثورة 1919- هو الخلفية، ويتأكد أيضا نفس الفرض حين يأتى ذكر علاقة راضية معاوية القليوبى بثورة 1919 وهى تشاهدها من مشربية بيتها العتيق، وكأنها تشاهد زفة مولد تمر بالشارع للفرجة، مع أنها هى التى اعتبرت سعد زغلول وليا من أولياء الله وقد‏ ‏شاهدت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏من‏ ‏مشربية‏ ‏بيتها‏ ‏العتيق‏، ‏وسجلت‏ ‏فى ‏قاموسها‏ ‏الخالد‏ ‏وليا‏ ‏جديدا‏ ‏اسمه‏ ‏سعد‏ ‏زغلول” (ص94)، وخافت على عمرو (زوجها) أن يسجنوه مثلما سجنوا الشيخ معاوية القليوبى “هل يسجنونه كما سجنوا الشيخ معاوية؟” (ص94).

لا مجال للحديث أكثر عن أى من ثورتى القاهرة على الرغم من أن يزيد المصرى كاد يهلك فى إحداهما كما ذكرنا، مع أنه لا يمكن أن نستبعد ما ترسخ فى أعماق من “عاصروهما” تمهيدا وإعدادا لثورة عرابى، فهما ثورتان لا تذكران بالقدر الكافى فى تاريخنا المعاصر وربما أيضا ليس بالاحترام الكافى لتاريخ هذا الشعب، مع أن الناظر إلى بعض التفاصيل لابد أن يلمح شبها ما بين كل منهما وما حدث فى مشروع ثورة يناير 2011 مؤخرا. ولو أن محفوظ عاش ثورة يناير، وهو يستحضر ثورة القاهرة الأولى (20 أكتوبر 1798) والثانية (30 مارس – 20 إبريل 1800)، فربما أوصل لنا بطريقته البديعة وجه الشبه بشكل ما، ففى ثورة القاهرة الأولى 20 أكتوبر 1798: كان من أهم أسباب الثورة: فرض الفرنسيين للضرائب الباهظة خاصة على التجار على عكس وعود نابليون عند قدومه لمصر. كما قاد الأزهر وشيوخه الثورة وقام التجار بتمويلها وأقيمت المتاريس في المدن. وحينما اشتعلت الثورة قتل الكثير من المصريين والفرنسيين. كذلك حكم على ستة من شيوخ الأزهر بالإعدام، واقتيدوا إلى القلعة، حيث ضربت أعناقهم ثم انتشلت أجسادهم إلى أماكن مجهولة، كذلك جاء فى بعض مشاهد ثورة القاهرة الثانية، 21 أبريل 1800 (= 16 ذي القعدة 1214 هـ) كيف احتشد جمع اخر وصاروا يطوقون الجنود الفرنسيين بالأزقه والحارات وهم يرددون الهتافات المعادية للفرنسين وعلى رأسهم “كليبر”، ثم اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية. إذن: من قديم واللعبة سارية، بما فى ذلك اللعب فى شق عنصرى الأمة: الحكاية هى هى!!

ثانياً: ثورة محمد على:

ذكر محفوظ ولاية محمد على باعتبارها “ثورة إصلاحية” هذا ماجاء فى المتن  بالنص كالتالى: “وعاصروا‏ ‏ (الأصدقاء الثلاثة) بعد‏ ‏ذلك‏ ‏ولاية‏ ‏محمد‏ ‏على ‏ومذبحة‏ ‏المماليك‏. ‏و”الثورة‏” التى أحدثها فى البلد وأهلها” (ص160) (7)، فقد نبهنى هذا الوصف المقصود إلى استعمال جيد آخر لما هو “ثورة” حيث استطعت أن استنتج منه اعتراف محفوظ بنوع آخر من الثورات حين يقوم الحاكم نفسه بثورة لا يفرضها على ناسه بقدر مايستلهمها منهم لتكون ثورة موازية للثورة التى قد يبدأها الناس، ربما بما يقابل ما قام به عبد الناصر من تثوير “حركة يوليو” المرة تلو الأخرى، وفى رأيى أن مثل هذه الثورات هى ثورات بحق، حتى لو جاءت من أعلى إلى أسفل وليس العكس، وعلى الرغم من أن محفوظ لم يربط بين ثورة محمد على وثورة عبد الناصر، ولو فى وعى أحد المعمرين، إلا أن التوازى وصلنى بشكل إيجابى لصالح الاثنين معا.

ثالثاً: ثورة عرابى:

بدأت الإشارة إلى ثورة عرابى فى سيرة جليلة الطرابيشى التى “عمرت حتى جاوزت المائة”(ص 42) فهى تعتبر مرجعا تاريخيا فى ذاتها بذاتها، ليست بمعنى رصد الأحداث وإنما بمعنى استلهام التفاعلات وفهمها من حضورها، فقد عاصرت فترة من حكم محمد على وعهود إبراهيم عباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية، ولم يرسب فى أعماقها سوى الثورة العرابية التى اعتبرت زوجها من أهم رجالها”، ثم يصف محفوظ اختلاط صورة عرابى فى رأسها بعنتره والهلالى وآل البيت إكراما لذكرى الشيخ معاوية، فأجد فى ذلك إشارة باكرة إلى تمازج الثورات المصرية وأبطالها بالدين الشعبى (باستثناء ثورة يوليو) (8) بشكل أو بآخر، وامتد هذا البعد فى ابنتها راضية “سيدة الأسرار الغيبية” التى أضافت لها “… الفخر ببطولة أبيها الذى بفضله جعلت من عرابى وثورته أسطورة ذات كرامات وخوارق تداخلت فى كرامات البدوى وأبى العباس وأبى السعود والشعرانى وامتزجت بعنتره ودياب وإناث الجن وذكورهم والسحر والتمائم والأحجبة والبخور والرقا(ص 93 ، 94).

جاء ذكر ثورة عرابى أكثر فى سيرة معاوية القليوبى “ولما‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏العرابية‏ ‏تحمس‏  ‏لها‏ ‏الشيخ‏ ‏ومال‏ ‏إلي‏ ‏تيارها‏، ‏وأيدها‏ ‏بالقلب‏ ‏واللسان،‏ ‏ولما‏ ‏فشلت‏ ‏الثورة‏ ‏واحتل‏ ‏الإنجليز‏ ‏مصر‏ ‏قبض‏ ‏عليه‏ ‏فيمن‏ ‏قبض‏ ‏عليهم‏ ‏وقدم‏ ‏للمحاكمة‏ ‏فقضت‏ ‏عليه‏ ‏بالسجن‏ ‏خمسة‏ ‏أعوام‏. ‏وراحت‏ ‏جليلة‏ ‏تطوف‏ ‏بأضرحه‏ ‏الأولياء‏ ‏داعية‏ ‏على‏ ‏الخديوى‏ ‏والإنجليز”‏. ولا يفوت نجيب محفوظ أن يرصد انتكاسة أغلب الوعى الشعبى بالنسبة لهذه الثورة وتنكره لإيجابياتها كما جاء فى سيرة معاوية القليوبى وهو يحكى: “‏وغادر‏ ‏الشيخ‏ ‏معاوية‏ ‏السجن‏ ‏ليجد‏ ‏نفسه‏ ‏في‏ ‏دنيا‏ ‏غريبة‏، ‏فلا‏ ‏أحد‏ ‏يذكر‏ ‏الثورة‏ ‏أو‏ ‏أحدا‏ ‏من‏ ‏رجالها‏، ‏أو‏ ‏تذكر‏ ‏بعض‏ ‏الأسماء‏ ‏مصحوبة‏ ‏باللعنات‏، ‏ولم‏ ‏يجد‏ ‏عينا‏ ‏تنظر‏ ‏إليه‏ ‏بعطف‏ ‏سوى‏ ‏عين‏ ‏يزيد‏ ‏المصرى‏ ‏صديقه‏ ‏القديم‏ ‏وناظر‏ ‏سبيل‏ ‏بين‏ ‏القصرين”‏. (ص 205).

وهكذا يرصد محفوظ احتفاء الناس بالثورة العرابية، والتعلم منها، والفرحة بها، ثم الأسى للخيانة التى كسرتها، والنكسة الشعبية الجزئية فى استيعاب آثارها بشكل لم نستوعب مغزاه بالدرجة الكافية حتى الآن.

رابعا: ثورة 1919

لم يخف محفوظ أبدا علاقته الحميمة بثورة 1919 بكل ما يحمل لها من عواطف حميمة لا مثيل لها، لا فى أحاديثه العادية، ولا فى حواراته للنشر ولا فى إبداعه، الأمر الذى كاد يصل إلى حد التقديس لزعيمها سعد زغلول، والحب الشديد لخليفته مصطفى النحاس، ولا يحتاج الأمر للإشارة لما سجل بقلمه شخصيا مثلا فى “أمام العرش”، أو فيما أدلى به، أو كتبه عنه، مثلا: فى كتاب رجاء النقاش “صفحات من مذكراته” أو مصطفى عبد الغنى “الثورة والتصوف” (9).

لا عجب إذن إذا نحن رصدنا كيف حضرت هذه الثورة فى وعى عدد هائل من أفراد أجيال هذه الرواية وقد بدا واضحا تحيز الكاتب لها باعتبارها الثورة الحقيقية ضد قاهر أجنبى ومحتل ظالم وقاس، هو ومن يتحالف معه، وتراوح هذا الترحيب والقبول والإعجاب فيما وصفها به وخاصة تفاعل الناس نحوها بأوصاف عاطفية رقيقة وعميقة من أول “الدفء” حتى “التقديس” مرورا “بالحب” والودّ و”الطمأنينة” بل و”العشق” لزعيمها، وفى نفس الوقت لم يغب عن محفوظ أن يرصد عددا من مواقف “الفرجة”، و”الموافقة عن بعد” أو النقد الذى مهد للانشقاق عنها، ولو تحت رايتها، ثم تناول محفوظ مآل هذه الثورة داخل وخارج أغلب الناس، حيث ظلت بصمات هذه الثورة الحبيبة باقية راسخة فى عمق وعى أكثر الأحفاد بأسم “الوفد” أو “الوفدية” أو صفة “السعدى” أو “السعديين” حتى عند بعض أولئك الذين اضطروا لمجاراة ثورة يوليو ظاهريا.

المتابع لحضور ثورة 1919 فى هذه الرواية لابد أن يصله مدى حب محفوظ لهذه الثورة وانتمائه لها حتى آخر لحظة فى حياته، ولم يكن هذا الحب لشخص سعد زغلول فحسب، وإنما للثورة نفسها، ولمصطفى النحاس أيضا، ولا تخفى علاقة محفوظ الحميمة والحبيبة بهذه الثورة فى أعمال أخرى أيضا وخاصة بين القصرين، كما ستأتى الاشارة فى مقارنة استشهاد فهمى السيد عبد الجواد فى بين القصِّرين وأمير سرور عزيز هنا، وقد جاء نقد هذه الثورة رقيقا ناعما ملحوقا بالدفاع عنها ما أمكن ذلك (كما كان الحال فى أمام العرش).

الثورة الأسطورة والشهادة اللاحقة:

وقد قدم محفوظ شهيدا شابا لقى ربه فى مظاهرة لا تتعلق مباشرة بثورة 1919 وإنما بامتداها، وهو أمير سرور عزيز: “فقد عرف ثورة 1919 “كأسطورة” من المظاهرات والمعارك والقصص فترعرع سعديا وطنيا مؤمنا” (ص 25) وإن كان لم يشارك فيها إلا بعد رحيل سعد، “اشترك فى المظاهرات التى قامت احتجاجا على دكتاتورية محمد محمود وأصابته هراوة لبث بسببها فى المستشفى اسبوعين” (ص 26) ولم يستمع لنصح أقاربه ضباط الشرطة الذين يشغلون مراكز حساسة فى الداخلية، كما لم يهتم أن يعرف أن اسمه على رأس قائمة سوداء فى الداخلية، ولم يستمع لنصح شقيقة لبيب وهو يحاول أن يحد من اندفاعه فيرد قائلا: ” قد عرفت سبيلى ولن أتراجع عنه (ص 28)… إلى أن استشهد… “فى طوفان المظاهرات التى قامت احتجاجا على إلغاء دستور 1923 أردته رصاصة قتيلا فى شارع محمد على (ص 28).

لا يفوت القارئ المتابع لعلاقة محفوظ بثورة 1919 أن يتذكر استشهاد فهى أحمد عبد الجواد فى بين القصرين، فنتذكر فهمى وهو يتفاخر بنفسه وهو يتمنى أن يقف بين يدى سعد ثم تتوالى خواطره حتى يصور لنا محفوظ استشهاد فهمى بالسرعة البطيئة كما يلى: “ها هى ثكناتهم… أرهف أذنيه لما يدور حوله من دون أن يثوب إلى السكينة، وما هى إلا لحظات حتى دوت قذيفة ثانية …أه.. لم يعد ثمه شك، رصاصة كسابقتها أين استقرت. “ما أسرع ما تفلت منك الذكريات ماذا تريد؟ أن تهتف؟ أى هتاف؟ أو نداء فحسب.. من؟ ما؟ ما فى باطنك يتكلم، هل تسمع؟ …..، …..، لا شئ إلا السماء هادئه باسمة يقطر منها السلام”.

حضرتنى هذه الصورة مكتملة وأنا أتابع استشهاد أمير سرور عزيز ربما لترتبط أيضا باستشهاد شهدائنا فى فبراير 2011، وفى نفس الوقت تميز علاقة محفوظ بثورة 1919، وتقديس الاستشهاد من أجل الوطن وأنه لا ثورة بدون ثمن.

الثورة المعبد

ويكمل محفوظ تقديسة لهذه الثورة فى سياق الحكى عن عامر عمرو عزيز  كالتالى: “….قامت ثورة 1919 ودخل معبدها مع أسرته واشترك فى المظاهرات وهتف من قلبه الصافى يحيا سعد…(ص 141)، لكن يبدو أن عبادة عامر كانت مقتصرة على الابتهال من بعيد، والرصد المتابِع… فقد ابتعد عامر عن النشاط المباشر “وتابع الأحداث حتى قارب التسعين فاستعمله محفوظ لإيجاز سريع لكل الثورات هكذا: طرب لامجاد يوليو وانكوى بجحيم يونيو، وأفاق فى 15 مايو، وطرب مرة أخرى فى 6 اكتوبر الجليل وانقبض فى 6 اكتوبر الدامية” (ص 144).

دفء الثورة والعواطف الوطنية

توصف الثورات عادة بالغليان والوهج واللهيب والاشتعال وما شابه، لكن أن توصف بالدفء، فهذا وضع خاص يؤكد نوع علاقة محفوظ بهذه الثورة بالذات، هيا نسمعه وهو يقول عن سرور عزيز يزيد المصرى “ولكن ثورة 1919 أودعت قلبه المتمرد قدرا من الدفء” (ص 108) إلى أن قال “وظلت ذكرياتها ومظاهرها عالقة بخياله كأفتن الطيبات” (ص 108)  وكأنه يحكى عن قصة حب وليس عن ثورة، يعود ذكر مثل نفس العواطف ثانية بشكل آخر فى سيرة حامد عمرو يزيد “ولما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏كان‏ ‏حامد‏ ‏فى ‏السنة‏ ‏النهائية‏، ‏وقد‏ ‏مال‏ ‏قلبه‏ ‏إليها‏ ‏بمجامعه” (ص 54)

أيضا: نحن لم نعتد وصف الوطنية بالعواطف هكذا مباشرة، لكن هكذا جاء ذكر ثورة 1919 باعتبارها عواطف غازية غامرة عرضها محفوظ  هنا وكأنه يغازل حبيبته أو يجسد شرابه الخاص: حسناء غاوية يمدحها، ويغازلها فى ود خالص كما جاء فى سيرة حسن محمود المراكيبى “غمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية” (ص 64) أو كما يقول فى سيرة عمرو عزيز المصرى نفذت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏إلى ‏عمق‏ ‏قلب‏ ‏سميرة‏ ‏لم‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏مثله‏ ‏فى ‏قلب‏ ‏أى ‏من‏ ‏أخواتها” (ص 114) (وذلك بفضل زوجها حسن قابيل الذى كان يجمع فى قلبه بين الوطنية الصادقة والتدين العميق وينشرهما فيمن حوله)، وكأننا فى عدوى عاطفية وطنية جميلة، (وهذا ما سوف نرجع إلى مقارنته بالموقف من ثورة 1952).

امتد هذا المدّ العاطفى من ثورة 1919 إلى كل ما أسماه وكرره محفوظ “العواطف الوطنية”، ففى سيرة عمرو عزيز المصرى يقول: “واتسع‏ ‏قلبه‏ ‏أيضا‏ ‏للعواطف‏ ‏الوطنية…”“…وأفعم وجدانه فيما بعد بكلمات مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم بلغ قمة انفعاله فى ثورة 1919” (ص 168).

ثم إن محفوظ لا يتوقف عند ذكر الميل والدفء والحب، لكنه يستعمل تعبير “العشق” أيضا حين يقول “… وعشق زعيمها، (سعد)، وتمتد العواطف إلى خليفته…، وتابع خليفة الزعيم مصطفى النحاس بكل وجدانه “وتنقلب المسألة إلى فرح يوزع فيه الشربات” يوم عقد المعاهدة،  “..وعشق‏ ‏زعيمها‏،واشترك فى إضراب الموظفين، ‏وحافظ‏ ‏على ‏ولائه‏ ‏للزعيم‏ – ‏مصطفى ‏النحاس‏ – ‏بكل‏ ‏وجدانه‏، ‏ووزع‏ ‏الشربات‏ ‏يوم‏ ‏عقد‏ ‏المعاهدة” (ص168).

مواقف التعاطف عن بعد والتراجع:

طبعا لم تكن المسألة هكذا حب وغرام وعشق وتقديس عند الجميع على طول الخط، بل ظل فريق متعاطف يترجح بين الفرجة والأمل فى التوفيق دون مشاركة حاسمة أو فعالة، أو بالدخول نصف نصف ثم التراجع مثل لطفى سرور عزيز الذى “لم يتأخر عن الاشتراك فى المظاهرات لما اندلعت ثورة 1919 وتوزيع المنشورات” (ص188 ، 189)، ثم إنه هو هو – فيما بعد – الذى: “لم يتردد فى اعلان ولائه للعرش كموظف كبير أمين” (ص192) أو مثل: حسن محمود المراكيبى، فبعد أن غمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية، انشق مثل عائلته “وكان ذلك أوفق لعمله فى الداخلية فلم ينقسم كحامد بين باطن وفدى وظاهر حكومى” (ص64).

يتجلى هذا الموقف المتنقل من التأييد الطيب إلى التراجع المحسوب فى موقفى الأخوين أحمد ومحمود عطا المراكيبى برغم خلافهما واختلافها:

نبدأ بأحمد عطا المراكيبى وكيف تلقاها وكأنها “قدر طيب” وانقضت‏ ‏عليه‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏فهزته‏ ‏من‏ ‏الأعماق”،‏ “كان‏ ‏المد‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏أن‏ ‏يفلت‏ ‏منه‏ ‏إنسان” (ص15)، وكان دوره إيجابيا فى حدود مجاله وقدراته “فتبرع لها بعشرة آلاف جنيه مستجيبا لاقتراح أخيه متناسيا وصية قديمة لأبيهما بالبعد عن السياسة”(ص 15)، إذن فلم يكن انتماؤه تلقائيا، ولا ثابتا، ذلك أنه عندما حدث الخلاف بين سعد وعدلى وتشاور الشقيقان (احمد ومحمود) انتهيا إلى أن يكونا “حيث تكون مصلحتهما” وذلك ما عبر عنه محمود بقوله: “انتهت فترة العواطف وجاءت فترة العقل” مما حدى بسرور عزيز أن يقول بسخرية “أقاربنا الأغنياء وهبهم الله مالاً لا يعد، وخسة لا تدانى”(ص15) فكان عدول أحمد المراكيبى إرضاء لأخيه فقال لعمرو آسفا “أصحاب المصالح لا يحبون الثورات يا ابن اختى” (ص 16).

محمود هذا نفسه بدأت علاقته بثورة 1919 عاطفية “ولما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ 1919 ‏تحرك‏ ‏قلبه‏ ‏بعاطفه‏ ‏جديدة‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏ومسه‏ ‏سحر‏ ‏الزعيم‏، ‏تبرع‏ ‏ببضعه‏ ‏آلاف‏ ‏من‏ ‏الجنيهات‏، ‏ولأول‏ ‏مرة‏ ‏أيضا‏ ‏يلمس‏ ‏في‏ ‏الفلاحين‏ ‏البسطاء‏ قوة مخيفة‏” (ص199)،  ولكن حين حل العقل محل العواطف وصل الأمر أن يقول لأخيه “لا ‏ ‏تتصور‏ ‏أن‏ ‏الإنجليز‏ ‏سيغادرون‏ ‏مصر‏ ‏ولا‏ ‏تتصور‏ ‏أن‏ ‏مصر‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تعيش‏ ‏بغير‏ ‏الإنجليز‏” (ص200).

مواقف رافضة وسلبية:

لكن محفوظ اعتبر رفض البعض لهذه الثورة ضمن رفضهم الانتماء لوطنهم أصلا، وليس رفضا خاصا بثورة 1919 بالذات، وهى ملاحظة أضافت لى أن علاقته بهذه الثورة هى متماهية مع الوطن تماما، فها هو يصف موقف غسان عبد العظيم داود باحتقاره للوطنية أولا، الأمر الذى يفسر فتور حماسه للثورة، ثم انضمامه لجناح الخارجين، نقرأ معاً: “ولعل‏ ‏من‏ ‏أسباب‏ ‏احتقاره‏ ‏للوطنية‏ ‏كان‏ ‏حماس‏ ‏أهله‏ ‏الفقراء‏ – ‏وآل‏ ‏عمرو‏ ‏وآل‏ ‏سرور‏ – ‏لها‏، ‏فلم‏ ‏يتحمس‏ ‏لثورة‏ 1919 ‏فى ‏إبانها‏ ‏وسرعان‏ ‏ما‏ ‏لاذ‏ ‏بجناح‏ ‏الخارجين‏ ‏عليها‏ ‏مع‏ ‏أبيه‏ ‏وأسرته‏”‏(ص 171).

كذلك جاء وصف محفوظ لموقف عفت عبد العظيم داود  التى “‏عاشت‏ ‏حياتها‏ ‏وهى ‏تجهل‏ ‏دينها‏ ‏وتراثها‏ ‏جهلا‏ ‏تاما‏، ‏ولا‏ ‏تجد‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏أى ‏انتماء‏ ‏إلى ‏وطنها‏ ‏رغم‏ ‏معايشتها‏ ‏لثورة‏ 1919، ‏لولا‏ ‏تعصب‏ ‏سطحى ‏لموقف‏ ‏أبيها‏ ‏السياسى”(ص 157).

وبعد

لم أجد فى رصد كل هذه التفاعلات وزخم هذا الجدل إلا ما يؤكد ما ذهبنا إليه، مما هو معروف، من طبيعة علاقة محفوظ بثورة 1919، إلا أن الإضافة هنا لا تتعلق به شخصيا وإنما هى تشير إلى أنه فى هذه الرواية يمثل – كما ذكرنا – الوعى الجمعى لناسه بشكل أو بآخر.

خامسا: ثورة يوليو:

ظل محفوظ يعلن رأيه بصدق وتواضع حذر فى شخص عبد الناصر وزعامته، مؤيدا خطواته التثويرية اللاحقة لحركة الجيش، متحفظا على تجاوزاته وزملائه فيما يتعلق بالحريات والديمقراطية، وبرغم عاطفته الجياشه نحو سعد زغلول ثم مصطفى النحاس إلا أنه لم يدعها تساهم – بشكل مباشر-  فى رفض إيجابيات ما سمى ثورة يوليو.

وقد اختلف موقف النقاد والمحاورين فى حسم الرأى بالنسبة لموقفه من هذه الثورة، وفى لقاءاتى معه خلال عشر سنوات أكثر من مرة فى الأسبوع لم يختلف موقفه، وكنت أشعر دائما أنه يكن تقديرا خاصا لزعميها عبد الناصر، ثم لخليفته السادات، دون أن يتنازل أبدا عن نقد أو رفض سياسة أى منهما فيما لا يوافق عليه ولا يساير مبادئه الوطنية والإنسانية عامة، وهو لم يكن غير ذلك فى شهادته فى “أمام العرش”، ولا فى سائر كتاباته رمزا أو صراحة، وقد رجحت وأنا أكتب هذا العمل واكتشف مدى عمق رؤيته، وسلامة رفضه الموضوعى لنقائص وتجاوزات هذه الثورة، أن هذا العمل الحالى كان فرصة أعمق وأصدق من شهادته المباشرة فى أعمال أخرى أو أحاديث أخرى.

نعم، لعل الفرصة جاءته أثناء تخليقه هذا العمل فاستطاع من خلالها أن يعلن شهادته للتاريخ وهو يقوم بتعرية تفاعلات وجدل الناس مع هذه الحركة التى تثورت من أعلى بين الحين والحين، لكنها انتكست وتشوهت على المدى الطويل مما أدى غالبا للثورة التالية (الحالية 2011/ 2012) التى لم يشهدها محفوظ على أرض الواقع، والتى أعتقد أنه لو كان قد عاصرها، لكان له ولنا، وربما لها، شأن آخر وهى لم تتم فصولها بعد.

حضرت ثورة يوليو فى وعى معظم من عاصر بدايتها باعتبارها حركة (“مباركة”، هكذا سماها أصحابها) قام بها الجيش ثم ثوّرها قائدها لاحقا على مراحل، فهى ثورة “من أعلى” كما ذكرنا، قام بها قائدها بما تصوره أنه يمثل الناس، فهى أقرب –كما قلنا- إلى ما أقرته هذه الرواية باسم “ثورة محمد على”، وباستثناء بعض المعمرين  – مثل راضية القليوبى، وعامر عمرو عزيز، أو عفت عبد العظيم داود – الذين عاصروا أغلب الثورات، فإن تفاعل أفراد الأجيال الأحدث قد مثَّل معظم التيارات والتوجهات والمواقف تجاه هذه الحركة المثوّرة لاحقا.

بعكس ثورة 1919 لم نلاحظ فى الرواية – إلا نادرا جدا- أى تقديس أو دفء أو حميمية ولا أى من العواطف الإيجابية بصفة عامة، مثل تلك التى رصدناها فى تتبعنا لحضور ثورة 1919 فى وعى من عاصروها، بل لعل العكس هو الذى غلب من حيث حضور الرفض والحذر والتوجس مع تنامى الوصولية والكبت والنفاق، ثم الحراك الطبقى المبنى غالبا فى هذه الطبقة بوجه خاص على الثللية والنفعية، وقد كانت أغلب المواقف والتفاعلات والنقلات تدور فى دائرة الذين استفادوا منها جنبا إلى جنب مع مشاعر حذر وحنق وحسد الذين رفضوها بعقلانية محسوبة، أو بأنانية غالبة، لكن لم يغب عن أمانة الكاتب رصد عينات من مواقف ظهرت هنا وهناك تعلن تقديرا أو حتى تقديسا لزعيمها أساسا، من بعض المخلصين والآملين الأصغر عادة.

وفيما يلى محاولة لتقديم ما “تيسر” من التفاعلات والمواقف والعواطف تجاه قيام هذه الثورة، أو استمرارها أو أدائها، مع احتمال تداخل بعض التقسيمات مع بعضها البعض أحيانا، وتغير بعض المواقف فى أحيان أخرى:

أولا: القبول والاقرار والنفاق والترقب:

 كان أغلب من أقروا ضرورة ثورة يوليو أو رحبوا بها هم من المستفيدين بشكل مباشر أو غير مباشر منها، أو من الآملين فيها، أو الخائفين مؤثرى السلامة، سواء وقفوا موقف المتفرج أو المنتظر أو المنافق، كما نلاحظ أن كثيرين ممن تحمسوا لها أو ساهموا فيها انتهى بهم المآل إلى عكس ما بدا منهم باكرا وخاصة بعد خفوت ثوريتها حتى التراجع بدءًا مما سمى ثورة 15 مايو حتى الانفتاح، كثيرون من هؤلاء تحولوا إلى منتفعين من الانفتاح بالذات ليثروا ثراء فاحشا بغض النظر عن تاريخهم مع الثورة.

نبدأ بقراءة موقف عبده محمود عطا المراكيبى: “ولما قامت ثورة يوليو وجدا نفسيهما (هو وأخاه ماهر) بين رجال الصف الثانى، وكان محمود بك قد توفى فنجيا من الاصلاح الزراعى …. ورغم تأثره لهزيمة 5 يونيو إلا أنه كان ضمن الذين اعتبروا أن خسارة الأرض كارثة تهون بالقياس إلى النصر المعنوى الذى حققه البلد بالاحتفاظ بزعامة عبد الناصر والنظام الاشتراكى” (ص 149)، وبرغم هذا الموقف الثورى الصلب إلا أن نهايته بعد الانفتاح أظهرت الوجه الآخر كما أشرنا: “ولما هل الانفتاح أثرى ثراء فاحشا…. رغم إيغاله فى الثراء ويقينه أنه يكنز المال للآخرين” (ص 150).

فإذا انتقلنا إلى “ماهر” أخوه  نجد أنه “وبحكم الصلات الشخصية وبتأثير شقيقه عبده انتظم فى سلك الضباط الأحرار مرتكزا إلى عواطف سطحيه وغير مؤمن إيمانا جديا بما يقال عن آلام الشعب وصراع الطبقات” (ص 194)، …. ولم يكن يؤمن بقانون الاصلاح الزراعى رغم أنه لم يطبق عليه….، واستأجر شقة فى الزمالك لغرامياته ولم يتزوج وظل فى مكانه بعد النكسه وحتى وفاة عبد الناصر ثم أيضا: “وجاء الانفتاح وأثرى ثراء فاحشا واجتمع هو وعبده ونادرة حول مالٍ و”كأنهم يعدونه للآخرين” (ص 195).

 أما ‏فايد عامر عمرو فقد اتصف موقفه بنوع من التماسك والثبات حتى النهاية:‏ “ولما‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏لم‏ ‏ينفر‏ ‏منها‏ ‏رغم‏ ‏إهدارها‏ ‏لرتب‏ ‏جده‏ ‏وخاله‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏مال‏ ‏إليها‏ ‏ولم‏ ‏يخف‏ ‏ذلك‏ ‏عن‏ ‏أمه‏ ‏وأبيه‏.. ‏قال‏:‏ ‏- ‏جاءت‏ ‏فى ‏وقتها‏ ‏تماما”‏..‏ وترقى ‏فايد‏ ‏درجاته‏ ‏المعهودة‏ ‏حتى ‏درجة‏ ‏المستشار‏. ‏ولم‏ ‏يتغير‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏الثورة‏ ‏وزعيمها‏، ‏حتى ‏محنة‏ 5 ‏يونية‏ ‏لم‏ ‏تغيره‏ ‏وإن‏ ‏مزقت‏ ‏قلبه‏ ‏تمزيقا‏” (‏ص‏ 175).

وذلك بعكس هنومة حسين قابيل “..التى‏ ‏تحمست‏  ‏لثورة‏ ‏يوليو‏ ‏باعتبارها‏ ‏ثورة‏ ‏إصلاح‏ ‏وأخلاق‏، ‏ولكنها‏ ‏انقلبت‏ ‏عليها‏ ‏منذ‏ ‏حكم‏ ‏علي‏ ‏سليم‏ ‏بالسجن‏، ‏ولم‏ ‏تتردد‏ ‏في‏ ‏اتهام‏ ‏حكيم‏ ‏بالخطأ‏ ‏في‏ ‏موالاته‏ ‏لها” ‏(ص 213)

أما حازم سرور عزيز فكان مثالا للحذر والحرص على إخفاء موقفه الحقيقى حتى لو بدا منافقا كما جاء فى هذا المقتطف من سيرته “…ولما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏خاف‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏وفديته‏ ‏المزعومة‏ ‏قد‏ ‏جاوزت‏ ‏جدران‏ ‏مسكنه‏ ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يتعرض‏ ‏لسوء، ‏ودأب‏ ‏على ‏مدح‏ ‏الثورة‏ ‏فى ‏شركته‏، ‏والحملة‏ ‏عليها‏ ‏فى ‏بيته‏ ‏مجاراة‏ ‏لسميحة‏، ‏وهو‏ ‏يقلب‏ ‏عينيه‏ ‏فيما‏ ‏حوله‏ ‏مستعيذا‏ ‏بالله‏” (ص 51).

ثانياً: الوصولية والاستفادة البادئة والممتدة

امتلأت الرواية بكل أنواع الوصولية التى ميزت معظم المنتمين لهذه الثورة، وكأنها لم تكن إلا إبدال سلطة محل سلطة، ونقل مكاسب طبقة إلى طبقة مع تغيير أشكال التميز الطبقى إلى ما يميز الوضع الجديد، وكذلك تغيير سبل التميز وحيل الوصول وآلياته، فنعدد فيما يلى بعض نماذج الوصولية، والوصول.

  وصول بالصدفة

ها هو ماهر محمود المراكيبى “يجد نفسه” من المقربين “..ولما ‏ ‏قامت‏ ‏الثورة‏ ‏”وجد‏ ‏نفسه”‏ ‏من‏ ‏المقربين‏ ‏ووثب‏ ‏دون‏ ‏عناء‏ ‏إلي‏ ‏منزلة ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يبلغها‏ ‏بخطواته‏ ‏الدراسية‏ ‏المتعثرة‏ “… حتى:‏ ‏… “علا‏ ‏نجمه‏ ‏فعين‏ ‏في‏ ‏الحرس‏ ‏الخاص‏ ‏للزعيم‏” (ص 195).

وصول بالمعرفة والقرابة:

حين نتابع سيرة نادر عارف المنياوى نتعرف على سبيل آخر للوصول، فبفضل حكيم (أخو هنومه) “… رقى نادر رئيسا للحسابات، وكبر مرتبه فوق ما يحلم أى من أقاربه”، “…ولما حصلت التأميمات عين رئيسا لمجلس إدارة الشركة دون شبع من ناحيته” (ص 208)، … “ومضى‏ ‏يوثق‏ ‏علاقاته‏ ‏ببعض‏ ‏الضباط‏ ‏وآخرين‏ ‏من‏ ‏رجال‏ ‏القطاع‏ ‏الخاص‏.‏ حتى‏ ‏كانت‏ ‏هزيمة‏ 5 ‏يونيه‏، ‏وانكشف‏ ‏امره‏ ‏فيما‏ ‏انكشف‏ ‏المستور‏ ‏من‏ ‏أمورهم‏” (ص 208)، ثم انتهى إلى نفس المآل: الثراء الفاحش بالانفتاح “…وهلت‏ ‏طلائع‏ ‏الانفتاح‏ ‏فتنفس‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏واستمد‏ ‏من‏ ‏الجو‏ ‏الطارئ‏ ‏حياة‏ ‏لم‏ ‏يحلم‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏قبل‏” (ص209) حتى قال: “إنها قسمة‏ ‏عادلة‏، ‏فالثراء‏ ‏للأقوياء‏ ‏والأخلاق‏ ‏للضعفاء” (ص209).

وصول بالجيرة والصداقة:

وحتى السلبى المحتج عموما حكيم حسين قايبل والذى اتخذ من حيث المبدأ موقف رفضٍ شامل بدءًا من تعداد سلبيات معاهده 36، إلى رفض الاخوان باعتبارهم تجار دين، ومصر الفتاة باعتبارهم فاشست حتى بدا فخورا وهو يعلن “أنه لا يؤمن بشئ”، فقد قفز إلى حضن الوصوليه عن طريق جار صديق قديم كان قد أصبح نجما من نجوم الثورة  “…ولكن قامت ثورة يوليو، وإذا بصديق عمره نجم من نجومها”،  “وبذلك‏ ‏تفتق‏ ‏المستقبل‏ ‏عن‏ ‏أبعاد‏ ‏جديدة…” (ص69). وعين فى وظيفة إشرافية فى إحدى الصحف الكبرى وقفز مرتبه من العشرات إلى المئات وعلق على ذلك الوفدية من آل المراكيبى بأنه: “ذهب‏ ‏فساد‏ ‏متواضع‏ ‏وجاء‏ ‏فساد‏ ‏شره‏..‏”(ص69)، “..وهابه الوزراء وداهنه الأعداء” (ص70) .. وأصبح من رجال العهد وكان الواسطة الناجحة لتعيين كثير من أصدقائه حراسا عقب فرض الحراسة عليهم، وظلت علاقته بصديقه الحميم كما كانت رغم استوائه بين القادة الجدد فلا يمر أسبوع دون لقاء عائلى فى قصر القائد يتبادلان فيه نجوى الحب والذكريات حتى قال ذات لقاء: ‏ “‏أما‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏لترشحنى ‏وزيرا؟ فقال‏ ‏الرجل:‏ ‏وما‏ ‏قيمة‏ ‏الوزير؟‏ ‏سينقص‏ ‏دخلك‏ ‏..‏.(ص70).

وصول عن طريق التلاميذ: (رغم الوفدية المكبوتة)

وقد تعددت مسالك الوصولية حتى شملت الانتفاع عن طريق التلاميذ مثلما كان الحال مع عامر عمرو عزيز “أما‏ ‏أعلى ‏درجة‏ ‏سجلها‏ ‏حظة‏ ‏فقد‏ ‏حدثت‏ ‏بعد‏ ‏قيام‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏ووجد أن‏ ‏اثنين‏ ‏من‏ ‏تلاميذه‏ ‏فى ‏مجلس‏ ‏قيادة‏ ‏ثورتها‏”(ص 143).

وصول لمكسب متأخر مع اختلاف الأدوار

كما أن ثمة انتهازية تواصلت بالقصور الذاتى مثلما كان الحال مع اليوزباشى حسن محمود المراكيبى الذى اشتهر بالعنف فى تفريق المظاهرات حتى وصفه سرور أفندى بأنه خائن وابن مراكيبى بعد معايره عمرو ابنه حامد بتميز حسن إلى رتبة اليوزباشى دونه، “..وقد تعرض للموت فى عهد صدقى فأصابت طوبة رأسه” (ص64)، وأحيل إلى المعاش فخرج مع حامد فى قائمة واحدة. ومارس عواطفه كلها نحو الثورة الصاعدة  “..‏‏الثورة‏ ‏أحالته‏ ‏على ‏المعاش‏ ‏فى ‏حركة‏ ‏تطهير‏ ‏الشرطة‏ ‏فخرج‏ ‏مع‏ ‏حامد‏ ‏فى ‏قائمة‏ ‏واحدة”‏ (ص 65)، ولكن نهايته كانت نفس النهاية: الاثراء الخيالى: “… ولعل أخويه ‏كان‏ ‏وراء‏ ‏الأسباب‏ ‏الخفية‏ ‏التى ‏جنبت‏ ‏متجره‏ ‏التأميم،…. “، “..وأدركتهم‏ ‏النكسة‏ ‏التى ‏زلزلت‏ ‏الجيل‏ ‏الناصرى ‏فأذرته‏ ‏مع‏ ‏رياح‏ ‏الضياع‏ ‏واليأس”‏، “… ووجد‏ ‏حسن‏ ‏فى ‏السادات‏ ‏وسياسة‏ ‏الانفتاح‏ ‏بغيته‏ ‏وعزاءه‏ ‏عن‏ ‏كافة‏ ‏هزائمه‏ ‏الماضية‏ ‏فشمر‏ ‏للعمل‏ ‏والثراء‏ ‏الخيالي‏، و‏شيد‏ ‏له‏ ‏ولزوجته‏ ‏قصرا” (ص 65)، “..وعاش‏ ‏عيشة‏ ‏الملوك‏ ‏وهو‏ ‏يحلم‏ ‏بعودة‏ ‏أولاده” (ص 66)

  وصول بيروقراطى هادئ

ظهر هذا النوع من المكاسب “العادية” فى موقف صفاء حسن قابيل زوجة صبرى القاضى الذى كان‏ ‏قريبا‏ ‏لضابط‏ ‏مهم‏ ‏فترقى ‏فى ‏مدة‏ ‏قصيرة‏” وهكذا تألق هذا الفرع فى عقد البيروقراطية الماسى ونجا من شر العواطف.

ثالثاً: مواقف الرفض والحقد والسخرية

أما ما ظهر فى الرواية من عواطف سلبية تجاه هذه الحركة العسكرية مع إنكار تثويرها أصلا – بعكس ثورة 1919 – فقد ظهر بكثرة دالة فى هذا العمل، وقد تجلى ذلك فى صورة الرفض والحقد، والكره، والشماتة فى هزائمها، كما تجلى أقل فى صورة الانسحاب والهجرة والفرجة.

ونبدأ برصد ما جاء فى موقف  شاكر عامر عزيز: “..وقامت ثورة يوليو، وانقلب المجتمع رأسا على عقب وطارت الباشوية من آل داود، وهبطت قيمة الأطباء والقضاء فحقد شاكر على العهد الجديد” (ص121).

  أما‏ ‏عفت عبد العظيم يزيد فهى “التى لم تشعر بانتماء لا لثورة 1919 ولا لثورة يوليو،‏ ‏فقد‏ ‏مقتت‏ ‏الثورة‏ ‏لإلغائها‏ ‏باشوية‏ ‏شقيقها‏ ‏ولم‏ ‏تغفر‏ ‏لها‏ ‏استهانتها‏ ‏بالمهن‏ ‏الرفيعة‏ ‏كالطب‏ ‏والقضاء”  وعاشت حتى قاربت التسعين. (ص 143)، “ولدى كل مناسبة تقول تقول بحنق: ‏”هل‏ ‏سمعتم‏ ‏عن‏ ‏بلد‏ ‏تحكمه‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏الكونستبلات؟‏!”‏ (ص 51)،

فيهمس‏ ‏فى ‏أذنها‏‏:‏ ‏”‏احذرى ‏الخدم‏.. ‏والجدران‏ .. ‏والهواء‏”(ص51). وشد‏ ‏ما‏ ‏فرحت‏ ‏بالعدوان‏ ‏الثلاثى ‏وشد‏ ‏ما‏ ‏خابت‏ ‏آمالها‏. ‏وفى 5 ‏يونية‏ ‏أغلقت‏ ‏على ‏نفسها‏ ‏حجراتها‏ ‏وراحت‏ ‏ترقص‏، ‏وساعة‏ ‏بلغها‏ ‏نبأ‏ ‏وفاة‏ ‏الزعيم‏ ‏زغردت‏ ‏حتى ‏هب‏ ‏حازم‏ ‏واقفا‏ ‏وهو‏ ‏يصرخ‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏:‏ ‏”‏أنا‏ ‏فى ‏عرضك‏!‏” (ص 51)، وتمضى الأحداث، وبرغم تأميم الشركة، إلا أن الانفتاح يحدد النفس المآل هكذا: “‏وفى ‏عهد‏ ‏السادات‏ ‏بلغ‏ ‏حازم‏ ‏ذروته‏ ‏الحقيقية‏، ‏وفتح‏ ‏مكتبا‏ ‏هندسيا‏ ‏وبات‏ ‏فى ‏عداد‏ ‏أصحاب‏ ‏الملايين‏. ‏وقالت‏ ‏سميحة‏ ‏عن‏ ‏الزعيم‏ ‏الجديد‏:‏ ‏”‏حقيقة‏ ‏أن‏ ‏وجهه‏ ‏أسود‏ ‏ولكن‏ ‏قلبه‏ ‏أبيض‏..” (‏ص 51).

وقد كره البعض الثورة من منطلق موقف طبقته مثل عقل حمادة القناوى: الذى “.. ‏نفر‏ ‏من هذه الثورة‏ ‏رغم‏ ‏عدم‏ ‏مساسها‏ ‏له‏، ‏لشعوره‏ ‏بعداوتها‏ ‏لطبقة‏ ‏الملاك، فالشك‏ ‏أخذ‏ ‏يساوره‏ ‏فى ‏مستقبل‏ ‏علاقته‏ ‏بزوجته‏، ‏كما‏ ‏مضى ‏يملك‏ ‏عليه‏ ‏تفكيره‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمستقبل‏ ‏وطنه‏ ‏الذى ‏يتزحزح‏ ‏من‏ ‏مأزق‏ ‏إلى ‏مأزق‏. ‏ولم‏ ‏يعاوده‏ ‏تنفسه‏ ‏الطبيعى ‏إلا‏ ‏فى ‏عهد‏ ‏السادات(ص164).

وايضا مثل صالح حامد عمرو “الذى ‏عاداها ‏بقلبه ربما كرد فعل لموقفها من الأخوان الذين أحبهم برغم أنه لم ينخرط فى سلكهم”، لكنه أيضا فى عهد الانفتاح “اتسع رزقه وكثرت ذريته”(ص 129).

أما حامد عمرو عزيز، فقد بدأ أن ثم عاملا شخصيا كان مسئولا عن موقفه منها: وهو أنه “لما قامت الثورة أحالته إلى المعاش ضمن ضباط الشرطة الذين أعتبرتهم أعداء الشعب” (ص 59) ، فكان تفاعله الطبيعى “نقد الثورة والسخرية‏ ‏برجالها” (ص 59) خاصة وهو يسامر حليم عبد العظيم، وابن عمه لبيب،

وكان عدنان احمد عطا المراكيبى “هو ‏الوحيد‏ ‏الذى ‏طبق‏ ‏عليه‏ ‏قانون‏ ‏الإصلاح‏ ‏الزراعي‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏أبيه‏ ‏وعمه‏ ‏ولاء‏ ‏للعرش‏ ‏وكراهية‏ ‏للثورة‏، ‏ولكن‏ ‏لم‏ ‏يند‏ ‏عنه‏ ‏قول‏ ‏أو‏ ‏فعل‏ ‏يعرضه‏ ‏للمؤاخذة‏. (‏ص‏ 151)، “وقد سعد بالاعتداء الثلاثى” و…”سعد أكثر فى 5 يونيو وتمت سعادته فى سبتمبر 1970″(وفاة عبد الناصر)، … إلى أن انتهى نفس النهاية بعد تولى السادات: “أما الانفتاح فقد اعتبره بابا من أبواب الجنة”،…”وربح أرباحا خيالية” و..وانضم للحزب الوطنى، وانتخب عضوا فى مجلس الشعب”. (ص 152)

على أن هناك من قبل الحركة فالثورة فى البداية توهما أنها ستحقق أحلامه وأنها تنتمى إلى فصيله مثل سليم حسن قابيل، لكنه أنقلب إلى الضد حين تبينت الأمور على غير ما حسب وضد انتمائه الأساسى للأخوان ودفع الثمن غاليا حين حكم عليه بعشر سنوات فى قضية الاخوان الكبرى، “..وخرج من السجن قبل 5 يونيو.. ولما وقعت الهزيمة اعتبرها عقابا إلهيا على حكم كافر” (ص 111)، “..وحين وقع حادث المنصة قال عقاب الهى لحكم كافر” (ص112).

ثم كان هناك فريق لم يعلن حنقه وسخطه مباشرة، وربما أظهر ما يشبه الرضا، وتابع الجارى بحذر محتفظا بموقفه الرافض، وربما جاهزا للانقضاض مثل: لبيب سرور عزيز ‏الذى “راح‏ ‏يتابع‏ ‏أثر‏ ‏الثورة‏ ‏فيها‏ (أسرته) ‏مع‏ ‏الحرص‏ ‏التام‏ ‏في‏ ‏الإفصاح‏ ‏عن‏ ‏ذاته‏. ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏حامد‏ ‏ابن‏ ‏عمه‏ ‏أقربهم‏ ‏لنفسه‏ ‏فهمس‏ ‏له‏ ‏مرة‏: ‏‏”‏ما‏ ‏الحيلة؟‏…‏أمامنا‏ ‏رجل‏ ‏يدعي‏ ‏الزعامة ‏وبيده‏ ‏مسدس‏!(ص190) وكانت له أسبابه المنطقية حيث أنه‏ “لما‏ ‏قامت‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏، ‏واهتز‏ ‏مركز‏ ‏القانون‏ ‏ورجاله‏، ‏غزته‏ ‏الكآبة‏ ‏كوفدى‏ ‏قديم‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وكرجل‏ ‏من‏ ‏رجال‏ ‏القانون‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى”(ص190).

كذلك الحال عند صالح حامد عمرو (‏ص‏ 129) “برغم‏ ‏أنه‏ ‏وجد‏ ‏خاليه‏ ‏عبده‏ ‏وماهر‏ ‏من‏ ‏رجالها‏، إلا أنه يبدو أنه ظل محتفظا بموقف الانتظار حتى خمدت شعلتها فانقض عليها مشاركا الانتهازيين ‏فى عهد‏ ‏الانفتاح‏ (أيضا!!).

وهكذا كان أيضا موقف غسان عبد العظيم، وهو يصرح بصريح العبارة قائلا: ‏”أيبلغ‏ ‏بنا‏ ‏التدهور‏ ‏أن‏ ‏تحكمنا‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏العساكر‏ ‏الأميين؟‏!” (ص 172).

وكان هذا هو غاية تفاعله بعد ‏ ‏ما‏ ‏صبته‏ ‏عليه‏ ‏ثورة‏ ‏يوليو‏ ‏من‏ ‏أحزان‏ ‏جديدة‏ ‏لم‏ ‏تخطر‏ ‏له‏ ‏على ‏بال‏ ‏من‏ ‏قبل‏. ‏تساءل‏ ‏فى ‏جزع‏:‏ وراقب‏ ‏ما‏ ‏حاق‏ ‏برتب‏ ‏أسرته‏ ‏وقيمها‏ ‏القانونية‏ ‏والطبية‏ ‏بفزع‏، ‏وتساءل‏:‏ ‏”‏هل‏ ‏أبكى ‏اليوم‏ ‏رعاع‏ ‏الوفد؟‏!”‏ (ص 172)

  ويشارك فى ذلك حليم عبد العطيم داود، “الذى ‏ ‏أظهر‏ ‏للثورة‏ ‏حنقا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏يوم‏، ‏وتساءل‏ ‏كيف‏ ‏يسرق‏ ‏الحكم‏ ‏أناس‏ ‏لا‏ ‏ميزه‏ ‏لهم‏ ‏إلا‏ ‏استحواذهم‏ ‏على ‏السلاح؟”‏ (ص74)،  “..‏وهل‏ ‏يحق‏ ‏قياسا‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يتحول‏ ‏قطاع‏ ‏الطرق‏ ‏إلى ‏ملوك؟”‏(ص 74) “والأدهى ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏أنه‏ ‏يوجد‏ ‏من‏ ‏آل‏ ‏المراكبيى ‏ضابطان‏ ‏يعتبران‏ ‏من‏ ‏الصف‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏الحكام‏!” (ص 75)

تعقيب إجمالى:

هل يا ترى حقق نجيب محفوظ من خلال هذا العمل ما حاول أن يخفيه برقته وتقيّته والتزامه معا، فجاءت هذه التعرية للتفاعلات مع هذه الثورة تنزع عنها صفة الثورة خاصة وأنه لم يرد ذكر إيجابيات وطنية أو إنسانيه، أى ثورية محددة، تمتع بها واحد أو أكثر نتيجة لقيام هذه الثورة، ويمكن أن نتساءل إن كانت هذه الرسالة التى وصلت من الرواية هكذا كانت رأيه الذى لم يعلنه مباشرة، أم أنها طبيعة العينة من البشر التى اختارها لهذا العمل بالذات وهى الطبقة الوسطى ذات الصفات والطموحات البرجوازية المعروفة؟ وبالتالى فإن ما تحدث عنه واعترف به محفوظ من إيجابيات هذه الثورة، وقد فرح به فرحا حقيقيا، كان بعيدا عن هذه الرواية حيث جاءت أغلب إيجابياتها لصالح الطبقات الأدنى التى لم تجد لها فرصة للظهور أصلا فى هذا العمل.

هامش

 إخوانيان ويسارى واحد

وصلنى من هذا الشكل المتحدى الثائر الذى قدم به المؤلف هذه الرواية أن المنطلق هو تشكيلات مجموعات من الوعى الجمعى وهى تتجلى فى وعى الأفراد، فهو لم يتعرض لمواقف جماعات سياسية أو حزبية بشكل مباشر، لكن وربما بمناسبة ما يجرى الآن (2012) رأيت أن أشير فى النهاية إلى موقف إخوانين ويسارى واحد، لا يمثلون بالضرورة أحزابهم لكن قد يكملون معالم موقف المؤلف بشكل ما.

جاء ذكرالإخوان بشكل عابر فى سيرة صالح حامد عمرو الذى نشأ ملتزما، ارستقراطيا متدينا، وأحب الإخوان دون أن ينخرط فى سلكهم “وقرب ذلك بينه وبين سليم ابن عمته مع فارق وهو أن سليم كان يمارس انتماءه بالعمل، أما صالح فكان يقول لنفسه: “حسبى القلب وهو أضعف الإيمان” (ص 128).

أما سليم الإخوانى انتماءً عمليا فقد سبق أن أشرنا لموقفه مع المؤيديين فالساخطين فالمعتقلين فالمكفِّرين.

فى مقابل ذلك نجد أن قدرى عامر عمرو ربما هو الذى يمثل موقفا يساريا لا يمكن تعميمه أيضا، وهو الذى برغم ابتعاده عن العمل السياسى إلا أنه استيقظت فيه ميوله الماركسية حتى النخاع، نقرأ بعض سيرته:

“‏….‏ومنذ‏ ‏ارتبطت‏ ‏الثورة‏ ‏بالكتلة‏ ‏الشرقية‏ ‏مال‏ ‏إليها‏ ‏ومضي‏ ‏يرى‏ ‏في‏ ‏خطاها‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يراه‏ ‏من‏ ‏قبل‏. ‏ولعل‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏هون‏ ‏عليه‏ ‏بعض‏ ‏الشئ‏ ‏مصاب‏ ‏الوطن‏ ‏في‏ 5 ‏يونيه‏ ‏باعتباره‏ ‏كان‏ ‏مدخلا‏ ‏حاسما‏ ‏لترسيخ‏ ‏النفوذ‏ ‏السوفييتي‏ ‏في‏ ‏مصر‏ ‏….، ‏ولعل‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏جعله‏ ‏يستقبل‏ ‏نصر‏ 6 ‏أكتوبر‏ ‏بسخط‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يخفيه‏” ص 186)

وبرغم كل ذلك فقد انتهى فى عصر الانفتاح نفس النهاية حيث أقبل ” الثراء عليه بغير حساب” مع أنه ظل يناصب السادات العداء “وأضمر‏ ‏له‏ ‏الكرة‏ ‏حيا‏ ‏وقتيلا‏، ‏رغم‏ ‏إقبال‏ ‏الثراء‏ ‏عليه‏ ‏بغير‏ ‏حساب‏ ‏في‏ ‏عصر‏ ‏انفتاحه‏. ‏وقد‏ ‏اعتقل‏ ‏في‏ ‏طوفان‏ ‏سبتمبر‏ 1981” (ص187).

خاتمة ضرورة

هل يا ترى استطاعت الرواية أن تكشف عن موقف نجيب محفوظ وهو يؤرخ بإبداعه الفذ، ومن خلال موقفه الشخصى الذى لم أعتبره موقفا شخصيا أصلا بقدر ما تعاملت معه ممثلا لقطاع كبير لما أسميته الوعى الجمعى، وهو يؤرخ للطبقة المتوسطة الممتدة، هل يا ترى استطاع أن يكشف من خلال هذا العمل ما لم يستطع تسجيله مباشرة عن رأيه فى كل هذه الثورات وبالذات ثوره يوليو؟؟

ربما

[1] – د. السيد نجم “المقاومة والحرب في الرواية العربية” سلسلة كتاب الجمهورية، 2005.

[2] – غالى شكرى  “المنتمى دراسة فى ادب نجيب محفوظ” مكتبه الدراسات الادبية، دار المعارف، 1969.

[3] – مثلا:  محمود أمين العالم فى “تأملات فى عالم نجيب محفوظ” الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر 1970.

[4] – لم تبلغنى من أولاد حارتنا حدة النقلة الثورية اللهم إلا فى شجاعة الإقدام وأمانة التمثيل، وفى الثلاثية جاء رصد الأحداث بالطول يمثل الضلع التراكمى المسلسل الظاهر المستوعب للأحداث فى تسلسل نابض لكنه لا يحمل معالم النقلة الثورة.

[5] – مثلا: مصطفى عبد الغنى ” نجيب محفوظ الثورة والتصوف” الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2002،

[6] – مثلا: رجاء النقاش ” نجيب محفوظ صفحات من مذكراته واضواء جديده على ادبه وحياته” مركز الاهرام للترجمة، 1998.

[7] – التنصيص من عندى.

[8] – إلا بُعَيْد هزيمة 5 يونيو 67 ونصر أكتوبر 73

[9] – سبقت الإشارة إليهما (انظر هامشى رقم (5)، رقم (6).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *